لماذا الخوف من "الأصولية" الإسلامية؟!!

السنة الثانية عشر ـ العدد142 ـ (ذو القعدة ـ ذو الحجة 1434 هـ ) تشرين أول ـ 2013 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بات الكثيرون اليوم من أهل السياسة والرئاسة والثقافة في الغرب والشرق، يصرخون عالياً ويستغيثون كثيراً من مناخ وجو "التطرف" الديني وهيمنة التيارات الدينية "المتشددة"، ويشتكون من مارد ما يسمى بوحش "الأصولية الإسلامية"، أو من غول الأصوليين ووحش السلفيين والتكفيريين...

فهل هناك مبررات عملية لهذه الشكوى والاستغاثة التي بلغت حد المرض و"الفوبيا" النفسية لدى هؤلاء الذين كانوا في يوم من الأيام ن أبرز داعمي تلك التيارات؟!! أم أن هناك دوافع وجذوراً سياسية وراء صيحات التخويف من هذه الظاهرة التي تفجرت وامتدت وتجذّرت كحالة سياسية على نحو عميق في تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية لعدة عقود، خاصة بعد انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979 التي ألهبت الأفئدة وألهمت عقول كثير من نخب وقادة ورواد الفكر السياسي الإسلامي في باقي البلدان من زاوية إمكانية استلهام رؤى وأفكار وزخم هذه الثورة في إحداث التغيير السياسي وغير السياسي المنشود في بلدان أخرى؟!..

ولكن بالمقابل:

ماذا فعلتم وقدمتم أنتم أيها المشتكون الخائفون، طيلة عقود من الزمان كنتم فيها على رأس الحكم (وبعضكم لا يزال)، ولم يكن أحد حينئذٍ ينغص عليكم مسؤولياتكم ومهامكم وأعمالكم وصنعكم للقرارات المصيرية التي تهم مختلف شؤون وتدبيرات وتنظيمات المجتمع والدولة عموماً؟!!.

ماذا فعلتم لمعالجة هذا الخلل البنيوي السياسي والاجتماعي البائن الذي أدى إلى نشوء بذور التعصب الديني والأصولية وتحولها إلى حالة وظاهرة واقعية حية وقوية ومتجذرة في واقعنا؟ ثم ماذا قدمتم للتخلص نهائياً من بؤر الحركات السلفية والتكفيرية؟ هل نشرتم العلم والعقلانية وأسس وركائز المنهج العقلي والعلمي في مجتمعاتنا التي أسميتموها "متخلفة" (كنتم أنتم مسؤولين عن تخليفها)؟ أم أنكم ساهمتم من خلال فشل حداثتكم القشرية والقسرية الكسيحة في تهيئة الظروف المجتمعية لنمو وتعملق ظاهرة الأصولية الدينية؟ أين العلم والتنوير والحداثة العقلية، والمعرفة والتنمية وبناء المجتمعات والأوطان على أسس متينة من التقدم العلمي والاقتصادي؟! أين هي مواقع العدالة والحرية والمساواة والكرامة والإنسانية والمشاركة الفعالة والمنتجة التي وعدتم الناس بتحقيقها، والناس صدقتكم وأعطتكم للأسف ثقتها، وصوتها، وضحت بمالها وأولادها ومستقبل أجيالها على هذا الطريق..

في ظني أن حجر الزاوية في الموضوع كله هو أن معالجة التطرف والإرهاب (وبالتالي إيجاد حل عملي وواقعي جذري ونهائي لمشكلة التيارات التكفيرية والسلفية التي باتت ذريعة للقمع والاستبداد وإلغاء الحريات وتكبيل إرادات الناس ومنعها من تحقيق طموحاتها في الحرية والكرامة والعدالة من قبل كثير من رموز الحكم "العلماني" العربي المستبد والفاسد) لن تكون ذات قيمة ومعنى وجدوى، ولا تنجح ولن تنجح إلا بمعالجة أسباب التطرف بعد تشخيص حقيقي لدوافعه وعلله "البدائية" الأولى، وليس فقط معالجة نتائجه ومآلاته النهائية المعروفة للجميع والتي باتت خطوطاً وعناوين عريضة تتكرّس أمام أعيننا يومياً على الشاشات وفي المنتديات والمجالس والمؤتمرات وغيرها.. فبذور التعصب والتطرف الفكري والعقائدي والتشدد بالرأي والقناعات و"التحزبيات" الضيقة لا تنمو ولا تنشأ ولا تقوم وتتقوى إلا في أرضية القمع السياسي والأمني والعسكري، ولا تتضخم إلا في تربة الفساد والظلم والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي وشعور الناس بأن حقوقهم مهدورة ومضيعة..

ولهذا لو عولج هذا الجانب بصورة صحيحة وعلمية مدروسة من قبل أصحاب القرار أنفسهم بالتعاون مع مؤسسات وهيئات المجتمع المدني، ومراكز التنوير الدينية والعقلية (في حال لو كانوا عملوا على إيجادها بالطبع!!)، فمن أين سيأتي التطرف وينمو الإرهاب؟، وكيف كانت ستنمو بذور السلفية والتكفيرية؟! خاصةً مع وجود تجارب واضحة في هذا الاتجاه.. حيث رأينا كيف نجحت مجتمعات ونظم سياسية إسلامية "متدينة" في تحقيق تنمية سياسية واقتصادية، مع وجود جماعات ورموز وتيارات دينية وقوى راديكالية وتنظيمات إسلامية متشددة جداً فيها، حيث تمكنت تلك النظم السياسية المنفتحة والمفتوحة على شعوبها (والتي لا تورث السلطة والحكم والعروش والثروات والموارد ، ولا تركز السلطات والقرارات بيد شخص أو نخبة متفردة واحدة) من السيطرة على (أو على الأقل الحد من خطورة) بؤر التطرف الديني عندها؟!... فماذا فعلت؟ قامت بتمكين مجتمعاتها سياسياً بنشر ثقافة الديمقراطية إلى حد ما، ولو بحدودها الدنيا، وانفتحت على التداول السلمي للسلطة، وقامت بتنمية مجتمعاتها اقتصادياً، حيث راكمت تجارب إنتاجية كبيرة، رفعت من خلالها من معدلات نموها الاقتصادي، كما حدت من الفساد، وضيقت مواقع الظلم إلى أدنى حدوده الممكنة، وزادت من دخل الفرد سنوياً..

ولكن عندما يرى "الفرد - المواطن" على أرض الواقع في بلاده أن سلطاته الحاكمة انفتحت عليه، وشاركته في السلطة والثروة والقرار، ووفرت له مناخات العمل الاقتصادي ليستثمر طاقته ومواهبه وخبراته، ليعمل ويشتغل ويقدم في بلاده وليس في بلاد الهجر والاغتراب.. وأن عمله وإنتاجيته لا تذهب هباء منثوراً، بل يراها أمام ناظريه صناعة وتجارة واستثمارات ومتنوعة وخدمات فعال راقية ورفيعة، وتنعكس على جيبه واقتصاده اليومي إيجاباً، وأن بلده توفر له خدمات وترفع من معدلات الناتج القومي.. عند ذلك كله، وفي ظل نمو اقتصاد الرفاه، واقتصاد الخدمات والاستثمار، وتطبيق القانون والنظام العام على الجميع، وتحقيق نسبة مهمة من العدالة الاجتماعية، مع رفع مستوى معيشة ودخول مواطنيها، ومشاركتهم بالثروة والمورد كما قلنا... فمن أين سيأتي التطرف والتعصب؟ وكيف ستنمو السلفية والتكفيرية؟.

حقيقةً، الناس في مجتمعاتنا ملت من تلك الاسطوانة المشروخة المسماة بــ"الأصولية" ، أو "الجهادية" أو "السلفية" أ غيرها، مع وجودها بالطبع، وباتت تضحك في سرها وعلانيتها من إصرار الحكام والنظم الطغيانية (وسادتهم من الغرب والشرق)، على التنغيم والعزف الدائم إعلامياً وسياسياً على تلك النغمة النشاز.. كما أن الناس ملت وربما كفرت بتلك السياسات الفوقية القسرية، وبالثورات والربيع وغيره...

فالناس باتوا في موقع الضحية والمتلقي للزائم والانكسارات، وأضحت هكذا عارية من كل شيء إلا من ورقة التوت، إنها تريد حلولاً واقعية مادية، ونتائج حقيقية عملية لا نظرية لأزماتها ومشاكلها المعيشية الضاغطة والخطيرة للغاية.. الناس تريد حلاً لمشكلة الفشل في إدارة الثروات والموارد، ومشكلة إدارة الفقر الاجتماعي التي أوصلتنا إليها نظمنا الوطنية التحديثية الشعاراتية "العظيمة" التي فشلت حتى في تحقيق بند واحد أو هدف واحد من أهدافها وشعاراتها المعروفة.. بل راكمت على آماد زمنية طويلة من سني حكمها العقيم، تجارب فاشلة مكلفة ومدمرة، كرست نقيض تلك الشعارات تماماً..

وهذا قانون عام اجتماعي يسري دوماً وأبداً، حيث أنه مع تزايد ضغوطات الحياة وهموم المعيشة على أفراد المجتمع، وتعمق حالة البؤس والإحباط لدى الناس مع فشل نماذج الحكم العتيدة القائمة في التنمية وتحقيق العدالة، والإصرار على الفساد والقمع والاستبداد، كل هذا سيكون أكبر مولد لردود الأفعال المجتمعية السلبية أو الإيجابية من احتجاجات أو ثورات، حتى أنه يمكن أن يفجر في وجوهنا جميعاً تيارات غاية في الإرهاب والتعصب والأصولية.

لكن المشكلة أن حكامنا فشلوا، بل أدمنوا الفشل، ولم يدركوا بعد أن السياسة حكمة ووعي وخبرة، وهي لا تبنى بعقدة الانتقام، ولا تدار بغريزة الثأر والحقد الأعمى على الوطن وأبناء المجتمع أو التعامل مع الأجنبي الغريب ضد الشعب... بل تتقوم السياسة بالعقلانية والرشد السياسي والحكمة والخبرة كم قلنا، وتتصلب بالتوازن والتوافق والتضحيات والحفاظ على مصالح الناس والمجتمع قبل أية مصالح شخصية هنا وهناك..

وللأسف لا تزال شعوبنا هي التي تدفع أثمان كل مناخات وأجواء التعصب والأصولية واحتقانات التغيير والصراعات السياسية وغير السياسية، أولاً من حاضرها وطاقاتها الطبيعية (مواردها وثرواتها)، وثانياً من طاقاتها البشرية الهائلة، وثالثاً من مستقبل أجيالها اللاحقة التي ستواجه أزمات كبيرة في تأمين سبل ومنافذ عيشها "الآدمي" الحقيقي البسيط... أما من أشعل الصراعات وفجر بؤر التطرف والأصولية، وأشعل الحروب الدموية العنيفة فهو غالباً المستفيد الرئيسي على كل المستويات والأصعدة.. لأنه يتاجر بدماء وأموال وثروات وموارد الناس حتى في مثل هذه الظروف السيئة والمعقدة..

هذا الواقع جعلنا - نحن العرب والمسلمين- للأسف الشديد في موقع المتأثر والمنفعل والمفعول فيه في معظم المواقع والمستويات والامتدادات.. وكل أعمال الخراب والدمار والعنف والقتل والدم والسحق والضرب واستباحة الحرمات، كلها تجري للأسف على أراضينا، وبأيدينا ومشاركتنا، ومساهمتنا الفاعلة بوعي أو بلا وعي منا، وبأثمان باهظة ندفعها دماً ودموعاً وفشلاً تنموياً مقيماً..

فمن جهة هناك نظم عقيمة فاشلة لم تحقق شيئاً يذكر لمجتمعاتها، ولم تحصد إلا الرياح هي وشعوبها التي حكمتها.. بقوة الحديد والنار والقهر والغصب..

ومن جهة أخرى هناك التهديد بالأصولية السلفية الدينية الجهادية المتطرفة التي أخرجوها من القمقم السياسي والتاريخي والثقافي وأطلقوها في الميادين والساحات لتحل محل الاعتدال الإسلامي، والعقلانية، والتنوير المعرفي الإسلامي..

وهناك من جهة ثالثة الغرب الاستعماري الحاقد المطبل والمزمر والعازف دوماً على أوتار حقوق الإنسان والديمقراطية وضرورة التغيير ووالخ، والذي لم يخرج بعد من عصبيته وأصوليته وعقليته وثقافته السياسية المركزية ضدنا منذ قرون وقرون..

فويل لهذه البلدان، وألف ويل لهذه الأمة من: الاستبداد والظلم، ومن الإرهاب والتطرف، ومن الاستعمار والتدخل..

وعلى ذكر التطرف والاعتدال، لا بد من التنويه هنا بأننا في سوريا، التي دخلت إليها (أو أدخلت إليها) كثير من التيارات والحركات والتنظيمات والجماعات الدينية المتطرفة، وبدأت تمارس عنفا أعمى منظماً ضد الحياة والوجود الإنساني الحر والكريم، والتي اصطدمت بها حتى تيارات المعارضة ذاتها، وباتت تشكل خطراً حقيقيا على الحياة والكرامة والحرية والإنسان السوري ومستقبله الآمن المطمئن.. أقول: كل تلك الجماعات الإرهابية ستزول وتنتهي وتسحق وتمحق لا محالة على أيدي الناس وأبناء المجتمع السوري قبل الدولة، لأن الناس هنا يميلون للاعتدال والوسطية والرغبة الفطرية العارمة بالعيش المزدهر والآمن والمستقر..

فالجسد السوري مصاب حالياً بجملة أمراض كالتطرف والإرهاب والاستبداد، وهذه الأمراض هي بمثابة "تقيحات" و"دمامل" و"التهابات" حادة اعترت شتى أنحاء ومواقع هذا الجسد، الذي سرعان ما سيشفى ويصحو، ويعود سليماً معافى بعد فترة نقاهة ربما تكون طويلة نسبياً، ليمارس نشاطاته وفعالياته الوجودية من جديد، بعد زوال أسباب ودوافع العلة والمرض العارض بالوعي والعقلانية والإصرار على إرادة الحياة وثقافة الحياة والحرية كأصل فطري وجودي كينوني.. 

وقد بات معروفاً أن حركة جبهة النصرة وحركة "داعش" (تنظيم دولة الإسلام في العراق وبلاد الشام) وغيرهما، هي مجرد حركات عنفية متطرفة، تمارس الإرهاب السياسي والمجتمعي، تعتقد اعتقاداً مطلقاً بأولوية العمل المسلح، وترفع شعار العنف الأعمى طريقاً وهدفاً وسبيلاً وحيداً للوصول إلى الحكم والسلطة وفرض الرأي والمعتقد بلا وعي ولا عقل ولا أجندة ولا برنامج سياسي سوى القتل المنظم على الهوية والمعتقد والرأي السياسي..

وهي بلا ريب مرفوضة من كل أبناء المجتمع السوري المعتدل والعقلاني بطبيعته وفطرته..

إننا نعتقد أن ما يسمى بالتعصب والتطرف شيء سيء ومقيت ومقرف ومرفوض ومدان ومستنكر ولابد من استئصال شأفته كلياً (وقد قال إمامنا زين العابدين عليه السلام في الحديث المعروف: ".... إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها هي أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين).. ولكن العلاج يجب أن يكون ليس فقط امنياً وعسكرياً بل فكرياً وثقافياً وتربوياً، وقبل ذلك تنموياً واقتصادياً.. أي بعلاج أسبابه ودوافعه وتربته وعلته الأولى التي هي مناخات القهر والفساد وانعدام المساواة والطبقية والبطالة والعطالة وسياسات التمييز والفئوية والطائفية.. ووالخ..

لهذا نقول: حققوا العدالة والمساواة في مجتمعاتكم المريضة.. أعدوا المواطن السليم المعافى إعداداً ثقافياً ونفسياً ومادياً بشكل تنويري صحيح.. أعطوه حقوقه كاملة وعلى رأسها حق الحرية والكرامة والتعبير عن الرأي والمشاركة الفاعلة بالحكم.. وبعد ذلك تحدوا به ومن خلاله الأمم كلها.. وحاسبوه على كل صغيرة وكبيرة.. العدالة جوهر وأس السياسة والاجتماع السياسي والبشري.

إذاً:

حجر الزاوية في الموضوع كله هو أن معالجة التطرف والإرهاب (وبالتالي إيجاد حل عملي وواقعي جذري ونهائي لمشكلة التيارات التكفيرية والسلفية التي باتت ذريعة تنتهجها نظم الاستبداد لديمومة القمع والاستبداد وإلغاء الحريات وتكبيل إرادات الناس ومنعها من تحقيق طموحاتها في الحرية والكرامة والعدالة من قبل رموز النظم الشمولية الأحادية) لن تكون ذات قيمة ومعنى وجدوى، ولا تنجح ولن تنجح إلا بمعالجة أسباب التطرف الحقيقية القابعة في بنية وتربة وثقافة المجتمعات العربية والإسلامية..

أي أن النجاح مرهون لتشخيص علمي لدوافعه وعلله "البدئية" الأولى، وليس فقط معالجة نتائجه ومآلاته النهائية المعروفة للجميع والتي باتت خطوطاً وعناوين عريضة تتكرس أمام أعيننا يومياً على الشاشات وفي المنتديات والمجالس والمؤتمرات وغيرها.. فبذور التعصب والتطرف الفكري والعقائدي والتشدد بالرأي والقناعات و"التحزبيات" الضيقة لا تنمو ولا تنشأ ولا تقوم وتتقوى إلا في أرضية وتربة انعدام جو الحرية والتسامح وطغيان حالة الكبت والردع وكم الأفواه والقمع..  ولا تتضخم إلا في تربة الفساد والظلم والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وشعور الناس بأن حقوقهم مهدورة وكراماتهم مهانة..

مثل المريض الذي يعاني من مرض مزمن، فيتم تشخيصه بصورة خاطئة، فيعطى مضادات التهاب بسيطة بدلاً من أن يعطى علاجات نوعية فعالة واستطبابات أخرى قوية ربما تكون شبه دائمة..

لهذا كفانا شكوى وتذمراً من الواقع، ولنتحمل ولو مرة واحدة المسؤولية.. فالخلل والمرض والعلة ليست دوماً في الواقع دائماً، بل يمكن أن تكون (وهي غالباً كذلك) في طبيعة الأفكار المتحجرة المتكلسة العفنة، والعقول القاصرة الفاشلة العاجزة لأصحابها من ذوي النضالات الدونكيشوتية الوهمية، ممن يؤمنون بأن العلة في الواقع والتطبيق دوماً، وليس في أفكارهم ومعارفهم الجامدة.. ولذلك فهم يسعون -وهنا أصل الداء، ومكمن العلة الجوهرية- إلى تجيير وكسر الواقع، ومطابقة وقائعه مع مقولاتهم المتكلسة البائدة من دون وجود أدنى استثمار وتوظيف للمنهج العقلي العلمي في وعيها وإدراكها وتحليلها والوصول إلى نتائج ميدانية بشأنها.. الأمر الذي سيؤدي -كما أدى سابقاً وحالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره، وتقاليعه النضالية بحيث يظهر عملياً في الواقع وهو يعمل ضد مبادئه وقناعاته وأهدافه التي يزعم الدفاع عنها وحراستها، والتي كلفته -وكلفت المجتمع- أثماناً باهظة من حاضره ومستقبل أجياله..

ملاحظة تعريفية:

الأصولية هي بالأصل والأساس الفكري كلمة أو صفة لشخص أو تيار أو حزب أو فئة أو جماعة تؤمن بمعتقدات تاريخية ذات طابع تطهري رسولي.. وتعني العودة إلى الأصول والمنبع الحقيقي للفكرة أو المعتقد، والالتزام بها.. من أفكار وأخلاقيات وسلوكيات عمل..

أما حالياً فباتت الكلمة تطلق على كل حزب أو تنظيم أو جماعة مغلقة على ذاتها، تحتكر الحقيقة وتدعي امتلاك ناصيتها المقدسة، وتعتبر أن فكرها وقناعاتها ومبادئها هي الحق المطلق، وأن غيرها على باطل، وتحاول فرض تلك القناعات والرؤى والأيديولوجيا بالقوة والقسر والعنف ضد الآخرين..

وبهذا لا تقتصر صفة الأصولية على البعد الديني أو على بعض أو كثير من التيارات السياسية الدينية، بل يمكن أن تكون هناك حركات سياسية غير دينية ولكنها أصولية ومتطرفة أكثر من كثير من الحركات والتيارات والجماعات الدينية.. فهناك علمنة مستبدة وأصولية، كأصولية هتلر أو كأصولية الصهيونية أو حتى أصولية وتعصب كثير من الأحزاب السياسية في عالمنا العربي التي تصرفت بطريقة أشنع وأفدح وأفظع من الأصوليين الإسلاميين، احتكرت الحقيقية، وانغلقت على ذاتها، وتكورت على مصالحها، وتحركت وتصرفت بطرق وأساليب عنصرية بحتة، مستخدمة العنف والقوة والقتل للوصول إلى أهدافها وغاياتها.

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة