|
|||||||
|
منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2002 ومن ثم بسط سيطرته على مؤسسات الدولة عبر فوزه في الانتخابات البرلمانية المتتالية التي جرت، طرحت تركيا نفسها دولة مركزية في المنطقة وقائدة لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته الإدارة الأمريكية عقب حرب تموز عام 2006، وعلى هذا الأساس تصرفت أنقرة سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً وعسكرياً وثقافياً تجاه قضايا المنطقة، وهي في تحركها هذا انطلقت من بعد تاريخي وجغرافي وثقافي بات يتلخص بالعثمانية الجديدة. واللافت أنه بعد انتفاضات واحتجاجات تونس ومصر وليبيا وما يجري في سوريا أن تركيا التي انقلبت على نظرية صفر المشكلات انتهجت بعدا طائفيا في سياستها الشرق الأوسط وهو ما ساهم في تعميق الانقسامات السياسية في المنطقة على أساس طائفي. الآن وبعد كل ما جرى في المنطقة من تطورات عاصفة، ثمة أسئلة كثيرة تطرح عن المشروع التركي على نحو، أين وصل هذا المشروع؟ وهل هو في أزمة؟ وهل فقد مقوماته بعد انهيار حكم الأخوان المسلمين في مصر ؟ وكيف سيكون انعكاس ما جرى في المنطقة من تطورات على الداخل التركي؟ والأهم هل تركيا بمنأى عن التغيرات الجارية في المنطقة؟. دون شك، لقد فاقمت تطورات الأزمة السورية ومن بعدها أحداث مصر وتداعياتها الكثيرة، فضلاً عن انتفاضة ساحة تقسيم في اسطنبول وتعزز احتمال فشل السلام التركي – الكردي من أزمة السياسة التركية ووضعت حكومة أردوغان أمام جملة من التحديات الصعبة. الأزمة السورية وانسداد السياسة التركية بعد مرور قرابة 28 شهراً على الأزمة السورية تبدو السياسة التركية إزاء هذه الأزمة وكأنها وصلت إلى طريق مسدود، فلغة التهديدات التي أطلقها أردوغان وحديثه المتكرر عن الفرصة الأخيرة وعدم السماح بتكرار ما جرى في حماه وصولاً إلى دعوته الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي على غرار ما فعله مع حسني مبارك، هذه السياسة استنفذت مصداقيتها وبدت وبالا على الدبلوماسية التركية العاجزة عن التحرك خصوصاً في ظل صمود النظام السوري الذي انتهج سياسة صارمة تجاه الضغوط التركية. وبفعل كل ذلك انتقلت العلاقات السورية ـ التركية إلى مرحلة شديدة التوتر بعد سنوات من الوئام والتعاون الذي وصل إلى حد إقامة مجلس تعاون استراتيجي مشترك حيث كانت تركيا تراهن على سورية كجغرافية سياسية في تقوية نفوذها في المنطقة وجسراً لها للوصول إلى الملفات الساخنة ولاسيما فلسطين ولبنان. لكن اليوم وبفعل الانقلاب التركي من الواضح أن هذه النظريات لم يعد لها مكان في العلاقة بين الجانبين، فتركيا تقول إن علاقاتها مع النظام السوري وصلت إلى مرحلة اللاعودة وان المطلوب هو تغيير هذا النظام وكيفية إدارة مرحلة ما بعده، وهي في سبيل ذلك اتخذت مجموعة من الخطوات والإجراءات، فمن جهة نسقت مع الغرب ولاسيما الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وتحديداً قطر والسعودية ومن قبل مصر في عهد مرسي لقلب النظام الحكم في دمشق، ومن جهة ثانية رعت المعارضة السورية العسكرية والسياسية ولاسيما حركة الأخوان المسلمين وهيأت الظروف لتأسيس المجلس الوطني السوري واحتضنت الجيش السوري الحر وأقامت مخيمات للاجئين السوريين في المنطقة الحدودية وجعلت أراضيها ممراً للمجموعات المسلحة التي قدمت من أصقاع العالم للقتال من أجل إسقاط النظام السوري. في الحديث عن خلفيات الانقلاب التركي تجاه العلاقات القوية مع النظام السوري، ثمة تحليلات كثيرة، فهناك من يرى أن تركيا أرادت ركوب موجة الثورات العربية لتحقيق جملة من الأهداف، وفي المقدمة منها تحقيق (العثمانية الجديدة) بعد أن أتاحت ثورات (الربيع العربي) الفضاء أمامها للتحرك بقوة تجاه العالم العربي، سواء على مستوى استثمار التواصل مع صعود حركات الأخوان المسلمين إلى سدة المشهد السياسي كما حصل في مصر وتونس حيث تدرك تركيا أن مثل هذا المشروع لن يكتمل دون كسر أو إنهاء المحور الممتد من طهران إلى لبنان مروراً بدمشق وبغداد، فيما يرى قسم آخر أن تركيا الحليفة التاريخية لواشنطن ترى أن مشروع إقامة الشرق الأوسط الكبير بات ممكناً على وقع (ثورات الربيع العربي) وان القوة التركية الناعمة قادرة على قيادة هذا المشروع في المنطقة لأسباب كثيرة لها علاقة بطبيعة الدولة التركية وعضويتها في الحلف الأطلسي وعلاقاتها المتينة مع واشنطن، فضلا عن تجربتها السياسية التي تجمع بين الإسلام والعلمانية، ولعل الحديث عن النموذج التركي المعتدل ما هو إلا تجسيد لهذه الرؤية تطلعا إلى المزيد من الدور والنفوذ الإقليميين. لكن من الواضح، أنه بين السعي التركي إلى تغيير النظام السوري والحرص من التداعيات، بدا الدور التركي يتراوح بين صورة النمر الإقليمي الذي يتحرك كلاعب إقليمي خطر وبين العجز عن التحرك الحقيقي دون قرار أمريكي ودولي وهو ما وضع تركيا في امتحان مع المصداقية والذات، وفي كل هذا بات عامل الوقت مهما، نظرا لانتقال تداعيات الأزمة السورية إلى الداخل التركي، خاصة مع تعاظم خطر الجماعات الإسلامية المتشددة ولاسيما تلك المرتبطة بالقاعدة حيث تبدو تركيا رمزا غربيا مغريا لجهة مشروعية الاستهداف، وبالتالي هدفا لهذه الجماعات التي سلحتها تركيا وجعلت من أراضيها ممراً لها للانتقال إلى الداخل السوري. تركيا وأكراد سوريا في قلب الأزمة السورية ثمة أزمة أو عقدة تركية خاصة تتعلق بأكراد سوريا الذين يبلغ تعدادهم قرابة ثلاثة ملايين نسمة، يشغلون معظم المنطقة الحدودية مع تركيا على مسافة تقارب تسعمائة كيلومتر، وهؤلاء استفادوا من الأزمة السورية في بناء إدارة ذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي القريب من حزب العمال الكردستاني لإدارة مناطقهم حيث يتواصلون مع أبناء جلدتهم في الداخل التركي، بما أدى كل ذلك إلى تفاقم الفوبيا التركية إزاء القضية الكردية في المنطقة، وعليه منذ بداية الأزمة السورية مارست الحكومة التركية برئاسة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان سياسة مدروسة مسبقا بشأن كيفية ترتيب المشهد السوري المستقبلي، وهي سياسة تقوم على الإتيان بقوى محددة إلى السلطة في حال تم إسقاط النظام السوري كما خططت له تركيا ودول الخليج وبعض العواصم الغربية، ولا يخفى على أحد أن القوى التي تريد تركيا إيصالها إلى السلطة هي حركة الأخوان المسلمين انطلاقا من اعتبارات أيديولوجية وسياسية تشكل أس السياسة الخارجية التركية في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية تجاه الدول العربية والإسلامية. وانطلاقاً من هذا البعد سعت حكومة أردوغان إلى أبعاد المكون الكردي عن التشكيلات السياسية التي تم تأسيسها بدءا من المجلس الوطني إلى الائتلاف الوطني تحضيراً للمرحلة المقبلة، وعليه عندما تم الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني السوري في اسطنبول قبل أكثر من سنتين كانت أولى نشاطاته إصدار بيان يدين فيه عمليات حزب العمال الكردستاني، ومن ثم خلال عقد العديد من مؤتمرات المعارضة السورية في تركيا عانى المكون الكردي المشارك في هذه المؤتمرات من سياسة تقوم على الإقصاء والتهميش وإصرار على عدم ذكر حقوقه في الوثائق والعهود، وهو ما دفعت بالوفود الكردية إلى الانسحاب من هذه المؤتمرات مراراً. كما أن تركيا في سعيها إلى تحقيق أهدافها السابقة مارست المزيد من الضغط على أكراد العراق وتحديداً على رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني بغية دفع الأخير إلى ممارسة سياسة تجاه أكراد سورية تقوم على تهميش القوى الكردية السورية الموجودة على الأرض وتحديدا حزب الاتحاد الديمقراطي لصالح قوى وأحزاب كردية أخرى ولاسيما المجلس الوطني الكردستاني الذي يتألف من 12 حزباً، على أمل تفجير حرب داخلية بين الأطراف الكردية السورية من جهة، ومن جهة ثانية إيجاد حرب عربية – كردية في منطقة الجزيرة السورية التي عرفت بالتعايش السلمي بين أعراقها العديدة، ومن جهة ثالثة السيطرة على قرار هذه القوى لدفعها إلى الانخراط في معركة إسقاط النظام السوري بعد أن بقيت المناطق الكردية بمعزل عن المواجهات المدمرة مع النظام كما هو الحال في العديد من المناطق الأخرى في البلاد. لكن الثابت أن جميع المحاولات التركية هذه فشلت، خصوصاً وأن المناطق الكردية ظلت تعيش في هدوء نسبي بفضل السياسية الواقعة التي اتبعت في هذه المناطق والتي بفضلها تم الحفاظ على الطابع السلمي للحراك السياسي الكردي، وأمام هذا الواقع الإيجابي في المشهد الكردي السوري لجأت حكومة أردوغان إلى الحرب السرية والناعمة ضد المكون الكردي من خلال المعطيات التالية: 1- في نيسان / أبريل عام 2012 عندما اجتمعت أحزاب كردية سورية في القامشلي لترتيب بيتها الداخلي في ظل التطورات التي تشهدها سوريا سارع أردوغان إلى التحذير من خطر تعرض سوريا إلى التقسيم بغية تأليب القيادة السورية على الأكراد بعد أن شرعت هذه القيادة في منح الأكراد الجنسية السورية، وعندما تأسست هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي المعارضة في سوريا برئاسة حسن عبد العظيم، اتصل السفير التركي بدمشق وقتها بحسن عبد العظيم يطلب منه أبعاد المكون الكردي والمتمثل في حزب الاتحاد الديمقراطي من الهيئة مقابل دعم تركيا للهيئة. 2- دفع المجموعات الإرهابية من جبهة النصرة والدولة الإسلامية في الشام والعراق إلى الهجوم على المناطق الكردية الآمنة، فبدأت هذه المجموعات بالهجوم على البلدات الكردية مثل رأس العين وتل أبيض وتل حاصل وتل عران، وقتلت واختطفت المئات ودمرت البيوت وهجرت الأهالي باسم محاربة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي علما ان الضحايا هم من المدنيين الذين لا علاقة لهم بالأحداث، وعلى الرغم من أن هذه المجموعات تلقت الهزيمة تلو الأخرى وفي أحيان كثيرة وقعت اتفاقات تهدئة مع الأكراد إلا أنها عاودت هجماتها مراراً على المناطق الكردية وارتكبت أعمالاً إجرامية لا تمت للإسلام بصلة. 3- اتضح في كل هذه الهجمات دعم تركي مباشر لهذه المجموعات بالسلاح والإعلام والرجال والتحريض المباشر ضد الأكراد، وفي أحيان محددة هاجمت هذه المجموعات من داخل الأراضي التركية كما في أثناء الهجوم على رأس العين وقامت وسائل الإعلام التركية بتغطية مباشرة في إشارة إلى دور تركي مسبق في هذه الهجمات. 4- كلما تحدث أكراد سورية عن شكل من أشكال الحقوق لهم هددت تركيا باجتياح مناطقهم وظهر أردوغان ووزير خارجيته احمد داود أوغلو وغيرهم من المسؤولين الأتراك إلى الإعلام ليهددوا باجتياح المناطق الكردية وحشدوا قواتهم على الحدود، والقول إنهم لن يسمحوا بأي شكل من الإشكال الاعتراف بالوضع الكردي في سوريا في تعبير فاضح عن التدخل التركي المباشر في الشؤون الداخلية السورية. 5- عندما أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي قبل فترة عن نيته تشكيل إدارة مؤقتة لإدارة المناطق الكردية بالاشتراك مع المكونات الأخرى من عربية وآشورية وغيرها في منطقة الجزيرة السورية، سارعت تركيا إلى التهويل ووضع الأمر في إطار سعي الأكراد إلى الانفصال وحشد قواتها على الحدود والتهديد باجتياحها وتأليب القوى العربية على الأكراد بغية تفجير حرب قومية بين الأكراد والعرب في منطقة الجزيرة السورية. وبغض النظر عن الجدل بشأن مشروع الإدارة الذاتية التي طرحها الحزب الكردي والتي جاء بحكم التطورات على أرض الواقع، وبغض النظر عن مواقف القوى السورية الأخرى منها سواء بالرفض أو القبول، فإنه لا يحق لتركيا التدخل في الشؤون الداخلية السورية، نظراً لأن المشكلة الكردية في سوريا تحل في سوريا من خلال صيغة تحفظ وحدة البلاد وتقر بالمكون الكردي كجزء لا يتجزأ من تاريخ سوريا وهويتها ومشهدها السياسي ومستقبلها، فيما الثابت أن تركيا التي لها قضية كردية كبرى، تتلخص بحرمان قرابة عشرين مليون كردي من حقوقهم التاريخية أولى بها أن تحل هذه المشكلة في داخلها ولا تكتفي بالحديث عن مجرد السلام فقط ، كما أن محاولات إقصاء المكون الكردي السوري من المشهد السياسي باتت سياسة مفضوحة، كما هو شأن أدواتها من جبهة النصرة وباقي المجموعات المسلحة. لكن الثابت أن الأكراد الذين اختبروا جيداً السياسة التركية خلال العقود الماضية نجحوا في إفشال المخططات التركية، وهو ما دفع بأنقرة إلى مراجعة سياستها السابقة، وعليه فجأة ودون مقدمات وجهت وزارة الخارجية التركية في الخامس والعشرين من شهر يونيو/ حزيران دعوة رسمية لرئيس حزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم لزيارة تركيا بعد أن كانت تصفه بالإرهابي!!! وهي دعوة كشفت كذب أردوغان بخصوص الزيارة عندما قال أن هدف الزيارة هو تحذير مسلم من التفكير بإقامة إدارة ذاتية للأكراد قد تضر بأمن تركيا، في حين يعرف الجميع أن توجيه إنذار أو تحذير لا يحتاج إلى توجيه دعوة رسمية لمسلم وعقد جلسات مباحثات معه، ومن ثم الاتفاق على زيارات أخرى والتشاور بشأن الوضع في سوريا، حيث كشفت المباحثات التي أجراها مسلم في تركيا عن محاولة القيادة التركية ضم الأكراد إلى الائتلاف الوطني السوري المعارض ودفعهم إلى المشاركة المسلحة في معركة إسقاط النظام. وعليه فإن السؤال الجوهري هنا، هو ماذا وراء دعوات تركيا مسلم لزيارتها؟ وهل هناك انقلاب في السياسة التركية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي؟. في الواقع، يمكن القول إن أربعة عوامل أساسية تقف وراء التحول التركي هذا: 1- فشل تركيا عبر المجموعات المسلحة الإرهابية كجبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام في القضاء على النفوذ العسكري والسياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وقد كانت معركة رأس العين (سري كانية باللغة الكردية) معركة فاصلة في هذا المجال، دفعت بالقيادة التركية إلى الاقتراب من الحزب الكردي في محاولة لجلبه إلى الانخراط في سياسته الإقليمية وتحديداً تجاه الأزمة السورية. 2- إدراك تركيا أن دعمها للمجموعات الإرهابية بات يشكل عبئاً أمنياً وسياسياً ودبلوماسياً وأخلاقياً عليها، خصوصاً بعد تعاظم نفوس هذه الجماعات والتي باتت تشكل خطراً على المنطقة بأكملها بما في ذلك تركيا. 3- إن تركيا باتت تجد حرجاً سياسياً كبيراً خصوصاً مع واشنطن في تعاملها مع المعارضة السورية، فليس خافياً أن واشنطن تريد أن يكون المشهد على الأرض خاضعاً لسيطرة للجيش الحر الذي أبتلعه عملياً جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام، فيما تركيا تدعم جبهة النصرة بشكل أساسي وتستخدمها كأداة لتحقيق أهدافها التدميرية في الساحة السورية، وبسبب ذلك تفاقمت الأمور في كل الاتجاهات، ومثل هذا الأمر يتناقض مع توجهات واشنطن التي وضعت جبهة النصرة على لائحة الإرهاب، كما أن أردوغان بات محرجاً في الداخل في ظل ارتفاع الأصوات المعارضة لسياسته إزاء الأزمة السورية والتحذير من دعم حكومته للمجموعات الإرهابية المتشددة والتي باتت تشكل خطراً على الداخل التركي نفسه. 4- السعي التركي الحثيث إلى كسب المكون الكردي السوري إلى جانبها، وذلك لتحقيق جملة من الأهداف، منها دفع الأكراد إلى الانخراط عملياً في معركة إسقاط النظام السوري بعد أن ظلت مناطقهم هادئة نسيباً، واستغلال المكون الكردي في تحقيق الطموحات التركية الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وهي نفس السياسة التي تقف وراء سعي أردوغان إلى التقرب من زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان باسم السلام. بمعنى أخر، أن تركيا ربما باتت تسعى إلى استبدال تحالفها مع جبهة النصرة وباقي التنظيمات الإرهابية بالتحالف مع الأكراد بعد أن أصبحت هذه التنظيمات وبالاً على السياسة التركية، ولعل ما يشجع تركيا أكثر في انتهاج هذا الخيار هو أن المناطق التي يسكنها الأكراد في سورية تشكل الخزان الاستراتيجي للنفط والغاز في البلاد وهي في صلب المطامع التركية. أردوغان والخسارة الإستراتيجية في مصر تبدو تركيا أردوغان الدولة الأكثر تضرراً من سقوط حكم الأخوان المسلمين في مصر، فمنذ اللحظة الأولى لإعلان إنهاء حكم مرسي على وقع التظاهرات المليونية بادر أردوغان إلى إعلان رفضه ما جرى، داعياً الدول الغربية إلى التدخل لإعادة مرسي إلى سدة الرئاسة عبر وضع كل ما جرى في إطار الانقلاب العسكري، لكن الثابت أن الموقف التركي هذا لم يكن نابعا من التمسك بالشرعية والديمقراطية بقدر ما كان نابعا من الإحساس بخسارة حليف استراتيجي راهنت عليه أنقرة في إقامة شرق أوسط جديد بقيادة تركيا عبر إيصال القوى الإسلامية وتحديداً حركات الأخوان المسلمين إلى السلطة في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تغيرات كبيرة. وعليه فإن سقوط حكم مرسي ضرب المشروع الإقليمي التركي في مقتل، وجعل من هذا المشروع أمام امتحان الذات خصوصاً في ظل صعود وتيرة المعارضة التركية في الداخل ضد حكم أردوغان خصوصاً بعد انتفاضة ساحة تقسيم. في الواقع ، ثمة من يرى أنه مثلما أردوغان لم يكن يتوقع أن تندلع انتفاضة تقسيم في اسطنبول ضد حكومته والمطالبة بإسقاطها فانه لم يكن يتوقع هذه النهاية المأساوية لحكم مرسي الذي كان يراهن عليه أردوغان في تحقيق مشروعه الإقليمي كما قلنا، وعليه فإن إحساس أردوغان بالخسارة كان كبيراً إلى درجة انه بات في مأزق كبير، ولعل السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا، هو ماذا سيفعل أردوغان بعد اليوم؟. من الواضح، أن أردوغان راهن في البداية على أن هناك إمكانية لإعادة حكم الأخوان المسلمين إلى السلطة في مصر سواء بقيادة مرسي أو غيره من القيادات، وعليه دعا إلى الاجتماع الدولي لكافة فروع الأخوان المسلمين الذي عقد في أنقرة والذي تم فيه الاتفاق على كيفية مواجهة التداعيات الناجمة عن انتهاء حكم الأخوان المسلمين في مصر ووضع إستراتيجية مشتركة لإعادة الأخوان المسلمين إلى السلطة ودعم التظاهرات ضد النظام الجديد في مصر، ولكن التطورات التي شهدتها مصر لاحقاً سرعان ما أكدت حقيقة الأوهام التي تعيشها حكومة حزب العدالة والتنمية وقصور فهمها لطبيعة الصراعات الجارية في المنطقة واعتمادها في ذلك على بعد أيديولوجي يفتقر إلى الرؤية السياسية لفهم طبيعة هذه الصراعات الجارية في المنطقة. في الواقع، إن الصدمة التركية الكبيرة، سببها هو أن خسائر تركيا من ما جرى في مصر متعددة الجوانب وكبيرة، فالثابت أن هذه الخسائر ليست آنية أو إيديولوجية فحسب وإنما تتضافر مع بعضها البعض على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية على شكل ضربة إستراتيجية للنموذج التركي ومحاولات تصديره إلى المنطقة عبر الاقتصاد والثقافة والممارسة السياسية وفي النهاية المشروع الاستراتيجي. وإذا كان الإحساس بالخسارة السياسية كبيرة ومباشرة فانه على المستويات الاقتصادية والاجتماعية لا تقل خسارة عن الجوانب السياسية والإيديولوجية، وذلك لأسباب تتعلق بمصير المشروع الإقليمي التركي تجاه المنطقة العربية حيث أفقد سقوط حكم مرسي هذا المشروع كل مقوماته ومبرراته التي حاولت تركيا طوال الفترة الماضية تسويقها، حيث كانت الصدمة التركية إزاء الموقف الخليجي وتحديداً الإماراتي والسعودي والكويتي من ما جرى في مصر كبيرة، وفي العمق جاء مخالفاً لكل الأوهام التركية التي كانت ترى في المكونات الاجتماعية الخليجية تربة خصبة مستقبلية للمشروع التركي الإيديولوجي، لتكتشف فجأة أنها في صدام مع هذه التربة على خلفية الموقف من الأخوان المسلمين ومشروعهم السياسي في المنطقة، حيث تخشى تركيا من ينسحب علاقاتها المتوترة مع مصر ما بعد حكم مرسي على باقي الدول العربية ولاسيما الخليجية منها بعد أن وقفت الأخيرة إلى جانب ثورة الثلاثين من يونيو ضد الأخوان المسلمين. تركيا وهاجس الانقلاب منذ الإطاحة بحكم مرسي في مصر يعيش رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان هاجس تكرار السيناريو المصري خاصة وان العلاقة بينه وبين المؤسسة العسكرية التركية متوترة بعد أن نجح أردوغان خلال الفترة الماضية وبدعم أمريكي الحد من دور هذه المؤسسة التي هي أقدم وأعرق مؤسسة وطنية في تاريخ الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923. وعليه، استبق أردوغان عقد الاجتماع السنوي الدوري لمجلس الشورى العسكري نهاية تموز الماضي والذي يتم فيه عادة إعادة هيكلية الجيش وتغير قادة جيوشه، استبق الاجتماع بخطوتين على أمل ترتيب وضع الجيش كما يريده أردوغان في المرحلة المقبلة: 1- إجراء تعديل دستوري على المادة 35 والتي تنص بالحرف على أن مهمة الجيش هي (حماية الجمهورية التركية العلمانية) إلى مهمة (الدفاع عن المواطنين الأتراك ضد التهديدات والمخاطر القادمة من الخارج والمشاركة في العمليات الخارجية التي يقرها البرلمان)، بمعنى أبعاد الجيش نهائيا عن الوضع السياسي الداخلي. 2- حملة اعتقالات واسعة في صفوف الجيش واعتقال كبار الضباط ولاسيما من القوى البحرية، طبعاً كل ذلك باسم التورط في المحاولات الانقلابية ضد أردوغان فضلا عن تهمة التجسس. السؤال الذي طرحه الكتاب الأتراك هنا، ماذا كان وراء هذا الخطوات ؟ في الحالة الأولى، أي تعديل المادة 35 من الواضح أن الهدف هو منع حدوث انقلاب عسكري ضد أردوغان ، فانطلاقا من هذه المادة قام الجيش التركي بسلسلة انقلابات عسكرية (1960- 1971 -1980 – وصولاً إلى الانقلاب الأبيض ضد أربكان عام 1997) واليوم مع التعديل الذي جرى باتت مهمة هذا الجيش هو الخارج فقط، وأي تحرك في الداخل وفي أي شأن يعرض صاحبه إلى تهمة التحضير للانقلاب وبالتالي المحاكمة والسجن. أما في الحالة الثانية، أي حملة الاعتقالات، فقد أدت إلى حصول مشكلة فراغ في القيادة بعد استقالة ثمانية من كبار الجنرالات ولاسيما الجنرال نصرت غوالار نائب قائد القوى البحرية الذي كان الوحيد المؤهل لشغل منصب قائد هذه القوى خلفا للجنرال مراد بيلغال الذي بلغ التقاعد، ومع استقالة هؤلاء الجنرالات باتت الحكومة التركية مرغمة على الاعتماد على البعض من قليلي الخبرة. وأمام كل هذا، ثمة من يسأل في الداخل التركي عن أسباب استقالة هؤلاء كبار الجنرالات. في الواقع ، يمكن القول إن الجواب الذي قدمه الجنرال نصرت غوالار في حديث لصحيفة سوزجو المعارضة يكشف عن الأسباب الحقيقية لهذه الاستقالات، إذ يقول غوالار: ((لقد فضلت الاستقالة على أن أكون قائد سلاح بحرية بلا شرف، إذ لا يمكنني أن أقبل بقائي في منصبي بعد اعتقال كل من حولي ومن هم في إمرتي، بلا سبب واضح أو تهمة مقنعة)) طبعاً جاء ذلك بعد اعتقال الحكومة 160 ضابطاً كانوا يعملون في القوى البحرية، وهو ما دفع غوالار إلى السخرية من أردوغان بالقول (كيف شارك سلاح البحرية في التخطيط لانقلاب يحدث عادة على اليابسة؟ أين المنطق والعقل في كل ما يحدث؟). في الواقع، ما جرى في القوى البحرية جرى أيضاً مع القوى الجوية أيضاً، إذ أصيب أعضاء البرلمان بالصدمة خلال استجواب بطلب من حزب الشعب الجمهوري لوزير الدفاع عصمت يلماز بشأن الاستقالات الحاصلة في القوى الجوية، والصدمة كانت عندما كشف يلماز أنه خلال العام الحالي استقال 110 طيارين من سلاح الجو، علما ان تدريب الطيار الواحد يكلف 2 مليون دولار!!!. يبقى القول، إن اللافت والخطر هو انه بموازاة تهميش أردوغان للقوى البحرية والجوية يجري تعزيز دور القوى البرية خصوصاً بعد أن عين في وقت سابق الجنرال نجدت أوزال رئيساً للأركان، وهو ما فسر لدى المراقبين بأن أردوغان حضر الجيش التركي للتدخل في شؤون دول الجوار الجغرافي سواء من خلال دعم المجموعات المسلحة أو حتى القيام بعمليات في الخارج كما أشار التعديل الدستوري للمادة 35 بشأن مهمة الجيش. في الواقع من الواضح، أن ما يريده أردوغان من الجيش ليس تحديثه أو إعادة هيكلته وإنما جعله أداة لسياسته وليس المبادئ التي تربى عليها الجيش التركي، وأداة أردوغان في ذلك هو تغير القاعدة التاريخية في تركيا (الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش) إلى (دستور لا يحمي الجيش) وهذه معادلة خطرة جربها الجيش التركي خلال نصف قرن، وفي كل مرة كان يعود إلى الواجهة من جديد، ولعل ما جرى في مصر يشجعه على فعلها من جديد حتى لو اختلفت الظروف. انه هاجس الانقلاب الذي يلخص العلاقة بين أردوغان والجيش الذي بدأ يحس بالإهانة بعد أن كان الحاكم المطلق من وراء الستار وفي الغرف السرية وحامل راية أتاتورك ضد العثمنة، ولعل ما عمق من هاجس أردوغان من وقوع انقلاب عسكري في تركيا هو ما جرى في مصر، إذ أوحت تجربة الثلاثين من يونيو بإمكانية تكرار هذا السيناريو في تركيا حيث بات هذا الأمر يؤرق أردوغان. التوتر مع الجوار الجغرافي تزامنا مع التغيرات العاصفة التي جرت في مصر، تشهد العلاقات التركية مع دول الجوار الجغرافي وتحديداً إيران والعراق وروسيا وأرمينيا... حالة من التوتر بعد سنوات من التحسن في علاقات تركيا مع هذه الدول، ولعل ما عمق من هذا التوتر، هو مسألتين: الأولى: عودة تركيا إلى القيام بالدور الوظيفي في الإستراتيجية الغربية الأطلسية تجاه هذه الدول ، فمن نشر الدرع الصاروخية الأمريكية على الأراضي التركية إلى نشر بطاريات باتريوت، بدت أنقرة وكأنها عادت إلى لعب دور رأس المخفر الأطلسي تجاه المنطقة، وهو ما دفع بدول المنطقة إلى النظر بعين الريبة والشك إلى الدور التركي الإقليمي في مناطق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وصولاً روسيا التي ترى أنها مستهدفة من أي تحرك للحلف الأطلسي شرقاً. الثانية: الموقف من الأزمة السورية والذي اتخذا بعد طائفيا، وانسحب تداعياته على مجمل العلاقات التركية تجاه دول المنطقة ولاسيما سوريا والعراق وإيران وحتى روسيا. وفي الحالة العراقية اتخذت هذه السياسة بعدا فاضحا أدى إلى المزيد من التوتر مع بغداد. وإذا كان من شأن هذه السياسة التحسن الكبير في علاقات تركيا بالولايات المتحدة وحتى الكيان الإسرائيلي، فإن هذا التحول أو الانقلاب وتر من العلاقات التركية مع دول الجوار العربي والإسلامي. وحقيقة، وضع الانقلاب التركي المنطقة أمام نقطة تحول صعبة قد تفجر المنطقة مع الإصرار التركي على القيام بدور التفجير مقابل ازدياد التوتر في العلاقات التركية مع دول الجوار الجغرافي، حيث بات الملف السوري يشكل الجوهر في هذا التوتر واحتمالات التصعيد. في الواقع، لقد جعل أردوغان انطلاقاً من طموحاته العثمانية الجامحة من تركيا سفينة لا تعرف الإبحار إلى أين وكيف؟ فهو تارة يريد تركيا دولة قائدة للعالم الإسلامي، وأخرى جسراً بين الشرق والغرب، وثالثة تابعة للغرب وأداة لسياسته، ورابعة منفذة لإقامة الشرق الأوسط الأمريكي... وفي كل هذا انهيار للمصداقية في الداخل وتوتر مع الجيران ولاسيما مع الدولة الإقليمية الكبرى في المنطقة والتي لها إستراتيجية مختلفة عن المشروع التركي الإقليمي الذي بدا بعد ما جرى في مصر وكأنه سقط تحت وقع الأوهام والطموحات الجامحة. كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*) |
||||||