|
|||||||
|
لم يكن متوقعاً لعالِم كسماحة العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمة الله عليه إلا أن ينهي حياته بالشهادة. ذلك أنها اختيار من الله سبحانه وتعالى ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾(آل عمران: من الآية140). وعالم بمستوى سماحة الشيخ الشهيد عِلماً وتقوى وفهماً ووعياً واستقامة وحكمة واستعداداً للجهاد في سبيل الله مهما غلت التضحيات والعمل على تبيان الحكم الشرعي المستنبط من مداركه المقررة لا تأخذه في ذلك لومة لائم. والخروج من العصبية القبلية إلى رحابة الإسلام وسماحته واحتضانه لكل من كان تحت رعايته بالرحمة ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى دين الإسلام الذي ما أرسل الله به رسوله(ص) إلا رحمة للعالمين. السؤال الأول والأهم هو: لماذا قتلوا سماحة الشيخ الشهيد البوطي؟ - قتلوه لأنه درع حصين يحمي الأمة الإسلامية ويصون حريتها. - قتلوه لأنه عالِمٌ أراد أن يُعطي للإسلام معناه الحقيقي، أي دين التسامح والمحبة والرحمة وفهم الآخر. - قتلوه لأنه أراد أن يطبق قوله تعالى:﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(البقرة: من الآية 256) - قتلوه لأنه عَلِمَ أولويات الإسلام وعرف أن الأولوية الأولى هي لقتال العدو الصهيوني فرفض أية معركة أخرى تلغي معركتنا أو تضعف جبهتنا مع العدو الصهيوني. - قتلوه لأنه أراد أن يعلم الشعب في سوريا والمسلمين في العالم أن الحرب التي تشن على سوريا ليست حركة إصلاحية داخلية تستهدف الإصلاح ومنع الفساد وطلب الحرية وإنما هي حرب كونية ضد سوريا الدولة والنظام والنهج المقاوم والممانع. - قتلوه لأنه قال إن المسلمين أمة واحدة ولا فرق بين المسلمين إلى أي مذهب انتموا، وأن السنة والشيعة وكافة فرق المسلمين هي اجتهادات تدعو للتكامل وليس للتفاضل والفرقة والاحتلال. - قتلوه لأنه قال أننا نؤمن بالإسلام كما علمنا إياه رسول الله (ص) وليس كما تصوره لنا الولايات المتحدة الأمريكية. - قتلوه لأنه فضح الفكر التكفيري الوهابي وأعتبر أن السلفية مرحلة زمنية تاريخية وليست مذهباً مستقلاً. - قتلوه لأنه نجح في امتحان المال فرفض المغريات المادية المجزية التي عُرضت عليه ليلتحق بركب من أرادوا أن يكونوا في خدمة دول الخليج كقطر وغيرها. - قتلوه لأنه رفض التأطر ضمن أحزاب تحول الدين وسيلة في خدمة الحزب لا أن يكون الحزب وسيلة في خدمة الدين ونشره، وبالتالي لأنه رفض التعصب الحزبي كما رفض التعصب المذهبي ورفض أن يتحول الحزب وزعيمه صنماً يُعبد بدل الدين والله. والسؤال الثاني: ما هو الأثر المترتب على عملية الاغتيال الآثمة هذه؟؟ ظن الحاقدون المجرمون الممولون من الطغاة والمستكبرين أنهم بقتله سيخمدون صوته وبالتالي ينقطع تأثيره ليهيمن فكرهم التكفيري الوهابي.. ولكنهم خسئوا.. وفشلوا، فالشيخ الشهيد رحمه الله مستمر في نهجه من خلال تلامذته وكتبه ونهجه ودروسه وخطبه المسجلة والتي ستبقى تقض مضاجعهم وتقضي على مشروعهم وتبدد أحلامهم. لقد عمل هؤلاء بإيعاز أمريكيٍّ صهيونيٍّ كي يثيروا الفتنة المذهبية ويصوروا أن المعركة هي معركة بين السنة والشيعة أو بين السنة والعلويين، فإذا بهم من خلال تورطهم بدم هذا العالم الجليل يفشلون في مشروعهم هذا، فيتحول الصراع من صراع مذهبي كما أرادوه إلى صراع بين نهجين: بين الحق والباطل، الخير والشر، النهج المقاوم الممانع والنهج المستسلم الخانع، بين نهج يريد تحرير فلسطين ووحدة العالم الإسلامي ونهج يريد بيع فلسطين وإجهاض قضيتها وتقسيم العالم الإسلامي. لقد وصل الجناة إلى مرحلة لم تعد هناك لديهم أية حرمة لأي مقدس من مقدسات الإسلام، وقتلوا الإنسان الذي حرم قتله الله سبحانه وتعالى: ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾(المائدة: من الآية 32). وانتهكوا حرمة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء والذين وإن اختلفنا معهم في الرأي فإن ذلك يكون مدعاة للحوار لا للقتل، وانتهكوا حرمة بيت الله فقتلوه في بيت من بيوت الله عز وجل، وانتهكوا حرمة المصلين الذين هم في ضيافة الله وبين يدي الله عز وجل، وانتهكوا حرمة القرآن فمزق وحرق بتفجيرهم هذا، وأسكت صوت قارئه وشارحه. كل هذه الانتهاكات ستفتح باباً أمام الأمة الإسلامية للتفكير في طبيعة هذه الجماعة وأهدافها ومن هم بخدمته من دول لا تريد لأمتنا ولا لديننا الخير ولا تريد تحرير فلسطين بل يريدون التملص من القضية الفلسطينية وإزاحة عبئها عن كاهلهم. إنّ فَضْحَ مشروع هذه الجماعة من قِبل سماحة الشيخ الشهيد البوطي (رحمه الله) لم يقتصر على ما كَتَبَه من كتبٍ ولا ما درسه وخطب به بل تحول دمه واستشهاده سبيلاً لفضحه والتشهير به وتوعية الأمة الإسلامية على أخطاره. إن المعركة اليوم في سوريا هي معركة فاصلة فأما أن ينتصر نهج المقاومة والممانعة وإما أن ينتصر نهج المساومة والاستسلام. وفي هذه المعركة جنَّدنا أنفسنا كي نكون شهداء وفي سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل ووضع أسس بناء الدولة العادلة التي يعيش بها الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم بحرية وكرامة وعزة، دولة لا مكان فيها للظلم والفقر والإذلال والإهانة. وفي هذا الطريق نحن معرضون لشتى أنواع المخاطر وهو ما وعدنا الله به: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾(الأنفال:7).. الطريق الذي خطه رسول الله(ص) في مواجهة مجتمع الكفر وتعرّض في سبيل ذلك لأذية واسعة قال هو نفسه عنها: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، وعلى هذا النهج استشهد أمير المؤمنين علي(ع) في المحراب، وكان((شهيد المحراب الأول))، وقال عندما هَوى عليه اللعين ابن ملجم بتلك الضربة: "فزت ورب الكعبة"، وعلى هذا الطريق استشهد الشهيد السعيد السيد عبد الحسين دستغيب في المحراب أيضاً فكان ((شهيد المحراب الثاني))، وعلى هذا الطريق استشهد سماحة الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ليكون((شهيد المحراب الثالث)). وللمحراب رمزية مهمة فهو المكان الذي يقدم فيه المؤمن قربانه لله سبحانه وتعالى من خلال الصلاة، كون الرسول(ص) قال: "الصلاة قربان كل تقي" فكيف إذا كان القربان ليس مجرد ذلك الكلام المنطلق من الروح بل هو كل الروح والجسد الذي يحتويها كي ترتفع إلى بارئها المشتاقة إليه والمشتاق إليها. إلى شيخنا الشهيد أقول: أما أنت فقد استرحت من الدنيا وهمها وبقينا نحن مع هؤلاء المنحرفين والجناة نواجههم على دربك حتى إدراك إحدى الحسنيين. وفقنا الله كي نسير على دربك وننال المرتبة التي نلتها عند رب العالمين مع الأنبياء والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا. رئيس الهيئة الإدارية في تجمع العلماء المسلمين(*) |
||||||