المشهد السياسي الفلسطيني: أزمات راهنة.. آفاق مطلوبة

السنة الثالثة عشر ـ العدد 144 ـ ( ـ محرم ـ صفر 1435 هـ) كانون أول ـ 2013 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إن كل متابع ومطلع على المشهد السياسي الفلسطيني يدرك حجم حالة الانسداد التي يعيشها مسار العمل الوطني الفلسطيني منذ سنوات، مع تعطّل مسار المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني من جهة وجمود مسار التسوية من جهة أخرى، فمن الأزمات النابعة من حطام الفقر والبطالة والحصار وممارسات الاحتلال المهينة لشعبنا على الحواجز في الضفة, إلى المشاكل غير المنتهية في غزة التي كان وما زال الاحتلال السبب الرئيسي في وجودها, إلى الممارسات العنصرية اليومية لفلسطينيي الـ"48", وصولاً إلى استكمال المعاناة المفتوحة للاجئين في مختلف أماكن اللجوء والشتات.

ويتضح لكافة الخبراء والمثقفين الذين ينظرون نظرة دقيقة للمشهد العام, مع تحليل موضوعي واستشراف مستقبلي واضح ودقيق, مدى خطورة الوضع الراهن الذي وصلت له القضية الفلسطينية. وإن كان أخطر ما فيه هي حالة الركود على الوضع الخطأ والاستمرار عليه, والاندحار معه إلى الهاوية, فكافة الانجازات والفرص السابقة التي كانت بصالح الجانب الفلسطيني ضيعت, والسبب هو غياب الرؤية الإستراتيجية وعدم وجود المرجعية السياسية الواحدة في المرتبة الأولى,

فالانتصارات التي حققتها المقاومة الفلسطينية خلال الفترة الماضية, والمكانة السياسية الهامة التي أخذتها قضية العرب والمسلمين الأولى, كلها كان من الممكن ان تستثمر لتقوية وتعزيز الموقف الفلسطيني, الداخلي والخارجي, داخليا بإنهاء الخلافات الحزبية وتعزيز المقاومة وبناء البيت الفلسطيني الواحد, وخارجيا بالتوجه الدبلوماسي القوي والوقوف أمام الكيان الاستعماري الوحيد في العالم في القرن الواحد والعشرين. لذلك تبدو الحاجة ملحة للبحث في أسباب أزمة المشروع الوطني الفلسطيني ومحاولة إيجاد مخرج منها.

غياب الإستراتيجية

منذ سنواتها الأولى كان الاختلاف على الأهداف ووسائل تحقيقها أمراً محيراً للحركة الوطنية الفلسطينية, نظراً لخصوصية القضية الوطنية من حيث أبعادها التاريخية والدينية وتداخلها مع قضايا الصراع مع الكيان الإسرائيلي، حيث لم تستقر منظمة التحرير الفلسطينية على أهدافها وإستراتيجية تحقيقها سوى سنوات قلائل. إلا أن اختلافات تلك الحقبة كانت في بيئة عربية ودولية تسمح بشكل من الإستراتيجية الواحدة تسمح بالتعايش بين القوى المختلفة داخل منظمة التحرير،كما أن عدم وجود سلطة ومغانم سلطة آنذاك كان يحد من إمكانية تصعيد الخلافات إلى درجة الصراع المسلح.

وبعيداً عن الشعارات الكبيرة والأيديولوجيات المخادعة والوعود البراقة فإن العمل السياسي الفلسطيني ومنذ التعاطي مع عملية التسوية السياسية  يشتغل بدون إستراتيجية واضحة المعالم الأمر الذي أدى إلى حالة التيه السياسي المعممة، وأصبحت البوصلة السياسية بلا اتجاه عند الجميع ولم يعد بالإمكان إخفاء الحقيقة.

إن غياب الإستراتيجية ليس أزمة ظرفية طارئة، بل أزمة بنيوية قبل أن تكون وظيفية، أزمة صاحبت المشروع الوطني منذ نشأته الأولى, الأمر الذي يستدعي مراجعة إستراتيجية شمولية لمجمل الحالة السياسية الفلسطينية.

والسؤال الرئيسي المشروع هنا كيف لا توجد إستراتيجية وطنية ولدينا أكثر من خمسة عشر حزباً وفصيلاً لكل منهم برنامجهم وإستراتيجيتهم ونصفهم يملك أجنحة عسكرية؟ كيف لا توجد إستراتيجية وطنية وكل الأحزاب تتحدث عن المشروع الوطني وتحرير فلسطين وتبرر عملياتها العسكرية بأنها من اجل المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت الوطنية، بل وتبرر قتالها مع بعضها البعض بأنه من اجل المشروع الوطني؟كيف لا توجد إستراتيجية وطنية وهناك منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها وقرارات مجالسها الوطنية ولجنتها التنفيذية ومجلسها المركزي؟!.

وقد يفترض أحدهم إن وجود شعب تحت الاحتلال يعني تلقائياً وجود برنامج تحرر وطني أو إستراتيجية تحرر وطني.صحيح أنه يوجد احتلال صهيوني ويوجد أكثر من اثني عشر مليون فلسطيني يحملون الوطن معهم أينما حلوا وارتحلوا ويربون أبناءهم على حب الوطن والتوق للعودة إليه، وصحيح أن قرارات دولية تعترف للفلسطينيين بحق تقرير المصير وبعضها يعترف لهم بالحق في دولة..... الخ، ولكن هذه أمور موجودة بقوة الواقع ونتيجة صمود ومعاناة الشعب والتعاطف والتأييد الدولي،وليس نتيجة تخطيط إستراتيجي،وقد تضعف مع مرور الزمن أو تشتغل عليها إطراف محلية أو إقليمية ودوليه وتخرجها عن سياقها الوطني من خلال حلول جزئية وتسويات إقليمية،إن لم يكن للفلسطينيين أصحاب الحق مشروع وطني توافقي يلتف حوله الجميع.

فما هي مكونات هذه الإستراتيجية الوطنية من حيث الهدف والوسيلة والإطار والمرجعية ؟هل هي إستراتيجية المقاومة والجهاد أم إستراتيجية السلام والتسوية؟.

لو كان لدينا إستراتيجية وطنية حقيقية لكان لدينا ثوابت محل توافق وطني، وما كان الانقسام وما كان فشل المصالحة وفشل مئات جولات الحوار، وما وُضِعت وثائق متعددة ومواثيق شرف كإعلان القاهرة 2005 ووثيقة الوفاق الوطني 2006 واتفاق القاهرة 2008، وورقة المصالحة التي تم التوقيع عليها في مايو 2011 ولم تنفذ حتى اليوم، وما كانت كل المؤسسات القائمة فاقدة للشرعية الدستورية (حسب مقتضيات القانون الأساسي) ولشرعية التوافق الوطني،لو كان لدينا إستراتيجية وطنية ما كان هذا التراشق والاتهامات المتبادلة بالخيانة والتكفير ما بين من يفترض أنهم قادة المشروع الوطني، وما كان لدينا سلطتان وحكومتان متناحرتان...

إن كل ما سبق ذكره يؤكد غياب إستراتيجية عمل وطني، وإن استمر كل حزب وحركة في التصرف باعتباره يمثل البرنامج الوطني و صاحب الإستراتيجية الصحيحة، واستمر في تحميل مسؤولية أي خلل أو تقصير أو عدم إنجاز في مسار القضية الوطنية للآخرين من الأحزاب أو للتآمر الخارجي،فإن هذا سيؤدي لمزيد من ضياع ما تبقى من أرض وكرامة وطنية. لذا فالأمر يحتاج لتفكير إبداعي خلاق لإعادة بناء إستراتيجية وطنية أو عقد سياسي جديد،وإن كان الحديث عن برنامج وطني جديد وإستراتيجية جديدة يستفز البعض ممن قد يفسرون الدعوة بأنها إقرار  بفشل وتجاوز الأحزاب والفصائل القائمة واستراتيجياتها.

المهم في الأمر أن المشروع الوطني الفلسطيني بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية وبنخبه الحاكمة وغير الحاكمة وما يرتبط به وبها ويدور حوله وحولها من إيديولوجيات وثقافات سياسية وتكوينات اجتماعية وبغض النظر عن الشعارات التي ترفعها: المقاومة والجهاد أو التسوية والمفاوضات، هذا المشروع يعيش مأزقاً وجودياً حقيقياً وخصوصاً بعد الانقسام الذي فصل غزة عن الضفة، هذا المأزق يعود لغياب إستراتيجية عمل وطني: إستراتيجية تفكير وتنظير وإستراتيجية ممارسة.

لذلك فإن المطلوب من النخب السياسية اليوم الاعتراف بأخطائها والقيام بمراجعة نقدية شمولية تراجع فيها مسيرتها فتصحح ما أعوج من سلوك وتقَوِّمَ ما ثبت فشله من نهج وتحاسب حيث تجب المحاسبة.

أزمة المرجعية

شكل اعتراف القمة العربية عام 1974 بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني قراراً تاريخياً منح المنظمة صفة الإطار المرجعي والتمثيلي للشعب الفلسطيني، في وقت كان الرصيد النضالي الفلسطيني سنداً قوياً لهذه المرجعية. وقد استطاعت المنظمة أن تنقل القضية الفلسطينية إلى آفاق أرحب على الصعيد العالمي. وأن تحظى باعتراف العديد من الدول.

إلا أن الإنجاز الذي مثلته المنظمة بدا يتشقق منذ اتفاق أوسلو عام 1993، حين نشأت السلطة الفلسطينية فأحدثت وضعاً سياسياً همّش منظمة التحرير الفلسطينية. ورغم أن رئيس منظمة التحرير هو رئيس السلطة الفلسطينية، فإن رئاسته للسلطة بدت المهيمنة على صفته رئيساً للمنظمة، وقد يستخدم صفة الرئيس لمنظمة التحرير حينما يستدعي الوضع السياسي والقانوني ذلك معتمداً على كون المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

وهكذا تم تهميش منظمة التحرير الفلسطينية على حساب السلطة الفلسطينية، وأصبح بإمكان السلطة التصرف باسم منظمة التحرير أو تجاوز منظمة التحرير. وعندما تم توقيع اتفاق أوسلو باسم منظمة التحرير الفلسطينية، فإن هذا الاتفاق كان بداية التهميش للمنظمة من خلال إيجاد سلطة وطنية فلسطينية أخذت تستحوذ على سلطات المنظمة أو تتجاوزها في أحيان كثيرة. وبدلاً من أن تكون المنظمة هي فعلاً الممثل الشرعي والوحيد باسم الشعب الفلسطيني والصوت الرسمي الوحيد الناطق باسمه أصبحت السلطة الفلسطينية على أرض الواقع هي الممثل للشعب الفلسطيني، ولا يستدعي وضع اسم منظمة التحرير إلا حين تقتضي الحاجة ذلك، أو يستدعي الظرف السياسي ذلك.

كما أن اتفاق أوسلو الذي استخدمت فيه القيادة الفلسطينية صفة منظمة التحرير الفلسطينية لإضفاء شرعية على هذا الاتفاق هو الذي أنتج السلطة الفلسطينية وهو الذي أسس لمرحلة تهميش منظمة التحرير بعد أن أدت دورها المطلوب في الاتفاق، كما أرادته لها القيادة الفلسطينية.

كما أن هذا الاتفاق هو ما أوجد معارضة حقيقية للمنظمة من خلال معارضة اتفاق أوسلو، ولم يكن للحركات الإسلامية معارضة حقيقية للمنظمة إلا بعد توقيع اتفاق أوسلو مع أن حركات أخرى أعلنت معارضتها له أيضاً.

ويرى كثيرون أن تغييب منظمة التحرير من المشهد السياسي ألحق ضرراً فادحاً بالقضية الفلسطينية، وأحدث حالة من الفراغ السياسي لم تستطع السلطة الفلسطينية ملأه.

ولقد كانت المنظمة حافظة للقضية الفلسطينية ورصيدها النضالي الجامع لكل مكونات الشعب الفلسطيني بصرف النظر عن تعدد الفصائل، في إطار سياسي يقود حركة نضال على أسس إستراتيجية وطنية جامعة.

إن الحاجة إلى إعادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى واجهة العمل السياسي الجماعي والتحرك النضالي الجماعي تستوجب تغييراً جذرياً، نظراً لاختلاف الظرف والمرحلة، ولأن المنظمة قد اعترتها خلال الفترة الماضية بعض الشوائب في الأداء والممارسة ثم جرى تغييبها تحت مظلة السلطة الفلسطينية. وهذا التغيير يجب أن يشمل الفكر والسياسة والبرامج والممارسة السياسية والنضالية.

إن الخطوة التي تم اتخاذها بإيجاد إطار قيادي مؤقت لمنظمة التحرير الفلسطينية في إطار المصالحة التي تقتضي إدخال الفصائل الفلسطينية التي ليس لها موقع في المنظمة هي خطوة مبدئية صحيحة، ولكن يقتضي الأمر الإسراع في استكمال تحديث المنظمة إطاراً مرجعياً جامعاً لكل الفصائل والقوى الفلسطينية. وهذا التحديث يجب أن يكون مواكباً للعصر ومواكباً للمستجدات، ويجب أن يشمل البرامج والاستراتيجيات والخطط مع ترسيخ للثوابت وانفتاح على الشعب الفلسطيني من منطلق الشفافية، وبحكم أنه يمثل الإرادة الشعبية التي يجب أن تكون المنظمة حاضنة لها. وتفعيل المنظمة وعودتها إلى وضعها الصحيح معناه تحجيم السلطة الفلسطينية وفصلها عن المنظمة ومنعها من الاستحواذ على أي من سلطات المنظمة أو تجاوز هذه السلطات.

هذا البناء المؤسسي الذي إن تم تحديثه وجمع كل الفصائل والقوى الفلسطينية في إطاره باعتباره المرجعية الوحيدة والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هو الطريق لإنهاء الانقسام الفلسطيني، لأنه سيكون المسؤول عن رسم السياسات والاستراتيجيات ووضع الخطط والبرامج وتحديد المسارات، وأشكال النضال والمقاومة، في إطار جماعي بعيداً عن التوجهات والمشاريع والبرامج الفصائلية التي بعثرت الجهد الفلسطيني والنضال الفلسطيني، وكانت مصدر الانقسام والشرخ في الصف الفلسطيني.

إشكالية المصالحة

لا تلوح في الأفق إمكانات حقيقية لكي تستكمل المصالحة في الملفات التي تعهدت بإنجازها, ولا يظهر أن المسار الذي تسلكه هذه العملية يؤتي ثماره، باختصار فإن هذه المصالحة محكومة بمعوقات وعقبات، يمكن أن تتفجر في وجهها عندما تقوم بعملها بشكل جاد.

فمع افتراض حسن النوايا والجدية لدى طرفي المصالحة الرئيسيين، فإن "الحاضر الغائب" في اتفاق المصالحة كانت "إسرائيل"!! ففي ملفات المصالحة الخمسة، كانت هناك ثلاثة ملفات هي تشكيل الحكومة الفلسطينية، وإجراء الانتخابات، وإصلاح الأجهزة الأمنية لا يمكن أن تتم دون موافقة أو على الأقل سكوت إسرائيلي، خصوصاً في مناطق الضفة الغربية. وبهذه الطريقة يمكن لـ"إسرائيل" أن تُفشل أو تُعطِّل عملية المصالحة، إذ لم تَسر الأمور وفق رغبتها أو وجدتها مخالفة أو متضاربة مع مصالحها.

فعلى سبيل المثال لم تتشكل حتى الآن الحكومة الفلسطينية التي تُعبر عن الوحدة الوطنية والشراكة بين الفصائل الفلسطينية، لأن هذه الحكومة إذا أرادت أن تعمل في الضفة الغربية فيجب أن لا يكون عليها أو على بعض وزرائها فيتو إسرائيلي، وإذا أرادت أن تعمل في قطاع غزة فلا يجب أن يكون عليها فيتو من حماس، وإذا أرادت أن تعمل في المنطقتين فلا يجب أن يكون عليها فيتو من فتح.

وإذا أصر الكيان الصهيوني على شروطه, فما على الجميع إلا الاستجابة, وإلا فلن تكون هناك حكومة تستطيع العمل على الأرض، ببساطة لأن هناك شيئاً اسمه الاحتلال الإسرائيلي، بوجهه القبيح والشرس، وبأدواته الغليظة في القتل والقمع والحصار والتدمير والمصادرة والاعتقال ومنع حركة الأفراد وتعطيل المؤسسات.. إلخ.

كذلك فإنه لا يمكن إجراء انتخابات حرة نزيهة شفافة في أجواء صحية في كلّ مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس، دون موافقة أو على الأقل سكوت "إسرائيل".

فأين هي عناصر النجاح لأي اتجاه مقاوم يسعى لطرد الاحتلال وتغيير معادلة الصراع, إذا كان الاحتلال يملك مداخل السلطة ومخارجها، ويحتل أرضها وسماءها، ويملك تدمير بناها التحتية ومصانعها ومدارسها ومؤسساتها الاقتصادية، ويستطيع التحكم بحركة المال، كما يستطيع تعطيل عمل المجلس التشريعي واعتقال الوزراء، ومنع أجهزتهم من العمل، ومنع إداراتهم من التنفيذ.

وإذا تجاوزنا مسألتي تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات عندها ستبرز أمامنا إشكالية الأجهزة الأمنية، التي أشرف الجنرال الأمريكي دايتون في السنوات الماضية على إعدادها في الضفة الغربية، والتي تمّ تأهيلها على أساس التعاون مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وملاحقة قوى وعناصر المقاومة، والتي جرى استبعاد المئات (إن لم يكن الآلاف) من الكوادر الوطنية من صفوفها، وهي كوادر محسوبة على فتح وغيرها من أولئك الذين كان لهم ماضٍ نضالي.

فهل يمكن في أجواء الاحتلال الإسرائيلي والسكون الفلسطيني، أن يتم إعادة بناء هذه المؤسسة الأمنية بناء على اتفاق المصالحة، بحيث يُعاد تعريف دورها، ويتم "تنظيفها" من العناصر التي تُشكل عبئاً على المشروع الوطني الفلسطيني، وتقف عائقاً في وجه أية مصالحة وطنية حقيقية، وبحيث تفتح بشكل حقيقي أمام أبناء الشعب الفلسطيني، بناءً على إخلاصهم ووطنيتهم وكفاءتهم، وليس وفق اعتبارات الانتماء لفصيل فلسطيني مُعيَّن، أو اعتبارات "السلامة الأمنية" من أنه بعيد كل البعد عن قوى المقاومة وتياراتها.

وإذا كان ثمة إصرار على أن تبقى الأجهزة الأمنية مستجيبة لشروط ومعايير الاحتلال، وقائمة عملياً بوظائف تتعارض مع جوهر مشروع المصالحة، فستكون النتيجة أن يقوم الاحتلال وهذه الأجهزة بإفشال المصالحة وإفراغها من محتواها. وعلى أطراف المصالحة عندئذ ألا تستغرق كثيراً في أحلام المصالحة.

وإذا كان هناك ثمة جدية لعلاج المأزق الفلسطيني، فإن الأولى هو البدء بترتيب البيت الفلسطيني نفسه، والاتفاق على برنامجه الوطني، وتحديد أولوياته الوطنية. وعند ذلك يكون موضوع حكومة السلطة وانتخاباتها هو أحد تجليات وتطبيقات البرنامج الوطني، وتكون السلطة الفلسطينية نفسها هي إحدى أدوات تطبيق هذا البرنامج.

إن مزيّة التركيز على إعادة هيكلة وبناء منظمة التحرير الفلسطينية أولاً هي أن المنظمة تمثل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبالتالي فإن عملها وأداءها ليسا مرهونَيْن بمتطلبات الاحتلال ولا واقعَيْن تحت رحمته. ويمكن لها أن تعيد بناء نفسها وأن تفعّل مؤسساتها، وأن يعمل ممثلوها دون أن يكونوا عرضة للتعطيل والإفشال والاعتقال، كما في حالة السلطة تحت الاحتلال.

في الفترة بين 1964 و1994 كان مركز عمل قيادة م.ت.ف في الخارج. بل إن أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني الذين كانوا يتمتعون بعضوية عاملة، ويقررون الشأن الفلسطيني، كانوا من الفلسطينيين المقيمين في الخارج، ولم يكن أبناء الداخل (بعد احتلال الضفة والقطاع) من أعضاء المجلس منتخبين أو معروفين، ولم يكونوا يحتسبون في نصاب الحضور، بحجة أنهم تحت الاحتلال، وخشية من إجراءاته ضدهم. ونحن مع دور فاعل ومؤثر لأهل الداخل، شريطة ألاّ يكون مرتهناً للاحتلال.

إن حرية صناعة القرار، وصدوره في إطار مؤسسي جامع هو أكثر ما يحتاجه الشعب الفلسطيني، وهو أهم من مجرد تشكيل حكومة تحت الاحتلال، وإجراء انتخابات تحت الاحتلال، وإدارة حياة الناس تحت الاحتلال، لأن القاسم المشترك في ذلك هو الاحتلال وسقف أوسلو، أما في م.ت.ف، بعد إعادة بنائها وتفعيلها، فالقاسم المشترك هو إنهاء الاحتلال والتخلص منه، وهو برنامج لا تملك آليات إنجاحه كافة مهارات سلطة حكم ذاتي منزوعة الأسنان والأظافر و"الدسم" أنتجها اتفاق أوسلو.

وأن العمل على ترتيب البيت الفلسطيني وترتيب أولوياته من خلال م.ت.ف، يمثل مجالاً حقيقياً لاختبار نوايا وجدية كل من الطرفين الرئيسيين فتح وحماس وباقي الأطراف المعنية بالمصالحة الفلسطينية، بعيداً عن الهيمنة والإملاءات الخارجية وفي المقدمة منها الإسرائيلية والأمريكية.

الآفاق المنشودة

لم تعد المراجعة النقدية التي تؤسِس لإستراتيجية وطنية جديدة اليوم، خيارا من عدة خيارات بل ضرورة وطنية.إن لم تأخذ قوى من داخل النظام السياسي الفلسطيني أو من داخل الحالة السياسية الفلسطينية بشكل عام المبادرة فهناك قوى وأطراف خارجية ستأخذها، هذا ناهيك أن مشاريع التوطين والوصاية والأردن كوطن بديل أو الكونفدرالية مع الأردن تخيم على أجواء الحالة الفلسطينية المأزومة اليوم.

فالقضية الفلسطينية، لا تسمح بوجود فراغ سياسي، فتاريخيا كانت أطراف عربية وإقليمية تملأ فراغ غياب الإستراتيجية  الفلسطينية حيث كانت الفلسطينيون يخضعون أو يلتزمون اختياريا بالإستراتيجية العربية القومية أو الثورية لبعض الدول العربية. سياسة الترقيع والتلفيق والهروب إلى الأمام والتخفي وراء الأيديولوجيات والشعارات الكبيرة الفارغة أو المراهنة على أطراف خارجية لم تعد تجدي اليوم،الحقوق الوطنية المسلوبة لن تعيدها واشنطن ولا الرباعية.نعم الشرعية الدولية ضرورية والتضامن العالمي مهم والأيديولوجيات مفيدة كأدوات للتعبئة والتحريض، إلا أن كل هذه الأمور لا تنوب عن  الشعب صاحب القضية.

المراجعة الشمولية المؤسِسة لمشروع وطني جديد بإستراتيجية جديدة يجب أن تتجاوز إفرازات المشكلة وتتعامل مع جذورها ومسبباتها الحقيقية. الانتخابات والمحاصصة وتنظيم الأجهزة الأمنية ليست حلولا،حتى تشكيل حكومة تكنوقراط ليس هو الحل. ما سبق هي حلول للسجين لتحسين شروط العيش في السجن وليس لكسر جدران السجن، وإن بقيت مكونات  النظام السياسي تتعامل مع الأزمة وكأنها أزمة خلاف بين فتح وحماس على الانتخابات والحكومة والأجهزة الأمنية والمحاصصة الوظيفية الحكومية...فستبقى المعالجات في إطار التسوية واتفاقات أوسلو أو لإدارة الانقسام، حتى وإن صرحت غير ذلك.

الإستراتيجية الوطنية المطلوبة تتطلب التعامل مع القضية كقضية شعب قوامه أكثر من اثني عشر مليون فلسطيني في الداخل وفي الشتات، دون تجاهل الأوضاع في غزة والضفة كرفع الحصار عن قطاع غزة ومواجهة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.

من حيث المبدأ فالإستراتيجية الوطنية المنشودة يجب أن تكون إستراتيجية حركة تحرر وطني ما دامت كل فلسطين تحت الاحتلال وما دامت إسرائيل ترفض حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، إستراتيجية تحرر وطني لا تقطع مع كل الوسائل السلمية  ومع الشرعية الدولية بغية تحقيق أهدافها.

لقد بات من الواضح أن أية محاولة لوضع إستراتيجية وطنية تُخرج المشروع الوطني الفلسطيني من أزمته عليها أن تتضمن المكونات التالية:

1- العودة لإستراتيجية المقاومة.

2- إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير كما نصت مواثيق المصالحة.

3- إنهاء الانقسام المتجسد بوجود سلطتين وحكومتين في غزة والضفة.

نعتقد بأن إستراتيجية وطنية للمقاومة هي الأكثر فعالية في انجاز المصالحة أو الوحدة الوطنية وفي تغيير قواعد اللعبة مع الاحتلال.فتاريخيا ومن تجربتنا الوطنية فإن الصدام مع العدو في إطار إستراتيجية وطنية للمقاومة كانت توحد الشعب وتستقطب التأييد العالمي وتجبر الخصم على تقديم تنازلات، والواقع الدولي والعربي اليوم مناسب في رأينا للعودة لمشروع المقاومة كخيار استراتيجي.

اعلى الصفحة