|
|||||||
|
بعد أن انفرط "العقد الاجتماعي" القديم الذي ترسّخ في تونس منذ الاستقلال وحتى قيام الثورة التي أسقطت النظام القديم، لم تثبت تونس على دستور جديد بعد سنتين على ثورتها السلميّة والسريعة. وفي الوقت الذي كانت فيه تونس منشغلة بموضوع الجدل الأيديولوجي والسياسي داخل قبة المجلس الوطني التأسيسي حول مسودة الدستور الجديد والتوافقات بشأنه، لجهة إقرار دستور توافقي يقر بأنّ الديمقراطية في تونس لا يمكن لها أن تتحقّق إلا عبر نظام سياسي مختلط، والحسم في عملية بناء الدولة المدنية الديمقراطية، التي تعتمد المساواة التامّة في المواطنة كقاعدة أساسيّة، وجّه الإرهاب الأعمى، ضربة جديدة باغتيال المناضل القومي الناصري محمد البراهمي (58 عاماً)، والنائب في المجلس الوطني التأسيسي التونسي، والعضو القيادي في "الجبهة الشعبية" (تحالف اليسار والقوميين)، يوم عيد الجمهورية 25 تموز/يوليو 2013. أسباب قادت إلى اغتيال البراهمي وتأتي جريمة اغتيال المنسق العام لحزب "التيار الشعبي" المعارض محمد البراهمي بعد ستة أشهر على اغتيال القائد اليساري شكري بلعيد، وهي ثاني عملية اغتيال سياسي في تونس منذ سنة 1956. المشهد يذكرنا تماماً، بما حصل مع المعارض اليساري شكري بلعيد في شباط/فبراير 2013، الذي اغتيل بالطريقة عينها، والذي سبب اغتياله صدمة في المجتمع التونسي ودفع رئيس الوزراء التونسي آنذاك، حمادي الجبالي، لتقديم استقالته. وكما فعلت زوجة الشهيد شكري بلعيد في 6 شباط/فبراير 2013، سارعت عائلة محمد البراهمي يوم 26 تموز/يوليو 2013 إلى اتهام "حركة النهضة" باغتياله في حين انطلقت تظاهرات ومسيرات قادتها المعارضة و"حركة تمرد" التونسية، داعية إلى إسقاط حكم حركة النهضة الإسلامية، رافعة شعار "الشارع.. الشارع... حتى يسقط النظام"، في حين بدت تعليقات الشيخ راشد الغنوشي والرئيس المنصف المرزوقي على الجريمة بلا أي معنى، لاسيما في ظل القول أن هناك من يريد نقل العدوى المصرية إلى تونس، على الرغم من أن الاعتراض التونسي على حكم الإسلاميين سبق الثورة المصرية الثانية!. وكان الشهيد محمد البراهمي، يشغل منصب الأمين العام لحركة الشعب ذات التوجه القومي الناصري، التي تعرضت لعملية انشقاق كبيرة بين تيار موالي كلياً لحركة النهضة، وتيار يقوده البراهمي، الذي استقال من الأمانة العامة لتنظيم "حركة الشعب" يوم 7 تموز/يوليو 2013، واتهم حركة "النهضة الإسلامية" الحاكمة بـ"اختراق" حزبه، وفق ما نقلت وسائل إعلام محلية. وفي اليوم عينه، أعلن البراهمي تأسيس حزب "التيار الشعبي" ذي التوجه الناصري، والانضمام إلى "الجبهة الشعبية" اليسارية. في يوم 8 تموز/يوليو 2013 أعلن محمد البراهمي عن تأسيس حزبه الجديد "التيار الشعبي"، وقد بدا منذ البيان الأول أن لغة التيار الشعبي، بوصفه حزباً معارضاً ستكون حادة و"شرسة" تجاه الحكومة، وحركة النهضة.. وبعد ذلك بأسبوع جاء البيان الأول للحزب الجديد وتحديدا يوم 15 تموز/يوليو 2013.. "أمام التصريح الخطير الصادر عن القيادي بحركة النهضة، ورئيس كتلتها في المجلس التأسيسي، الصحبي عتيق، وما تضمنه من تهديد صريح للمعارضة وتوعّد واضح للشعب التونسي بـ"استباحته إذ تجرأ واستباح الشرعيّة في تونس" يهمّ التيار الشعبي أن يعلن عن: إدانته الشديدة لمثل هذه التصريحات التي تعبّر عن نزوع عدواني مرضي لدى بعض قيادات هذا الحزب.. موقفه المبدئي الرافض لكل أشكال العنف والإرهاب.. ومساندته غير المشروطة لكل التحركات الشعبية السلمية من أجل استكمال المسار الثوري في تونس والوطن العربي. رفضه لكلّ مخططات "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين" المسرّبة أخيراً عن مؤتمرهم الطارئ المنعقد في تركيا كما يجدد التيار الشعبي وقوفه إلى جانب ثورة الثلاثين من حزيران/يونيو بمصر.. ويحيي الدور الوطني للجيش المصري.. أما البيان الثاني، الذي صدر عن "التيار الشعبي" يوم 18 تموز/يوليو 2013، فجاء فيه كما يلي: "مرة أخرى يفاجئنا السيد المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت بالإذن للنيابة العمومية بفتح تحقيق مع كل من يدعو إلى إسقاط النظام.. ويهم التيار الشعبي أن يعلن: رفض سياسة الترهيب التي تنتهجها المجموعة الحاكمة تجاه شعبنا… دعوة التيار الشعبي إلى مؤتمر وطني للإنقاذ يحدد خارطة مستقبل لإدارة المرحلة الحالية واتخاذ إجراءات حاسمة من شأنها أن تخرج البلاد من الأزمة الراهنة. مساندته المطلقة لكل التحركات الشعبية السلمية من أجل تصحيح المسار الثوري ويدعو كل القوى الوطنية وشباب الثورة إلى رص الصفوف في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ تونس. وفي بيان 23 تموز/يوليو 2013، أكدّ التيار الشعبي بتونس، أنه سيعمل على المزيد من الرصّ في صفوف القوى الوطنية من أجل تصحيح مسار ثورة الحرية والكرامة بإتباع أسلوب المقاومة السلميّة المدنيّة لقطع الطريق على دعاة الفتنة والحرب الأهلية، وهو يجدّد دعوته إلى مؤتمر وطني للإنقاذ يضع خارطة طريق سياسيّة مستقبليّة لإدارة ما تبقّى من المرحلة الانتقالية واتخاذ قرارات حاسمة من شأنها إنقاذ البلاد من الأزمة التي أوصلتها إليها المجموعة الحاكمة(1). ويرجح المحللون في تونس أن هذه البيانات عجّلت بتصفية مؤسس حزب "التيار الشعبي" محمد البراهمي، إضافة إلى ما قاله، القيادي في التيار الشعبي (حزب الشهيد محمد البراهمي) وفي الجبهة الشعبية والعضو المؤسس في جبهة الإنقاذ، زهير حمدي، لصحيفة الشروق التونسية(2)،أن المسؤولية الجنائية المباشرة في جريمة الاغتيال لا تهم (من أطلق النار) فقد يكون مجرماً مأجوراً أو مرتزقاً، المهم من يقف وراءه وكذلك المسؤولية السياسية لما حصل. وحول أسباب الاغتيال، قال زهير حمدي إنها عديدة جعلت جانباً من قيادة الحزب تعتقد منذ مدة أن البراهمي كان مستهدفاً في حياته.. فالبراهمي لم يكن سياسياً محترفاً لكن موقفه كان حاسماً وحازماً من عدة أمور يعتبرها مبدئية مثلا موقفه من مسالة الفصل 27 من الدستور (التطبيع مع إسرائيل) حيث تصدّى له بشراسة وهو ما جلب له عديد المتاعب والتهديدات.ويضيف المتحدث أن البراهمي كان أول من كشف خيوط العلاقة بين النهضة والإخوان المسلمين في مصر مع مكتب التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي يدير كل أوراق اللعبة وكشف كذلك ارتباطات هذا التنظيم مع أجهزة ودول مشبوهة.. ومن جهة أخرى قال زهير حمدي أن البراهمي أخرج الناصريين من منطقة رمادية ظلوا فيها لمدة سنوات واتخذ القرار التاريخي مع رفاقه في حركة الشعب أنه لا مكان لهم إلا مع القوى التقدمية في تونس أولها اليسار.فكون حزب التيار الشعبي وانضم به للجبهة الشعبية عكس فئة أخرى كبيرة من أبناء الحركة رأت أن مكانهم مع النهضة. فجاء البراهمي لكسر إرادة حركة النهضة التي كانت ترغب في أن تبقى حركة الشعب أحد أدواتها أو لها ارتباط معها على غرار الترويكا على أساس أن ما يجمعنا هو الهوية في مواجهة اليسار العلماني.. البراهمي رأى عكس ذلك وخاض صراعاً مريراً طيلة عام للقطع مع هذا النهج وتكريس النهج الآخر الذي كان تجسيمه السياسي هو الالتحاق بالجبهة الشعبية يوم 7 أفريل2013.. فرافق ذلك غضب وهرسلة من رفاقه داخل حركة الشعب مدة أشهر بتحريض من قوى سياسية معروفة. كل هذا ساهم في تصنيف البراهمي ضمن العناصر التي يجب تحجيمها أو التخلص منها.. فاصطفاف الناصريين مع اليسار والقوى الوطنية التقدمية كان غير مسموح به وكانت أطراف ترغب في جعله حبيساً تجاه إرادة أطراف أخرى باسم الهوية وهو ما تعيشه اليوم حركة الشعب. وهذا ما دفع بالبراهمي لتكوين التيار الشعبي وإعلان انضمامه آلياً للجبهة الشعبية وكذلك انضمام المنتمين للجبهة من أبناء حركة الشعب آليا للتيار الشعبي. القبض على الإرهابيين وكان وزير الداخلية التونسي السيد لطفي بن جدو (مستقل)، قال في ندوة صحافية يوم الجمعة 26 تموز/يوليو 2013، إن "من اقترف عملية الاغتيال الشنيعة هما شخصان يمتطيان دراجة نارية سوداء اللون من نوع "فيسبا" يرتديان لباساً أسود، وأحدهما يعتمر قبعة حمراء، وقد اقتربا من الشهيد محمد البراهمي وهو في صدد ركوب سيارته، وأطلق عليه أحدهما وابلاً من الرصاص"، فاخترقت 14 طلقة جسده. وأضاف: "أثبتت التحريات أن الشخصين المذكورين ترصداه من قبل، وذلك بناء على شهادة الشهود، وحاما حول منزله في الأيام السابقة. كما أثبتت التحريات، وهذه معلومة فوجئنا بها، أن السلاح المستخدم سلاح نصف آلي من عيار 9 ميليمتر، وقطعة السلاح نفسها التي قتل بها بلعيد هي التي قتلت أيضاً البراهمي". وكشف وزير الداخلية التونسي، أن "الضالع في الاغتيال هو المدعو بوبكر الحكيم (30 سنة)، وهو عنصر "سلفي تكفيري متشدد" تورط في إدخال كميات من الأسلحة إلى تونس وهو ملاحق من قبل القوى الأمنية، ولطفي الزين (35 سنة)"، وكلاهما فاران. وقال بن جدو، إن كميات كبيرة من السلاح وصلت إلى تونس عبر ليبيا بهدف تنفيذ سلسلة اغتيالات وإقامة معسكرات تدريب تابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. وأضاف أن القاتل له علاقة بكمال القضقاضي المتهم الرئيسي باغتيال المعارض شكري بلعيد. وأشار وزير الداخلية إلى أن الأمن التونسي أوقف "في الأيام القليلة الماضية" مشتبهاً فيه رابعاً في اغتيال بلعيد يدعى صابر المشرقي، وأنه "أكد ضلوع بو بكر الحكيم (المولود في باريس عام 1983) ولطفي الزين في اغتيال شكري بلعيد". "هناك تقاطع من ناحية مشاركة بو بكر الحكيم في اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهناك تقاطع في استعمال السلاح نفسه الذي اغتيل به الشهيدان". وتشير معلومات متوافرة عن أبو بكر الحكيم أنه من "شبكات العراق" إذ شارك في القتال ضد القوات الأميركية هناك واعتقلته قوات الأمن السورية العام 2005 وسلمته إلى تونس. كما أفيد أن أحد أشقائه قُتل في الفلوجة العراقية. وأفاد بن جدو أن عدد التونسيين المشتبه فيهم في مقتل بلعيد صار 14، بينهم أربعة معتقلون، وهم صابر المشرقي ومحمد علي دمق ومحمد أمين القاسمي وياسر المولهي، واثنان قرّر القضاء "تركهما بحال سراح"، وهما طارق النيفر وحسام فريخة. والمشتبه فيه الرئيسي في القضية هو كمال القضقاضي (34 سنة)، وهو هارب من الشرطة مع سبعة آخرين هم أحمد الرويسي وعز الدين عبد اللاوي ومروان الحاج صالح وسلمان المراكشي وبوبكر الحكيم المكتشف أخيراً ولطفي الزين وعلي الحرزي". وأكد بن جدو أنه "ثبت أن بعض المشتبه فيهم في اغتيال شكري بلعيد نشطوا في تنظيم "أنصار الشريعة" السلفي المتشدد الموالي لتنظيم "القاعدة"، و"لم يثبت تورط أي جهة سياسية" تونسية في الاغتيالين. ومع بداية شهر آب/ أوت2013، أعلن وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو أن قوات الأمن في سوسة اعتقلت لطفي الزين، المشتبه بتورطه في اغتيال البراهمي في أول اعتقال يتم في هذه القضية. كما أعلن أن عملية أخرى في العاصمة أدت إلى القبض على عز الدين عبد اللاوي المتهم بالتورط في اغتيال بلعيد. وفي عمليات أمنية أخرى اعتقل رجل يشتبه بأنه أعد لتنفيذ هجوم انتحاري، كما اعتقل ثلاثة "متدينين متطرفين" كانوا يحضرون لمهاجمة مصرف. وإذا كان اتهام "الجماعات التكفيرية" ليس مستبعداً بأي شكل من الأشكال، إلا أنّ ما تخفيه تصريحات الائتلاف المسيطر على السلطة "الترويكا"، ومن خلفه "حركة النهضة"، الفشل في إدارة التعددية والتسلط منذ أواخر العام 2011 عبر آليات العمل الديمقراطي والقفز فوق التوافق الوطني على الخطوط العريضة في مرحلة هي انتقالية وتأسيسية للمجتمع الديمقراطي. وبَدَتْ تونس، متوجهة إلى انقسام عمودي بين مؤيد لـ "حركة النهضة" ومعارض لها، في ظل شلل سببه الإضراب العام الذي دعت إليه أكبر نقابة في البلاد "الاتحاد العام التونسي للشغل" احتجاجاً على اغتيال النائب اليساري المعارض محمد البراهمي. تنامي الإرهاب في تونس وتظاهر عشرات الآلاف يوم الجمعة 26 تموز/يوليو 2013، في العاصمة التونسية، وفي المدن الأخرى، للمطالبة برحيل الحكومة التي تقودها "حركة النهضة"، هاتفين في جادة الحبيب بورقيبة "الشعب يريد سقوط الحكومة" و"النهضة يجب أن تسقط اليوم". كما رفع المتظاهرون أعلام تونس ورَدَّدُوا هتافات معادية لزعيم "النهضة" راشد الغنوشي، فيما وصفه البعض بـ"القاتل". باستثناء حركة النهضة، هناك شبه إجماع في تونس، بأن حكم النهضة، عرّض الأمن الوطني للخطر، وهو الذي ظهر في معالجة قضية الإرهاب الذي تمارسه التيارات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة، والذي حوّل تونس إلى قاعدة خلفية لنشاط "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وتنظيم "أنصار الشريعة" في كل من تونس وليبيا، وأفسح في المجال لتجنيد الشباب التونسي للقتال في سورية، لا أدري من أجل أي قضية عادلة يقاتل التونسيون هناك؟. وقد ذهب الشهيد شكري بلعيد ضحية هذا العنف السياسي المنظم، إضافة إلى الاعتداءات المتواصلة على مكونات المجتمع المدني الحديث، وأحزاب المعارضة، والنقابات، لاسيما على حزب "نداء تونس" الذي كان له النصيب الأوفر من هذه الاعتداءات، باعتبار أن استطلاعات الرأي تشير إلى أنه قوة سياسية صاعدة من شأنها أن تنافس حركة النهضة بجدية في الانتخابات المقبلة. اغتيال الشهيد محمد البراهمي، مثل نقطة تحوّل في مسار الثورة التونسية التي تعيش اليوم مرحلة الإجهاض بسبب خيبات الأمل المتلاحقة لدى التونسيين من جراء السياسة اللاعقلانية لحركة النهضة التي تحالفت مع الجماعات السلفية التكفيرية، وأنشأت ميليشيات تمارس القتل والإرهاب باسم "رابطات حماية الثورة"، لكي تمارس الحكم على طريقة النظام الديكتاتوري السابق، وتصادر ثورة الشعب التونسي من خلال أساليب غير ديمقراطية استهدفت قادة الأحزاب السياسية المنافسة، وبعض الإعلاميين، والأساتذة الجامعيين، ورموز الحركة النسائية ذات الحضور العريق والفاعل في المجتمع التونسي. الإرهاب الجديد الوافد إلى تونس، يجد حماية حقيقية له من قبل الطبقة السياسية الحاكمة لأنها ترفض محاربته وتمارس معه سياسة الغزل الانتخابي، هذا الإرهاب جاء ليغتال الثورة الشعبية التي قام بها الشعب التونسي، بوصفها ثورة قوّية في صراعها مع النظام الديكتاتوري السابق، بنهجها السلمي وتَفَوُقِهَا الأخلاقي، وبعدالة مطالبها في الحرّية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وقوية بقاعدتها الاجتماعية العريضة التي انخرطت فيها طبقات المجتمع وفئاته وأجياله كافة، وقوية بالتماسك الداخلي للقوى المشاركة في صنع فصولها البطولية، ثم قوية بنفَسها الثوري الطويل الذي لا يكل ولا يتقطع بأثر من عياء. ثورة حافظت على صورتها السلمية والحضارية أمام الرأي العام في الداخل والخارج، وهو ما جعلها تحدث قطيعة تاريخية مع الزمن العربي الذي سادت فيه درجة عالية من العنف السياسي في معظم البلدان العربية، لاسيما العنف السياسي ذو الطابع الرسمي بكل صوره العنيفة وأشكاله، ولأنها دفعت بالعالم العربي إلى سيرورة إنجاز الثورة الديمقراطية بكل منطوياتها الفكرية والسياسية والثقافية والتاريخية. الطبقة السياسية الحاكمة في تونس، لا تريد وضع حد لهذه المرحلة الانتقالية، من خلال إقرار دستور توافقي، والعمل الجدي والمسؤول نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية، ومحاربة العنف السياسي الذي تمارسه أطراف محسوبة على الحزب الحاكم، الذي يرفض لحد الآن مواجهة الإرهاب لأنه بحاجة إلى القاعدة الانتخابية للتيارات السلفية الجهادية التكفيرية. فالإرهاب الجديد أدخل تونس في ليل طويل ليس له فجر قريب، مادام الدستور التونسي لم يتم إقراره بصورة يلبي مطالب الشعب التونسي في الحرية، والكرامة، وتأسيس الجمهورية الثانية على أساس الديمقراطية. تعمق الأزمة السياسية تونس بعد الثورة، تعيش في ظل أزمة المرحلة الانتقالية، هذه الأزمة تتوقف على حقيقة أن القديم يموت، أما الجديد: الدستور الديمقراطي التوافقي، والدولة المدنية، والعدالة الاجتماعية، لا يستطيع الولادة، بسبب إفلاس الطبقة السياسية الحاكمة عامة، وإفلاس الإسلام السياسي بخاصة الذي ثبت بالملموس، أنه عاجز أن يحكم في كل من تونس ومصر، وأنه انحرف عن خط الثورة ومطالب الثوار، وخطف الدستور لكي يجعله دستوراً "إخوانياً" على طريقة حركة النهضة، وانفرد بوضع قواعد المنافسة السياسية بما يمنع تداول السلطة، وغيَّبَ العدل الاجتماعي، وضيق الحُرِّيات العامة، وهدّد الوحدة الوطنية والعيش المشترك من خلال غض النظر عن ممارسي العنف السياسي من قبل الجماعات التكفيرية والميليشيات، وأهان الشعب التونسي، علاوة على تقليص الديمقراطية إلى مجرد "صندوق انتخاب". في ظل أزمة المرحلة الانتقالية المعلقة، تظهر في تونس مجموعة من الظواهر المروعة من الإرهاب الذي يغتال قيادات المعارضة التونسية، ويهدد باغتيال المزيد من السياسيين، والمثقفين، والإعلاميين، والصحافيين. وما يجري الآن، هو الوجه القاتم "للربيع العربي" الذي بطبيعته السلمية في كل من تونس، ومصر، أضرّ بـ "القاعدة" وحلفائها على الصعيد الأيديولوجي، لأن الثورات الديمقراطية العربية رسمت معالم طريق مختلفة عن تلك التي وضع أسسها سيد قطب، وتبعه عبد السلام فرج، ثم الظواهري وغيرهم. فالثورات تؤكد أهمية النزوع السلمي، والدولة المدنية، والانفتاح على العالم، وهي طرق مناقضة، بل معاكسة تماماً، لرهانات القاعدة أيديولوجياً وسياسياً. اغتيال قيادات المعارضة في تونس من شكري بلعيد إلى محمد البراهمي، كشف للرأي العام العربي، أن الإسلام السياسي لا يمتلك مشروعاً للحكم في بلدان الربيع العربي. فمنذ وصوله إلى السلطة، أصبح الإسلام السياسي خاضعاً لإعادة نظر من قبل الثورة، والحرب الأهلية، والاحتجاجات الشعبية. فمشروع بناء مجتمع تحكمه تعاليم الإسلام يعاني من أزمة، من تونس إلى مصر. فها هو الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي المتحدر من جماعة الإخوان المسلمين يتم إسقاطه من قبل الجيش، بعد مظاهرات حاشدة مناوئة له. ويواجه النظام الإسلامي المحافظ التركي الموجود في السلطة منذ عشر سنوات، أيضاً موجة من الاحتجاجات غير المسبوقة.. هل يستطيع الإسلام السياسي التغلب على هذه التغييرات؟. يعتبر أداء الإخوان المسلمين تاريخياً فاشلاً في إدارة الاقتصاد، لأنهم لا يمتلكون أي مشروع للتنمية، ففي عهد حكم النهضة تراجع الاقتصاد التونسي بشكل مخيف، حيث زادت معدلات التضخم والبطالة وارتفاع الأسعار بمستوى غير مسبوق، في مقابل ارتفاع نسبة من وقعوا تحت خط الفقر، وتدني قدرة الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، بينما استمرت حركة النهضة في معالجة هذا الأمر بالطريقة التي ألفها الإسلاميون طيلة حياتهم، وهي تقديم الصدقات السياسية، وهي مسألة كانت الناس تقبلها منهم حين كانوا في المعارضة، ولكنها لم تكن مرضية على الإطلاق من سلطة تقدمت إلى الكراسي الكبرى تزفها وعود مفرطة زائفة. لما كان الإسلاميون من حركة النهضة يفتقدون إلى أدنى درجة من الكفاءة في إدارة الدولة التونسية، وهي من أرقى الدول المركزية في العالم العربي، وعجزوا عن تسيير أمور الدولة، ولم يعترفوا بغياب هذه الإمكانية عنهم، بل كابروا وتصدروا المشهد الرسمي، ورفضوا فتح أي باب أو نافذة لتعاون أصحاب الكفاءات الحقيقة معهم، وتصرفوا وكأن الدولة أحد مشاريعهم الخاصة، وفشلوا في تحقيق الأمن للمواطنين التونسيين، ورفضوا بناء أجهزة أمنية على أساس قيم الجمهورية والمواطنة، بل عملوا إلى تشكيل أجهزة أمنية موازية بعقلية حزبية ضيقة، تنامت ظاهرة العنف السياسي في تونس بصورة لم تألفها البلاد في تاريخها المعاصر. بعد ثلاثة أعوام على الثورة ومع الجرائم التي تستهدف زعماء المعارضة ترتفع المخاوف من أن يؤدي طغيان السلفيين المتشددين على الحياة العامة، إلى جعل تونس مقبرة كبيرة يدفن فيها البوعزيزي إلى جانب الحبيب بورقيبة رائد إرساء الدولة المدنية التونسية، وكذلك إلى جانب شهداء الثورة التونسية الذين حلموا بالحرّية والديمقراطية. فليس من المبالغة القول إن تونس تسير في نفق مظلم، عندما تبحث "حركة النهضة" عن أعذار واهية لعدم التصدي للإرهاب الذي يمارسه السلفيون التكفيريون ضد زعماء المعارضة، ورجال الأمن، والجيش التونسي، وهناك أنباء عن معسكرات تدريب لهؤلاء الذين يريدون فرض الدولة الإسلامية التونسية بالقوة! والدليل أن الغنوشي الذي حاول ربط جريمة البراهمي بما يجري في مصر متخوفاً على "المسار الديمقراطي"! كان ولا يزال مُصِراً على "الصبر على تجاوزات السلفيين حتى لو اقتضى الأمر سنوات"!. أمام مشهد الاغتيال المروع للشهيد البراهمي، أعلنت المعارضة التونسية الليبرالية واليسارية والقومية، عن تشكيل جبهة إنقاذ وطني تجمع "الجبهة الشعبية" و"الاتحاد من أجل تونس" وأحزاب عديدة أخرى ومنظمات وجمعيات مدنية، وتطرح في برنامجها النقاط التالية: 1- حل المجلس الوطني التأسيسي. 2- حل الحكومة. 3- حل كل السلطات المنبثقة عن المجلس التأسيسي. 4- الدعوة إلى عصيان مدني. 5- دعوة الأمن والجيش إلى حماية الشعب والمنشآت العمومية والممتلكات الخاصة. 6- التوجه إلى المجلس التأسيسي والاعتصام أمامه مباشرة بعد الجنازة والضغط إلى حين حله. 7- تشكيل حكومة إنقاذ وطني محدودة العدد، ولا يترشح أعضاؤها للانتخابات القادمة، وتقوم بتحضير الانتخابات في ظرف ستة أشهر. 8- تشكيل لجنة خبراء تقوم في ظرف شهر باستكمال صياغة دستور ديمقراطي يستجيب لقيم الثورة ولتطلعات الشعب التونسي. المعارضة التونسية لا تريد استنساخ السيناريو المصري في تونس، إنما تريد بكل بساطة تصحيح مسار الثورة التونسية من أجل تحقيق أهداف الشعب التونسي في الحرّية، والكرامة، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية. العلاقة بين تنظيم "القاعدة"و "أنصار الشريعة" في تونس في الوقت الذي كانت فيه حركة النهضة وحلفاؤها من جهة، وكل القوى السياسية والاجتماعية المعارضة ومكونات المجتمع المدني تدعي - كل على طريقته وبأسلوبه! - الغيرة على الثورة والحرص على إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي والوفاء بالأمانة، شهدت تونس يوم 29 الاثنين تموز/يوليو 2013، أكبر عملية إرهابية منذ انطلاق أحداث جبل الشعانبي، إذ تعرضت حضيرة من عناصر الجيش الوطني وبالتحديد من الفرقة 61 كومندوس بنزرت متكونة من 8 عناصر، غير بعيدة عن محطة الإرسال الإذاعي والتلفزي، إلى كمين من قبل مجموعة إرهابية متحصنة بالجبل تم على إثرها ذبحهم جميعاً ورميهم بالرصاص والاستيلاء على أسلحتهم. وإثر سماع إطلاق النار توجهت مجموعة أخرى متكونة من 12 عنصرا إلى مكان إطلاق النار لاستجلاء الأمر لتتعرض سيارتهم إلى انفجار لغم أدى إلى إصابة 4 منهم إصابات خفيفة حسب الدكتور المباشر لهم عبد الغني الشعباني ولم يتسن القبض على المجموعة التي لاذت بالفرار وتم نقل الجثث والجرحى إلى المستشفى الجهوي بالقصرين(3). وسط حداد عام عاشته تونس يوم الثلاثاء 30 تموز/يوليو 2013 على أرواح شهداء الجيش العشرة الذين سقطوا عند الحدود الجزائرية إثر تعرضهم لهجوم "إرهابي"، وصلت الأزمة بين فئات المعارضة والائتلاف الحاكم، وتحديداً "حركة النهضة"، إلى مفترق طرق ستُحدَّدُ عبره طبيعة المشهد السياسي في المرحلة المقبلة. ومع تزايد التوتر في تونس بين المعارضة العلمانية والحكومة الإسلامية أصبح السلفيون التكفيريون طرفاً مهماً على نحو متزايد في المعادلة السياسية .وقال مصدر أمني جزائري إنه من المعتقد أن "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" متورط في الاشتباكات مع الجيش التونسي على الحدود بين تونس والجزائر، لا سيما أن العلاقة بين تنظيم "القاعدة" وتنظيم "أنصار الشريعة" في تونس تزداد وثوقاً، بعد تنامي أعداد أتباع هذا التنظيم في تونس، من خلال العمل الدعوي أولاً،و الاعتماد على الجهاد والعنف، ثانياً.وقال دافيد غارتنرشتاين-روس من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات والخبير في "القاعدة": "ما أراه هو أن هناك تداخلاً كبيراً بين هذه الجماعات"،وصارت الصلات أقوى بين تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" والجماعات الليبية أثناء الفوضى الناجمة عن إطاحة معمر القذافي عام 2011 الذي كان مسيطراً على الإسلاميين جميعاً.وقال مصدر على دراية بالتحقيق إن بعض المتورطين في الهجوم في الجزائر (الذي وقع في عين أميناس، حيث قتل 39 رهينة أجنبيا في كانون الثاني/جانفي 2013 )،شاركوا في الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي في 11 أيلول/سبتمبر 2012 الذي قتل فيه السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز وثلاثة أميركيين آخرين. بات من المؤكد بعد تزايد الإرهاب في تونس في الفترة الأخيرة ،لا سيما في منطقة جبل الشعانبي المحاذية للحدود التونسية-الجزائرية،أن تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي " توسع بعيداً عن مهده في الجزائر، ولديه الآن صلات بجماعات جهادية في بلدان المغرب العربي بما في ذلك تونس وليبيا. والآن باتت البيئة في تونس مهيأة بدرجة أكبر لتوسع تنظيم "القاعدة"أيضاً. هذا ما كشفه إعلان وزير الداخلية التونسي السيد لطفي بن جدو ، مؤخراً، حين قال أن أجهزة الأمن التونسية اعتقلت 46 شخصاً وأنها تلاحق 58 آخرين بينهم 13 أجنبياً ينتمون الى "كتيبة عقبة بن نافع" المرتبطة بـ"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" والتي يتحصّن بعض أفرادها في جبل الشعانبي عند الحدود مع الجزائر. وقال بن جدو، إنّ "مجموع المودعين (في السجن) من "كتيبة عقبة بن نافع "46 بينهم "خمسة من الجناح العسكري وهم من أخطر الإرهابيين" و"14 شخصاً ممن كانوا يمدونهم بالتموين والدعم اللوجستي"، موضحاً أن تسعة من بين الموقوفين اعتقلوا في جبل الشعانبي وأنهم مدُّوا أجهزة الأمن بهويات كامل عناصر الكتيبة. وتابع الوزيرالتونسي أن الملاحقين من" الكتيبة ذاتها هم 13 بينهم ثلاثة أجانب متهمون بإدخال الأسلحة، و31 هم الآن في الجبال بينهم 10 أجانب، وأربعة ضالعين في التمويل، وسبعة منتمين للتنظيم وثلاثة من الجناح العسكري (للتنظيم) وعددهم في النهاية 58". ولم يكشف وزير الداخلية عن جنسيات "الأجانب".وكان لطفي بن جدو أعلن في وقت سابق أن كتيبة عقبة بن نافع تضم جزائريين وأن بعض عناصرها قدموا من مالي. وكان وزير الداخلية السابق، ورئيس الحكومة الحالية السيد علي العريض، قد كشف في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2012 أن "كتيبة عقبة بن نافع" سعت إلى إقامة معسكر في جبال القصرين وتكوين خلية في تونس تابعة للقاعدة بهدف تنفيذ "أعمال تخريبية" واستهداف "المؤسسات الأمنية".وكانت الكتيبة تنوي "القيام بأعمال تخريبية (في تونس) تحت عنوان الجهاد أو إحياء الجهاد وفرض الشريعة الإسلامية (..) واستقطاب عناصر شبابية متبنية للفكر (الديني) المتشدد لتدريبها عقائدياً وعسكرياً (..) وإرسالها للتدرب في معسكرات تابعة للقاعدة في ليبيا والجزائر" بحسب علي العريض. بدوره، أكد وزير الدفاع التونسي رشيد الصباغ أنه "تم تكثيف الجهود الرامية الى مقاومة الإرهابيين في جبل الشعانبي من خلال طلعات متعددة (للطوافات) واستعمال المدافع لضرب المواقع التي يتحصنون فيها"، مُشَدِّداً على "استمرار هذه الطلعات الجوية إلى حين تمكن الجيش الوطني من قطع الطريق أمامهم سواء بإيقافهم أو القضاء عليهم". بموازاة ذلك، أعلن وزير الخارجية التونسي عثمان جارندي أن بلاده "تعوّل على التوافقات الوطنية" من أجل حل الأزمة السياسية، رافضاً أي مقارنة بالوضع في مصر التي شهدت عزل الرئيس محمد مرسي. وقال جارندي في مؤتمر صحافي خلال زيارته إلى الجزائر، "ليس هناك أي وجه للمقارنة بين الوضع في تونس والوضع في مصر"، موضحاً أنّ "في تونس مساراً ديمقراطياً بأحزاب تشارك في الترويكا (رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس التأسيسي) وأحزاب في المجلس التأسيسي ودستور في آخر مراحل كتابته". |
||||||