|
|||||||
|
للإسلام تحفظات كثيرة على قيام الحرب، أما إذا قامت الحرب لظرف خارج عن إرادة المسلمين، فإن الإسلام وضع مبادئ تهدف إلى قصر أضرارها ما أمكن، حتى على مستوى المحاربين. وبقدر ما حرص الإسلام على وجوب إعداد القوة العسكرية العامة لمواجهة أعدائه، والتي تشمل القوة البشرية والمادية والمعنوية، بقدر ما أنكر البغي والعدوان. ولم ينكر الفقه الإسلامي الأضرار العرضية في الحروب، التي تصيب غير المقاتلين والأموال ذات الطابع المدني، وناقش الفقهاء طويلاً المواضيع المتعلقة بالأسلحة واستخدامها، ولاسيما أسلحة الدمار الشامل، وبالتحديد السلاح النووي، لكنهم لم يبيحوا الإفساد في الأرض تحت ستار الحرب، بل إن الإسلام اهتم أيضاً بالنبات والحيوان، وفي هذا أساس لحماية البيئة أثناء الحرب. وتلتقي أحكام الإسلام مع أحكام القانون الدولي الإنساني في كثير من القضايا التي تتعلق بحماية المدنيين والأعيان المدنية أثناء الحرب سواء كانت هذه الأعيان ثقافية أو صحية أو سكنية أو موارد طبيعية أو غيرها. والقانون الدولي الإنساني، وإن كان لا يمنع الحرب، ولم يتجاهل ضروراتها، إلا أنه يسعى إلى الحدِّ من آثارها حرصاً على مقتضيات الإنسانية، ويدعو إلى "التفرقة" بين الأهداف العسكرية، والأشخاص المدنيين، والممتلكات، أو الأعيان المدنية، وإلى "التناسب" في القيام بالأعمال الحربية. ومع ذلك قد تختلف أحكام الإسلام مع أحكام القانون الدولي الإنساني في بعض الموارد التي تحتاج إلى بحث وتنقيح. الفقرة الأولى-الحرب بين الإسلام والأحكام الدولية تعدَّدت أسباب الحروب على مر التاريخ، إلا أن أبرزها يبقى اقتصادياً بسبب الطمع في الثروات الطبيعية وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها. أضف إلى ذلك النزاعات الحدودية، والحروب الدينية، وحروب التطهير العرقي. ولو استقرأنا مواقف الأنبياء أمام طغاة أقوامهم، سوف لن نجد واحداً منهم ابتدأ دعوته بالمجابهة والتحدي، إلا بعد أن يُحاور الآخر بشجاعة وهدوء ورباطة جأش، وييأس من جدوى الاستمرار فيها، ويصرُّ الكافرون على كفرهم، وحربهم لرسالة الله إلى البشرية، بل حربهم لكل من يؤمن بالرسالات السماوية ولاسيما الرسالة الخاتمة أي الإسلام. ويدعو الإسلام جميع المؤمنين به إلى السلام فيما بينهم، ويرى أن التحية بين المسلمين، بل بين الناس أجمعين، يجب أن تكون "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، ورد التحية يكون "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، فهي تتضمن السلام بالدرجة الأولى، والرحمة في مقابل النقمة، والبركة والنمو والازدهار في مقابل النقص والشحِّ والانهيار، ومن أشد النصوص الناطقة صراحةً بذلك، قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾(1). وتؤكد الأحكام الدولية، عرفيةً كانت، أو مكتوبة، أن الحرب هي حالة واقعية من صنع البشر، وأنه لا بد من "معاملة الضحايا بإنسانية"، أي احترام شرفهم ودمهم ومالهم. وفي هذا الإطار فقد عرَّفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر القانون الدولي الإنساني بأنه: "مجموعة القواعد الدولية، المستمدة من الاتفاقيات، والأعراف، التي تهدف بشكل خاص إلى تسوية المشكلات الإنسانية، الناجمة بصورة مباشرة عن النزاعات المسلحة الدولية، أو غير الدولية، والتي تُقَيِّدُ، لأسباب إنسانية، حق أطراف النزاع في استخدام أساليب الحرب وطرقها التي تروق لها، أو تحمي الأشخاص، والأملاك المعرضة، أو الذين يمكن أن يتعرضوا لأخطار النزاع"(2). وبالتالي يتضمن القانون الدولي الإنساني حظراً للأعمال الانتقامية ضد الأشخاص المحميين في مواضع معينة، وضد فئات من الممتلكات، أو الأعيان، ويعطي الأولوية لقرينة الصفة المدنية للأشخاص، والممتلكات، إذا ثار الشك حولها، ويمنعان القيام بالهجمات العشوائية، ويلزم أطراف النزاع باتخاذ الاحتياط اللازم للتثبت من طبيعة الهدف المقصودة مهاجمته. كما أقرَّ القانون الدولي الإنساني "مبدأ التناسب" وفق قاعدة مفادها أن "الهدف المشروع الوحيد الذي يجب أن تسعى إليه الدول أثناء الحرب، هو إضعاف قوات العدو العسكرية"(3). وتبعاً لذلك، فلا بد من الاكتفاء بما يحقق هذا الغرض، فلا تكون المنشآت التي تحتوي على قوى خطرة عرضة للهجوم، إلا إذا استخدمت لدعم العمليات الحربية بشكل مباشر، ومنتظم، وكانت مهاجمتها هي السبيل الوحيد لإنهاء ذلك الدعم. زد على ذلك أنه لا يجوز استخدام أسلحة تزيد بدون مبرِّر من آلام الأشخاص، الذين أصبحوا عاجزين عن القتال، أو تجعل موتهم محتوماً. لأن فيه مخالفة للقوانين الإنسانية. كما أن من المحظورات "استخدام الأسلحة والقذائف والمواد التي من شأنها إحداث آلام مفرطة. كما ذهب القانون الدولي الإنساني أبعد من ذلك إذ حظَّر استخدام وسائل، أو أساليب للقتال، يُقصد بها، أو يُتوقع منها، أن تُلحق أضراراً بالغةُ واسعة الانتشار، وطويلة الأمد(4). أيضاً، ألزم القانون الدولي الإنساني، الأطراف المتعاقدة، بالتأكد مما إذا كان السلاح الجديد الذي تعنى بدراسته، أو تطويره، أو اقتنائه، محظوراً في جميع الأحوال، أو في بعضها(5). ويجب أن تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين، والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية، والأهداف العسكرية، ومن ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها، وبالتالي يجب إلغاء، أو إيقاف، أي هجوم يتضح أن هدفه غير عسكري، وذلك من أجل تأمين احترام، وحماية السكان المدنيين، والأعيان المدنية(6). أضف إلى ذلك الهجمات العشوائية، كالهجوم قصفاً بالقنابل، لأهداف عسكرية واضحة التباعد، والواقعة في مدينة، أو بلدة، أو قرية، أو منطقة أخرى تضم تركزاً من المدنيين، أو الأعيان المدنية، والتي يمكن أن يتوقع منها أن تسبب خسارة في أرواح المدنيين، أو إصابتهم، أو أضراراً بالأعيان المدنية، أو أن تجتمع الخسائر، والأضرار، وتكون مفرطة بالنسبة إلى المنفعة العسكرية الملموسة، والمباشرة، المتوقعة(7). الفقرة الثانية- مبدأ التفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين يبرز مبدأ التفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين في القانون الدولي الإنساني، فقد ورد فيه القاعدة الآتية: "تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثم توجِّه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها". وهذه القاعدة هي أساس قوانين الحرب وأعرافها، وفي صياغتها بوضوح، وإدراجها في معاهدة دولية، تأكيد لأهميتها، أياً كانت ظروف النزاعات المسلحة. وتقتضي قاعدة التمييز بين المقاتلين، وغير المقاتلين، من جهة، والأهداف العسكرية، والأعيان المدنية، من جهة أخرى، عدم استهداف المدنيين بالعمليات الحربية، ومن أصبح غير قادر على القتال، أي الجرحى، والمرضى، والغرقى، وأسرى الحرب، وأي شخص هابط بمظلة بعد أن أصيبت طائرته. كما لا يستهدف بالعمليات الحربية أفراد الخدمات الطبية، والدينية، سواء كانوا مدنيين، أو عسكريين، وأفراد الدفاع المدني، وأفراد منظمات الإغاثة، الدوليين، والمحليين، المرخص لهم. وفي ما يخص الأعيان، يوجب القانون الدولي الإنساني، على الأطراف المتحاربة، الامتناع عن استهداف كل ما لا يشكل هدفاً عسكرياً. وخصَّ بالذكر السدود، والمحطات النووية، لتوليد الطاقة الكهربائية، والممتلكات الضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة، والمناطق الآمنة، والمحايدة، ومنزوعة السلاح، والمحلات غير المحمية عسكرياً، والأعيان الثقافية. وتظل الحماية التي يكفلها القانون الإنساني للأشخاص، والممتلكات، قائمة ما لم يشارك الشخص المحمي في العمليات الحربية، وما لم تستخدم الممتلكات المحمية لأغراض حربية(8). لقد سبق الإسلام القانونَ الدولي الإنساني بألف وثلاثمائة سنة تقريباً، إذ وضع ضوابط لجيش المسلمين، ومُحَرَّمات أثناء الحرب يجب الالتزام بها، ومنها قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾(9). وعلى الرغم من اختلاف فقهاء الإسلام حول شروط حصانة غير المقاتلين وحدود دائرة هؤلاء، توسيعاً أو تضييقاً، فإن مبدأ التفرقة الذي يشمل الأشخاص، والممتلكات، كان دائماً موضع إجماع بالعنوان الأولي، علماً أن الحكم الأولي هو نحو من الأحكام الواقعية يثبت لموضوعه أولاً وبالذات وبقطع النظر عما يطرأ على الموضوع من عوارض تقتضي تبدل الحكم الأولي بنحو يتناسب مع العنوان الطارئ على الموضوع(10). أضف إلى ذلك ما ورد في أحاديث الرسول الأكرم(ص) عن النهي في حالات الحرب عن قتل النساء، والأطفال، والشيخ الفاني، والمقعد، والأعمى، ومقطوع اليد والرجل من خلاف، والمعتوه، والراهب في صومعته، والسائح في الجبال لا يخالط الناس، حتى لو كان هؤلاء من الكفرة. ولكنه استثنى كونهم ممن يقاتِلون المسلمين، أو يدلوا على عوراتهم، أو كان الكفرة ينتفعون برأيهم، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع): "كان رسول الله(ص) إذا أراد أن يبعث سريةً، دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: "سيروا بسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً ولا امرأةً، ولا تقطعوا شجراً، إلا أن تضطروا إليها"(11). أضف إلى ذلك قول الإمام علي (ع) قُبيل استشهاده: "يا بني عبد المطلب لا ألفينكم(12) تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمَثَّلُ بالرجل(13) فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور"(14). وهذا يُظهر حرص الإمام(ع) على عدم التعدي على حقوق الآخرين، وعدم الانتقام في غير محله، وعلى عدم معاقبة غير قاتله، الذي قتل الإمام(ع) غدراً، وهو قائم في محراب الصلاة. بل حرص على معاقبة الجاني بمثل ما فعل، وإن كان شخص الإمام علي(ع) لا يُقاس بغيره، وهو في أكثر اللحظات حساسية وخطورة، وهي لحظة ضربه(ع) بالسيف غدراً على رأسه وهو في محراب الصلاة، والناس من حوله يعيشون الألم والفجيعة. وتستند القاعدة الإسلامية، التي تؤيد هذا المبدأ، إلى الآية الكريمة: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(15). أي أن القتال ينحصر في فئة المقاتلين وأن النهي عن الاعتداء يقتضي التوقف عند حدود معينة، فقد نهى النبي(ص) أيضاً عن الإضرار بالحيوان أو البيئة من دون عذر مقبول شرعاً، فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: "من قتل صغيراً، أو كبيراً، أو أحرق نخلاً، أو قطع شجرةً مثمرةً، أو ذبح شاةً لاهياً بها، لم يرجع كفافاً"(16). وصرّح الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم بوجوب التصدي للمعتدي، فالعدو الذي يشنُّ حرباً على المسلمين، يقوم بأعمال حربية معينة، وبأساليب وأسلحة معينة، يراها مناسبة لتحقيق أهدافه، وقد أجاز الإسلام مقابلة هذا العدو بالمثل، وضربه بنفس الطريقة التي رضيها أسلوباً للتعدي على الحرمات، قال تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ واتقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾(17). ويستلزم مبدأ "المقابلة بالمثل" على مستوى القانون الإسلامي جواز قصف المدنيين في الدولة المحاربة، وكذلك منشآتها المدنية وبناها التحتية إذا فعلت هي ذلك. ونستشهد على ذلك بما يحدث في أيامنا هذه من حروب بين "إسرائيل" والمقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين التي تدافع عن أرضها وعرضها وشعبها. ولعلَّ ذلك يصبُّ في خانة الردع أيضاً، حيث صرَّح أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله قائلاً: "أنا اليوم أقول للإسرائيليين إذا ضربتم الضاحية سنضرب تل أبيب، إذا ضربتم مطار الشهيد رفيق الحريري الدولي في بيروت سنضرب مطار بن غوريون في تل أبيب، إذا ضربتم موانئنا سنقصف موانئكم، وإذا ضربتم مصافي النفط عندنا سنقصف مصافي النفط عندكم، وإذا قصفتم مصانعنا سنقصف مصانعكم، وإذا قصفتم محطات الكهرباء عندنا سنقصف الكهرباء عندكم"(18). ولا بد لنا في هذا المجال من الاستفادة من أقوال العلماء، لأن الإسلام كما يُنَظِّم علاقة الإنسان بخالقه، فإنه يُنَظِّم علاقته بالمجتمع والطبيعة من حوله، فلا بد أن يستجيب لكل القضايا المستحدثة، ويضع لها الحلول بما يمتلكه من قواعد مرنة، ولكن ذلك رهن بقدرة الفقيه على استنطاق النصوص، ومدى فهمه لدور الدين في الحياة، وإمساكه بآليات الاجتهاد، التي تجعل الإسلام مواكباً للأحداث، والتطورات. ويؤيِّده ما ورد في كتب الفقهاء: "وأما بيان من يحلُّ قتله من الكفرة ومن لا يحلُّ فنقول: الحال لا يخلو إما أن يكون حال القتال، أو حال ما بعد الفراغ من القتال، وهي ما بعد الأخذ والأسر. أما حال القتال فلا يحل فيها قتل امرأة، ولا صبي، ولا شيخ فان، ولا مُقعد، ولا يابس الشق، ولا أعمى، ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف، ولا مقطوع اليد اليمنى، ولا معتوه، ولا راهب في صومعة، ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس، وقوم في دار، أو كنيسة، ترهَّبوا وطُبِقَ عليهم الباب، أما المرأة والصبي فلقول النبي عليه الصلاة والسلام لا تقتلوا امرأة ولا وليداً.. ونهى عن قتل النساء والصبيان لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال فلا يُقتلون، ولو قاتل واحد منهم قُتِل، وكذا لو حَرَّضَ على القتال، أو دَلَّ على عورات المسلمين، أو كان الكفرة ينتفعون برأيه، أو كان مطاعاً، وإن كان امرأة، أو صغيراً، لوجود القتال من حيث المعنى"(19). الفقرة الثالثة- أسلحة الدمار الشامل بين الحرمة والجواز لا شك أن البحث الفقهي لمشروعية إنتاج أو استخدام أسلحة الدمار الشامل يحتاج إلى دراسة فقهية استدلالية على مستوى استنطاق الآيات القرآنية، ودراسة الروايات من حيث السَّند والدلالة، وكذلك معالجة حالات تعارض الأدلة. ولعلَّ آراء الفقهاء مختلفة في هذا المجال، فهي تدور بين حرمة ووجوب إنتاج هذه الأسلحة، وبين حرمة استعمالها، وجواز ذلك في حالات الضرورة القصوى التي يشخصها ولي أمر المسلمين بعد استشارة أصحاب الاختصاص والخبرة الثقات. وفي هذا السياق تتوجه الأنظار بقوة إلى كل ما يقوله الإمام الخامنئي، أو يصدر عن مكتبه أو عن أية جهة رسمية من تصريحات، كونه الرجل الإيماني والجهادي والسياسي الأول في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل وفي العالم، في عصرنا الراهن، وقد أطلق سماحته موقفه الديني السياسي الذي يُحَرِّمُ فيه إنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة النووية وفق الآتي: 1- كشفت وزارة الخارجية الإيرانية عن أن الإمام الخامنئي أصدر فتوى بتحريم "استخدام" الأسلحة النووية(20). لكن لاحظ بعض المراقبين أن هذا التحريم لم يشمل إنتاج هذه الأسلحة. 2- وقد أكد قائد الثورة آية الله السيد علي الخامنئي الموقف الديني والشرعي من السلاح النووي وحرَّم حيازته(21). 3- كما أعلن المسؤول عن الملف النووي الإيراني حسن روحاني أن الجمهورية الإسلامية ملتزمة فتوى المرشد الأعلى الإمام السيد علي الخامنئي أكثر من المعاهدات الدولية، وأوضح روحاني أن فتوى المرشد تُحَرِّمُ " إنتاج، وتخزين، واستخدام الأسلحة النووية"(22). 4- سُئِل رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية محمود احمدي نجاد في مدينة نيويورك: هل أصدر القائد الديني الأعلى في إيران فتوى تمنع استخدام الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل الأخرى؟ فأجاب: هذا صحيح. وعندما يُصدر فتوى، لا يمكن لأحد مناقشتها. وهذا يعني أن البرلمان عاجز عن سن أي قانون، والحكومة عاجزة عن تحديد أي موازنة لهذا النوع من النشاط، لأن الأمر يُعَدُّ غير شرعي، وضد الدين(23). 5- أعلن الإمام الخامنئي أن البرنامج النووي الإيراني هو لأغراض سلمية، وأن مبادئ الجمهورية الإسلامية تمنعها من اللجوء إلى استخدام الأسلحة الذرية. بل إنه اتهم الأميركيين بـ"الكذب" على صعيد البرنامج النووي الإيراني: "قلنا مراراً إننا نريد الطاقة النووية لأغراض سلمية وصناعية. لكنهم يكررون أن إيران تسعى إلى الحصول على القنبلة النووية.. منذ أعوام كررت أمتنا والمسؤولون فيها أننا لا نريد أسلحة، هذا الأمر يحظره الإسلام. حتى لو دفعوا لنا ثمنها فإننا لا نريدها"(24). 6- أكد الإمام السيد علي الخامنئي- خلال حفل تسليم البحرية الإيرانية أول مدمرة من إنتاج محلي تحمل اسم "جمران" - أن طهران لا تؤمن بالسلاح الذري، ولا تسعى لامتلاكه(25). 7- قال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي إن طهران لا تسعى لإنتاج السلاح الذري، بعد يوم من إبداء الوكالة الدولية للطاقة الذرية قلقها من احتمال أن تكون طهران تعمل على صنع قنبلة نووية. ونقل التلفزيون الرسمي الإيراني عن خامنئي قوله إن "اتهامات الغرب لا أساس لها من الصحة، لأن معتقداتنا الدينية تمنعنا من استخدام مثل هذه الأسلحة"(26). 8- قال الزعيم الأعلى الإيراني آية الله العظمى السيد علي خامنئي إن إيران لا تسعى لإنتاج سلاح نووي، وذلك بعد يوم من إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة خشيتها من أن تكون الجمهورية الإسلامية تطور صاروخاً نووياً. ونقل التلفزيون الرسمي الإيراني عن الإمام الخامنئي قوله "اتهامات الغرب لا أساس لها من الصحة، لأن معتقداتنا الدينية تمنعنا من استخدام مثل هذه الأسلحة... لا نؤمن بالأسلحة الذرية، ولا نسعى لذلك"(27). 9- اسم الذرة بمقدار ما يدل علی تقدم العلم البشري، يذكِّر للأسف بأقبح واقعة في التاريخ، وأكبر مذبحة عامة، وأسوأ استغلال لمكتسبات العلم عند البشر. مع أن بلداناً عديدة أنتجت وخزنت السلاح النووي، وهذا بحدِّ ذاته يمكن أن يكون مقدمة لارتكاب الجرائم، ومما يهدِّد السلام العالمي بشدة.. استخدام السلاح الذري الذي لم يؤد إلی القتل والدمار الشامل وحسب، بل ولم يفرِّق بين أفراد الشعب من عسكريين، ومدنيين، وصغار، وكبار، ونساء، ورجال، وشيوخ، وأطفال، واجتاحت آثاره غير الإنسانية الحدود السياسية والجغرافية، وأصاب حتى الأجيال اللاحقة بخسائر لا تُعَوَّض، لذلك يعدُّ أي شكل من الاستخدام لهذا السلاح، وحتى التهديد باستخدامه، خرقاً جاداً لأوضح القواعد الإنسانية، ومصداقاً بارزاً لجرائم الحرب.. نعتقد أنه فضلاً عن السلاح النووي، تمثل سائر صنوف أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيميائية، والميكروبيَّة، خطراً حقيقياً علی البشرية.. إننا نری أن استخدام هذه الأسلحة حرام، والسعي لحماية أبناء البشر من هذا البلاء الكبير واجب علی عاتق الجميع(28). وفي هذا الإطار صرَّح السيد حسن نصر الله(29) بأن إنتاج السلاح النووي، أو استعماله، لا يجوز شرعاً: "أنا عندما أقول إن الحرب المقبلة ستغيِّر وجه المنطقة، وأكثرهم فسروا أن السيد صار عنده نووي، لا والله ما عندنا نووي، أصلاً لا يجوز أن تمتلك نووياً، ولا يجوز أن نستعمل نووي، والذي يقوله الإمام الخامنئي هو حكم شرعي، وليس كلاماً سياسياً، وفقهنا هكذا يقول: إن امتلاك هذا النوع من السلاح، واستخدام هذا النوع من السلاح، حرام شرعاً"(30). وأضاف في مناسبة أخرى بأن تسميم مياه العدو، وبالتالي استعمال أسلحة الدمار الشامل، أمر غير جائز في الإسلام: "في إحدى المرات جاء قوم وسألوا النبي (ص)، وقالوا له: هناك حصن، وفي هذا الحصن يوجد مقاتلين، ورجال، ونساء، وأطفال، واستعصى علينا، وهناك ساقية ماء تدخل إلى الحصن، ويشرب منها أهل الحصن، هل تسمح يا رسول الله أن نلقي السُّمَّ في ماء الساقية(31)، فيسقط الحصن، ويستسلم أهله؟ فمنعهم رسول الله(ص) من ذلك، وحرَّمه عليهم. سماحة الإمام السيد الخامنئي (دام ظله) عندما يتحدث عن الاعتبارات الشرعية في موضوع أسلحة الدمار الشامل، والسلاح النووي، هو لا يتحدث سياسة، وإنما يتحدث فقهاً، وديناً، وأحكاماً شرعيةً من زمن رسول الله محمد (ص)"(32). الخاتمة إذا كانت الحروب داخل بلاد المسلمين، أو بينها وبين الدول الأخرى، قد سجلت وقائع غابت فيها التفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين، وساد فيها السلب والنهب والتدمير والخراب، فإن ذلك ليس قاعدة سلوك للجيوش الإسلامية. والأهم من ذلك كله أن مصادر التشريع في الإسلام، من قرآن وسنة وإجماع وعقل، لا تؤيد حروب الإبادة وتدمير الممتلكات لمجرد التدمير والإتلاف. والمرجع في ذلك هو احترام النفس الإنسانية وعدم قتلها إلا بالحق، وحفظ البيئة، وحظر الفساد والإفساد في الأرض بشكل عام، فإذا تحقق الهدف العسكري، وتم التمكن من الخصم، فلا داعي لشن عمليات لا طائل من ورائها. وإذا نظرنا إلى مسألة استخدام الأسلحة فسنلاحظ أن القانون الدولي حرَّم أسلحة محدَّدة، وقيَّد استعمال أسلحة أخرى، ولم يتوصل بعد إلى تقنين يتعلق باستخدام بعض الأسلحة مثل الأسلحة النووية، والحظر، أو التقييد، على الرغم من أنه يهدف إلى الحد من آثار وسائل القتال، وإلى الحيلولة دون تجاوز الضرورات العسكرية، وهذه مفارقة كبيرة لا بدَّ من التأمل فيها!. هوامش (1) سورة البقرة، الآية: 208. (2) المجذوب، محمد، القانون الدولي العام، ط6، بيروت-لبنان، منشورات الحلبي الحقوقية، 2007م، ص: 869-870. (3) راجع: إعلان سان بيترسبورغ (1868م)، بشأن حظر استعمال بعض القذائف في وقت الحرب. (4) راجع: بروتوكول جنيف الأول لسنة 1977م، المادة: 35. (5) راجع: بروتوكول جنيف الأول لسنة 1977م، المادة: 36. (6) راجع: بروتوكول جنيف الأول لسنة 1977م، المادة: 48. (7) راجع: بروتوكول جنيف الأول لسنة 1977م، المادة: 51. (8) راجع المادة 48 من البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف لسنة 1949م، والصادر عام 1977م. (9) سورة المائدة، الآية: 32. (10) فأكل الميتة حرام بالعنوان الأولي، أما إذا اضطر إلى أكلها فيصبح أكلها عند الضرورة حلالاً بالحكم الثانوي.. ولا بد من الإشارة إلى أن الحكم الثانوي لا يساوق الحكم الاضطراري، فلا يلزم أن يكون الحكم الثانوي بنحو الرخصة والإباحة، فقد يقتضي الإباحة وقد يقتضي الوجوب كما قد يقتضي الحرمة. راجع: علي، محمد صنقور، المعجم الأصولي، ط3، قم-إيران ، منشورات الطيار، 1428هـ-2007م، ج2، ص: 44-47. (11) الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط1، قم- إيران، دار الحديث للطباعة والنشر، 1416هـ، ج 1، ص:566. (12) أي لا أجدنكم: نفي في معنى النهي، أي لا تخوضوا دماء المسلمين بالسفك انتقاماً منهم بقتلي. (13) أي لا تُمَثِّلوا بقاتلي. والتمثيل هو التنكيل والتعذيب، أو هو التشويه بعد القتل أو قبله بقطع الأطراف مثلاً. (14) عبده، محمد، نهج البلاغة- خطب الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ط1، قم-إيران، دار الذخائر، 1412هـ، ج3، ص: 77-78. (15) سورة البقرة، الآية: 190. (16) المتقي، الهندي، كنز العمال، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1409هـ - 1989م، ج15، ص:35. (17) سورة البقرة، الآية: 194. (18) راجع: خطابه في ذكرى الشهداء القادة، في العام 2010م. وقد عُرِضَ نصُّ كلمته كاملاً في موقع المنار على الانترنت: www.almanar.com.lb/NewsSite/NewsDetails.aspx?id=124671&language=ar (19) أبو بكر الكاشاني، بدائع الصنائع، ط1، باكستان، المكتبة الحبيبية، 1409هـ-1989م، ج7، ص: 101. (20) مجلة الشرق الأوسط، العدد الصادر بتاريخ: 13-9-2004م، وجريدة النهار، العدد الصادر بتاريخ: 13-9-2004م. (21) مجلة الحياة، العدد الصادر بتاريخ: 9-11-2004م، مقالة تحت عنوان: البرادعي يأمل بتعهد واضح يعيد تعزيز الثقة الدولية بطهران- تسريب تفاصيل عن الاتفاق النووي الإيراني: تعليق للتخصيب مقابل مساعدات تكنولوجية. (22) مجلة الحياة، العدد الصادر بتاريخ: 13-4-2005م. (23) جريدة البلد اللبنانية، العدد الصادر بتاريخ: 22-9-2005م. (24) وقد استبق الإمام الخامنئي، في خطابه الذي ألقاه في طهران بتاريخ: 4-6-2009م، كلمة الرئيس الأميركي باراك أوباما، التي ألقاها في القاهرة، وتوجه عبرها إلى العالم الإسلامي. راجع: جريدة السفير العدد الصادر بتاريخ: 5-6-2009م، مقالة تحت عنوان: خامنئي: الشعارات لا تعوِّض المسلمين- "لو دفعوا لنا ثمن القنبلة فإننا لا نريدها". ونلفت إلى أن جريدة السفير هي جريدة عربية تصدر من لبنان، يومية باستثناء الأحد، وتتناول مختلف الأحداث السياسية، والاقتصادية، والثقافية، سواء على المستوى العربي، أو العالمي. (25) وهي مدمرة جديدة، مزودة بصواريخ بعيدة المدى، ورادارات حديثة، وقدرات حربية الكترونية، وتزن حوالي 1400 طن. وأوضحت مصادر عسكرية إيرانية، أن "جمران" مدمرة متعددة المهام ويمكنها أن تقل طاقماً من 120 إلى 140 شخصاً، إلى جانب أنواع عدة من الصواريخ المضادة للسفن، وصواريخ أرض جو، وطوربيدات، ومدفعيات بحرية حديثة، كما أنها مجهزة بجسر للمروحيات. راجع: موقع إذاعة النور، بتاريخ:20-02-2010 : www.alnour.com.lb/newsdetails.php?id=8187 (26) راجع موقع قناة الجزيرة على الانترنت، بتاريخ: الجمعة 5/3/1431 هـ - الموافق19/2/2010 م: www.aljazeera.net/NR/exeres/19A57FBC-38B1-4C76-8D6D-1F5174CACD5F.htm (27) راجع: موقع جريدة الوسط على الانترنت، بتاريخ 19-2-2010. www.el-wasat.com/details.php?id=55576676 (28) سُجِّل هذا النداء كوثيقة رسمية بالأمم المتحدة، بتاريخ: 23/04/2010م، وهو ذات أهمية بالغة، ولاسيما أنه صدر من مرجع ديني شيعي، وقائد الثورة الإسلامية في إيران. (29) الأمين العام لحزب الله، وقائد المقاومة الإسلامية في لبنان. (30) تصريح لسماحته في خطابٍ ألقاه بمناسبة إحياء يوم القدس العالمي، في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، للعام 1430هـ، الموافق في 18-9-2009م. (31) كان السُّمُّ يُستخدم في الحروب القديمة، وذلك إما عن طريق إلقائه في مياه الأعداء، أو على ثمارهم، أو مخازن الطعام لديهم، وذلك بأسلوب خفي. (32) هذا ما صرَّح به سماحته في خطابه، الذي ألقاه بمناسبة إحياء يوم الشهيد، في 11-11-2009م. راجع: www.moqavemat.ir/?lang=ar&state=showbody_news&row_id=56013 |
||||||