|
|||||
|
ثقافةُ اليوم الثقافةُ بشكلٍ عامٍّ إلى أينَ، وجُمهورُنا إلى أين؟ هذا الأمرُ يَحتاجُ إلى انتباهٍ شديدٍ جدّاً، لأنّ ثقافةَ الجُمهورِ عندَنا تتدَهورُ بشكلٍ سريعٍ جدّاً، وما كانَ في سَنواتِ الخمسينَ مِنْ قُرّاءٍ وَحضورٍ للمَهرجاناتِ، فإنّهُ اليومَ يَتّجهُ نحوَ الصّفر إنْ لم أكُنْ أُبالِغُ، وما يَنطبقُ على مُجتمَعِنا في هذهِ البلادِ، يَنطبقُ على عالمِنا العربيِّ كلِّهِ، والكتاباتُ بشكلٍ عامٍّ تسخَرُ مِنْ ثقافةِ الجُمهورِ في العالم العربيّ، فقد كانتْ هناكَ إحصاءاتٌ حولَ قِراءاتِ الأطفالِ مَثلاً على سبيلِ المِثال، فوَجَدوا أنّ الطّالبَ السّوفييتيّ يقرأ حوالي 45 كتاباً سنويّاً، وفي أوروبا يقرأ خمسة عشر كتاباً، والطّالبُ اليهوديُّ يَقرأ أربعةَ كُتبِ، وفي العالمِ العربيِّ كان مُسَجَّلاً في تقريرِ اليونيسكو، أنّ الطّالبَ العربيَّ يقرأ سَطرَيْنِ، حتى أن أحد الكُتّاب علّق على ذلكَ قائلاً: "أنتم تبالغون، بل كلمتيْنِ وصورة، هذا كلُّ ما يَقرؤُهُ الطّالبُ العربيّ". إنّ كاتبَ الرّواياتِ الجيّدَ في أوروبّا يَبيعُ بحُدود خمسة ملايين نسخة، ففي فرنسا هكذا الوضع دون شكّ، فهذه إحصائيّاتٌ ثابتةٌ، لكن نجيب محفوظ الأديبُ الكبيرُ والرّوائيُّ العظيم، والّذي حازَ على جائزةِ نوبل، اعترفَ أن مدبولي يَطبعُ لهُ فقط ثلاثة آلاف نسخة مِن كلّ رواية، يُوزّعُها لكلّ العالمِ العربيّ؛ لـ 340 مليون عربيّ، فأخذهُ مِن يَدِهِ إلى مَخزن المطبعة، وأراهُ أنّ هناكَ ألفَيْنَ نسخةً مِن كلّ رواية، فهذا ما بيعَ في العالم العربيّ حتّى اليوم والحمد لله، بينما في فرنسا الّتي تَعُدُّ 70-75 مليون نسمة، يُباع فيها مِنْ كلّ طبعةٍ خمسةَ ملايينَ نسخةً، وفي هذه البلادِ إذا كان هناكَ خمسمائةَ قارئٍ حقيقيٍّ، فبلادُنا بخيرٍ. ومِنَ الطّرائفِ السّاخرةِ بمرارةٍ حوْلَ هذا الموضوع، ما دوّنتهُ إحدى المجلّات، وهو أنّهُ اقتُرِحَ مؤتَمرٌ أُقيمَ في العراق، فكانَ الحضورُ لا بأسَ به، وحين وَصَلَ المؤتمرُ إلى سوريا، كانَ العددُ أقلُّ بكثير، وقلَّ أكثرَ بكثيرٍ حينَ وصَلَ إلى الأردن، وفي مصرَ لم يكُنِ الحضورُ أكثرَ مِن عشرةِ أشخاص، وحينَ وَصلَ المؤتمرُ إلى ليبيا، لم يكُنْ هناكَ سوى شخصٍ واحدٍ فقط في القاعة، فنزلَ أحَدُ المُنظِّمينَ يَشكُرُهُ لحضورِه، وإذا بهِ البوّابُ، كانَ يَنتظرُ خروجَهُم لِيُقفِلَ القاعة. معَ هذهِ السخريةِ المُرّةِ، فهذا الأمرُ لهُ أسبابُهُ، فحتّى سنواتِ الخمسين، كانَ الأدبُ العامُّ أدباً كلاسيكيّاً، والجمهورُ العربيُّ كانَ جمهوراً كلاسيكيّاً، وكانَ هناكَ توافُقٌ بينَ ما يُنتَجُ وبين ما يُقرَأ، وكانَ القارئُ يَستطيعُ أن يقرأ ويُتابعَ ويَفهمَ ما يُقالَ. وكصورةٍ إيجابيّةٍ في زمنِ أحمد شوقي، كانَ يَنشُرُ قصيدةً كلَّ يوم اثنين في جريدةٍ ما، وكانَ النّاسُ كلّ يوم اثنين يَقفونَ بالدّوْرِ لِيشتروا الجريدة، ولم يكُنْ يَبقى منها عددٌ واحدٌ. فلماذا تغيّر الأمرُ؟ ومتى تغيّر؟. في سنواتِ السّتّين بدأت حركةُ الحداثةِ، فبدأ الأدباء يَكتبونَ أشياءَ، والقرّاءُ لا يَفهمونَ منها شيئاً، وهكذا بدأتْ مرحلةُ الانقطاعِ عن القراءةِ، وهذا كان سبباً مُهِمّاً. وما يُلفِتُ النّظرَ في هذا الوَضعِ هو كالتالي، أنّ أحسَنَ إنتاجٍ مِن ناحيةِ التّقييم هو إنتاج جيّد. هؤلاء الأدباء الّذين يَكتبونَ أشياءَ لا تُفهم، ولذلك، فإنّ المُرشّحَ الأوّلَ للشّعرِ لجائزةِ نوبل كان أدونيس، وأدونيس لا يُقرأ، وهو نفسُهُ يَقولُ: إذا وَجدتُ لي مئة قارئٍ مِنَ العالمِ العربيّ، فأنا أَعتبرُ نفسي مَقروءاً جدّاً. النّقدُ يقولُ إنّ أدونيسَ مِن أحسَنِ الشّعراء، والقارئُ يَقولُ إنّ أدونيس لا يقولُ شيئاً. وهناكَ كتاباتٌ في مصرَ تعتبرُهُ القمّةَ، وكتاباتٌ أخرى تقولُ إنّ أدونيسَ ليسَ شاعراً. هذا الوضعُ استمرّ حوالي ثلاثينَ سنةً، مِن سنواتِ السّتّين حتّى سنواتِ التسعين. بعدَ سنواتِ التسعين صارَ تحَوُّلٌ جديدٌ نحوَ وسائلِ الإعلام، وهذا سنَبني عليْهِ استنتاجاً فيما يلي، فالإنترنت وكلُّ توابعِهِ هو الّذي يُقرأ بينَ النّاس، وهوَ إنتاجٌ غيرُ مُراقَبٍ وغيرُ قابلٍ للتقييمِ الصّحيح، فهناك أشخاصٌ يَنشرونَ، وأصبحَ لهذهِ الكتاباتِ أصولٌ مُعيّنةٌ وخفيفةٌ تصلُ إلى الجُمهورِ بسرعةٍ، ويَجدُ القارئُ بها شيْئاً. لكنّ اللّغةَ بدأتْ تظهرُ مُهمَلةً ودونَ قيودٍ أو حدودٍ ودونَ رقابةٍ، بمعنى، صارَ أدباً غيرَ خاضِعٍ للمُراقبةِ والنّقدِ والتقييم، وهذا يُعطي فكرةً غيرَ صحيحةٍ إطلاقاً عنِ الوضعِ الأدبيّ، فأدباؤُنا الكبار لا يَنشرونَ في هذه الوسائلِ، ولا يُقرؤون، والّذين يَنشرونَ هُمْ مِنْ أدباء الجيلِ الجَديد، أو مِنَ الجيلِ الّذي سبَقَ الجديدَ بقليلٍ، وتأثّر بالحداثةِ وما بَعدَها تأثُّراً واضحاً جدّاً. عمليّاً، نحنُ خرَجْنا عمّا نُسمّيهِ الأدبَ، فثقافةُ اليوم هي ليستِ الثقافةُ الّتي كُنّا نريدُها، وهذا الأمرُ قد يَعتبرُهُ البعضُ غيرُ إيجابيٍّ، والبعضُ الآخرُ قد يَعتبرُهُ إيجابيّاً جدّاً، فالّذي يُقيّمُ اليوْمَ ليسَ النّاقد، بل القارئ العاديّ، والّذي ثقافتُهُ العربيّةُ والتراثيّةُ ضحلةٌ جدّاً. فلو سألتَ عن ثقافتِنا وأين هيَ اليوم، ستجدُ تقييماً مُختلفاً تماماً عن التقييمِ المُتوقّع، فالأدبُ العميقُ والجادُّ اليوْمَ، هو ليسَ أدباً مَقروءاً، والأدبُ الخفيفُ الّذي يُمكنُهُ أنْ يجذبَ القارئَ البَسيطَ العاديّ، هوَ الأدبُ المَقروء. فهل هذا الأمرُ موجودٌ في أوروبّا؟. طبعاً لا، فما زال الأديبُ الّذي يَكتبُ أدباً عميقاً وجادّاً هو الأديبُ المَطلوبُ، وحتّى الأدبَ الكلاسيكيَّ ما زالَ مطلوباً حتّى اليوم، فالكِتاباتُ الّتي كُتبتْ قبل 150 سنة، ما زالتْ تَحتلُّ قائمةَ المَبيعاتِ العُليا وتُباع بالملايين، فلماذا إذن نحنُ نختلفُ عن هؤلاء؟.. لأنّنا نحنُ لم نَبْنِ أساساً لهذا التطوُّرِ، فجاءَ التطوُّرُ قفزاً وبتأثيرِ قوى خارجيّةٍ، فقفزْنا باتّجاهِ الحداثةِ، واليومَ نحنُ ليسَ عندَنا حداثة، بل استوْرَدْنا الحداثة، والقارئُ العاديُّ لا يستطيعُ أن يُسايرَها ويقرأَها، واليومَ نجدُ الكتاباتِ الخفيفةَ تُعيدُ القارئَ إلى القراءةِ والكتاب، ولكن ليسَ هو الأدبُ الّذي نريد، واليومَ عندَنا كُتّابٌ ممتازونَ وشعراءُ ممتازون، ولكن لا أحدَ يَقرأهم، فعددُ القُرّاءِ قليلٌ جدّاً، وهذا يُؤثّرُ سلباً على الحركةِ الأدبيّةِ عندنا، ويجعلُ الأدبَ يُقيَّمُ تقييماً غيرَ مقبولٍ إطلاقاً، فالكتبُ الجادّةُ الّتي يجبُ أن تكونَ هي الأساس، يَجعلُها الكُتبَ الفرعيّةَ الثانويّة الّتي تُترَكُ جانباً، وطلابُنا لا يقرؤونَها ولا يَسمعون باسْمِ كاتبيها. إذا نظرْنا إلى الأدب في سنواتِ الخمسينَ حتّى اليوم، سنجدُ هبوطاً تنازليّاً في الإنتاج مِن ناحيةِ الإبداع، وليسَ من ناحيةِ البحث الّتي تسيرُ صُعوداً إلى الأعلى، بينما الإبداعيُّ يتّجهُ إلى الأسفل، لأنّ الّذين كانوا يكتبونَ كانوا يَجدونَ مَن يَقرؤُهُم ويُقيِّمُهُم، وهناكَ أسماءٌ لمَعَتْ في هذا المجتمع الصّغير، ومعَ ذلك أقول، إنّ التّقييمَ لهذا الأدب منذ سنوات الخمسين وحتّى اليوم، لم يكنْ تقييماً سليماً، وإنّما يَحتاجُ إلى إعادةِ نظر. ومَن يُراجعُ الأدبَ الّذي كُتبَ، يَجدُ أنّهُ حقيقةٌ، فعِندَنا إنتاجٌ أدبيٌّ رائعٌ، ولكن ليسَ هوَ الّذي بَرزَ في القمّةِ، فنحنُ اليومَ نجدُ فيما نقرأ لهؤلاءِ الكُتّابِ والشّعراءِ قصائدَ وإنتاجاً جميلاً جدّاً، لكنّهُ لمْ يَنَلِ الحظَّ مِنَ التّركيزِ، وهناكَ شُعراءُ ممتازونَ لا تجدُهُم في المختاراتِ السابقة، فالمختاراتُ كانتْ مبنيّةً على أسماءِ الشّخوصِ وليسَ على إنتاجِهِم، وعلى قَصائدَ تَستعمِلُ الكَثيرَ مِنَ الشّعاراتِ، فهو الشّاعرُ المَشهور. ولكن اليوم، الاتّجاهُ هو جَماليٌّ نحوَ الجَمالِ، وهوَ الاتّجاهُ الصّحيحُ. فهل هذا سيكونُ كذلكَ في المستقبل؟. غسان عبد الله
|
||||