|
|||||
|
بين التوافه.. والمصاعب تواطأ الناس بأسرهم، على ذمّ الدنيا وشكايتِها، لمعاناة آلامها، ففرحُها مكدرٌ بالحزن، وراحتُها منغَّصَةٌ بالعناء، لا تصفو لأحد، ولا يهنأُ بها إنسان، وعلى الرغم من تواطئهم على ذلك تباينوا في سلوكهم وموقفهم من الحياة؛ فمنهم من تعشَّقها، وهام بحبها، وتكالب على حطامها، ما صيَّرَهم في حالةٍ مزْريةٍ، من التنافس والتناحر. ومنهم من زهد فيها، وانزوى هارباً من مباهجها ومُتَعِها إلى الأديرة والصوامع، ما جعلهم فلولاً مبعثرة على هامش الحياة. وجاء الإسلام، والناس بين هذين الاتجاهين المتعاكسين، فاستطاع بحكمته البالغة، وإصلاحه الشامل، أن يشرِّع نظاماً خالداً، يؤلِّفُ بين الدين والدنيا، ويجمع بين مأربِ الحياةِ وأشواقِ الروح، بأسلوبٍ يلائمُ فطرةَ الإنسان، ويضمن له السعادة والرخاء. فتراه تارةً يحذِّرُ عُشَّاقَ الحياةِ من خِدَعِها وغَرورِها، ليحرِّرَهُم من أسْرِها واسترقاقها، كما صورته الآثارُ السالفة.. وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائذها البريئة وأشواقها المرفرفة، لئلاّ ينقطعوا عن ركب الحياة، ويصبحوا عرضةً للفاقة والهوان.. - يقول الإمام الصادق(ع): "ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخِرتَه لدنياه". وبهذا النظام الفذّ ازدهرت حضارة الإسلام، وتوغل المسلمون في مدارج الكمال، ومعارج الرُّقي المادي والروحي.. قال الدكتور" ديل كارنيجي": حدثني صديق لي، قال: "تلقيت أعظم درس في حياتي من حادث صادفته خلال الحرب. فقد كنت أعمل في غواصة حربية بالقرب من جزائر الهند الصينية، مع فرقة مؤلفة من ثمانية وثمانين جندياً، وفوجئنا يوماً بقوة بحرية كبيرة تهجم علينا وبدا أنها أكبر عداداً منا، وكانت طائرة يابانية قد كشفت موقعنا، ونحن على عمق 67 قدماً من سطح البحر، فأبلغت أمرنا إلى رؤسائها، وسرعان ما خفَّت إلينا هذه القوةُ الكبيرة للقضاء علينا. فاضْطُرِرْنا أن نغوص إلى عمق 150 قدماً وأطفأنا الأنوار، وعطلنا المراوحَ وأجهزةَ التبريدِ، مبالغةً في الاستخفاء والوقاية، ولم تمضِ دقائق حتى كانت الألغامُ تنفجر حولنا من كل الجهات.. لم يكن في وسعنا أن نصنع شيئاً لصد هذا الانقضاض الخاطف المَهُول، فأخذنا نترقَّبُ الموتَ بين لحظةٍ وأخرى.. ومع أن الحرارةَ داخلَ الغواصةِ كانت قد ارتفعت حتى قاربت المائة درجة نتيجة لتعطيل المراوح وأجهزة التبريد، فقد كانت أسنانُنا تصطك وأطرافُنا ترتعدُ وكأننا في درجة من الحرارةِ تحت الصفر، واستمر الهجوم خمس عشرةَ ساعة, مضت علينا كأنها خمسة عشر مليون عام".. ويُتابع "كارنيجي": "كانت صورُ الماضي خلال هذه الساعات تتوالى على اختلاف أنواعها وألوانِها أمام عيني، وهي تُسرع تارة وتُبطئُ أخرى.. وقد رأيتُ بينها صورَ جميعِ ما اقترفْتُهُ من المساوئ والشرورِ والآثام، وصورَ الأشياءِ السخيفةِِ التافهةِ التي أقلقتني شهوراً من قبل.. كنت محاسباً بأحد البنوك قبل أن التحق بالجيش.. وطالما ذقت ذرعاً لطول الساعات التي كنت أقضيها في عملي.. وبضآلة الأجر الذي كنت أتقاضاه، دون أن يكون لي أملٌ في تحسين حالتي. وشدُّ ما كان يؤلمني حينذاك شعوري بالعجز عن شراء دار أو اقتناء عربة، أو هديةٍ أقدمها لزوجتي في أحد أعياد ميلادها..! وشدَّ ما كنتُ أكرهُ رئيسي في البنك الذي كان يؤنبني لغيرِ ما سببٍ ظاهرٍ، ويتهمني بالتقصير بمناسبةٍ وبغير مناسبة. فكنت أعود إلى المنزل في أكثر الأمسيات حاقداً غاضباً ناقماً، فأتشاجر مع زوجتي المسكينة لأتفه الأمور.. كل هذه الصور السخيفة التافهة في حياتي الماضية مرت على ذهني وأنا أنتظر الموت مع رفاقي بالغواصة، بل لقد تمثلت لعينيَّ صورٌ مكبرةٌ لما هو أسخفُ وأتفهُ، فتذكرتُ مثلاً إصابتي بمرض جلدي ضايقني بضعة أيام، وتذكرت جرحاً بسيطاً أُصبت به في حادث سيارة.. وبقدر ما كانت هذه الحوادث تبدو لي مزعجة منذ سنوات كنت أراها الآن على حقيقتها تافهة سخيفة.. والمتفجراتُ تهدد غواصاتِنا بالنسف وتنذرنا بالتأهب للانتقال إلى العالم الآخر.. وعاهدتُ نفسي إن كُتِبَتْ لي النجاةُ ورؤيةُ نورِ الشمس مرة أخرى، ألا أهتم لشيء من التوافه التي تَعْرُضُ لكل أمرئٍ في حياته اليومية. فلما نجونا بعد يأس، لم أنسَ ذلك العهدَ، وأخَذَتْ به نفسي فاستفدت من ذلك إلى حد كبير.. والحقُّ أنني تعلمت من دروس الحياة في تلك الساعات الرهيبة أكثر مما تعلمته في دراساتي الجامعية، ومن كلِّ مطالعاتي..". والواقع، أننا نواجِهُ المصائبَ الكبيرةَ في الحياةِ بشجاعةٍ وصمود، ولكننا ندَعُ التوافِهَ والصغائرَ تُحطِّمُ أعصابَنا وتُنغِّصُ عيشنا.. وقد روى "صمويل بيبس" أنه شهد مرة أحد المحكوم عليهم بالإعدام يصعد إلى المشنقة في هدوء وثبات.. ولما سئل عن شعوره حينذاك أجاب قائلاً: "إنني لا أعبأ بالموت بل أرحب به". إلا أنه ما كاد يشعر بحبل المشنقة يلتف حول عنقه حتى أخذ في البكاء والتوسل إلى المشرفين على التنفيذ أن يأمروا الجلاد بالترفق في لف الحبل، حتى لا يؤلمه الخراج الصغير الذي في رقبته. وليس من شك في أن الإخفاق في كثير من الأعمال والمشروعات التي يتطلب نجاحُها التعاونَ والتضامنَ، إنما يَرجِعُ إلى أمورٍ حقيرةٍ تافهةٍ، قد يَضْحَكُ المرءُ على موقفه منها بعد حين. هناك على منحدر جبل في إحدى المدن الإيرانية، توجد بقايا شجرة ضخمة، يقول علماءُ النباتِ إنها عاشت نحو ألف وأربعمائة عام، تعرضت فيها للصواعق والزوابع والأعاصير، فلم تتأثر بها، وقاومتها جميعاً. وحدَثَ في السنوات الأخيرة، أن هجم على هذه الشجرة حشدٌ من الجراد، وراح يشق طريقهُ إلى قلبها، فما لبثت قليلاً حتى انهارت أمام الهجمات المتوالية لذلك الجراد الصغير الحجم، والتي يستطيع طفل صغير أن يسحقها تحت قدميه... ألسنا جميعاً مثلُ هذه الشجرة الضخمة؟..ألسنا في كثير من الأحوال نقاوم الزوابع الشديدة، والأعاصير الثائرة ثم ندع قلوبنا "لجراد" الهموم تأكلها وتحطمها؟. فلكي تُحطِّمَ الهمَّ قبل أن يُحطِّمَكَ، احْرَصْ على ألا تتضايق من التوافه وتعلقَّ عليها أهميةً كبيرة.. واذكُر دائماً أن الحياة أقصر من أن يعنى المرء فيها بالتوافه.
|
||||