تناقض المصالح الأمريكية مع مطالب حلفائها

السنة الثانية عشر ـ العدد142 ـ (ذو القعدة ـ ذو الحجة 1434 هـ ) تشرين أول ـ 2013 م)

بقلم: معين عبد الحكيم*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بعد التراجع الأمريكي عن توجيه ضربة عسكرية لسورية, لم يعد الخيار العسكري  خياراً مقبولاً في المنطقة حالياً، لأنه أشبه بجدار من الصعوبات وسلسلة من المشكلات، ما يجعل الحلول العسكرية في المنطقة سواء في سورية أو ردع إيران ضرباً من ضروب الجنون في رأي الكثيرين.

ترافق ذلك التراجع مع حالة إحباط شديدة لدى صانع القرار الصهيوني، والتقدير السائد لديه، كما عكسته التصريحات والمواقف التي عبر عنها كبار مسؤوليه، إضافة إلى تعليقات إعلامه، كان واضحاً: "لا ضربة عسكرية أمريكية لسوريا، والوقت متاح (للمماطلة) السورية الروسية، وفي نفس الوقت، العين على إيران، التي تراقب ما يجري، وستمضي قدماً في ملفها النووي".

انتصار لسوريا وإيران

يقول السفير الصهيوني السابق في الولايات المتحدة، مئير روزين، إن "الانسحاب الأمريكي من المسؤولية ومن العمل العسكري في سوريا، يدل على محدودية التأثير للولايات المتحدة في الشرق الأوسط"، مشيراً إلى أن "الرسالة التي وصلت إلى المنطقة والعالم، هي أن أمريكا لم تعد كما كانت في السابق، وهذه هي إشارة سيئة إلى ما يمكن أن يحدث هنا في المستقبل القريب".

وأضاف روزين في حديث للقناة السابعة الإسرائيلية، إن "المهم في كل هذه المسألة، أن إيران ترى اليوم أن هناك فرقاً بين الأقوال التي تصدر عن واشنطن، وبين أفعالها"، مشيراً إلى أن "ما جرى هو انتصار كبير لسوريا وإيران وروسيا، خصوصاً أن الولايات المتحدة قامت بتركيز جهودها وعرض عضلاتها العسكرية بما يشمل المدمرات وحاملة الطائرات وأعلنت أنها في صدد تنفيذ إجراءات عقابية ضد الرئيس السوري بشار الأسد، بينما أنهت المسألة في الأخير بإعطاء انطباع بأن الأسد يمكن أن يستمر في حربه، وبالوسائل التقليدية، وأن الغرب لن يمانع ذلك".

وأكد روزين أن "الولايات المتحدة فقدت كل قدرة ردعها في الشرق الأوسط، وبالتأكيد هو انتصار لإيران وسوريا، أما لجهة طهران فهي إشارة بأن بإمكانها المضي قدماً في مشروع النووي، وكأن شيئاً لم يحدث".

وفي نفس السياق يقول وزير البنى التحتية الإسرائيلي، سيلفان شالوم، "إن ضعف المجتمع الدولي حيال سوريا، سيؤدي إلى أضرار في مواجهة البرنامج النووي الإيراني". وفي حديث للإذاعة الإسرائيلية، أشار شالوم إلى أن "إيران تعاين عن كثب التهديدات التي تطلق ضد سوريا والتي لا تنفذ، وإذا كان لا يمكن عمل شيء مع سوريا الصغيرة، فكيف بالتأكيد مع إيران الكبيرة".

وأكد شالوم العائد حديثاً من زيارة رسمية إلى ايطاليا، قابل خلالها كبار المسؤولين الايطاليين، أنه "إذا لم ترد واشنطن على استخدام السلاح الكيميائي في سوريا، فسيجري تفسير ذلك كضعف في طهران، وأن بإمكانها مواصلة برنامجها النووي بلا عراقيل". وقال رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في حفل تخريج دورة بحارة في الجيش، "لا يحك جلدك إلا ظفرك"، في إشارة منه إلى القلق من تخلي الولايات المتحدة عن خيارها العسكري ضد سوريا، لافتاً إلى أن "طريقة التعامل الغربية مع سوريا سيتم استيعابها في إيران".

كما عبر وزير الحرب، موشيه يعلون، عن خشيته وقلقه من كل الملفات في المنطقة، مشيراً إلى "أننا لا نعرف نهاية الثورة في مصر ولا كيفية وقف سباق التسلح الإيراني ولا كيفية سير الأمور في سوريا، لكننا نتابع عن قرب هذه الأحداث بمسؤولية وحكمة منطلقين من أنه في النهاية علينا أن نعتمد على أنفسنا وعلى قوتنا وقدرة ردعنا".

تساحي هنغبي، عضو لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، المقرب من نتنياهو، قال من ناحيته إنه ليس متفاجئاً من "تأجيل الهجوم الأمريكي على سوريا، فلإسرائيل تجربة مريرة في هذه المواضيع، حتى مع الولايات المتحدة الأمريكية"، ودعا إلى "ضرورة الاعتماد على النفس ومواصلة تطوير القدرات الذاتية، إذ "لا يجب أن ننتظر مجيء مشاة البحرية الأمريكية لإنقاذنا".

وقال مراسل القناة العاشرة للشؤون السياسية في التلفزيون العبري، إن "تل أبيب تقابل المقترح الروسي بشك كبير، إذ يبدو أن روسيا وسوريا تريدان فقط كسب مزيد من الوقت، وذلك لتأجيل الضربة العسكرية الأمريكية، وفي نهاية المطاف، بلا مقابل، وبلا تفكيك للسلاح الكيميائي".

كما رأت صحيفة "معاريف" أنه بعد أن بدا في الأشهر الماضية أن هجوماً إسرائيلياً مستقلاً على إيران قد أُلغي، تبين حالياً أن هذا الاحتمال عاد إلى جدول الأعمال، لافتة إلى أن مشاركة نتنياهو في حفل تخرجي دورة بحارة في حيفا، والمواقف التي صدرت عنه، تشير بالفعل إلى انه عاد للعمل على إيران، وربما بشكل مستقل، وذلك على ما بدا له، انه تراجع أمريكي عن التهديد بمهاجمة سوريا.

وأكدت الصحيفة أن إيران كان ضالعة في العملية التي أدت إلى اقتراح التسوية الروسية بتجريد سوريا من السلاح الكيميائي، مشيرة إلى وجود إشارات مقلقة صدرت أخيراً في واشنطن، بأن المجتمع الدولي سيقارب المسألة النووية الإيرانية بأسلوب آخر، من خلال إعلان إدارة أوباما أنها تعتزم تخفيف العقوبات على إيران بشكل جزئي، الأمر الذي يعد تراجعا، وإن جرى تغليفه بإشارة حسن نية تجاه الرئيس الإيراني الجديد، حسن روحاني.

تناقض المصالح والمطالب

بعد أكثر من عامين من بداية الأحداث التي تعصف بالمنطقة، لا تزال الأوضاع الميدانية تتغير بسرعة، ما يجعل الحكومات الغربية تجد صعوبة بالغة في التعامل معها. وبعد أن دعا الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاجتماع عاجل، لدراسة العنف المتصاعد في مصر، وجد نفسه أمام تحدٍ أكبر، متمثلا في استخدام السلاح الكيماوي في سورية. ويمثل الحدثان تحديين مفاجئين للسياسة الأمريكية، في حين باتت الإدارة الأمريكية أمام خيارات صعبة: إن كان يتعين عليها وقف المعونات عن مصر، أو إن كان من الواجب توجيه ضربة لسورية. ويتوقف الرد الأمريكي في الحالتين على مدى حزم أوباما في الالتزام بسياسة الولايات المتحدة الخارجية، فهو يريد أن يقلل من التدخل الأمريكي في المنطقة، ليتسنى له التركيز على الإصلاحات الداخلية، إضافة للتعامل مع صعود الصين وقضايا أخرى.

واستناداً إلى مبدأ "القيادة من الخلف" الذي يعتمده أوباما في سياسة الولايات المتحدة الخارجية, فإنه يفضل حيثما أمكن ذلك، السماح لحلفائه المشاركة في حل النزاعات والأحداث، التي تندلع في المنطقة، لقد ترك بريطانيا وفرنسا تأخذان زمام المبادرة في العمليات العسكرية في ليبيا، ولو بمساعدة أمريكية لا غنى عنها. ومن الناحية المثالية، يود أيضاً التعامل مع الاضطرابات في الشرق الأوسط، ضمن مجموعة من الحلفاء الإقليميين يتوافقون معه في التفكير، ولكن هناك مشكلة كبيرة مع هذه الإستراتيجية. تقليدياً، ارتكزت سياسة الولايات المتحدة في المنطقة على علاقات قوية مع خمسة لاعبين، هم: إسرائيل، والسعودية، ومصر، وتركيا، ودول الخليج. ومهما تكن خلافات هذه الدول، فهي القوى التي يفرضها الوضع الحالي. ومع ذلك، فإن الوضع القديم في الشرق الأوسط لم يعد موجودا، وحلفاء أمريكا التقليديون ينجذبون في اتجاهات مختلفة، والنتيجة هي أن الإدارة الأمريكية ستجد أنه من الصعب للغاية عليها، التوصل إلى نهج مشترك إقليمياً، للتعامل مع الاضطرابات. وقد خلق الوضع في كل من مصر وسورية، خلافات لا يمكن حلها بين شركاء الولايات المتحدة.

إذا ساندت واشنطن ما حدث في مصر، فسوف ترضي بعض حلفائها وتغضب آخرين، ففي الوقت الذي تدعم فيه الرياض السلطة الجديدة في القاهرة، تعبر تل أبيب عن رضاها من ما يحدث. في المقابل، لم تقبل تركيا التغييرات الجديدة، وعبر رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان عن ذلك في مناسبات عدة، ويعتبر أردوغان من الحلفاء المهمين لواشنطن في المنطقة. وحسب ما جاء في كتاب للمسؤول السابق في إدارة أوباما، فالي نصر، فإن الرئيس الأمريكي "اتصل بأردوغان وتناقش معه في مسائل كثيرة، أكثر من ما فعل مع أي زعيم آخر". 

حتى الآن يتصرف أردوغان، على نحو متزايد، بطريقة غير متوقعة، ويبدو أنه يشعر بالخوف من أن التظاهرات التي نظمت في شوارع تركية قبل أسابيع ضد حكومته، تهدف إلى الإعداد لانقلاب عسكري، على النموذج المصري. وتحت الضغط، لجأ إلى الركون لنظريات مؤامرة غريبة على نحو متزايد، مشيراً قبل أسبوعين إلى أن الانقلاب المصري قد دبر من قبل إسرائيل، واعتقد أوباما أن وساطته لإنهاء الحرب الكلامية بين إسرائيل وتركيا قد نجحت، لكن هذا الوفاق الهش سرعان ما انكسر مرة أخرى.

قطر، التي أصبحت لاعباً مؤثراً في المنطقة، من خلال الاستخدام المذهل لمبالغ طائلة من المال، تستضيف أيضاً القاعدة الجوية الأمريكية الرئيسة في المنطقة، القطريون يتعاطفون مع الإخوان المسلمين، وبالتالي كانوا على الجانب الآخر بالنسبة للمسألة المصرية، مقابل إسرائيل والسعودية.

ظاهرياً، هناك إجماع أكثر للدول الإقليمية حول سورية، فجميع أصدقاء أمريكا التقليديين في المنطقة يريدون رحيل الرئيس بشار الأسد، الرياض وتل أبيب تعتقدان أن الإطاحة بالرئيس الأسد ستمثل ضربة كبيرة لإيران، المنافس الإقليمي اللتين تخشيانه أكثر. أما الدوحة فتقدم دعماً كبيراً للجماعات المسلحة، وكذلك يفعل الأتراك، موقف السلطة المصرية الجديدة من النزاع السوري ليس واضحاً بعد، على الرغم من أنها توحي بأن الأسد شعر بسعادة غامرة، بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي. يأمل معظم حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، أن تتدخل الولايات المتحدة في سورية وتدعم المتمردين بشكل أكبر.

ويشعر الإسرائيليون بالقلق من تخطي خط إدارة أوباما الأحمر بشكل علني ـ استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية ـ من دون وجود رد على ذلك، ومن ثم فإن الخطوط الحمر التي وضعتها واشنطن في ما يخص البرنامج النووي الإيراني، لن يكون لها أي صدقية، ويعبر المسؤولين في تل أبيب عن قلقهم أيضاً، من وجود "عنصر جهادي" قوي في حركة التمرد السوري، ويتم التعبير عن هذه المخاوف بقوة أكبر من قبل أجهزة الاستخبارات الغربية.

أما بالنسبة لأوباما، فهو يخشى أنه إذا استجابت الولايات المتحدة لدعوات حلفائها في المنطقة وخارجها، ولو استدرجت بشكل مباشر أو غير مباشر للمعركة ضد سورية، فإنه في نهاية المطاف سيقوم الحلفاء بالتهليل من مقاعد (اللاعبين) البدلاء، وسوف يبقى هؤلاء خارج المعركة، وبعدها تلقي هذه الأطراف باللوم على أمريكا، عندما تكون الأمور على غير ما يرام. هذا الخلاف الإقليمي، ربما يقوي فقط غريزة أوباما الأولية بالنأي بعيدا عن مشكلات الشرق الأوسط، بدلاً من التسرع نحو إطلاق النار، لكن في بعض الأحيان تفرض الأحداث منطقها الخاص. وبهجوم جوي على سورية ـ يبدو أكثر احتمالاً من أي وقت مضى ـ سيكون الرئيس أوباما قد استدرج إلى الصراع في الشرق الأوسط، عكس قراره الذي يبدو أفضل من ذلك.

إن الاستماع إلى الحجج لفترة طويلة يجعلها تبدو منطقية، لكن ثمة محاذير ينبغي الأخذ بها، منها أن الحرب على العراق أظهرت المخاطر التي قد تنجم عن اتخاذ قرارات بناء على معلومات استخبارية، كما أظهرت حرب العراق، أن الحروب غالبا ما تتطور بأشكال يصعب على السياسيين التكهن بها.

السعودية الأكثر تضرراً

لم يحدث أن اختلفت الرياض مع واشنطن حيال قضيتين مهمتين من قضايا المنطقة في وقت واحد كما يحصل الآن.وقد تجلى ذلك في قضيتين ساخنتين تزامن انفجارهما في لحظة واحدة: القضية المصرية والقضية السورية. في مصر تدعم الرياض، على العكس من واشنطن، استعادة الجيش للحكم في مصر بعد عزل الرئيس محمد مرسي، بل ذهبت الرياض أبعد من ذلك بهدف تحييد استخدام المساعدات المالية الأمريكية والأوروبية للضغط على الحكم الجديد في مصر، بأن أبدت استعدادها مع دول خليجية أخرى بتعويض مصر كل وقف لمثل هذه المساعدات. الأرجح أن الرياض وواشنطن تتفقان في رؤية أن ما حصل في مصر انقلاب عسكري، كما تتفقان في الهدف، وهو الحفاظ على استقرار مصر سياسياً. وهذا هدف يهم السعودية في هذه المرحلة أكثر من غيرها، في ضوء ما جرى في العراق وما يجري في سورية. ما عدا ذلك، هناك اختلاف واضح بين السعودية وأمريكا حيال هذا الملف الآن، على الرغم من أن إدارة أوباما تقبلت أخيراً فكرة التعايش مع الحكومة الانتقالية المصرية، أولاً لأنها كذلك، وثانياً لمصلحة علاقة القاهرة بإسرائيل.

أما في ما يتعلق بالملف السوري، فيبدو الاختلاف بين هذين الحليفين أبعد شقة وأكثر تعقيداً، فالرياض وواشنطن تتفقان في رؤيتهما للأزمة السورية لكنهما تختلفان في ما بعد ذلك في كل شيء تقريباً: في الأولويات والسياسة والهدف.

فالإدارة الأمريكية لا تختلف في توصيفها لطبيعة النظام السوري، لكنها لا تعتبر تغييره أولوية لها الآن. هي لا تمانع أن يتحقق ذلك، لكنها لا تريد أن تدفع ثمن هذا التغيير. ربما ترى أن تطورات الأزمة كفيلة بتحقيق هذا الهدف من دون أثمان لا لزوم لها. الثابت الوحيد في موقف أوباما، هو أن المخرج من الأزمة في سورية غير ممكن إلا بحل سياسي يبدأ بمرحلة انتقالية. وأن هذا الحل يتطلب تفاهماً مع روسيا وإيران. صحيح أن أوباما توقف منذ زمن عن مطالبة الرئيس السوري بالتنحي، لكن الصحيح أيضاً أن التفاهم مع روسيا وإيران يفرض عليهما شيئاً ما حول هذا المطلب. واستمرار التفاهم وتطوره يعني أن إدارة أوباما تقبل بحل يتضمن بقاء الرئيس السوري.

وهكذا تكاد تكون السعودية الطرف الأكثر تضرراً من الصيغة الروسية التي احتوت محاولة الولايات المتحدة توجيه ضربة عسكرية لسوريا على الأقل في المدى المنظور. ويكاد يكون شاقاً تنظيم جردة بخسائر قيادة المملكة جراء التراجع الأمريكي عن قرار الحرب ولو مؤقتاً. والمعروف أن "إسرائيل" والسعودية هما الطرفان الأكثر تحريضاً على الحرب ضد دمشق: الأولى استخدمت العصا ومارست ما تستطيع من ضغوط لدفع واشنطن نحو العدوان على سوريا، والثانية مارست سياسة الجزرة عبر إغراء القيادة الأمريكية بتمويل كلفة الحرب ودفع أجرتها أيضا للولايات المتحدة، وهو ما ذكرته أكثر من وسيلة إعلامية تحدثت عن مداولات سرية أجراها الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع قيادات الكونغرس لحثه على تأييد الحرب وأبلغهم خلالها أن الحرب لن ترتب أي عبء على الخزينة الأمريكية المنهكة لأن عدداً من الدول الخليجية وفي مقدمها السعودية وقطر أخذت على عاتقها عملية التمويل وتحمل الأعباء المالية.

وأعلن أوباما في أحاديث متكررة مع أركان إدارته أن الحرب المندلعة منذ عامين ونصف في سوريا وما تطلبه من تجنيد مرتزقة وإقامة معسكرات وغرف عمليات وتسليح هي من تمويل هذه الدول، بل منحت الدول الخليجية شبكات أمان اقتصادية لعدد من الدول المشاركة في الحرب لتبقى ضمن الائتلاف المعادي لسوريا.

المهم في الأمر يمكن رصد أربعة عناوين أساسية حصدت فيها الرياض خسائر صافية وباهظة. الخسارة الأولى تتعلق بطريقة التعامل المهينة التي تمارسها واشنطن مع حلفائها في المنطقة ومنهم الرياض، حيث كانت آخر من يعلم بما جرى من اقتراحات ومداولات تبين لاحقا أنها أخذت وقتاً لا بأس به من النقاش. الخسارة الثانية تتعلق بتغذية القلق السعودي المستمر من تسوية أمريكيةـ إيرانية على حسابها يمكن أن تحصل في أي وقت، وهو قلق لم يغادر أذهان المسؤولين السعوديين في مختلف المحطات التي كان يحصل فيها تصعيد. وفي هذه الحالة فان منسوب القلق ارتفع كثيراً لاسيما بعد زيارة سلطان عمان قابوس بن سعيد إلى إيران وفتح قناة اتصال غير مباشرة بين واشنطن وطهران تولاها مسؤولون عُمانيون وحاولت إطلاق نمط جديد من النقاش والمداولات بين الجانبين.

وتتعلق الخسارة الثالثة بما أصاب قيادة السعودية للملف السوري من إخفاقات ميدانية حتى الآن. فمدير الاستخبارات بندر بن سلطان ومنذ توليه شخصياً الملف وجولاته لا تتوقف على عواصم الغرب المؤيدة للمسلحين أو زيارته الاغوائية إلى موسكو لتغيير موقفها من القيادة السورية مقابل صفقات تسلح وغاز وغيرها، كلها باءت بالفشل، وتبعتها محاولته تحقيق "انجاز" على الأرض من خلال سيطرة المسلحين على بعض قرى اللاذقية سرعان ما تمكن الجيش السوري من استعادتها وتكبيد المسلحين خسائر فادحة. لذلك كان بندر يراهن على ضربة عسكرية أمريكية تمكن المسلحين من تحقيق تقدم على الأرض بما يمكنه من الادعاء أن إدارته للملف ساهمت في إقناع واشنطن بالحرب ومن ثم تغيير موازين القوى على الأرض لصالح مسلحيه، وهو أمر يحتاجه بشدة بعدما تفردت الرياض بهذا الملف وتم تهميش قطر وتركيا.

أما الخسارة الرابعة التي تم إحصاؤها والتي تتعلق بالموقف المصري من ضرب سوريا والذي مثل تقاطعا بين الجيش ووزارة الخارجية والقوى الشعبية التي أطلقت حراك الثلاثين من يونيو والتي تمثل الحاضنة الشعبية للمؤسسة العسكرية، وهذه كلها أجمعت على رفض الضربة وإدانتها، لا بل ذهب الجيش ابعد من ذلك كما ذكرت صحيفة "النهار" المصرية متحدثة عن أن عبد الفتاح السيسي القائد العام للجيش المصري رفض مرور أي سفينة حربية أمريكية وأي بارجة حربية ناقلة للسلاح من قناة السويس لضرب سوريا، وانه أكد التزام القاهرة باتفاقية الدفاع المشترك مع دمشق قائلاً إن مصر لن تكرر أخطاء الحرب على العراق ولنتكون ممراً لضرب أي دولة عربية.

تراجع النفوذ الأمريكي

عندما أصبح باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، كان يحدوه هدفان أساسيان في الشرق الأوسط: أن يجعل أمريكا أكثر شعبية في جميع أنحاء المنطقة، والخروج منها بدءاً من العراق وانتهاء بأفغانستان. ووثق فيه الكثيرون إلى حد اعتقدوا أنه سيجد حلاً ناجعاً للقضية الفلسطينية، الذي استعصى على الرؤساء السابقين، وانه سيسعى إلى إقناع إيران بالتخلي عن برنامجها النووي، ويمنع حرباً أخرى في المنطقة، وأن الطفرة في استخراج الزيت والغاز الصخري سيجعل أمريكا أقل اعتماداً على نفط الشرق الأوسط، وبالتالي فإنها ستكون مرتبطة بتعهدات أقل صرامة حيال حلفائها المصدرين للنفط في الشرق. فإذا فعل أوباما كل ذلك فإن أمريكا كانت ستستطيع الخروج من هذه المنطقة المزعجة لتتفرغ للمحيط الهادئ. لم يستطع أوباما أن يفعل شيئاً من هذا القبيل. بل على العكس من ذلك برزت أمام واشنطن تحديات جديدة في المنطقة لم تكن في الحسبان.

فبعد عامان ونصف العام من نشوب الأزمة في سورية أصبحت حسابات أمريكا الآن أكثر حساسية. واتفق كل من مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، اللذين كانا على خلاف في السنوات الماضية، على أن التدخل العسكري المباشر فيه مخاطرة كبيرة جداً. وأن أمامهما خيارين: إما إعطاء الأسلحة مباشرة إلى الجماعات المسلحة، أو فرض حظر على الطيران، على الأقل على الجزء الشمالي الغربي من سورية. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لأوباما أن يفعل شيئاً حيال إيران، وفي هذا المجال يقول احد الخبراء المهتمين بالمنطقة "يستطيع أوباما أن يقبل بأن يكون الرئيس السادس على التوالي الذي يفشل في تحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين، لكنه لا يقبل أن يكون أول رئيس يسمح لإيران بامتلاك قنبلة نووية". وهناك اعتقاد قوي بأن أوباما سيضطر للتحدث مباشرة مع الإيرانيين، خارج إطار المفاوضات المستمرة منذ فترة طويلة بقيادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا. لكنه يواجه مأزقا منذ الصيف الماضي، حيث انه على الرغم من أن امتلاك إيران إمكانات صناعة قنبلة "لن يكون أمرا مقبولاً"، فإن احتواءها غير وارد على الإطلاق.

ويصر مستشاروه على أن أوباما على استعداد للقيام بعمل عسكري إذا رفضت إيران التعاون. لكن آخرون، مع اعترافهم بأن الرئيس يقول إن "كل الخيارات مطروحة على الطاولة"، يعتقدون انه من غير المرجح على الإطلاق أن يدخل في حرب مع إيران، فذكريات غزو العراق لا تزال حية في الأذهان، كما يقول مستشار الأمن القومي للرئيس جورج بوش الأب، برنت سكوكروفت، ويلخص موقف أمريكا الحالية في العراق على النحو التالي "نقترب الآن من درجة اللانفوذ هناك". 

باحث في القضايا الإقليمية(*)

اعلى الصفحة