|
|||||||
|
لعلَّ ما يصعب على الباحث، أيها القارئ العزيز، هو معالجة موضوع جديد، قليل المصادر، ولم يتم علاجه من قبل باحثين سابقين بالشكل المطروق. إنه بحث جديد وغير مطروق على المستوى الفقهي الاستدلالي، ولاسيما على المذهب الإمامي. إنه من الأبحاث العلمية الواسعة، والعميقة، والمعقدة، وهو من المسائل المستحدثة التي تهمُّ العالم، ولاسيما النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومن الواضح أيضاً أن ملكة الاجتهاد تتجلى أمام هذه المسائل المستحدثة، دون المسائل التي بُحثت من قبل، ودُوِّنت في كتاب "الجواهر"، أو كتاب "العُروة الوثقى"، أو "شروح العروة". بل هي مسألة جديدة يتولى المجتهد بنفسه البحث عن أدلتها الفقهية، والقواعد اللازمة لها، وتطبيقها عليها. وفي حال لم يكن الباحث مجتهداً، فهو يقوم بمحاولة جدية على طريق تحصيل ملكة بعض آليات الاستنباط. لقد واجه الباحث عقبة رئيسية وهي ندرة المصادر والمراجع الفقهية التي تطرقت إلى هذا البحث، ولذلك فقد لجأ الباحث أيضاً إلى استفتاءات تم توجيهها عبر لقاءات مباشرة، أو بالمراسلة، إلى العديد من العلماء المجتهدين، والمراجع الدينية في الحوزة العلمية في إيران، ولاسيما في مدينة العلم قم المقدسة، وكذلك في الحوزة العلمية في العراق في النجف الأشرف، والأزهر الشريف في جمهورية مصر العربية، وقد عمل الباحث على استنطاقها، وتحليلها، واستكشاف أدلتها اللفظية، والعقلية، ونقاشها، ونقدها أو نقضها، أو تأييدها جزئياً، أو إبرامها. لقد تم الاعتماد في هذا البحث على منهج البحث الفقهي، الذي يقوم على تعيين موضوع البحث، وتحديد موضوع الحكم بناء على النصوص الشرعية، والرجوع إلى العُرف(1)، ولاسيما في منطقة الفراغ التشريعي، أي إذا لم يكن هناك نص شرعي. ويقوم المنهج الفقهي أيضاً على جمع النصوص المرتبطة بالحكم، والملابسة له، ودراستها، وتقويم المتن سواء كان النص آية أو رواية، في ضوء قواعد ونتائج علم تحقيق التراث، إضافة إلى استفادة دلالة النص على الحكم في ضوء القواعد اللغوية، والأصولية، والفقهية، معززة بالقرائن الاجتماعية، والتاريخية، والتفسيرية، واستخلاص الحكم وصياغته. وكذلك يقوم المنهج الفقهي على الرجوع إلى الأصول العملية، والقواعد الفقهية، في حال فقدان النص، أو إجماله، أو تعارضه مع نص آخر تعارضاً مُحكماً يؤدي إلى سلب كل منهما حجية الآخر. فمنهج الاستنباط الفقهي يقوم على إرجاع الفروع إلى الأصول، واكتشاف أو بيان الأدلة الشرعية، ومحاولة الجمع بينها في حالات التعارض غير المستقر. ولا بد من الإشارة إلى أننا اعتمدنا على الدليل النصي كالكتاب والسنة، وعلى الدليل العقلي. أما أقوال العلماء فقد اعتمدنا عليها كمؤيِّد، وليس كدليل إضافي، ولاسيما أنها وردت تحت عنوان المنطلقات الفقهية، التي تشمل الأدلة الفقهية، وغيرها. وفي سياق العلاج الفقهي الاستدلالي للموضوع، لا بد من إطلالة على الدليل الشرعي، الذي يتألف من ثلاثة أقسام: - إما عقلي بجميع مقدماته: الدليل العقلي المحض، الذي لا يتوقف على السمع أصلاً. - أو نقلي بجميع مقدماته: الدليل النقلي المحض، ولا بدَّ فيه من صدق المُخبر، حتى يفيد العلم بالمدلول. - أو مركب منهما: ونسميه بالدليل النقلي لتوقفه على النقل في الجملة. والعقل أساس التكليف، لأنه هو الذي يدرك معاني النصوص الشرعية، وما المراد منها، وبفقده لا معنى لتكليف الإنسان، والله تعالى مدح العقل في نصوص كثيرة، وبيَّن فضله، وأنه آلة الاستنباط، ولولا العقل لكان الناس كالبهائم، قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾(2). من هنا نجد أن الدليل النقلي لا يصلح في مسألة إثبات وجود الله لمن لا يؤمن به؛ وإنما هذا الأمر تتم مناقشته معه بالدليل العقلي. وقد يتطابق الدليل النقلي مع الدليل العقلي، كما في دلالة بعض الأخبار على وجوب بذل العلم، كقول الرسول الأكرم(ص): "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار"(3). وقد يتعارض الدليل اللفظي غير الصريح مع دليل عقلي قطعي يقيني، ففي هذه الحالة يُقَدَّم الدليل العقلي القطعي على اللفظي، لأن الدليل العقلي القطعي يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي. أما الدليل النقلي القطعي فلا يمكن أن يعارضه دليل عقلي قطعي، لأنه إذا عارض نصاً صريحاً من المعصوم(ع)، أدى ذلك إلى تكذيب المعصوم(ع)، وتخطئته، وهو مستحيل(4). ولا بد من التصريح بحجية العقل الفطري الصحيح، والحكم بمطابقته للشرع، ومطابقة الشرع له، فإذا كان الدليل العقلي المتعلق بأمر ما بديهياً، مثل الواحد نصف الاثنين، فلا ريب في حجيته. إن الفقهاء - أعزهم الله - عندما لا يجدون دليلاً لفظياً من كتاب، أو سنّة، يكون المرجع عندهم حينئذ الأصول العملية، التي قامت الأدلة الشرعية على الرجوع إليها في موضع الشك وعدم الدليل، وهذه الأصول تختلف بحسب اختلاف مورد الشك، فإن كان الشك في أصل التكليف، كمن يشك في حرمة التدخين، أو يشك في وجوب أمر ما من عدم وجوبه، فهل يكون المورد مجرى لأصالة البراءة؟ أو يكون مورداً لأصالة الاحتياط؟ ولنعرف الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة المولى، وهو العقل، لأن الإنسان يدرك بعقله أن لله سبحانه حق الطاعة على عبيده، فيتحتم علينا عندئذٍ أن ندرس حدود هذا الحق المولوي: هل هو حق في نطاق التكاليف المعلومة فقط من قبل الإنسان؟ أم أن من حق الله سبحانه علينا الاحتياط في التكاليف المحتملة، إلى الدرجة التي تدعو إلى إلزام المكلف بترك ما يحتمل حرمته، وبفعل ما يحتمل وجوبه؟ والصحيح برأي بعض علماء الأصول هو الاحتياط نتيجة لشمول حق الطاعة للتكاليف المحتملة(5). لقد وصلت بعض البلدان الإسلامية، كباكستان، إلى صنع وتخزين الأسلحة المسمَّاة بأسلحة الدمار الشامل، التي تتطلَّب تكنولوجيا عالية، كالأسلحة النووية، أو البيولوجية، أو الكيميائية، كما أن الملف النووي الإيراني بات حديث كل وسائل الإعلام في العالم، ولذلك فإن من المهم أن يتصدَّر هذا البحث الأبحاث الإسلامية الفقهية، والقانونية، والسياسية. وإذا أردنا تطبيق هذه المنهجية الفقهية على موضوع معاصر حسّاس وخطير، فإنَّ أكثر ما يستفزُّ الإنسان في هذا العصر هو فكرة وجود أسلحة في عالمنا المعاصر يمكن للإنسان من خلالها أن يقتل أخاه الإنسان بهذا الشكل المُرَوِّع، بل إن خطرها يهدِّد الحياة في كوكب الأرض، سواء على مستوى الإنسان، أو النبات، أو الحيوان، أو الماء، أو الهواء، فأسلحة الدمار الشامل، ولاسيما السلاح النووي تشكل أقوى وأخطر الأسلحة على وجه الكرة الأرضية. لذلك فإن الأصل الإسلامي، والإنساني، يقضي بمواجهة إنتاج، وانتشار، واستعمال، هذا النوع من الأسلحة، وربما أمكننا التفصيل في بعض الموارد. ونشير إلى أن الفتوى هي رأي فقهي بصدد موضوع معين، وهي الحكم الشرعي الكلي للأشياء، وقد تتعلق بمواضيع عديدة، شرعية، واجتماعية، وسياسية، وجهادية، مما يواجهه المسلمون في حياتهم اليومية. وتمثل الفتوى الرأي القانوني الديني للفقيه، بصدد مسألة معينة. وقد صدرت مؤخراً فتوى لقائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخامنئي (دام ظله) تقول بحرمة "إنتاج"، أو "استخدام" السلاح النووي، وستكون هذه الفتوى وغيرها من الفتاوى-كفتوى الأزهر الشريف- موضع نقاش علمي، سواء على مستوى الأدلة النقلية للقائلين بالجواز، أو للقائلين بعدمه، أم على مستوى القواعد الفقهية القائلة بحرمة الإفساد في الأرض، وحرمة قتل الإنسان بغير حق، وحرمة الإضرار بالبيئة، وحرمة هدر المصادر الطبيعية، وحرمة تصرف الإنسان فيما لا يملك، ووجوب حفظ النظام العام. ولا بد أيضاً من الاستفادة من أحكام قتل غير المقاتلة، إضافة إلى جواز محاربة العدو بما يرجى به الفتح، وما يمكن أن نجده من موقف للفقه الإسلامي من أسلحة الدمار الشامل القديمة والحديثة. ونلفت إلى أن أغلب ما وُجد أو تم تحصيله من آراء واجتهادات فقهية لا يعدو كونه فتاوى مختصرة لا تتعرَّض إلى الأدلة بالتفصيل، ولا تناقشها، أو ترد عليها بالدليل، الذي يستند إليه الفقيه في استنباط الحكم الشرعي، وهو إما أن يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي، فيسمى دليلاً تاماً، أو قطعياً، وإما أن لا يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي، فيسمى دليلاً ناقصاً، أو ظنياً. والدليل الظني إذا حكم الشارع بحجيته، وأمر بالاستناد إليه، أصبح كالدليل القطعي، وتحتَّم على الفقيه الاعتماد عليه. والدليل نوعان: الأول: دليل اجتهادي، يعتمد على الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل. والثاني: دليل فقاهتي، يرتكز على الأصول العملية، كالاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، والتخيير(6). وسنتناول في هذه الأبحاث -التي ستنشر على أجزاء- مسألة خاصة بأنواع الأسلحة، التي يجوز استخدامها في الجهاد، فنتساءل: هل يُجيز الإسلام استخدام جميع أنواع الأسلحة في الحروب، أم أنه يحرِّم بعضها ويجيز بعضها الآخر، أم أن الأمر نسبي، ويتوقف على ظروف المعركة، وأهدافها، والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها؟ وعلى كل حال فإن الحديث في موضوع أسلحة الدمار الشامل يقع في بحثين: الأول يتعلق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، والثاني يتعلق باستخدام هذه الأسلحة. وبعد استعراض المنطلقات الفقهية لنظرية جواز إنتاج أو استخدام أسلحة الدمار الشامل مطلقاً، ولنظرية تحريم إنتاج أو استخدام أسلحة الدمار الشامل مطلقاً، سنستعرض المنطلقات الفقهية لنظرية التفصيل في إنتاج أو استخدام أسلحة الدمار الشامل، بحيث يكون استخدامها محلَّلاً في موارد معينة، ومحرَّماً في موارد أخرى. ونقصد بهذا البحث معرفة هل يجوز للدولة الإسلامية أن تسعى لإنتاج أسلحة الدمار الشامل بصرف النظر عن استخدامه؟ وهل تختلف الفتوى في حال كانت الدول والأمم الأخرى لا تمتلك هذا السلاح؟ وهل يحرم صنع أسلحة الدمار الشامل، في ظل واقع يمتلك فيه الآخرون أسباب القوة، ولاسيما السلاح النووي؟ وما هي الأدلة النقلية والعقلية على ذلك؟ وهل يُفرَّق بين الهدف الردعي والهدف الهجومي؟ وهل أن الإضرار بالبيئة سبب من أسباب تحريم إنتاج هذه الأسلحة، ولاسيما أن الأديان السماوية دعت الإنسان إلى المحافظة على البيئة، وحرَّمت عليه تلويثها وإفسادها؛ لأن الله خلقها من أجل الإنسان، وسخَّرها لخدمته ومنفعته؟ الفقرة الأولى-المنطلقات الفقهية لنظرية تحريم إنتاج أسلحة الدمار الشامل البند الأول- الدليل النقلي: حرمة الإضرار بالبيئة: أما مصطلح "الدليل النقلي" فمعناه: الدليل المنقول من الكتاب، أو السُّنَّة. وقد عرَّف الشهيد الثاني النَّصَّ بأنه: "القول، أو الفعل، الصادر عن معصوم، الراجح، المانع من النقيض، وغير المنصوص بخلافه"(7). ولا بد من العلم بعدم المُعارض العقلي الدال على نقيض ما دلَّ عليه الدليل النقلي، إذ لو وُجد ذلك المُعارض لقُدِّمَ على الدليل النقلي، بأن يؤوَّل الدليل النقلي عن معناه إلى معنى آخر. ومثاله قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾(8)، فإنه يدل على الجلوس، وقد عارضه الدليل العقلي الدال على استحالة الجلوس في حقه تعالى، لأن الله تعالى ليس بجسم، فيؤوَّل الاستواء بالاستيلاء، أو تجعل الجلوس على العرش كناية عن تسلُّط الله وإحاطته الكاملة بعالم الوجود، ونفوذ أمره وتدبيره في جميع أنحاء العالم(9). فالعقل أدرك بأن ظاهر هذا النص غير مقصود، ذلك لأن القاعدة الشرعية المستفادة من نصوص كثيرة محكمة في الكتاب، والسُّنَّة، تفيد تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، وعن الحلول فيها. وهناك أمثلة أخرى، كالمعجزات التي أيَّد الله بها رسله وأنبياءه، والتي كلمنا الله عنها في القرآن الكريم، فالمعجزة ليست بأمر مستحيل عقلاً، بل هو أمر خارق للعادة، لم يألفه الناس، ولا يستطيعون القيام به، فإذا قام الدليل النقلي السليم عليه، فينبغي قبوله والإيمان به. ويمكن أن يقال إن الحكم بثبوت الدليل النقلي دون ما يقتضيه الدليل العقلي غير ممكن، لأنه إبطال للأصل بالفرع، إذ إن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، لأن الطريق إلى إثبات الصانع، ومعرفة النبوة، وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه ليس إلا بالعقل(10). وسوف نستعرض في الآتي الأدلة الفقهية لنظرية تحريم إنتاج أسلحة الدمار الشامل على مستوى الكتاب والسُّنَّة. أولاً-الكتاب: بيَّن القرآن الكريم في آيات عديدة أهمية المحافظة على البيئة، ولاسيما أن من الثابت علمياً التفاعل المستمر بين صحة الإنسان، وبيئته، والتنمية، منها قوله تعالى: 1. يجب المحافظة على الثروة الحيوانية التي تشكل عنصراً مُكَوِّناً لبيئة الإنسان، لما لها من أهمية في حياة الإنسان، سواء على مستوى اللباس الذي يصنع من جلودها، أو على مستوى الطعام الذي يُصنع من لحمها، أو على مستوى الأجبان والألبان التي تصنع من حليبها، أو على مستوى حركة التنقل التي كانت تعتمد بشكل أساسي على الحمار، والحصان، والجمل، ولاسيما في الصحراء، قال تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾(11). والمحافظة على الأنعام تعني أيضاً المحافظة على طعامها الذي يتكون من الأعشاب، وعلى شرابها الذي يتكون من الماء، ما يؤكِّد أهمية المحافظة على التربة أيضاً، وعدم دفن أية مادة سامة في التربة لأنها تسمِّمُها، وتضرُّ بالمزروعات، وبالأنعام، وبطعام الإنسان وشرابه، فتشكل خطراً على حياته. 2. كما يجب المحافظة على البيئة في الحياة المائية، التي يُستخرج منها طعام الإنسان أيضاً، أي الأسماك، والحيوانات البحرية، والنهرية، التي يَحِلُّ أكلها، ويُستخرج منها الأحجار الثمينة كاللؤلؤ، كما تُعَدُّ السفن، التي تعبر البحار والأنهار، من أهم وسائل النقل في حياة الإنسان، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(12). فالمحافظة على البيئة في الحياة المائية، تعني المحافظة على طعام الإنسان، وشرابه، وزينته، وتنقله، ما يؤكد أهمية عدم رمي النفايات، ولاسيما السَّامة منها في البحار والأنهار، لأن ذلك يؤدي إلى فساد حياة الإنسان. 3. والجميع يعلم أيضاً الترابط الحاصل على مستوى مكوِّنات البيئة، سواء منها الهواء أو الماء، أو الحرارة، وهناك مثل مشهور علمياً، وهو كيفية صناعة النباتات الخضراء لطعامها لتنمو وتؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربها، فهي تأخذ الماء من الأرض، وتأخذ الطاقة من حرارة الشمس، وتأخذ ثاني أوكسيد الكربون من الهواء، فتتم التفاعلات الكيماوية في مادة الكلوروفيل الخضراء، فتصنِّع السكريات وتطلق الأوكسجين في الهواء، في عملية بيوكيميائية تسمى "PHOTOSYNTHESE"، وما قوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾(13) إلا دليل على أهمية الحفاظ على البيئة، لأن الله تعالى لم يخلق السماء، والماء، والثمرات، والبحار، والأنهار، عابثاً، بل لحكمة اقتضاها، فسخرها في خدمة الإنسان. 4. ولم يكتفِ الإسلام ببيان أهمية الحفاظ على البيئة على مستوى الحياة الدنيا، بل إن الكثير من الآيات القرآنية التي تصوِّر لنا الجنَّة، وما فيها من نعيم لا يزول، تصوِّر لنا غنى الجنَّة بالحدائق والأعناب، قال تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً﴾(14). ولا ننسى الماء الذي يرمز في الرؤية الإسلامية إلى أصل الحياة، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾(15). 5. وخيرات الأرض كافية، وقد أتقن الله صنع البيئة وأودع فيها كلَّ مقوِّمات الحياة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾(16). والله تعالى جعل من غايات بقاء الإنسان استعمار الكون مادياً، ومعنوياً، فخلق هذا الكون، وسخَّره بما فيه، للإنسان، وأراد أن يكون بيتاً آمناً له، إذ حمى الأرض بغلاف جوي يحيط بها، ويضم مجموعة من الطبقات، لكل منها وظيفة خاصة تؤديها، فحَفِظَ الكرة الأرضية من مخاطر الإشعاعات الكونية الفضائية، والشهب، والنيازك، التي تندفع من الفضاء الخارجي نحو الأرض، ولكن المشكلة تكمن في طمع الإنسان، وفي ارتكابه الأعمال التي تضرُّ به وببيئته ضرراً معتداً به، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾(17). 6. ولا شك أن هدر المصادر الطبيعية، والاستهلاك المُفرط لمصادرها، واستهلاك الإنسان الزائد عن حاجته للثروات الطبيعية، هو إسراف مُحَرَّمٌ في الإسلام، لأنه يتجاوز حدَّ الاعتدال، ويهدِّد بكارثة بيئية وإنسانية، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(18). إن الإضرار بالبيئة يؤدي إلى الإخلال بالحياة الإنسانية، فالبيئة هي الهواء الذي يستنشقه الإنسان والحيوان والنبات، والطعام الذي يتناوله، والماء الذي يشربه، فإذا تلوثت البيئة انتشرت الأمراض والأوبئة، وعاش الإنسان مدة من الزمن أسير المرض وطريح الفراش وصولاً إلى الموت. وحيث أن نوعية الحياة الراهنة هي مسؤولية البشرية جمعاء، فلا بد لكل فرد أن يأخذ دوره مهما كان بسيطاً في مجال حماية البيئة ورعايتها، فقضايا البيئة، على الرغم من تشعبها، تشكل وحدة متكاملة، لأنها الإطار الذي يحيا فيه الإنسان ويستمدُّ منه كل مقوِّمات حياته، وهذا الإطار أصبح يتعرض للانتهاك، والاستنزاف، بقسوة، ما أدى إلى ظهور مشكلات أخذت تهدِّد سلامة الحياة البشرية، منها: "مشكلة التلوث"، و"مشكلة الغذاء"، و"المشكلة السكانية"، وقد أحدثت هذه المشكلات هزَّة قويَّة في مجتمعات الرفاهة، وانعكست آثارها السلبية على كل المجتمعات البشرية بما فيها تلك الغنية بالطاقة، علماً أن مشكلة البيئة تتعلَّق بنوعية الطاقة المنتَجة، وليس بمطلق الطاقة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشكلة الاقتصادية. إن حماية البيئة لا تعني عدم تحقيق استفادة الإنسان من الموارد الطبيعية، وترك كنوز الأرض التي وهبنا الله تعالى إياها في مواقعها، والتحريم المطلق لصيد حيوانات البر والبحر، ولا التحريم المطلق لقطع الأخشاب للصناعة والإنشاءات، بل إن حماية البيئة تعني استثمارها من دون إسراف، ولا استنزاف في إطار توازن طبيعي. ولا بد من احترام هذه القاعدة، وهي: "حرمة هدر المصادر الطبيعية"، لحماية البيئة، وحفظ التوازن فيها. فإذا كان في إنتاج أسلحة الدمار الشامل استنزاف للتوازن الطبيعي، وهدر للمصادر الطبيعية، فيحرم إنتاجها. ثانياً-السُّنَّة: ولا يكتفي الإسلام بتحميل الإنسان، وهو خليفة الله على الأرض، المسؤولية عن حماية البيئة وحفظها، بل ويدعوه إلى الاقتراب منها وإحيائها، والاستفادة المباشرة من خيراتها، وذلك من باب الرزق الحلال، وتجنيبه الوقوع في الكثير من المشاكل الصحية النفسية والجسدية، فقد ورد عن النبي (ص)، فيما يتعلق بالفاكهة، أنه قال: "أكرموا عمتكم النخلة، والزبيب"، كما قال (ص): "خُلقت النخلة، والرمان، والعنب، من فضل طينة آدم"(19). كما ورد عنه (ص)، فيما يتعلق بالحيوان الذي يُستفاد من لحمه ولبنه، أنه قال: "الشاة بركة، والشاتان بركتان، وثلاث شياه غنيمة"(20). ولا ننسى المُلك العام كالمياه الطبيعية المكشوفة، كالبحار والأنهار، والعيون الطبيعية، وكذلك الهواء، والكلأ، وغيرها من الثروات الطبيعية، كالمعادن، وهي من الأمور المشتركة بين الناس التي لا يأذن الإسلام لفرد خاص بتملكها، وإنما يسمح للأفراد جميعاً بالاستفادة منها، وقد ورد في الحديث الشريف: "الناس شركاء في ثلاث: النار، والماء، والكلأ"(21). والمُلك العام هو ملك للمسلمين على امتدادهم التاريخي، فلا يجوز للجيل السابق أن يتصرف فيها أي تصرف يحول دون استفادة الجيل اللاحق منها، من قبيل قطع أشجارها بما يؤدي إلى تصحرها، أو فعل ما يوجب نضوب الماء فيها، أو يلوِّث بيئتها بأي شكل من أشكال التلوث، وعلى ولي الأمر أن يمنع كل تصرف مضرٍّ بها حفظاً لحق الأجيال اللاحقة فيها(22). وقد اهتم المسلمون بالبيئة، ويظهر ذلك بوضوح في العمارة الإسلامية إذ "شكلت المباني بمختلف أنواعها، والطرق، نسيج المدينة الإسلامية القديمة.. وبتكامل الحلول والمعالجات البيئية تمكن المسلمون من مواجهة الظروف المناخية القاسية، ومن تهيئة بيئة صالحة للمعيشة في المدن والمباني التي أقاموها.. ولقد حرص المصمِّم المسلم على تهيئة الراحة الحرارية داخل مباني المدينة الإسلامية"(23). وفي هذا السياق أجاب الدكتور نصر فريد واصل(24) عن سؤال وُجِّه إليه بتاريخ 07/06/2006 حول موقف الإسلام من تلويث البيئة، والسؤال هو: يسأل عدد من الناس: ما حكم الشرع في تلويث البيئة، أو إتلافها وعدم المحافظة عليها؟ فأجاب قائلاً:"إن الإسلام باعتباره الدين الخاتم لكل الأديان، جاء يحث الناس كل الناس على المحافظة على البيئة، ويدعوهم إلى عدم تلويثها أو إفسادها.. والقاعدة الشرعية التي وضع أساسها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "لا ضرر ولا ضرار". كما جعل صلى الله عليه وسلم تنظيف الشوارع من القاذورات، والقمامة، وعوادم وسائل النقل الضارة، وإماطة الأذى عنها، مما يحصل به الثواب، فقال صلى الله عليه وسلم "إذ أبيتم إلا الجلوس في الطريق فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال غض البصر، ورد السلام، وإماطة الأذى عن الطريق"(25)، وإماطة الأذى كلمة جامعة لكل ما فيه إيذاء الناس ممن يستعملون الشوارع والطرقات. وعلى المسلم أن يكون حريصاً كل الحرص على تنفيذ تعاليم دينه الحنيف، وأن يُدرك إدراكًا كاملاً أهمية المحافظة على نظافة البيئة وحرمة إفسادها لأي سبب من الأسباب، وأن يكون غيوراً على دينه، وأن يحافظ على نظافة البيئة التي يعيش فيها، لتبقى وتظل خالية من وسائل الأمراض التي تضر بالأفراد والجماعات، والله أعلم"(26). ولا شك أن هذا البحث يحتاج إلى المزيد من الاستدلال، ولاسيما على مستوى القواعد الفقهية والدليل العقلي، وهذا ما سنكمله بإذن الله تعالى في العدد القادم من مجلة الوحدة الإسلامية، والله ولي التوفيق. باحث في الشريعة والقانون الدولي(*) هوامش (1) العُرف عبارة عن كل ما اعتاده الناس، وساروا عليه، من فِعلٍ شاع بينهم، أو قول تعارفوا عليه. والعُرف له دور في مجال فصل الخصومات، وفي مجال الاستنباط. لقد اتخذ التشريع مفاهيم كثيرة، ولكن ربما يعرض الإجمال على مصادقها، فيكون العُرف هو المرجع في تطبيقها على موردها، إذ إن لكل قوم وبلد أعرافاً يتعاملون في إطارها، في كافة العقود، والإيقاعات، ولنعطي مثالاً على ذلك: إذا اختلف الزوجان في أداء المهر، فلو جرت العادة في مجتمعهم على تقديم المهر، أو جزء منه، قبل الزفاف، فللحاكم أن يحكم على وفق العُرف الدارج في البلد، شرط أن لا يتعارض ذلك مع مبادئ الإسلام. راجع: السبحاني، جعفر، مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه، ط1، بيروت-لبنان، دار الأضواء، 1419ه-1999م، ص: 183-189. (2) سورة الأنفال، الآية: 22. (3) البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة، قم-إيران، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ص: 161. (4) الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، بيروت- لبنان، دار الكتاب اللبناني، 1406هـ-1986م، ج1، ص: 133. (5) والبحث في هذه الأصول طويل الذيل، مفصَّلاً في أصول الفقه، وهي لها تطبيقات دقيقة واسعة، ذكرها الفقهاء في كتب استنباط الحكم الشرعي. المرجع نفسه، ج1، ص: 116-117. (6) الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، مرجع سابق، ص: 116-117. (7) زين الدين، علي، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، طبعة حجرية، قم-إيران، مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، ص: 150. (8) سورة طه، الآية: 5. (9) الشيرازي، ناصر مكارم، مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ط1، إعداد: أحمد علي بابائي، قم-إيران، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، 1428ه، ج3، ص: 201. (10) الإيجي، المواقف، ط1، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، بيروت-لبنان، دار الجيل، 1417ه-1997م، ج1، ص: 203-208. (11) سورة النحل، الآية: 5. (12) سورة النحل، الآية: 14. (13) سورة إبراهيم، الآيات: 32-33. (14) سورة النبأ، الآيات: 31-32. (15) سورة الأنبياء، الآية: 30. (16) سورة فصلت، الآية: 10. (17) سورة الروم، الآية: 41. (18) سورة الأنعام، الآية: 141. (19) ورد الحديثان في المرجع الآتي: البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، قم-إيران، 1414ه، ج 23، ص: 392. (20) المرجع نفسه، ج 16، ص: 898. ولعلَّ الصحيح أو الأصح لغوياً هو ثلاث شياه، فربما يكون هناك خطأ مطبعي. والمعنى أنه كلما شاعت ثقافة تربية الشاة وزاد عددها، فإن البركة تعمُّ الإنسان وأهل بيته بل والمجتمع كافة، لما فيها من منافع صحية نفسية وجسدية. (21) النوري، مستدرك الوسائل، ط2، بيروت-لبنان، مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، 1408ه-1988م، ج17، ص: 114. (22) الصدر، محمد باقر، اقتصادنا، بيروت-لبنان، دار التعارف للمطبوعات، 1411ه-1991م، ص: 409-495. (23) وزيري، م. يحيى، العمارة الإسلامية والبيئة- الروافد التي شكلت التعمير الإسلامي، عالم المعرفة، العدد 304، الكويت، 2004م، ص: 104-105. (24) مفتي مصر الأسبق. (25) ما ورد هو اقتباس عنه، ولكنني وجدت حديثاً نبوياً يفيد نفس المعنى، وهو: "الإيمان أربعة وستون باباً، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". راجع: احمد بن حنبل، مسند احمد، بيروت-لبنان، دار صادر، ج 2، ص: 379. (26) إسلام أون لاين_نت - اسألوا أهل الذكر - موقف الإسلام من تلويث البيئة. |
||||||