|
|||||||
|
في الوقت الذي كانت الأنظار تتجه فيه بعد ثورتي تونس ومصر إلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي في الحكم، بوصفها تجربة مميزة نجحت في التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد والحكم، وبات هناك من يدعو (دعوات زعيم حزب النهضة التونسي الشيخ راشد الغنوشي وبعض القوى والأحزاب الإسلامية ولاسيما حركات الأخوان المسلمين في مصر وليبيا والأردن والخليج) إلى الإقتداء بالنموذج التركي بوصفه نموذجاً ناجحاً ومعتدلاً..... في هذا الوقت بالذات انفجرت انتفاضة ساحة تقسيم في اسطنبول بشكل عفوي دون أن يتوقعها أحد. انتفاضة فجرت معها أسئلة كثيرة عن تجربة حزب العدالة والتنمية بعد عقد من وجوده في الحكم وممارسة السلطة، عن أوجه الخلل والثغرات في التجربة وآفاقها، عن طريقة إدارة زعيمه رجب طيب أردوغان للبلاد وفهمه للديمقراطية والسلطة والحكم، عن كيفية التعاطي مع المناهضين لحكمه وإيديولوجيته وطريقة إدارته للبلاد والتعامل مع المكونات الاجتماعية والقومية والمذهبية والثقافية المختلفة، بوصف كل ما سبق عبارة عن معايير ومفاهيم للديمقراطية والميزان في كيفية ممارستها على الأرض. في المقابل طرحت الانتفاضة أسئلة كثيرة عن هوية المشاركين والمنظمين لهذه الاحتجاجات، عن طبيعة مطالبهم التي انطلقت من البيئة إلى السياسة ومناهضة حكم أردوغان، عن دور القوى والأحزاب السياسية المعارضة من هذه الانتفاضة، عن النقابات العمالية التي دخلت على خط الإضرابات التضامنية مع الاحتجاجات، عن الموقف الحقيقي للمؤسسة العسكرية التي تجد عادة في مثل هذه الظروف فرصة لاستعادة أمجادها ودورها في الحياة العامة للبلاد، والأهم عن عناصر قوة الانتفاضة وكيف ستؤثر على مستقبل حزب العدالة والتنمية ولاسيما زعيمه رجب طيب أردوغان الذي يطمح إلى وضع دستور جديد للبلاد يصله إلى قصر تشانقاي الرئاسي في أنقرة عام 2014، وأين انتفاضة تقسيم من روح ثورات وانتقاضات(الربيع العربي) المستمرة حتى في البلاد التي نجحت فيها (مصر)، وهل هي أقرب إلى هذه الثورات أم إلى حركة احتلال (وول ستريت) الأمريكية قبل انتقال الأخيرة إلى العديد من العواصم الأوروبية، أسئلة كثيرة طرحتها انتفاضة تقسيم، وعن مستقبلها، على نحو هل ستكون البداية الفعلية لنهاية حكم حزب العدالة والتنمية سواء في الميدان أو عبر الانتخابات النيابية المقبلة في ربيع العام المقبل أم أن حزب العدالة والتنمية سيخرج منها وهو أقوى من ذي قبل؟ في الأسباب والمقدمات يعرف الجميع أن ما جرى في ميدان تقسيم وانتقال الاحتجاجات إلى العديد من المدن التركية لم يكن وليد لحظة قرار الحكومة التركية قطع بعض الأشجار في ميدان تقسيم لصالح مشاريع سياحية وتجارية وتراثية بنكهة عثمانية، وإنما لجملة من الأسباب والتراكمات التي هيأت لتفجر هذه الاحتجاجات، واتخذت شكل الحراك السياسي ضد سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية، ولعل من أهم هذه الأسباب: 1- إن حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية عام 2002 ومن ثم فاز بسلسلة الانتخابات التي جرت لاحقا والتي كانت أخرها عام 2011 بنسبة نحو 50%، تمكن من السيطرة على الرئاسات الثلاثة (الحكومة – البرلمان – الجمهورية) وخلال عقد من تجربته في الحكم نجح عبر خطوات تكتيكية صغيرة صبت في إستراتيجيته وأيديولوجيته، نجح في إعادة صوغ مؤسسات الدولة (القضاء – المؤسسة العسكرية – التعليم والجامعات، المحاكم المدنية والعسكرية.. الخ) وكذلك المجتمع وهويته وثقافتة وسلوكياته وقيمه، مستفيداً من التحولات الداخلية التي شهدها العالم ربطاً بالمتغيرات الإقليمية والدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانعكاس تداعيات كل ذلك على منطقة الشرق الأوسط وتحديدا على التيارات الإسلامية إيجاباً، وقد كانت لعملية التحول هذه فئات وتيارات سياسية متضررة، تراوحت بين الأتاتوركية والعلمانية واليسارية والمحافظة، بل حتى بعض القوى الإسلامية التي ترى في حزب العدالة والتنمية مجرد منفذ للسياسات الأمريكية في المنطقة، وبنظر الكثير من هذه الفئات والتيارات والأحزاب أدت إجراءات حكومة حزب العدالة والتنمية والتي تجلت في العديد من مشاريع القوانين (الإنجاب – ارتداء الحجاب – منع الخمر – الزنا - التعليم الديني- السلوك العام – الإعلام ... الخ)، فضلاً عن القوانين التي صدرت باسم الإصلاحات إلى مسألتين: الأولى سيطرة حزب العدالة والتنمية على مؤسسات الدولة وإقصاء و تهميش كل من يخالف سياساته. والثانية: تقويض الحريات العامة والشخصية في البلاد، خاصة في ظل ظاهرة اعتقال عشرات الصحفيين والناشطين الحقوقيين المنتقدين لسياسة حزب العدالة والتنمية وإيديولوجيته وزعيمه، حيث أشار التقرير الذي صدر منتصف شهر حزيران/يونيو من العام الجاري عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبية للحريات إلى أن تركيا باتت أكثر دولة في العالم تسجن الصحفيين (67 صحفياً) وأكثر دولة تقوم بطرد الصحفيين من العمل بسبب انتقاد سلوك الحكومة ورئيسها رجب طيب أردوغان. 2– ثمة من يرى في هذه التيارات والفئات أن حزب العدالة والتنمية استغل قواعد اللعبة الديمقراطية لتحقيق آليات السيطرة على الحياة السياسية العامة في البلاد، وعلى المجتمع بتنوعه السياسي والقومي والمذهبي والثقافي، وفي ميزان هؤلاء فإن حزب العدالة والتنمية بوضعه السياسي القوي سخر قواعد اللعبة الديمقراطية لصالح التوغل في الحكم وممارسة السلطة وترسيخ السيطرة، ما أدى إلى تفريغ المفاهيم الحقيقية للديمقراطية من مضمونها، سواء في تهميش المعارضة أو عدم احترام التنوع السياسي والقومي والديني والثقافي. وهو ما أثار الكثير من التساؤلات فيما إذا كانت الانتخابات تشكل المعيار الأساسي والوحيد للديمقراطية أم أن ممارسة الديمقراطية هي الشرط الأساسي للديمقراطية. واللافت أن أردوغان ينطلق في حكمه وسياسته وإدارته للبلاد من حصول حزبه على نسبة 50% من الأصوات في انتخابات عام 2011 دون مراعاة موقف الـ50% الباقية من الشعب والتي باتت ترى نفسها مهمشة ومقصية، بل ومستهدفه في مفاهيمها وسلوكها وبنيتها السياسية والفكرية. 3– عند النظر إلى قضية الديمقراطية في تركيا لا يمكن النظر إليها بعيدا عن تراكم القضايا والمشكلات المزمنة في تركيا، كالقضية الكردية والمشكلة العلوية والأرمنية وقضية التنوع الثقافي والعرقي والمذهبي .. وغيرها من القضايا والمشكلات التي تعود إلى قرن من الزمن والتي لم ينجح حزب العدالة والتنمية في إيجاد حل نهائي مقبول لها، على الرغم من مبادراته الكثيرة في هذا المجال، خلافاً لكل ما جرى في العهود الماضية، وهو ما رسخ اعتقاداً لدى الأوساط التي تمثل هذه القضايا مفاده: أن حزب العدالة والتنمية وتحديداً زعيمه أردوغان يستغل الحديث عن الحل السلمي لهذه القضايا من أجل الفوز بأكبر نسبة من الأصوات في صناديق الاقتراع، واليوم في ظل الانتفاضات والثورات والتطورات الجارية في المنطقة والاستقطاب الإقليمي والدولي الحاصل على خلفية الأزمة السورية، والتي وصلت إلى قلب تركيا، فإن هذه القضايا أصبحت ضاغطة على الحكومة التركية ولم تعد تقبل المزيد من التأجيل أو التأويل أو الالتفاف عليها مهما حاول أردوغان الحديث عن نيته حلها في المرحلة المقبلة، ولعل هذا ما يستشف من اتفاق السلام الكردي– التركي التي انطلقت في شهر آذار/ مارس الماضي، إذ أن حزب العمال الكردستاني اتخذ العديد من الخطوات غير المسبوقة مثل إعلان وقف إطلاق النار وسحب مقاتليه لم تقم الحكومة التركية بخطوة واحدة عملية تجعل من عملية السلام تسير بشكل مقبول. 4- إضافة إلى ما سبق، فإن تداعيات الأزمة السورية ليست بعيدة عن أسباب ما يجري في تركيا حاليا، فبسبب التورط التركي في هذه الأزمة وتحويل أردوغان الأراضي التركية إلى ممر للمسلحين والسلاح إلى الأراضي السورية، فضلاً عن انتهاجه لغة تصعيدية بإبعاد إيديولوجية معروفة.. بسبب كل ما سبق تحولت المناطق الحدودية بين سورية وتركيا إلى ما يشبه المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان حيث القتال والفوضى والخطر الدائم للمجموعات المسلحة، ولعل تفجيرات الريحانية نبهت الأتراك أكثر من أي وقت مضى إلى خطورة تداعيات الأزمة السورية على الداخل التركي، وعليه تعالت التحذيرات هنا وهناك من خطر انتقال الجماعات الإسلامية الجهادية المسلحة من سورية إلى تركيا، خصوصاً وأن الأخيرة تعد رمزاً غربياً بسبب عضويتها في الحلف الأطلسي وعلاقتها المتينة مع الولايات المتحدة واستضافة قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها حيث تم مؤخرا نشر الدرع الصاروخية الأمريكية وصواريخ باتريوت على الأراضي التركية حتى دون موافقة البرلمان. دون شك، هذه الأسباب والعوامل والتراكمات هي التي تقف وراء انطلاق شرارة انتفاضة تقسيم وليس قطع بعض الأشجار أو مجرد الاعتراض على مشاريع تجارية، فالثابت ان كل انتفاضة أو ثورة باتت تبدأ بحادثة غير متوقعة بغض النظر عن طبيعتها، قبل ان تتطور دراماتيكيا في الشارع وتفجر التراكمات الحاصلة على شكل ثورة تكبر مثل كرة النار ما لم يتم التعامل بحكمة وعقلانية. أردوغان بطلاً لانتفاضة تقسيم منذ لحظة بدء الاحتجاجات في ساحة تقسيم والتي كانت عفوية قبل انتقالها إلى معظم المدن التركية، حرص رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على وضع الأمور في مسارين: الأول: مسار وضع الاحتجاجات في خانة المؤامرة على بلاده، إذ انه رأى أن هناك جهات خارجية تريد النيل من دور تركيا ومكانتها وتجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم والاقتصاد دون أن يوضح بشكل مباشر ما هي هذه الجهات أو الدول المتورطة في دعم الانتفاضة ضد حكمه، وفي الداخل رأى أن قوى المعارضة ولاسيما حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كليجدار أوغلو الوريث التاريخي لحزب أتاتورك يستغل هذه الاحتجاجات لإسقاط حكومته ولو من خلال الانتخابات المقبلة بتأليب الشارع ضده، فيما من المعروف أن العلاقة بين الرجلين متوترة جداً على خلفية سياسة أردوغان إزاء الأزمة السورية، وانتهاج أردوغان لهجة طائفية تجاه طائفة أوغلو (العلوية) وهو ما دفع الأخير إلى الرد على أردوغان ووصفه بالعميل لأمريكا والصهيونية وتنفيذ أجندتهما تجاه منطقة الشرق الأوسط. الثاني: وصفه للمحتجين والمتظاهرين والمناهضين لحكمه بصفات الغوغاء واللصوص والفوضى والسكارى...الخ. علماً أن الذين نزلوا إلى ساحة تقسيم يمثلون شرائح مختلفة، بينهم فنانون ونقابيون وحقوقيون ورياضيون ومستقلون... قبل أن تدخل الأحزاب السياسية ولاسيما حزب الشعب الجمهوري وحزب السلامة والديمقراطي الكردي على خط الأحداث، وتأخذ التظاهرات طابع القوى العلمانية واليسارية والقومية التي ترفع شعار إسقاط حكومة أردوغان وتصف الأخير بالدكتاتور، ولعل من يتابع تصريحات أردوغان منذ البداية لا بد أن يرى أن سبب طريقة تعامله على هذا النحو مع الاحتجاجات هو قناعته الشخصية بان ما يجري سببه ليس المطالبة بالديمقراطية، فهو يعتقد أن الأخيرة موجودة وصناديق الاقتراع هي الفيصل، وإنما مؤامرة ضد حكومته. وعليه انتهج أردوغان لغة تصعيدية متشددة ضد المتظاهرين، قبل أن يحاول مد جسور الحوار معهم تحت ضغط الشارع واتساع رقعة الاحتجاجات والانتقادات الغربية لاستخدام القمع ضد المحتجين، إلى درجة أن سلوكه لم يختلف عن سلوك الحكام العرب في قمع المتظاهرين ومحاولة الالتفاف على مطالبهم. واللافت، أنه بموازاة الطريقة الصارمة لأردوغان في التعامل مع الاحتجاجات وإصراره على المضي في مشروع ميدان تقسيم حتى النهاية، تلك اللهجة المختلفة والهادئة لكل من نائبه بولنت ارينج الرجل القوي في حزب العدالة والتنمية والرئيس عبد الله غل الذي وضع الأمور في إطار الحراك الديمقراطي ومحاولة تفهم الاحتجاجات المعارضة بالقول إن الرسالة وصلت، فيما اجتمع ارينج بممثلي المتظاهرين مراراً واستمع إلى مطالبهم في محاولة للتوصل إلى اتفاق لحل الأمور بالتوافق، وبغض النظر إن كان هذا انقساماً سياسياً في الحزب أو في إطار تقاسم الأدوار أم تبايناً في الأداء السياسي إزاء الاحتجاجات أو الموقف من أحقية هذه الاحتجاجات ومطالب المتظاهرين، فإنه شد الانتباه إلى الأسلوب الصارم لأردوغان إلى درجة أن كثراً قالوا إن أسلوب تعاطي أردوغان مع احتجاجات ميدان تقسيم لم يختلف كثيراً عن أسلوب الحكام العرب كما قلنا، خصوصاً وأنه بأسلوبه خلق نوعاً من التحدي مع المحتجين على الأرض بعد أن قمعت قوات الشرطة المتظاهرين وأخلتهم بالقوة من ميدان تقسيم مراراً قبل أن يعودوا إليها مجدداً في كل مرة، وقد أدى هذا الأسلوب إلى توسيع رقعة الاحتجاجات والمواجهات، فالثابت بعد كل ما جرى في ميدان تقسيم واتساع رقعة التظاهرات لم يعد من الممكن حل الأمور بالقوة ومحاولة الالتفاف على مطالب المحتجين الذين تحولوا إلى جبهة سياسية مناهضة لحكم أردوغان. الاحتجاجات وتفسح تجربة حزب العدالة والتنمية في الواقع، مرحلة ما بعد انتفاضة تقسيم لن تكون كما قبلها حتى لو نجح أردوغان في وأد الانتفاضة أو توصل إلى حل مقبول عبر اتفاق مع المحتجين أو عبر حكم قضائي أو حتى اللجوء إلى استفتاء طالب به أردوغان لقناعته بأن مثل هذا الاستفتاء سيفتح الطريق أمام مشروعه السياسي في ساحة تقسيم، وهو مشروع يثير الكثير من الأسئلة والاستفهامات، سواء لوجود بعد طائفي، له علاقة بطبيعة التراث العثماني وإطلاق اسم سلطان سليم ياوز الأول على الجسر الثالث المنوي بناؤه ، حيث السلطان المذكور هو في ذاكرة العديد من الشعوب والطوائف ولاسيما العلوية مرتكب للمجازر، فهو الذي قاد معركة جالديران 1514 ومن ثم معركة مرج دابق شمالي حلب السورية عام 1516 والتي مهدت له لدخول القاهرة بعد معركة الريدانية عام 1517. أو على مستوى الاقتصادي، إذ ثمة شبهات فساد واحتكار تحوم حول المشروع حيث تقول الصحافة التركية أن رجال مال وأعمال أتراكاً مقربين من حزب العدالة والتنمية وتحديدا من الدائرة الضيقة المحيطة بأردوغان يقفون وراء المشروع والمناقصات والعطاءات التي جرت. دون شك، ما جري ويجري في مرحلة ما بعد انتفاضة تقسيم يشكل اختباراً حقيقياً لحكومة حزب العدالة والتنمية في الحكم ولمجمل النموذج التركي ومستقبله، ولمسار الديمقراطية في البلاد. ولعل تجاوز هذا الاختبار أو السقوط فيه مرتبط بكيفية التعاطي مع الاحتجاجات واستخلاص الدورس. بانتظار إلى ما ستؤول إليه الأمور، فان الأنظار تتجه في المرحلة المقبلة إلى مجموعة من المواقف ، لعل أهمها: 1- موقف المؤسسة العسكرية التركية التي هي أقدم مؤسسة وطنية في البلاد، وعلى الرغم من عدم وجود موقف واضح ومعلن لهذه المؤسسة بعد مرور ثلاثة أسابيع على بدء الاحتجاجات، فان تقارير تركية سربت عن امتعاض هذه المؤسسة من موقف أردوغان وأسلوبه وطريقة تعاطيه مع الاحتجاجات ومحاولاته المستمرة التهديد بورقة الجيش لقمع المحتجين ، فيما الثابت أنه على الرغم من أن أردوغان فرض سيطرته على الجيش عبر وضع قادة مقربين منه في سدة رئاسة المؤسسة العسكرية فان التاريخ الحديث لتركيا يخبرنا أن الجيش يتحرك في مثل هذه الظروف بحجة إعادة الأمن إلى البلاد، ولعل هذا ما حصل خلال سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا في أعوام 1960 – 1971 – 1980 وأخيرا الانقلاب الأبيض في عام 1997ضد رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان مؤسس الإسلام السياسي التركي والمعلم الروحي لأردوغان قبل أن ينقلب أردوغان عليه ويؤسس لاحقاً حزب العدالة والتنمية. 2- موقف حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة، لا شك أن المراقب لطريقة تعاطي قادة حزب العدالة والتنمية مع الاحتجاجات لا بد أن يلاحظ فارقاً كبيراً بين أسلوب أردوغان وباقي القادة، فأردوغان يتبع سياسة العناد والتصعيد والتهديد وإعطاء الفرص والمهل وحشد الشارع في مواجهة المحتجين، فيما باقي القادة ولاسيما الرئيس عبد الله غل ورئيس مجلس الأمة السابق بولنت ارينج يحاولون استيعاب الاحتجاجات وتفهم المطالب وحل الأمور بطريقة سلمية، ولعل هذا ما دفع بالعديد من المراقبين إلى القول إن أردوغان شكل لنفسه حزباً خاصاً داخل حزب العدالة والتنمية، ويرى هؤلاء أن طالت الأزمة وتطورت وأدت إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد فان حزب العدالة والتنمية معرض للاصطفاف والانقسام والانشقاق في المرحلة المقبلة. 3- موقف الحركة الكردية وتحديداً حزب العمال الكردستاني الذي دخل في عملية سلام مع حكومة رجب طيب أردوغان، فحتى الآن أعطى زعيم الحزب المذكور أي عبد الله أوجلان دعمه لمطالب المحتجين، معتبراً انتفاضة ساحة تقسيم تخدم التوجه الديمقراطي في البلاد، ولعل أوجلان في تعاطيه مع انتفاضة تقسيم له مخاوف من انهيار عملية السلام الجارية على الرغم من شكوكه بعدم جدية أردوغان في تحقيق السلام مع الأكراد والاعتراف بحقوقهم دستوريا، وهو ما يفسر التسريبات التي صدرت عنه بأنه أمهل حكومة رجب طيب أردوغان مهلة أسابيع لإيجاد حل سلمي للقضية الكردية وإلا فإن مسألة الخروج إلى الشارع ودعم انتفاضة تقسيم سيصبح أمرا واقعاً. 4- دون شك نجحت انتفاضة تقسيم في إنشاء قيادات سياسية وميدانية لها، تقوم بإدارة الأمور على الأرض عبر تنسيقيات في الميدان وإدارة شبكات التواصل الاجتماعي، وسياسياً بتشكيل فريق يقوم بالتفاوض مع الجهات الحكومية لتحقيق المطالب التي باتت سياسية بعد أن كانت بيئية في المرحلة الأولى، وقد دفعت هذه التجربة بالعديد من الأحزاب المعارضة سواء في البرلمان أو خارجه وكذلك النقابات والاتحادات العمالية والطلابية والفنية والرياضية إلى الانخراط في الاحتجاجات، وهو ما نال إعجاب العديد من الحركات المناهضة للعنف والمطالبة بالديمقراطية والخروج في تظاهرات في العديد من دول العالم تضامنا مع انتفاضة ساحة تقسيم. في الواقع، عند الحديث عن انتفاضة تقسيم واحتجاجات تركيا، لا بد للمراقب لما جرى في ميدان تقسيم أن يتذكر ما جرى في ميدان التحرير في القاهرة وان اختلفت الظروف والأسباب والعوامل وطبيعة القوى وحتى النظام، ومن يتابع طريقة أردوغان وطريقته المتعالية في التعامل مع المحتجين ومطالبهم لا بد أن يتذكر القادة العرب المخلوعين وتحديداً الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي والمصري محمد حسني مبارك واليمني علي عبد الله صالح، فأسلوب أردوغان يحمل المزيد من السخرية والاستعلاء والأوامر والتحدي والفوقية، وهو ما أدى عملياً إلى تأجيج رقعة التظاهرات والاحتجاجات وانضمام شرائح شعبية واسعة إليها. وربما يروق للبعض أيضاً وصف ما يجري في ميدان تقسيم الذي له رمزية ثورية ونضالية في حياة القوى اليسارية التركية (شهدت ميدان تقسيم العديد من الانتفاضات، لعلها أهمها 1968 التي راح ضحيتها العشرات – وعام 1977 والتي راح ضحيتها 36 شخصاً – وفي عيد العمال في الأول من آيار/مايو العام الجاري شهدت مواجهات عنيفة أدت إلى جرح واعتقال العشرات).. يروق لهؤلاء وصف أو تشبيه ما جرى بما حصل خلال احتلال (ميدان وول ستريت في الولايات المتحدة) الذي انطلقت منه شرارة الانتفاضة التي انتشرت في العديد من الدول الأوروبية قبل أن تتمكن الأنظمة الرأسمالية من تطويقها، مقارنات ربما غير دقيقة من حيث طبيعة الاحتجاجات والقوى المحركة لها والظروف الداخلية لكل بلد، لكنها في جميع الأحوال تشير إلى تراكمات واحتقانات في الساحة التركية من جهة، وإلى قوى معارضة خرجت إلى الشارع رفضا للسائد السياسي وسلطته وحكمه وإيديولوجيته من جهة ثانية، من جهة ثالثة إلى خلل وثغرات في تجربة حكم حزب العدالة والتنمية وسط قناعة العديد من الأوساط التركية أن هذه التجربة جعلت من حزب العدالة والتنمية حزباً شمولياً سلطوياً، يدير زعيمه الأمور بطريقة دكتاتورية مستفيداً من تجربة الانتخابات وحصوله على أكبر نسبة من الأصوات. دون شك، ما جرى ويجري في تركيا وضع تجربة حزب العدالة والتنمية على المحك، وكشف مدى تفسخ المضمون الإيديولوجي لهذه التجربة بحكم تعارضها مضمونها وخطابها مع التنوع الاجتماعي والسائد الثقافي والقيمي والسلوكي في أوساط المجتمع التركي، وفي الوقت نفسه كشف مدى ازدواجية خطاب حزب العدالة والتنمية الذي يقوم بانتهاج خطاب إسلامي موجه إلى الداخل التركي والعالمين العربي والإسلامي لتحقيق المزيد من النفوذ والدور من جهة، ومن جهة ثانية كيف تم وظف هذا الحزب في الحكم سياسة تركيا في خدمة للإستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وذلك من خلال التخلي عن سياسة صفر المشكلات مع الجوار والقيام بما يشبه انقلاب سياسي في الدور الاستراتيجي لسياسة حزب العدالة والتنمية. وبنظر المراقبين فان المتضرر الأكبر من هذه الانتفاضة سيكون زعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان، إذ ترى الأوساط التركية انه لم يعد بمقدور أردوغان تمرير دستور جديد بنظام رئاسي يصله إلى قصر تشانقاي الرئاسي في أنقرة، كما أن ما جرى أدى إلى نوع من الصدام الاجتماعي وللمرة الأولى بين حزب العدالة والتنمية كتنظيم وإيديولوجية وبرنامج سياسي وشرائح شعبية واسعة، بينها كانت مؤيده له في السابق، وان الحزب نفسه سيدفع الثمن غاليا في الانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة في ربيع العام القادم. كاتب وباحث مختص بالشؤون التركية(*) |
||||||