المخاوف الإسرائيلية من الآثار الإستراتيجية للمتغيرات الإقليمية

السنة الثانية عشر ـ العدد139 ـ (شعبان ـ رمضان 1434  هـ ) تموز ـ 2013 م)

بقلم: عدنان عدوان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

أثناء اجتماع المتحدثين باسم الحكومة الإسرائيلية في إطار الاستعدادات لـما سُمي "أسبوع الطوارئ الوطني"، أعلن غلعاد أردان وزير ما يسمى حماية الجبهة الداخلية الإسرائيلي أن منظومة "القبة الحديدية" لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى، لا تستطيع مواجهة سقوط مئات الصواريخ على إسرائيل يومياً، وأن السيناريو المركزي هو إطلاق صواريخ طويلة المدى باتجاه إسرائيل.

وقال أردان، إن "علينا أن نستعد لوضع يكون فيه المواطنون جاهزين بأفضل ما يمكن، لجهة الحماية والجهوزية الشخصية، في حال نشوب حرب بين إسرائيل وحزب الله". وأضاف إن "على معظم موظفي الدولة أن يدركوا أنه في الحرب المقبلة، وفيما ستتساقط صواريخ كثيرة في الجبهة الداخلية، لن يتمكنوا من التواجد مع العائلة والأولاد في الغرفة الآمنة في شقتهم أو في الملجأ، وإنما سيضطرون إلى الوصول إلى العمل والاهتمام بسير عمل الوزارات".

وفي نفس السياق حذّر رئيس أركان جيش العدو الإرهابي بيني غانتس من الظروف التي تعيشها إسرائيل، حيث أشار إلى أنها قابلة للانفجار في أي وقت. وذكرت صحيفة يديعوت أحرنوت أن رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال قام في ساعات مبكرة من صباح يوم 21/5/2013م  بزيارة مرتفعات الجولان المحتلة وذلك خلال جولة تفقدية بصحبة كل من قائد المنطقة الشمالية الجنرال "يائير غولان" وقائد تشكيلة الجولان العميد "تامير هيمن".

وقال غانتس في مؤتمر صحافي عقده بعد الانتهاء من جولته "إن الحدود سواء المصرية منها أو السورية تشهد توتراً غير مسبوق وذلك نتيجة استمرار وصول بعد الطلقات والقذائف الصاروخية من قبل تلك الأراضي على البلدات الإسرائيلية المحاذية"، لافتاً إلى أن جيشه يقدر بأن الهجمات ستتواصل وأن القلق يساور المنظومة الأمنية الإسرائيلية في هذا الشأن.

وأعرب غانتس عن خشيته من أن تتحول منطقة الجولان إلى منطقة تخرج منها هجمات مسلحة ضد الجيش الإسرائيلي بالقرب من الجدار الحدودي، في حين قال ضابط رفيع في المنطقة أن الجيش الإسرائيلي يستعد لجميع الاحتمالات. فكيف يمكن للكيان الصهيوني أن يعيش كل هذه المخاوف وسط كل التقدم التكنولوجي والعلمي الذي يدعيه وفي ظل الدعم اللامحدود لهذا الكيان الغاصب من الولايات الأمريكية، وأوربا، ودول غربية وشرقية، وحتى عربية!! (للأسف)؟.

أوهام تغُرق الكيان

في الذكرى السنوية الـ"65" للنكبة الفلسطينية الكبرى، بلغ استعراض العضلات لقادة العدو ذروته بحديثهم عن "قدرة الجيش الإسرائيلي على ضرب إيران بمفرده!!"، وتوجيه "ضربات قاسية تجاه لبنان وسورية!!"، وشن "حرب على غزة أشرس وأقوى من الحرب الأخيرة"، وتأكيدهم "لن نقبل بانتفاضة ثالثة".... وهذه المواقف والتصريحات العدوانية المتطرفة أطلقها أعضاء الحكومة اليمينية الصهيونية المتطرفة وقادة جيش العدو في اليوم الاحتفالي لما يسمونه (عيد الاستقلال) والذي هو في الحقيقة (ذكرى النكبة الكبرى في فلسطين) إلى حد لم يتحمله الكثيرون من المؤرخين الجدد والأكاديميين والكتاب والصحافيين الإسرائيليين، ووصف بعض الكتاب والخبراء والأكاديميين الصهاينة هذه المواقف بـ: "الأوهام التي قد تغرق إسرائيل"، وأكدوا أنها: "تنطلق من ضعف ومن حقيقة أن الدولة العبرية غير قادرة على قراءة واضحة وصحيحة للتطورات التي قد تشهدها المنطقة، إضافة إلى عدم قدرتها منفردة على ضرب إيران".

ووصفت الباحثة في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، تمار هيرمان، التصريحات التي أطلقها بنيامين نتنياهو وموشيه يعالون، ورئيس أركان جيش العدو بيني غانتس، بـ"زئير أسد شائخ في فصل الشتاء". وأضافت: "إن من تضعف مكانتهم مثل الأسود الشائخة أو الحكام الذين تبدو كراسيهم مترنحة، يشعرون بالحاجة إلى إطلاق صوت أعلى للإبقاء على صورة القوة والحضور، فضعف اللاعبين السياسيين يترافق غير مرة باستعراضات وخطابات ملتهبة، تجعل بعض المشاهدين، بل وأحياناً اللاعبين أنفسهم يصدقون بأن هذه هي قوة حقيقية".

وعلى الرغم من أن غانتس هدد وتوعد بأن جيشه قادر بمفرده على ضرب إيران، وبمواجهة أو شن الحرب على مختلف الجبهات، وهدد لبنان وسورية وقطاع غزة.... لم تمر ثماني وأربعون ساعة على هذه التهديدات الوقحة، حتى سقطت الصواريخ على مدينة إيلات (أم الرشراش) المحتلة عام1948 الواقعة أقصى الجنوب الفلسطيني المحتل على خليج العقبة بالبحر الأحمر، دون أن تنجح أبسط القدرات الدفاعية الصهيونية في صد هذا الهجوم ومواجهته، ولم تطلق صفارات الإنذار في جميع المناطق، أما منظومة "القبة الحديدية"، التي نصبت في إيلات خصيصاً في أعقاب وصول معلومات عن احتمال إطلاق صواريخ، فلم تعمل، وسقط أحد الصواريخ في منطقة مأهولة.

وعاش الكيان الصهيوني أسبوعاً كاملاً في أجواء (استعراض العضلات) والاحتفالات بإقامة الكيان الصهيوني، ولم تهدأ هذه الاستعراضات والاحتفالات حتى بعد سقوط الصواريخ على إيلات، إلى أن اتضح أن وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل، حمل في زيارته إلى الكيان الصهيوني صفقة تشتمل على رزمة من الأسلحة النوعية الجديدة لتطيل أكثر، الذراع الطويلة لكيان العدو، لتنتقل "حفلة الاستعراضات"، إلى تحليلات وتخمينات حول أهداف الولايات المتحدة من صفقة الأسلحة وموقف هيجل، من الملفين الإيراني والسوري، وهو المعروف بمواقفه المخالفة للمواقف والرغبات الإسرائيلية في هذه الملفين. وقبل أن يوقع هيغل على صفقة الأسلحة مع وزير الحرب الصهيوني موشيه يعالون، كان واضحاً للقيادة الصهيونية اليمينية المتطرفة أن الولايات المتحدة لن تتراجع عن موقفها حول: (أهمية الاستمرار في المسار الدبلوماسي تجاه الملف النووي الإيراني)، على الرغم من أن أول تصريح أطلقه هيغل، فور هبوط طائرته في تل أبيب، أن صفقة الأسلحة مع الكيان الصهيوني: (رسالة واضحة لطهران أن الخيار العسكري لمنعها من إنتاج قنبلة نووية، لم يسقط). وهذا الموقف يعرفه كيان العدو، ولم يجدد فيه هيغل شيئاً، لكنه أوضح أن بلاده التي تؤكد استمرار دعمها الأمني للكيان الصهيوني، وجعله الأكثر تفوقاً في المنطقة، لن تسمح بموقف رئيس أركان جيش العدو غانتس، الذي أعلن فيه أن: "جيشه قادر على ضرب إيران بمفرده". وغانتس وقادة العدو يدركون أن قرار ضربة كهذه، لا يمكن لحكومة العدو أن تتخذه ، كما لا يمكن لجيش العدو أن ينفذه وحده، ورغم أن غانتس اعتمد في تهديداته لإيران ولبنان وسوريا وحتى لغزة على هدية هيغل لسلاح الجو الصهيوني، إلا إن الأسلحة التي ستقدمها الولايات المتحدة لن تصل كيان العدو قبل عامين، ولن يكون بمقدوره أن يتصرف بحرية مطلقة فيها، وهي جاءت كرشوة من الولايات المتحدة لإسكات الكيان الصهيوني عن صفقات الأسلحة التي ستعقدها الولايات المتحدة مع السعودية والإمارات العربية، التي سبق أن ضغطت "إسرائيل" لمنعها، خشية إخلال في توازن القوى.

وصفقة الأسلحة التي وقعها هيغل ويعالون تشمل وسائل قتالية حديثة جداً لا تملكها دول أخرى حليفة للولايات المتحدة. ولا علاقة لها باحتمال توجيه ضربة قريبة لإيران. فطائرات V-22، المعروفة باسم "صقر السمك" وطلبت الحكومة الصهيونية أن تتزود بست منها، هي أيضاً مروحيات قادرة على أن تقلع وأن تهبط في شكل عمودي، من إنتاج مصنع طائرات بوينغ الأمريكية، وستحسن هذه الطائرة قدرات سلاح الجو الصهيوني على العمل من خلال وحدات الكوماندوس في مسافات بعيدة. وإذا قررت أمريكا إنتاج عدة طائرات كهذه لصالح الكيان الصهيوني، فإنها ستصل إليه بعد عامين على الأقل، وكذلك الأمر بالنسبة لطائرات تزويد بالوقود من طراز KC-135) )، التي ستساعد سلاح الجو الصهيوني (في عملياته العدوانية التي ينفذها) في مسافات بعيدة، فهذه أيضاً ستصل بعد أكثر من سنتين لأنه لم يباشر بعد في إنتاجها.

وفي المقابل ستعقد الولايات المتحدة مع السعودية والإمارات العربية المتحدة صفقات تشمل أسلحة لصد منظومات الدفاع الجوي المتطورة التي باعتها روسيا لسورية، وجهاز رادار متطور لطائرات أف 16 وأف 15، وأوضح القائد السابق لسلاح الجو الأمريكي وقائد قوات حلف الشمال الأطلسي، فيليب بريدلاف الهدف الحقيقي من وراء هذه الصفقات مع السعودية والإمارات قائلاً: (إن واحداً من تحدياته المركزية سيكون الاستمرار المحتمل للربيع العربي الذي قد يؤثر في عمق إسرائيل الاستراتيجي المتقلص...، وإسرائيل قلقة من طموحات إيران الذرية ومن تقديرات أمنية تتعلق بالسلاح الكيماوي والصاروخي الذي تملكه سورية، وانخفاض تأثير الجيش في مصر وتضعضع الاستقرار في سيناء نتيجة ذلك ومن قوة حزب الله المتصاعدة)، ويؤكد بريدلاف أنهم: (في وزارة الدفاع الأمريكية يطمحون إلى أن يضمنوا لإسرائيل التصميم الأمريكي على كفالة أمنها )..... وطبعا الكفالة الأمريكية لأمن الكيان الصهيوني، تعني زيادة الدعم والمساعدة العسكرية الأمريكية للعدو، الذي يطمح إلى منحه مساحة أكبر من الحرية لاستخدامها.

ومن ناحية أخرى اجتمع المجلس الوزاري الصهيوني المصغر "الكابينت"، يوم الأحد 12/5/2013، في جلسة خاصة لبحث تقليص ميزانية جيش الاحتلال الإسرائيلي لعام 2014، تحت ضغط التظاهرات الاحتجاجية ورفض قيادات الجيش الصهيوني لهذا التقليص، وحضر الاجتماع قائد الجيش، بيني جانتس، ونائبه، ورئيس قسم التخطيط في الجيش، ومستشار قائد الجيش الاقتصادي، بالإضافة إلى وزير الحرب موشيه يعالون، وذلك بعد نقاش وبحث طويل في وزارة الحرب حول تقليص الميزانية، والتي ستصل إلى (4 مليار شيقل) وعرضت القيادات العسكرية الصهيونية أمام "الكابينت" المخاطر المزعومة التي تتهدد الكيان الصهيوني وجيشه، في حال تمت هذه التقليصات، في محاولة منهم للضغط على الوزراء لرفضها، وعرضوا أمامهم عدم رفضهم لفكرة التقليص من ناحية المبدأ، وإنما ماذا سيشمل التقليص، وما يستطيع الجيش الصهيوني الاستغناء عنه في ظل مخاطر عديدة (مزعومة) تتهدد الكيان الصهيوني، وشهدت مدينة تل أبيب المحتلة يوم السبت 11/5، تظاهرات شارك فيها 12 ألف متظاهر، وكان لهذه التظاهرات تأثيراً كبيراً على سياسة التقليص التي يتبناها رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، ووزير ماليته اليميني المتطرف يائير لبيد، وساهمت في إعادة التفكير مجدداً في مشروع الميزانية والتقليص المقترح، وأيضاً تظاهرت مجموعة كبيرة من الصهاينة أمام بيت وزير الطاقة الصهيوني سلفان شالوم، احتجاجاً على مخطط تصدير الغاز، الذي يجني أرباحه أصحاب رؤوس الأموال، وشهد بحث تقليص الميزانية العسكرية خلافات حادة داخل المؤسستين السياسية والعسكرية، وكانت خطة الجيش متعددة السنوات، للتدريبات والاستعدادات، في صلب المواضيع التي بحثها اجتماع المجلس الوزاري المصَغّر، وعقدت حكومة العدو الاثنين 13/5 جلستها الأسبوعية، وكان في صلب مواضيعها إلى جانب تقليصات الميزانية العسكرية، التطورات الأمنية في المنطقة، وزيارة نتنياهو إلى الصين، وزيارته إلى روسيا الأربعاء 15/5، للبحث في صفقة الأسلحة بين روسيا وسوريا، التي تشمل صواريخ وأسلحة متطورة، وسعى رئيس حكومة العدو إلى إحباطها....

وحاول نتنياهو خلال هذه الزيارة العاجلة لروسيا إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدم تسليم أنظمة صواريخ ( ارض-جو اس-300 ) المتطورة إلى دمشق، خصوصا أن هذه الصواريخ الروسية المتطورة تستطيع اعتراض طائرات، أو صواريخ موجهة في الجو، وشبيهة بصواريخ (باتريوت الأمريكية)، وتؤكد وسائل الإعلام الصهيونية أن نصب مثل هذا النظام من الدفاعات الجوية سيعقِد أي مشروع للولايات المتحدة أو حلفائها لشن ضربات جوية ضد النظام السوري، أو إقامة منطقة حظر جوي فوق سوريا، أو التدخل لتفكيك الأسلحة الكيميائية، أو فرض طوق آمان حولها، وأكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن: (موسكو في المراحل الأخيرة لتسليم صواريخ دفاع جوي لسوريا)، بينما حذر وزير الخارجية الأمريكي من تزويد سوريا بهذه الصواريخ معتبرا أن: (ذلك يشكل عاملاً محتملاً لزعزعة استقرار المنطقة)، وقالت صحيفة (كومرسانت) الروسية أن: (الرئيس الروسي أكد لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي زار روسيا أيضاً، لإجراء محادثات حول سوريا إن الصواريخ ستسلم فعلا لدمشق)، أما الخبير الروسي ايغور كوروتشينكو من (مركز دراسات السوق العالمي للأسلحة) فقد أوضح: (أن التساؤل لمعرفة ما إذا كانت روسيا ستنفذ عقدها لتسليم (الشحنة) يبقى مفتوحاً)، وهذه الصفقة أبرمت في العام 2010 لتسليم أربع بطاريات صواريخ أس 300 وتشمل ست منصات إطلاق و144 صاروخاً يصل مداها إلى مئتي كلم).

متغيرات التهديدات الأمنية

اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن عشرات آلاف الصواريخ منتشرة في المناطق المحيطة بـ"إسرائيل" وتشكِّل تهديداً على الجبهة الداخلية. وأضاف نتنياهو في الجلسة الختامية التي عقدت لإجمال التمرين الذي أجرته قيادة الجبهة الداخلية لاختبار وسائل الوقاية المختلفة أن "إسرائيل" هي أكثر الدول المعرضة للتهديد في العالم. وشدد على أن كيانه يجب أن يكون مستعداً من الناحيتين الدفاعية والهجومية على حد سواء، لمواجهة المخاطر التي تنطوي عليها الحرب في العصر الحديث.

وقال مسؤول إسرائيلي إن الكيان يتحقق من تقارير ذكرت اليوم أن سوريا تلقت أول شحنة من نظام (أس-300) الروسي المتقدم للدفاع الجوي. وقال المسؤول الذي طلب عدم نشر اسمه لرويترز "ليست لدي معلومات تتجاوز ما أفادت به التقارير التي نتحقق منها." جاء هذا بعد أن نقلت صحيفة لبنانية عن الرئيس السوري بشار الأسد قوله إن شحنة من النظام وصلت إلى بلاده بالفعل.

وكانت "اسرائيل" قد وجهت تهديدات مبطنة لمنع سوريا من تشغيل نظام صواريخ (أس-300) وقالت إنه لم يتم إرسالها بعد.. وسيكون المجال الجوي لإسرائيل في نطاق النظام إذا تم نشره في سوريا.

إن التحولات السياسية العميقة التي تشهدها الدول العربية وتحديداً المسماة بـ"دول الطوق" والتي لا زالت مستمرة ولا زالت رياحها لم تهدأ بعد مع احتمال وصولها إلى دول أخرى؛ أشبه ببركان ينفجر على مراحل عبر فتحات عديدة، هذه التحولات الكبيرة ـ التي لم تهدأ بعد ـ تقضي على مرحلة طويلة من الاستكانة والاستقرار، وعلى تحالفات ومعسكرات، وتعمل على إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة في ظل احتدام صراعات إقليمية ودولية قديمة جديدة، ونبش صراعات مذهبية عرقية بهدف توظيفها في خدمة أجندات المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة، وقبل أن ينقشع الغبار عن ساحات الصراع بدا واضحاً على الأقل على مستوى الصراع مع الكيان الإسرائيلي أن تغيراً كبيراً قد حدث على الملامح المستقبلية للصراع العسكري، وعلى طبيعة التهديدات الأمنية لأمن دولة الاحتلال؛ الأمر الذي بات يفرض نفسه على ما يسمى بـ"مفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي"، وبدأ يتضح من خلال خطط قيادة أركان الجيش الإسرائيلي الهادفة إلى ملائمة جيشها لمتغيرات التهديدات الأمنية الناتجة عن التغيرات السياسية والأمنية في المنطقة، وذلك عبر إدخال تغييرات كبيرة على بنية الجيش تسليحاً وتشكيلاً.

فيما مضى؛ استعد الجيش الإسرائيلي بشكل أساسي لمواجهة خطر اندلاع حرب كلاسيكية مع الجيوش النظامية العربية، فقد كانت مثل هذه الحرب تشكل التهديد الأكبر الذي استعد وتمرن وتسلح له الجيش الإسرائيلي رغم أن آخر حرب مع الجيوش النظامية كانت عام 73، وقد شكل الطيران وسلاح الدبابات والمدفعية الثقيلة السلاح الأهم لهزم العدو والسيطرة عليه، كما أن اتفاقية كامب ديفيد مع مصر وتحول جبهة سيناء على مدار عقود طويلة إلى جبهة غير معادية أدى إلى ما يشبه تفكك اللواء الجنوبي المرابط على حدود سيناء، مما جعل الحدود تخترق بشكل يومي عبر مجموعات كبيرة من المهاجرين والمهربين وتجار البشر والمخدرات، والتدفق الكبير للمهاجرين الأفارقة وتداعياته على البنية الاجتماعية والاقتصادية الإسرائيلية، جعلت حكومة نتنياهو تنفق 2 مليار شيكل على بناء أطول جدار من الأسلاك الشائكة المزودة بوسائل الكترونية متطورة.

ويبدو حسب القراءة الإسرائيلية للدور العسكري المستقبلي لمصر؛ أن مصر ترغب بالانشغال بنفسها وعلاج أزماتها الداخلية، والمحافظة على عدم التصعيد والتسخين مع إسرائيل عسكرياً، ما يبقى الجبهة الجنوبية لسنوات طويلة أخرى بعيدة عن أن تشكل تهديد عسكري كلاسيكي، أي أن شبح الحرب مع مصر بالنسبة لإسرائيل أمر غير وارد على الأقل في المستقبل المنظور.

أما على صعيد الجبهة السورية الإسرائيلية؛ فقد مثل الجيش العربي السوري التهديد العسكري الكلاسيكي الوحيد، حيث أن الجيش السوري حظي برعاية واهتمام القيادة السورية، وقد أنفقت الدولة السورية معظم مواردها المالية على تسليحه وتدريبه وتجهيزه وسعيها لما عرف بالوصول للتوازن الاستراتيجي، وعلى كل المستويات اهتمت سوريا أن تؤكد دوماً أن جيشها يستعد لمعركة تحرير الجولان السوري؛ الأمر الذي كان معه الجيش الإسرائيلي مضطراً لأن يأخذ هذه التهديدات على محمل الجدية، لاسيما وأن إسرائيل رأت في نظام الرئيس بشار الأسد عدواً شرساً وخطراً كبيراً في ظل تحالفه ودعمه لحزب الله وعلاقاته الوطيدة مع الجمهورية الإيرانية، ونظراً أيضاً لحجم الترسانة العسكرية التي يملكها.

وهذا ما كان يفكر به قائد الأركان الإسرائيلي بيني غانتس عندما قرر أن منظومة التهديدات قد تغيرت، حيث قال: "إن التهديدات الكبيرة والواسعة والمستقرة التي ميزت السنوات الأربعين الماضية قد تغيرت بقدرات نارية لمسافات طويلة وبأعمال إرهابية وتخريبية معادية".

كيان في خطر

ترسم المواقف الصادرة عن كبار المسؤولين الصهاينة وتلك التي يراها الفلسطينيون بمعظم شرائحهم صورة تعبر عن زاوية معينة لمستقبل قضية فلسطين، لاسيما في ذكرى الخامسة النكبة وإعلان إنشاء ما تسمى "إسرائيل" على أرض فلسطين.

فمن جهة؛ يصرح الصهاينة علنًا، وعلى لسان كبار مسؤوليهم، أن الكيان الصهيوني يتعرض لتهديدات تُعد الأكبر في تاريخ إنشائه، وأن وجوده أصبح "في خطر غير مسبوق"، ومن جهة أخرى تجد الفلسطينيين في الداخل والخارج يعبّرون عن واقعهم بلسان حال "هلّت بشائر العودة .. وبدأت مرحلة تحرير فلسطين".

المتتبع للتصريحات الصادرة عن المسؤولين الصهاينة بدءاً من الرئيس الصهيوني ورئيس وزرائه مروراً بالوزراء ورئيس الكنيست والنواب الصهاينة وانتهاءً بالشارع الصهيوني نفسه، يجد منذ سنة مضت أن الحديث تركز بشكل غير مسبوق عن فكرة "وجود إسرائيل" من عدمه في المستقبل، في ظل ما تعيشه المنطقة من تحولات سياسية.. فلم يبق خط أحمر صهيوني وإلا وتم المساس به. والراصد للمواقف الشعبية والفصائلية الفلسطينية في الوقت ذاته؛ يجد فيها تقدمّا يرافقه تعبير عن تطلّع لـ"التحرير"، ليس حدود الـ 67 .. بل إن الحديث عن تحرير فلسطين التاريخية أصبح يحمل معنى الـ"قاب قوسين أو أدنى"، ليس ذلك فقط؛ بل إن الأمر تحوّل لتصريحات فلسطينية تقول إن زمن بدء الاحتلال بالعدوان قد انتهى وقد أصبح الفلسطينيون يحددون زمن هجومهم ضد الاحتلال من أجل تحرير الأراضي المغتصبة منذ أكثر من ستة عقود.

يرى الدكتور عبد الستار قاسم المحلل السياسي الفلسطيني وأستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح أن الكيان الصهيوني فقد اليوم المقومات الإستراتيجية لبقائه، وأصبح كيانًا غير قابل للحياة، بفعل عدة عوامل داخلية تسببت بتحولات في المجتمع الصهيوني وعوامل أخرى خارجية.

ولعل استطلاع الرأي الذي أُجري في نهاية شهر أيلول (سبتمبر) 2012، ويشير إلى أن أكثر من نصف الصهاينة يخشون زوال الدولة العبرية في حال تورّطها في حرب إقليمية قادمة، يعطي مؤشرًا مهمًّا حول المزاج العام للصهاينة، لاسيما وأنه قد يفسّر جانبًا من تصاعد الهجرة العسكرية إلى خارج فلسطين.

وبحسب الاستطلاع الذي أجرته جامعة "تل أبيب" ونشرته صحيفة /هآرتس/ العبرية؛ فإن الغالبية العظمى من الصهاينة تتوّقع نشوب حرب قريبة مع طهران، في الوقت الذي يخشى فيه نصف سكّان الكيان الصهيوني على "وجود إسرائيل بشكل كبير"، انطلاقاً من قناعتهم بأن نزاعاً مع إيران من شأنه أن "ينهي الوجود الإسرائيلي في المنطقة". وتقول الصحيفة ذاتها إن النتائج التي أفضى إليها الاستطلاع "مفاجِئة ومُقلقة" بالنسبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي ادعى بأن ضربة وقائية على المنشآت النووية الإيرانية قد تكون ضرورية لمنع طهران من إنتاج قنبلة ذرية.

لكن نتنياهو عاد ليؤكد قلقه على "وجود" الكيان الصهيوني، ليقول في الرابع عشر من نيسان (إبريل) 2013 "إن إسرائيل تتعرض لتهديدات لمحوها من الوجود"، واصفًا تلك التهديدات بأنها "تُعد الأكبر بالمقارنة مع الفترات الماضية"، معلناً أن إستراتيجيته الأولى في الحكومة ستكون "ضمان مستقبل إسرائيل". الأمر ذاته حذّر منه رئيس "الكنيست" (البرلمان) الصهيوني (سابقًا)، رؤوفين ريفلين، واعتبر أن ثلاثة مخاطر تهدد وجود الكيان الصهيوني، معتبرًا إحدى هذه المخاطر "فقدان ثقة الجمهور الصهيوني بالأجهزة السياسية".

وقال ريفلين: "إن فقدان ثقة الجمهور بالأجهزة السياسية يشكل خطراً وجودياً لا يقل خطورةً عن التهديد الإيراني أو خطر الانهيار الاقتصادي". ونبه تحديداً إلى "خطر انتشار الآراء التي تدَّعي تحديد أجندات الوزراء والمسؤولين الحكوميين بناء على العلاقة بين رأس المال والحكم".

ويوضح عبد الستار قاسم في تصريحات خاصة لـ "قدس برس" تحول الكيان الصهيوني مما أسماه بمرحلة "التأسيس" نحو مرحلة "الاستهلاك"، معتبرًا أن الكيان الصهيوني كان في أوج قوته حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، إلا أنها بدأت تنحدر قوتها بعد ذلك من خلال الهزائم التي لحقت بها مع بداية القرن الحادي والعشرين سواء في جنوب لبنان أو حروبها الأخيرة في غزة التي لم تحقق أهدافها كما كانت سابقاً.

ويعتبر المحلل السياسي الفلسطيني أن "إسرائيل خرجت من مرحلة "التأسيس"، حيث كان هناك قيم اجتماعية رفيعة وعمل جماعي واسع وتعاون متبادل، وكانت تمتلك جيشاً قوياً ومجتمعاً متماسكاً يقدم الكثير من أجل هزيمة أعدائه، حيث إن هذه القيم لم تعد موجودة، و"إسرائيل" دخلت مرحلة "الاستهلاك" والبحث عن الرخاء وأصبحت تتصف بالتفتت والتمزق السياسي والاجتماعي، وذلك الحرص على قيم الدولة لم يعد موجودًا لدى "الإسرائيلي" الذي كان يموت في المواجهة وأصبح لا يتردد في حزم أمتعته والسفر للخارج، عدا عن الظاهرة العنصرية داخل المجتمع الصهيوني ما بين اليهود أنفسهم وكل هذا كان له التأثير على "الجبهة الداخلية" الصهيونية، وضرب النسيج الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع الصهيوني.

ومن الناحية الإستراتيجية؛ يعتبر قاسم أن الكيان الصهيوني فقد أبرز عناصر قوته الداخلية، أما في المحيط فقد ظهرت قوى عربية مختلفة عن الأنظمة التقليدية التي كانت توفر الحماية للكيان الصهيوني، وهذه الأنظمة التي كانت تنسق مع الكيان لم تعد قائمة ولم يعد الكيان الصهيوني قادرًا على القيام بمغامرات حربية غير محسوبة التوجه. ويضيف "المقومات الإستراتيجية لبقاء "إسرائيل" لم تعد قائمة، وأصبح كيانا غير قابل للاستمرارية والحياة، فهي دولة بمساحة صغيرة لا تحتاج لقوة هائلة لإهلاكها كقنبلة نووية، ولا يوجد لديها مقوم إستراتيجي قوي من ناحية عدد السكان أو المساحة، وميزان القوة العسكرية لم يعد بشكل دائمًا لصالحها وحتى إن قوتها الاقتصادية ومهما عظمت ستبقى دولة صغيرة وبحاجة للمساعدات".

وعلى الرغم من الأجواء "الاحتفالية" الصهيونية بذكرى إعلان دولة الاحتلال في فلسطين؛ إلاّ أنّ تلك الأجواء تفتقد لأهم مقوّمات ما يسمى "الاستقلال"، وهو الأمن، الذي أصبح مفقوداً في الكيان بعد حروبه الأخيرة مع فصائل المقاومة، التي برهنت عن مؤشرات ظاهرة للعيان في التوازنات الإستراتيجية، تراجعت فيها قدرة الردع التقليدية الصهيونية. الهاجس الأكبر الذي ينغّص على الصهاينة "الاحتفال" هو التطور السريع للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية, والتي تستخدم أنواعًا جديدة وفعالة في كل حرب جديدة معها، لاسيما وأن صواريخها سقطت في "تل أبيب" (تل الربيع)، وأصبحت تهدد مواقع حيوية وإستراتيجية.

وفي عمق المشروع الصهيوني يبدو التآكل الديموغرافي تحت السطح فيما بعد ستينية الاحتلال، ففلسطين المحتلة تشهد هجرة عكسية غير مسبوقة عبّرت عنها إحصاءات رسمية، اتضح فيها أنّ هجرة الصهاينة إلى فلسطين واصلت تراجعها في العقد الأخير إلى أدنى مستوى لها، على الرغم من كافة الجهود المحمومة لاستجلاب مهاجرين جدد. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إنّ الصهاينة المتواجدين في فلسطين يواصلون الهجرة إلى الخارج، أو الإقامة لفترات طويلة في بلدان أخرى.

اعلى الصفحة