|
|||||||
|
هل ثمّة تنافٍ بين انشغال العالِم الديني بالسياسة وشؤونها، أو بالعمل السياسي؟.. وهل يحطُّ العملُ السياسي من قدر العالِم ومكانته ويحدّ من دوره؟.. ثمّ أليس العملُ السياسيّ ـ بطبيعته ـ يستبطنُ ممارسات ومواقف ترتكز إلى سياسة اللفّ والدوران والصفقات ولعبة المصالح الشخصيّة، والسعي إلى الحصول على السلطة بأيّ وسيلة، ممّا يصطدم مع قيم الدين القائمة على الصدق والأمانة ونكران الذات وما إلى ذلك. ثمّ ألم يبرهن الواقعُ على أنّ التعصّب يسير جنباً إلى جنبٍ مع دخول الدين إلى ميدان السياسة، ولاسيّما أنّ العلاقات الدينية هي علاقات صراع وتنافر وحروبٍ واقتتال، ممّا يعني أنّ رجل الدين محمَّلٌ حُكماً بكلّ سلبيّات التاريخ، ممّا يجعل الواقع ينوء تحت ضغط أزمات التاريخ. ويُمكن أن يبرز السؤال: إلى أيّ مدىً يتمتّع "رجل الدين" بحصانةٍ قد تصلُ إلى مرحلة القداسة؟ بحيث يُصبح موقفُه يمثّل الحقّ، والرادُّ عليه رادٌّ على الله، ولا يُحاسبُ حتّى على جريمة موصوفةٍ، وما إلى ذلك... وبذلك يُصبحُ الدينُ حجر عثرةٍ أمام تطبيق القانون، ويتحوّل رجال الدين إلى طبقةٍ فوق القانون والنقد والحساب؛ وهذا بابٌ كبيرٌ من أبواب الفساد. هذه الأسئلة، وغيرُها تمثّل في هذه الأيّام جزءاً من خلجات النفوس، وحوارات الإعلام، وأحاديث الصباح والمساء، وهو ما يفر ض علينا طرحها في محاولةٍ لإثارة التفكير فيها بهدف توضيح المسار، ووضع النقاط على الحروف. السياسة سلوكٌ يحكُمُه الدينُ السياسة هي نشاط الإنسان في ميدان إدارة شؤون المجتمع نحو ما يحقّق مصالحه العامّة، ويطبّق مبادئه الكُبرى، ويحمي مكتسباته الأساسيّة، ممّا ينعكس على ذهنيّة المجتمع والفرد على حدّ سواء. ولذلك وجدنا أنّ ذهنيّة المجتمع تنطبع سلباً تبعاً للنظام السياسي؛ فإذا كان النظام قمعيّاً، فإنّ رضوخ المجتمع تحته يؤثّر في نظرة الناس إلى أنفسهم وإلى الحياة... وعلى العكس من ذلك؛ إذا كان النظام حُرّاً يعمل على حماية ثروات المجتمع وتفعيل طاقاتها، فإنّنا نتوقّع أن يكون الأفراد أكثر شعوراً بتقدير الذات، وبطموحٍ عالٍ، وسعيّ للتفوّق... وعلى هذا الأساس، فمن السذاجة اعتبار أنّ الدين ينأى بنفسه عن السياسة، ولا يتدخّل في وضع أسسها ومسارها؛ لأنّه في هذا يُناقضُ نفسه، عندما يطلب من الأفراد أن يجسّدوا قيم الصدق والشفافيّة والإخلاص والأمانة والاستقامة وما إلى ذلك، في الوقت الذي لا يهمّه أن يتحرّك نظامهم السياسي ضدّ كلّ ذلك، بما يعيقهم عن تجسيد ذلك، بل يمارس عليهم نوعاً من التربية التي تصوغ شخصيّاتهم في غير تلك الوجهة. بل يُمكن لنا أن نلاحظ أنّ السياسة ـ في التوجيه الديني ـ تمثّل جزءاً من مسار الإنسان في تأكيد القيم ، والأخلاق في حياته؛ لأنّ الشخصيّة لا تتجزّأ؛ فمن يعيش الأخلاقيّة في سلوكه الفردي، لا بدّ أن ينعكس ذلك على أدائه السياسي، والذي لا يعيش الأخلاقيّة في حركته السياسية، لن يكون في شخصيّته أخلاقيّاً، إلا أن تفرض عليه الظروف الخاصّة أن يسلك مسلك الأخلاق، في الظاهر لا الباطن والحقيقة. ولعلّنا نجد أنّ في حركة الصراع الذي قاده الأنبياء في وجه الطواغيت والظالمين والجبابرة والمُفسدين، تأكيداً لمبدأ أنّ السياسة ينبغي أن تتحرّك في خطى الأنبياء وتعاليمهم، لا في خطّ الطغيان والجور والإفساد في حياة الناس... وهذا هو مدلولُ مفهوم الخلافة عندما حدّد الله تعالى دور الإنسان على الأرض، وهو قوله تعالى: ﴿إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً﴾(1). بل لنا أن نفهم ـ ببساطة ـ أنّ كلّ التربية الإيمانيّة والأخلاقيّة للإنسان المؤمن، تستهدف صوغ الشخصيّة الإيمانيّة التي تتجلّى فيها القيم والأخلاق في كلّ سلوكها، وليس في ميدانٍ دون آخر... ولعلّه لذلك حدّد الله العدلَ كهدفٍ أساسيّ من إرسال الرسل وإنزال الكُتُب، وذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(2). إنّ معنى إبعاد الدين عن السياسة ادّعاء أنّ هناك نشاطاً إنسانيّاً لا يملك الدينُ حكماً له، أو رأياً فيه، أو توجيهاً له، وإنّ الرؤية الكلّية التي ينطلق بها أيّ دينٍ ينبغي أن تعبّر عن نفسها في تنظيمٍ لحركة المجتمع، وذلك هو الوجه السياسيّ بالدرجة الأولى. تجسيد الرسالة في السياسة ولذلك، فإنّ مسؤوليّة العالِمِ أن يحرّك مواقفه السياسيّة في خطِّ مبادئه، غير عابئٍ بأن يُحاربه كلُّ الناس، أو أن يُسجنَ، أو يضيّق عليه في معيشتِهِ، أو أن يُنفى من البلدِ؛ لأنّ علمَهُ بما يريدُه اللهُ تعالى، وإيمانه الراسخ بخطّ المسؤوليّة والحساب بين يدي الله، يفرضان عليه أن يواجه كلّ التحدّيات في ذلك الخط، وأن يكون النموذج الذي يُحتذى في تجسيد الحقّ والعدل والصدقِ؛ فإذا عمّت تلك الروح، كانت السياسةُ ـ حُكماً ـ بعيدةً عن حركة الشيطان، قريبةً من الله، مستدعيةً لبركاته ونعمِهِ، كما قال تعالى: ﴿ولو أنَّ أهلَ القُرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليْهِمْ بركاتٍ من السماءِ والأرضِ ولكنْ كذَّبوا فأخذْناهمْ بما كانوا يكسبونَ﴾(3). نعم، قد ورد في بعض الروايات ما يشي بأنّ على العالِم أن يبتعد عن السلطة، كما في المرويّ عن رسول الله (ص): "الفقهاء أمناءُ الرُّسُلِ ما لمْ يدخُلوا في الدُّنْيا ويتّبعوا السلطانَ؛ فإذا فَعَلوا ذلكَ فاحْذَروهُم"(4). ولكنّ الحديث على عكسِ ذلك أدلُّ؛ لأنّه يدلُّ على أنّ وظيفة العالِمِ والفقيهِ أن يكون أميناً على خطّ الرسل وتعاليم الرسالة، وتطبيقها في الحكم والحياة، ولذلك إذا خالفَ ذلك واتّبع السلطان، كان خائناً. أمّا إذا طبّق ذلك، وكانت السلطة لديه في خطّ الرسالة، فالعالِمُ قائمٌ بواجبِهِ ومسؤوليّته في هذا المجال. مرونة السياسة المبدئيّة ممّا لا شكّ فيه أنّ السياسة ليست حركة مثاليّة، تنطلق لتجسيد المبادئ دونما حسابٍ للواقع وضغوطاته؛ لأنّ معنى المثاليّة هو ابتعاد السياسة عن تحقيق المصالح، وتحويلها إلى حالة سذاجة لدى المتديّنين، يُفسحون في المجال أمام شياطين السياسة ليقيّدوهُم بمبادئهم، فيحصلون منهم على أسرار الدولة باسم الصدق، ويفرضون عليهم الهزيمة باسم الشفافيّة، ويضيّقون أوضاعهم الاقتصاديّة باسم الهروب من الربا، وخسارة الحكم باسم حُسن الظنّ بالآخرين... إنّ الإسلام نفسه يؤكّد أن الشريعةَ تهدُفُ إلى تحقيق المصالح العامّة، ودفع المفاسد الكُلّية؛ فإذا تصادمت المصالح والمفاسد على أرض الواقع، فتوقّف حفظ أسرار البلد على الكذب، وإنقاذ الغريق إلى الدخول إلى أرض الغير بغير إذنه، والنصر على الخديعة، وما إلى ذلك، تجمّد الحكم الأوّلي، وحلَّ محلّه حكمٌ ثانويّ يجيزُ للإنسان المؤمن أن يرتكب المحرّم من أجل تحقيق المصلحة العليا للمجتمع أو الأمّة، أو دفع الضرر عنهما. نعم، عندما يضغط الواقع في اتّجاه أن تتحوّل العناوين الثانويّة إلى قواعد ثابتة، فعندئذٍ لا يجوز ارتكاب المحرّم؛ لأنّ المفسدة المترتّبة على ذلك هي ضياعُ الحقّ، وفسادُ الدِّين. فمسألة العناوين الثانويّة خاضعةٌ لما يسمّى بفقه الضرورة، أو بفقه الحالات الاستثنائيّة، التي لا يمكن أن تعبّر عن شرعيّتها عندما تتحوّل إلى حالات دائمة. فالمبادئ لا تقيّد الإنسان المؤمن، ولا تجعله أحاديّ الوجهة، بل تسمح بحالة من المرونة في بعض الحالات، لتترك الإنسان المؤمن منسجماً مع مبادئه حتّى وهو يرتكب المحرّم الأوّلي، حفاظاً على المبدأ في ذلك أيضاً. بين السياسة والعِلم لقد استخدمنا مصطلح "عالِمِ الدين" للتأكيد على الصفة البارزة لشخصيّته، وهي الصفة المرتبطة بالفكر والثقافة والدعوة؛ ممّا يفرض على عالِمِ الدين أن يوازن بين عمله السياسي، وبين دوره التثقيفي والدعوي؛ لأنّ المجتمع في حاجةٍ إلى تنظيرٍ لحركته السياسية، لكي يفهم القواعد التي ترتكز عليها المواقف السياسية، وحركة الصراع بين القوى، وما إلى ذلك؛ ولاسيّما عندما تتعقّد الأمور، وتتشابك الأحداث، وتتحرّك الفتن؛ فإنّ فقدان المجتمع لهذا النوع من التنظير يُفقده عنصر الاستمراريّة في تطبيق المبادئ من قبل الأجيال اللاحقة، وبذلك يتنازل مستوى الخبرة والوعي للموقف الإسلامي من الأحداث. ومن هنا وجدنا أنّ الإسلام اعتنى بالفئة المفكّرة في الأمّة، وجعلها المسؤولة عن استمرار القيم في حياة الأمّة والمجتمعات، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(5)؛ فإنّ فقهَ الدين فهمُهُ، والدينُ واسعٌ سعةَ الحياة والمواقف التي يتطلّب فيها الإنسانُ الحذر من مخالفةِ أمرِ الله، وهذا يشملُ فهمَ الواقع السياسي، وحركة الصراع، وتحديد الموقف منها انطلاقاً من القواعد الإسلاميّة. يقول السيّد فضل الله في شرحِهِ للآية: "فلا بد من أن يكون هناك جماعةٌ تتخصَّصُ في الأمور الدينية لتحفظ للأمة وعي دينها من خلال المعرفة الواسعة في أمور العقيدة والشريعة؛لأنَّ ذلك هو الأساس لانطلاقة الحياة في سبيل الله على هدى الإسلام بعيداً عن كل انحراف أو طغيان في ما يمكن أن يحدث من خلال الجهل الذي يستغلّه المستغلون، فيصورون الحقَّ بصورة الباطل، وبالعكس، فيتبعهم الجاهلون؛ لعدم وجود من يميّز بين الحق والباطل في ساحة المعرفة الحقّة"(6). لقد استمرّ المجتمع إسلاميّاً، بعد رسول الله (ص)، من خلال أهل البيت والصحابة الكرام، الذين كانوا يطبّقون القرآن والسُّنَّةَ على كلّ واقعةٍ مُستجدّةٍ، ومن دون ذلك، لم يكن في إمكان الإسلام أن يستمرَّ؛ لأنّ الدينَ لا يستمرّ بوجودِهِ الكَتْبيْ، أعني وجود الكتاب المجيد فقط، وإنّما يحتاجُ إلى رجالٍ يملكون علمَ الكتابِ، يبيّنون للناس مواقع تطبيق آياته على كلّ مفردةٍ وواقعةٍ، حتّى يرى الناسُ الآية في الواقع وهم يتلونَها في صحفِ القرآن.. وهذا ما لمحناه أصلاً في دور النبيّ (ص) الذي بيّنه القرآنُ نفسُه، فقال تعالى: ﴿هُوَ الذي بَعَثَ في الأمِّيِّينَ رسولاً مِنهُم يتلو عليهِمْ آياتِهِ ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهُمُ الكتابَ والحِكْمَةَ﴾(7) فبيَّنَتْ أنّ دورَ النبيِّ(ص) هو تعليم النظريّة ومنهج التطبيق المتمثّل بالحكمة. على أيّ حالٍ، فكما لا ينبغي للمجتمع أن ينفرَ إلى ساحات الجهاد، بحيث تخلو الساحة من قادة أنواعٍ أخرى من الجهاد لا يُمكن الاستغناء عنها، فإنّه لا ينبغي على العلماء أن ينفروا جميعاً إلى السياسة، بحيث ينسون أدوارهم الأساسيّة التي إنّما اضطلعوا بها من موقع تخصّصهم في علوم الإسلام، وإذا تركوها فليس هناك من يقومُ بها، وفي هذا نقصٌ كبيرٌ لتكامل المجتمع وتطوّره. وإنّنا في هذا المجال، نؤكّد على خطأ الفكرة القائلة بأنّ عالِم الدين لا يصحُّ له أن ينخرط في العمل الحزبي؛ إلا أنّ طبيعة انخراطه تقوم على أساس الموازنة بين دوره كعالِمٍ بأمور الدين، وبين دوره في صون التطبيقات الشرعية في العمل الحزبي والسياسي؛ فدورُهُ الأوّل يحتّم عليه أن يقوم بعمليّة التثقيف للقواعد الحزبيّة التي تحتاجُ إلى علمِهِ، في حين يفرض عليه دورُهُ الثاني أن يُمارس دور الناقد ـ في إطار حفظ الانتظام العامّ ـ لأيّ خللٍ قد يجده في التطبيقات العمليّة للأحكام الشرعية؛ وبذلك يستمرّ الحزبُ إسلاميّاً في القاعدة الإيمانيّة الشعبيّة، وفي العلماء الذين يواكبون حركة الثقافة الإسلاميّة لدى الجماهير، كما يحمون المسيرة التنظيمية من أيّ انحرافٍ قد يبدأ صغيراً، ويغدو كبيراً عصيّاً على التصحيح في نهاية المطاف. عالِمُ الدين تحت الشرع يمتاز عالمُ الدين على سائر أبناء المجتمع بعلمِهِ، وهي درجةٌ قد رفعه اللهُ تعالى بها حيث قال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(8)، وإنّ أمّةً لا تُعظمُ احترام علمائها هي أمّةٌ لا تملك جذراً عميقاً تجاه المتغيّرات، ولا في خطوط التطوير التي يحتاجها أيّ وجود إنسانيّ بهدف تأمين ديمومته واستمراره. إلا أنّ هذا الامتياز يمثّل درجة أعلى من المسؤوليّة؛ لأنّ معرفة العالِم بخطوط الشريعة تفرض عليه أن يكون أوّل المطبّقين لها عمليّاً، كما قال تعالى عن نبيّه الأكرم (ص): ﴿وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾(9)، وقد روي عنه (ص) في آخر حياته أنّه قال: "والذي بعثني بالحقِّ نبيّاً لا يُنْجي إلا عملٌ مع رَحْمَةٍ، ولو عصيتُ لهويتُ"(10). إنّ رجل الدين مكلَّفٌ كسائر المكلّفين، وهو المسؤولُ الأوّل عن تطبيق الشريعة على نفسه، بل إنّ دوره هنا أخطرُ من غيره؛ لأنّه يُعطي النموذج السيّئ الذي يكفُرُ من خلاله الناس بالدين نفسِه، فيكون حجّةً للناسِ ضدَّ الإسلام، بدلاً من أن يكون حجّةً للإسلام. وربّما نقول هنا إنّ على الحكومة الإسلاميّة أن تحاكم علماء الدين بأشدَّ ممّا تحاكم به غيرهم، وأن لا تتهاون في ذلك؛ لما أشرنا إليه من خطورة تأثيرهم على قيم الإسلام نفسه، من دون أن نبرّر ترك ذلك تحت اعتبارات أنّ ذلك يؤثّر على احترام المجتمع للعلماء، أو التأثير على قداستهم، أو ما إلى ذلك؛ لأنّ على الناس أن يميّزوا بين علماء الدين العاملين وبين علماء الدين الذين يستغلّون الدين لمصالحهم وأهوائهم؛ فإنّ إفقاد الناس القدرة على التمييز، فضلاً عن إضفاء القانون نفسه حمايةً لهؤلاء بما يؤدّي إلى تقديس الأخطاء وتبريرها، مفسدةٌ عظيمة، وإهلاكٌ للأمم، وهو ما أشار إليه النبيُّ الأكرم (ص) في قوله: "إنّما هلك الذين ممّن كانَ قبلَكُم أنّهُ إذا سرقَ فيهم الشريفُ تركوهُ، وإذا سرقَ فيهم الضعيفُ قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمةُ بنتُ محمَّدٍ لقطعتُ يدَها"(11). وقد رأينا في كثير من تجارب الحاضر، أنّ الإصرار على حماية المتزيّين بالزيّ الديني من المحاسبة أو المحاكمة أو النقد، باسم المحافظة على قداسة الزيّ الديني من هتك حرمته، قد جعل كثيراً من هؤلاء يتمادوْنَ في غيّهم وفسادهم؛ والزيّ إنّما يمنح العالِمَ احتراماً من خلال علمِهِ، والقداسة يمنحها الناسُ للذين اختبروا عملهم بعلمِهِم في مختلف الظروف والأحوال. ولقد رأينا كيف أنّ كلّ مذهبٍ إسلاميّ بات يعتبرُ أنّ قداسته من قداسة المتزيّين بزيّه الديني، حتّى بات نقدُهم أو محاسبتهم أو محاكمتهم موجّهةً إلى المذهبِ نفسِهِ، فحمى المذهبُ من يندرجون في نطاق الكسبةِ ومروّجي الفتن وضعفاء النفوس، وممّن لا يعرفون الحقّ، أو إذا عرفوه لم يثبتوا عليه أمام السلاطين والجبابرة ومشاريع القوى الضالّة والمستكبرة... وبذلك دخل المسلمون في شرك حماية التخلّف باسم تقديس العلماء، وفي أتون الفتنة باسم المحافظة على رموز المذهب، وفي استعداء بعضهم بعضاً باسم الأولويّات المنكوسة التي يزيّنها العلماء غيرُ العاملين لديهم. وممّا يؤسف له، أنّنا أصبحنا نجد، في لحظة تعقيد المواقف، وبروز حالات التطرّف في الخطاب الديني إلى حدّ استسهال سفك الدم وهتك الأعراض، أنّ العقلاء من أهل العلمِ يزايدون على أولئك المتطرّفين؛ باعتبار أنّهم إذا لم يفعلوا ذلك، خسروا القواعد الشعبيّة، التي غالباً ما يحرّكها الانفعال والعصبيّة، انطلاقاً من ضعفِ بنيتها العلميّة والثقافيّة. وبدلاً من أن يرتقي العلماء بالقاعدة الشعبيّة إلى مواقع العلم والتبصّر، حتّى لو لم تقبلِ القاعدةُ في بادئ الأمر، رأيتهم ينظّرون للقاعدة أن تبقى في جهلها، وأن تنقاد إلى انفعالها، وأن تتحرّك في خطّ غرائزها وعصبيّاتها؛ وبذلك لا تستفيد الأمّة من علم العلماء، ولا يحوز العلماء على ثقة الناس؛ لأنّ الذي يترك العمل بعلمِهِ يخالفُ الصورة المثاليّة للعالِم في ذهنيّة الناس، وبذلك يفقد احترامه على المدى البعيد، حتّى لو أرضى مزاجهم في المدى القريب. ولعمري كيف يُمكن أن ننظّر لهذا النوع من التقديس ونحن نروي ذلك الموقف الرائع من الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، وقد تحاكم هو ويهوديٌّ أمام القاضي المعيّن من قبل عليّ(ع)، فلم يرضَ عليٌّ(ع) أن يكنّيه القاضي وينادي اليهوديّ باسمه، حتّى حكم القاضي أخيراً لليهوديّ؛ لفقدان عليّ(ع) البيّنة، وليس يدري المرء كيف يُمكن تقبّل مثل هذا الموقف في هذا الزمان! عالمُ الدين تحت النقد عندما نقرأ في (نهج البلاغة) مقولةً لعليّ (ع) ـ وهو يضعُ القاعدة العامّة لعلاقة القاعدة الشعبيّة بالحاكم، وكذلك بالعالِمِ بالدينِ ـ: "فلا تكلّموني بما تكلَّمُ بهِ الجبابرةَ، ولا تتحفَّظوا منّي بما يُتحفّظُ به عندَ أهلِ البادرةِ، ولا تخالطوني بالمصانعةِ، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيلَ لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي؛ فإنَّهُ من استثقل الحقَّ أن يُقالَ له والعدل أن يُعرض عليه كان العملُ بهما أثقلَ عليه. فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقٍّ أو مشورةٍ بعدلٍ..."(12)، نستخلص أنّ العالِم الواثق من علمِه، المُخلص لرسالته، هو الذي يُغري القاعدة بنقده، فالنقد ليس مشروعاً في الإسلام فحسب، بل هو مطلوبٌ، وعلى الحاكم، أو القائد، أو العالِم، أن يرعاه، وينظّم له أُطره، حتّى يتحرّك في خطّ النفع للمجتمع، والنُصح للحاكم والعالم؛ بل إنّ تعويد القاعدة على انتقاد القيادة، وتنظيم ذلك، من شأنه أن يرفع من مستوى القاعدة، ويمسّكها للقواعد والأطر النظرية التي تكفل استمرار المبادئ بعد غياب القيادة؛ لأنّها تهيّئ الأرض لقيادات تفكّر مع القيادة. العصبيّة ليست ديناً يبقى أنّ الدعوة إلى العصبيّة هي دعوةٌ ضدّ الدين، وعالمُ الدين هو الذي يدعو الناس إلى الالتزام بمبادئها بانفتاحٍ، وبتعاونٍ مع الآخرين في الخطوط المشتركة، والقضايا الكُبرى، وما إلى ذلك من قيمٍ لإدارة الاختلاف مع الآخر. كما قال رسول الله (ص): "ليسَ منّا من دعا إلى عصبيَّةٍ، وليسَ منّا من قاتلَ على عصبيّةٍ، وليسَ منّا من ماتَ على عصبيّةٍ"(13). وبالعمق، فإنّ العصبيّة هي نوعٌ من التعبّد للعنوان والإطار بعيداً عن القيم التي تعطي العنوان والإطار شرعيّة؛ فكلّ من يتعصّبُ لشيء بعيداً عن الحقّ والعدلِ وخلال الحمد، فهو يُشرك بعبادة ربّه غيره. كما أنّ العصبيّة على أساس استعادة التاريخ ليست شغلَ العالِم، الذي يعلّم الناس أنّ التاريخ مسؤوليّة الذين صنعوه، وأنّ علينا أن نصنع تاريخنا لا أن نتحزّب، ليكون بعضُنا حزب الصحابة، وبعضُنا الآخر حزب أهل البيت، وكأنّ الصحابة وأهل البيت لم يديروا اختلافاتهم بما حفظ الإسلام، وحمى مسيرته عبر الأجيال؛ لنأتي نحن بعد قرونٍ ليقتل بعضُنا بعضاً باسم الدفاع عن هؤلاء وأولئك.. إلى هنا نستطيع أن نخلص إلى النقاط الآتية: 1- للعالِم دورٌ مهمٌّ في حركة السياسة في المنظور الإسلامي، سواء من جهة التثقيف بالنظريّة الإسلاميّة، أو من جهة التطبيق للنظرية الإسلامية على مفرداتها في الواقع. 2- لا ينبغي أن يستغرق العالِم في المفردات السياسية، بحيث لا يحرّك علمه في ضبط المسار والرؤية، ولذلك فالنقدُ للواقع القائم وقراءته بعمقٍ جزءٌ لا يتجزّأ من مسؤولية العالِم. 3- العالِمُ ليس فوق الشرع؛ بل أوّل الخاضعين له، وليس فوق النقد؛ بل الذي يُغري الآخرين به. 4- العصبيّة ليست من الدين، والتاريخ مسؤوليّة صانعيه، والعالِمُ الحقُّ هو الذي يعلّم الناس كيف ترتكز إلى جذورها في التاريخ، لتأخذ منه العبرة والدرس، من أجل أن تستمرّ في صناعة التاريخ، وفي صون الرسالة، وفي حماية المسيرة من كلّ العابثين والطامعين وتجّار الدين. هوامش: 1- سورة البقرة، الآية 2- سورة الحديد، الآية 25. 3- سورة الأعراف، الآية 96. 4- كنز العمّال: 28952. 5- سورة التوبة، الآية 122. 6- فضل الله، السيد محمد حسين، تفسير من وحي القرآن، ج11، ص 243. 7- سورة الجمعة، الآية 2. 8- سورة الزمر، الآية 9. 9- سورة الزمر، الآية 12. 10 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج22، ص467. 11- المتقي الهندي، كنز العمال، 6497. 12- نهج البلاغة، ج2، ص201. 13- سنن أبي داود، 5121. |
||||||