|
|||||||
|
تحتل "الضرورة الحربية" موقعاً بارزاً في مواثيق القانون الدولي الإسلامي، والإنساني، ولكن القانون الدولي الإنساني غير واضح، أو حاسم، في تقديم الضرورات الإنسانية على الضرورات الحربية. الفقرة الأولى: مبدأ الضرورة الحربية ففي ديباجة إعلان "سان بيترسبورغ" يتضح أن القاعدة تحكم بتقديم الضرورات الإنسانية: "ضرورات الحرب التي يجب أن تتوقف أمام مقتضيات الإنسانية"، كما تشير الفقرة الثانية من ديباجة اتفاقية لاهاي الرابعة لسنة 1907 (قوانين الحرب البرية وأعرافها) إلى "مصالح الإنسانية"، بينما تشير الفقرة الخامسة من الديباجة نفسها إلى حاكمية الضرورات الحربية على الضرورات الإنسانية: "الحد من آلام الحرب حسب ما تسمح به الضرورات العسكرية". أضف إلى ذلك اللائحة الملحقة بهذه الاتفاقية، فإنها تنص على محظورات منها "تدمير ممتلكات العدو، أو الاستيلاء عليها، إلا إذا اقتضت ضرورات الحرب ذلك حتماً". ونجد في اتفاقيات جنيف، وبروتوكولها الأول الإضافي، مواداً محددة ورد فيها ذكر "الضرورات الحربية"، أو ما ترادفها مثل عبارة "المقتضيات العسكرية الحتمية"، أو "الضرورات العسكرية الحتمية". وقد حظَّر البروتوكول الثاني الإضافي إلى اتفاقيات جنيف (حماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية) الترحيل القسري للمدنيين، فلا يجوز إرغامهم على النزوح عن أراضيهم، ولكنه ذكر إمكانية حصول أسباب عسكرية ملحة، يمكن أن تبرِّر استثنائياً ترحيل السكان المدنيين أثناء نزاع مسلح داخلي. وحينئذٍ، يجب اتخاذ كافة الإجراءات الممكنة لاستقبال السكان المدنيين، في ظروف مرضية، من حيث المأوى، والأوضاع الصحية الوقائية، والعلاجية، والسلامة، والتغذية(1). وطبقاً لأحكام القانون الدولي الإنساني، يعدُّ تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها على نطاق واسع وبصورة غير مشروعة واعتباطية، ما لم تبرِّر الضرورات العسكرية ذلك، جريمة من جرائم الحرب. وهذا قاسم مشترك مع أحكام الشريعة الإسلامية، فصحيح أن "الضرورات تبيح المحظورات"، إلا أن "الضرورة تقدَّر بقدرها"، ولا يجوز التعدي عنها، لأنه القدر الثابت جوازه في الشريعة، إذ لا نص على إباحة الإتلاف فيُكتفى بالقدر المتيقن. فأكل الميتة محظور، ولكن إبقاء مهجة الإنسان عند المَخْمَصَة ضرورة، وليست أقل من المحظور، فيُباح المحظور لأجل الضرورة، فعليه الأكل لإبقاء روحه. والمَخْمَصَة مَفْعَلَة من الخمص، وهو ضمور البطن، ولما كان الجوع يؤدي إلى ضمور البطن، عُبِّر عنه بالمخمصة. فيكون المعنى كالآتي: فمن اضطر في مجاعة، جاز له أكل الميتة حفاظاً على حياته(2). وفي هذا السياق يرى سماحة السيد محمد حسين فضل الله(3) أن إجراء التجارب النووية جائز عند الضرورة، وأن إنتاج هذه الأسلحة جائز شرعاً دفاعاً عن النفس: "إن الإضرار بالبيئة مُحرَّم في ذاته ونتائجه، ولكن إذا كانت هناك ضرورات كبرى للمصلحة الإسلامية العليا فيجوز إجراء التجارب بأقل قدر ممكن من الإضرار، وذلك بالبعد عن المناطق المأهولة، أو المستخدمة في عملية إنتاج الحاجات الزراعية، أو الصناعية، أو الخدمات الحيوية للناس"(4). كما حرَّم سماحته إنتاج الأسلحة الذرية على كل دول العالم قائلاً: "إننا نؤكد- من خلال خوف الشعوب - تحريم إنتاج الأسلحة الذرية في العالم كلِّه، بما في ذلك الدول الكبرى التي تمثِّل تهديداً سياسياً، واقتصادياً، وأمنياً، لدول العلم الثالث، من خلال ما تملكه من القوة، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل". إلا انه يستثني من ذلك عنوان ضرورة الدفاع عن النفس، وحفظ الكيان الإسلامي، قائلاً: "وربما يُقال بجواز إنتاجها (أي الأسلحة الذرية) لو كانت الدول الأخرى لا تمتلك هذا السلاح، وذلك باستيحاء قوله تعالى، في تحديد الدعوة إلى الإعداد للقوة: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ..﴾(5)، باعتبار أن تملك المسلمين لهذا السلاح قد يمنع الأعداء من العدوان عليهم، إلا إذا كان الواقع المحيط بمسألة صنع الأسلحة النووية يشكل خطراً جزئياً أو كلياً على العالم. وكيف كان فالإشكال ليس في إنتاج هذا السلاح وتملُّكه، بل في استخدامه"(6). ومسألة أن "الضرورات تبيح المحظورات"، وأن "الضرورة تقدَّر بقدرها"، هي من القواعد العامة المتبعة في ظروف السلم والحرب، فإذا لم تكن ضرورة تدعو إلى مهاجمة العدو، يتوقف المسلمون عن المهاجمة. ومن الأمثلة التي دار حولها نقاش الفقهاء، تترُّس العدو ببعض أفراده من غير المقاتلين، كالنساء، والأطفال، أو اتخاذه بعض المسلمين درعاً بشرياً يحتمي به. ففي حالات الضرورة التي لا بد من تشخيصها بدقة من قبل الحاكم الشرعي، أي المجتهد العادل، أجاز الفقهاء قتال العدو المتترِّس، وإن كانت الدروع البشرية غير مقصودة بعمليات القتال أصلاً. فإذا تحقق غرض السيطرة على مقاتلي العدو، فلا حاجة إلى مهاجمة من اتخذهم هؤلاء دروعاً بشرية، وذلك بهدف التخفيف من الخسائر البشرية. ويُجَوِّز العلامة إبراهيم الكلباسي في حال الحرب مع الأعداء إلقاء النار، وقطع الأشجار، والإغراق بالماء، ومنعه عنهم، بل وإلقاء السُّمِّ في مياههم، إذا كان مما يُرجى به الفتح، أو مع الضرورة، قائلاً: "ويجوز الفرار للنساء والصبيان، والمحاربة بكل ما يرجى به الفتح، كرمي المجانيق، ومنه ما تعارف في عصورنا.. ولا يضمن بذلك ما يتلف ممن كان بينهم من المسلمين، بل بإلقاء النار، وقطع الأشجار، والإغراق بالماء، ومنعه عنهم، إلا أن الأولى تركها في حال الاختيار(7). ومثلها إلقاء السم في مائهم، وإن كان الأحوط(8) تركه. ولو تترسوا بالصبيان، والمجانين، والنساء، وتوقف الفتح على قتلهم، إذا كانت الحرب قائمة، وخافوا غلبتهم، جاز مطلقاً، وإن كان الأولى الأحوط، وكذا لو تترسوا بأسارى المسلمين.. ولا يجوز أن يقتل صبيانهم ولو كانوا مراهقين، ولا مجانينهم، ولا مشايخهم إذا لم يكونوا ذوي رأي، ولا نسائهم وإن عاونوهم، إلا مع الضرورة، بأن يتترسوا بهم، ولا يمكن الفتح إلا بقتلهم. والخنثى كالمرأة، ولا فرق بين الرهبان وأصحاب الصوامع وغيرهم.. ويجوز الخديعة في الحرب، وأن يخدع المبارز قرنه ليتوصل إلى قتله.. والضرورة في الجميع عذر"(9). ولا بد من التوقف عند كلمة "ومنه ما تعارف في عصورنا"، فهي تدل على جواز استعمال كل سلاح يؤدي إلى الدمار الشامل في دار الحرب إذا كان مما يُرجى به الفتح، أو مع الضرورة. ومراده أن الحكم الأكثر تأميناً لبراءة الذمة ليس قتل الصبيان، والمجانين، والنساء، مطلقاً، سواء كانوا من المشركين أو من المسلمين، بل قتلهم بشروط وهي: 1- أن يتترس بهم العدو. 2- أن يتوقف الفتح على قتلهم. 3- إذا كانت الحرب لا تزال قائمة. 4- إذا خافوا غلبة العدو على المسلمين. 5- أن لا يقصدوهم بل أن يقصدوا قتل من خلفهم من المشركين. ومن القواعد الفقهية التي يمكن الرجوع إليها عند الحديث عن حالات الضرورة قاعدة "درء المفاسد مُقَدَّمٌ على جلب المصالح". وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله جل وعلا، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه.. القول الثاني: هو الوقف، وعدم الحكم فيها بمنع، ولا إباحة، حتى يقوم الدليل. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾(10)، وقوله أيضاً: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(11). والقول الثالث: هو أن الأصل فيما على الأرض الإباحة، حتى يرد دليل خاص بالمنع، لأن الله تعالى امتنَّ على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل لهم فيها أرزاقهم وامتنَّ عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعَاً﴾(12)، ومعلوم أنه جلَّ وعلا لا يمتنُّ بحرام، إذ لا مِنَّة في شيء مُحَرَّم. فتحصَّل أن في المسألة ثلاثة مذاهب: المنع، والوقف، والإباحة. والذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس بها ثلاث حالات: 1- أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر، كأنواع الفواكه، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك. 2- أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع، كأكل الأعشاب السامة القاتلة، فهي على التحريم. 3- أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فلها ثلاث حالات أيضاً: 1. أن يكون الضرر أرجح من النفع، فالمنع، لأن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح. 2. عكس هذا، وإن كان النفع أرجح، فالأظهر الجواز، فلا بد من تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، أو البعيدة. وأعطي مثالين على ذلك: الأول منهما: أن تخليص أسرى المسلمين من أيدي العدو، بالفداء، مصلحة راجحة، قُدِّمت على المفسدة المرجوحة، وهي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسرى. الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب، مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه، والحكم ما به يجيء الشرع، وأصل كل ما يضرُّ المنع(13). 3. أن يتساوى الأمران، فيتخيَّر المرء بين الفعل، والترك. ولعلماء المسلمين أقوال تؤكد هذه القاعدة الفقهية ومنها: - "قال ابن عبد السلام: يرجع الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد. وقال السبكي: بل إلى اعتبار المصالح فقط، لأن درء المفاسد من جملتها"(14). - "تشريع الحكيم الخبير جل وعلا مشتمل على جميع الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح، والجري على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، ولا شك أن من أقوم الطرق معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاء وفاقاً"(15). - "مبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح الخالصة أو الراجحة، وعلى درء المفاسد والمضار كذلك"(16). - "المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين"(17). - "فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية، دولة غير مسلمة، لفائدة تعود إلى الأولى، إما بدفع ضرر، أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضرُّ المسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت"(18). فإذا كانت أضرار المصلحة العسكرية العاجلة أكثر من نفعها، أصبح من غير الجائز الاعتداد بها. ويقول أحد الباحثين في القانون الدولي الإنساني: "ولا يمكننا طبعاً أن نقارن بين الأسلحة التي كانت معروفة في عهد قدماء الفقهاء وأسلحة اليوم، لكننا نعرف أن استخدام وسائل القتال وأساليبه يخضع لشروط كانت وما تزال مدار نقاش بين مختلف المدارس الفقهية الإسلامية.. ولم يقتصر اهتمام الفقهاء على "الأشخاص" عند مناقشتهم المسائل المتصلة بالضرورات الحربية، بل تناولوا وسائل القتال، وأساليبه. ومع مراعاة المصلحة العسكرية العليا، اختلف الفقهاء كثيراً حول استخدام النار، والماء، ضد العدو، أو البيات (الإغارة ليلاً) على سبيل المثال. ولا يفوتنا أن نشير إلى مبدأ المعاملة بالمثل، وقد اتفق الفقهاء على أتباع هذا المبدأ زمن الحرب في العلاقة مع الأعداء، استناداً إلى آيات، وأحاديث صريحة. إلا أن المعاملة بالمثل تقف عند حدود لا يمكن تجاوزها، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بما يحرمه الإسلام تحريماً مطلقاً. وحتى في الحالات التي تقتضي معاقبة العدو بمثل ما عاقب به المسلمين"(19). الفقرة الثانية: مبدأ الرفق بالأسرى والجرحى الأسير هو العدو المحارب الذي سقط بين أيدي المسلمين، فمتى أصبح الجندي المعادي غير قادر على حمل السلاح والقتال، فإنه يتعيَّن التوقف عن إيذائه، ولا يجوز تعذيبه، احتراماً لإنسانيته، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾(20). لقد جاء في تفسير هذه الآية، أنه كان عند الإمام علي(ع) وزوجته فاطمة بنت محمد(ع) بعض الطعام من الشعير، فلما وضعوه بين أيديهم ليأكلوا جاء مسكين فقال: رحمكم الله أطعمونا مما رزقكم الله، فقام علي(ع) فأعطاه ثلثه، ثم جاء يتيم وقال قوله، فقام علي(ع) وأعطاه ثلثه الثاني، ثم جاء أسير وقال قوله، فقام علي(ع) وأعطاه ثلثه الثالث، وما ذاقوه، فأنزل الله فيهم هذه الآية إلى قوله: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾(21). ويبيِّن الله تعالى في هذه الآية أوصاف الأبرار، الذين وصفتهم الآيات بأنهم عباد الله، وأنهم المقرَّبون، فهؤلاء هم السابقون في الآخرة إلى نعيمه(22)، وفي هذا تأكيد على أهمية إطعام الأسير، بل الإحسان إليه. فقد ورد عن علي بن الحسين(ع) أنه قال: "إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي وليس معك محمل فأرسله، ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه، وقال: الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئا". كما ورد عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: "إطعام الأسير حق على من أسره وإن كان يراد من الغد قتله فإنه ينبغي أن يُطعم ويُسقى و[يظل] ويُرفق به، كافراً كان أو غيره"(23). وفي الحديث الشريف: "استوصوا بالأسرى خيراً"(24). والعبارة على قصرها بليغة شاملة، فالخير يشمل الجوانب المادية والمعنوية للحياة في الأسر، بعيداً عن نشوة نصر، أو غضبة حرب. فلا بد أن يُطعم، ويحسن إليه حتى يُحكم فيه، وليس من الإحسان إليه في شيء تركه بدون طعام، أو كسوة تليق به، تقيه حرَّ الصيف، وبرد الشتاء. أضف إلى ذلك أن الإسلام أعطى الأسير حق ممارسة شعائر دينه خلال فترة أسره.. كما أن الإسلام لا يغدر بالأسرى.. ومن المعاملة الكريمة للأسرى عدم التفريق بين أفراد العائلة الواحدة التي وقعت في الأسر، فقد ورد عن النبي (ص) قوله: "من فرَّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"(25). وهذا يدلُّ على مشروعية الأسر في الإسلام، كما هو مشروع في كل الأعراف والقوانين البشرية، فقد ورد عن أبي عبد الله(ع) يقول: كان أبي(ع) يقول: "إن للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها، ولم يثخن أهلها، فكل أسير أُخِذَ في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار، إن شاء ضرب عنقه، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم، وتركه يشحط في دمه(26) حتى يموت، وهو قول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(27).. والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها، وأثخن أهلها، فكل أسير أخذ في تلك الحال فكان في أيديهم، فالإمام فيه بالخيار، إن شاء مَنَّ عليهم فأرسلهم، وإن شاء فاداهم أنفسهم، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيداً"(28). وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ في كتابة العزيز أنه لم يشترط قتلهم، بل يمكن تلافي قتلهم بطرق عديدة، فالأسرى بعد القبض عليهم يتم التحفظ عليهم حتى تضع الحرب أوزارها، وقد أتاح الإسلام إطلاق الأسير، وللحاكم عند ذلك عدة خيارات: 1- التلطف معهم وترغيبهم في الإسلام. وقد جاء هذا الوجه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(29). فالذي يؤخذ من الأسرى هو حريتهم بوقوعهم في الأسر، وحرمانهم العودة إلى أهليهم. ومغفرة الله لهم لا تكون إلا بعد إسلامهم، وصلاح عقيدتهم، واستقامتهم على صراط الله المستقيم. 2- العفو عن الأسير وإطلاق سراحه من دون مقابل، وهو ما يسمى بالمنّ، بشرط ألا تخشى منهم خطراً في المستقبل. وهذا يرجع إلى إمام المسلمين. 3- العفو عن الأسير وإطلاق سراحه مقابل أخذ العِوَض على إطلاقه، وهو ما يعرف بالفداء، عملاً بقوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾(30). وتؤخذ الفدية منهم شخصياً، أو من دولتهم. وتُقَدَّر الفدية حسب ما يراه ولي أمر المسلمين، شريطة ألا يكون فيها إجحاف، أو تعجيز للأسير عن دفعها. ونعلم أن مواثيق القانون الدولي الإنساني وضعت لكل فئة من الفئات المشمولة بالحماية نظاماً قانونياً محدداً، لكن منطلقات كل تلك المواثيق وأهدافها واحدة، وهي تقوم على مبدأ المعاملة الإنسانية. وعلى امتداد التاريخ الإسلامي نجد الجيوش الإسلامية تضم في صفوفها المسعفين، والأئمة، والقضاة، وتحرص على تمكينهم من أداء وظائفهم. ومنذ معارك الإسلام الأولى كانت النساء تقمن بإسعاف المرضى، والجرحى، وأرسى الرسول(ص) قواعد حظر التمثيل بالجثث، والإجهاز على الجرحى، والانتقام من الأسرى وطالبي الأمان. لقد أقرَّ الإسلام حقوقاً لحماية من يتضررون من ويلات الحروب والنزاعات المسلحة، ومنهم الجرحى والمصابون من أفراد العدو، إذا لم يعودوا قادرين على حمل السلاح ومقاتلة المسلمين، فإنه يتعيَّن التوقف عن إيذائهم، وعدم التعرُّض لهم بسوء، بل يتعيَّن حمايتهم، ومعاملتهم معاملة إنسانية، فلا يجوز تعذيب الجرحى، أو مقاتلتهم، لأن ذلك ليس من حُسن القتال في شيء، فيعامل معاملة أسير الحرب، احتراماً لإنسانيته، ولأن القتال في الإسلام لا يهدف إلا إلى كسر شوكة العدو، فلا يُتجاوز فيه إلى الاعتداء. ويرى علماء الاجتماع الكبار في العالم أن الحروب وسفك الدماء وقتل الأنفس وكل هذه المفاسد المتزايدة اليوم إنما هي ناتجة من عدم توفر التوازن بين متطلبات الجسم والروح الإنسانيَيْن. فالإنسان اليوم قد سحق الفضائل الأخلاقية والمنابع المعنوية، وإن كان قد سخَّر البحر والفضاء والصحراء لصالحه وصعد إلى القمر. ومن البديهي أنه لا يمكن إقرار العدالة والنظام الصحيح بالقوة والقدرة فقط، ولا يمكن ضمان سعادة البشرية بحصول التطور في التكنولوجيا ووسائل الاتصال وعلوم المادة فقط، وليس للإنسانية محيص من أن تقيم علاقاتها على أساس من الإيمان والقيم الروحية النبيلة والأخلاق الحميدة، وأن تنجي نفسها من دوامة الخطر بقيادة مصلح عالمي عظيم، وتصل إلى إقرار الحكم القائم على أساس العدالة والأمن والصفاء والأخوة. باحث في الشريعة والقانون الدولي(*) هوامش (1) راجع المادة: 17، من البروتوكول الثاني الإضافي إلى اتفاقيات جنيف. (2) الثعالبي، أبو منصور، تفسير الثعالبي، ط1، بيروت-لبنان، دار إحياء التراث العربي، 1418هــ، ج1، ص: 360. (3) أحد مراجع التقليد، ومن كبار مفكري المسلمين الشيعة في العالم، ومؤسس جمعية المبرات الخيرية الاجتماعية، وأستاذ مادة الفقه، في مرحلة البحث الخارج، في المعهد الشرعي الإسلامي، في لبنان. توفي بتاريخ: 4-7-2010م. (4) لقد تبيَّنْتُ رأي سماحته من خلال استفتاء خاص وجَّهْتُه إليه بشكل شخصي، وقد حصلت على جوابه بتاريخ: 30 ربيع الثاني 1429هـ، الموافق 6 أيار 2008م. (5) سورة الأنفال، الآية: 60. (6) فضل الله، محمد حسين، استعراض لرأي العلامة السيد في المشروع النووي الإيراني، مجلة معلومات، يصدرها المركز العربي للمعلومات، العدد التاسع والثلاثون- تحت عنوان "الملف النووي الإيراني"، شباط / فبراير 2007، نقلاً عن موقع مجلة بيِّنات الإسلامية بتاريخ: 12-8-2005م. (7) أي أن الأولى ترك إلقاء النار، وقطع الأشجار، والإغراق بالماء، ومنعه عنهم، في حال لم يكن مضطراً إلى فعل ذلك. (8) الاحتياط هنا استحبابي. ويصبح المعنى أنه يجوز إلقاء السم في مياه الأعداء إذا كان مما يُرجى به الفتح أو حين الضرورة، ولكن الأحوط استحباباً ترك ذلك ما أمكن. (9) الكلباسي، إبراهيم، منهاج الهداية، مخطوطة: لا معلومات حول هوية الكتاب في أصله، ص:185-186. (10) سورة: الأعراف، الآية: 33. (11) سورة: الأنعام، الآية: 151. (12) سورة: البقرة، الآية: 29. (13) الشنقيطي، أضواء البيان، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، بيروت-لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر، 1415- 1995م، ج7، ص: 495-497. (14) الشربيني، محمد، مغني المحتاج، بيروت-لبنان، دار إحياء التراث العربي، 1377هـ-1958م، ج1، ص: 39. وهو شرح الشيخ محمد الشربيني الخطيب- من أعيان علماء الشافعية في القرن العاشر الهجري- على متن المنهاج لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، من أعلام علماء الشافعية، في القرن السابع الهجري. (15) الشنقيطي، أضواء البيان، مرجع سابق، ص: 37. (16) الشيخ سيد سابق، فقه السنة، ط3، بيروت- لبنان، دار الكتاب العربي، 1397هـ-1997م، ج2، ص: 389. (17) الدسوقي، حاشية الدسوقي، دار إحياء الكتب العربية-عيسى البابي الحلبي وشركاه، ج4، ص: 298. (18) السبحاني، جعفر، أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، ط1، قم-إيران، مؤسسة الإمام الصادق (ع)، 1421هـ، ص: 413. (19) الزمالي، عامر، مقالات في القانون الدولي الإنساني والإسلام، الإسلام والقانون الدولي الإنساني: حول بعض مبادئ سير العمليات الحربية، ص: 164-165. والمؤلف هو مستشار شؤون الشرق الأوسط والمغرب العربي في اللجنة الدولية للصليب الأحمر- القاهرة، وقدَّم هذا المقال إلى ندوة نظمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تونس في أبريل/نيسان 2002م :راجع: www.icrc.org/web/ara/siteara0.nsf/html/5ZYG8Q (20) سورة الإنسان، الآية: 8. (21) سورة الإنسان، الآية: 22. راجع: القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، مرجع سابق، ج2، ص: 398-399. (22) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مرجع سابق، ج1، ص: 430. (23) الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، ت 329هـ، الأصول من الكافي، ط3، طهران-إيران، دار الكتب الإسلامية، 1388هـ، ج5، ص: 35. (24) المتقي، الهندي، كنز العمال، مرجع سابق، ج4، ص: 384. (25) ابن قدامة، عبد الله، المغني، الطبعة الجديدة بالأوفست، بيروت- لبنان، دار الكتاب العربي، ج4، ص: 242. (26) الحسم: الكي بعد قطع العرق لئلا يسيل دمه. والتشحُّط: التخبط والتمرغ في الدم. (27) سورة المائدة، الآية: 33. (28) الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، مرجع سابق، ج5، ص: 32. (29) سورة الأنفال، الآية: 70. (30) سورة محمد، الآية: 4. |
||||||