|
|||||||
|
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه المنتجبين. وبعد، فإن النبوة هي الأصل الثاني من أصول الدين، بعد التوحيد الذي يتفرع منه العدل على رأي، ويتفرع أصل الإمامة من أصل النبوة بحسب معتقدات المسلمين الشيعة الإمامية، وتنتهي الإمامة إلى الإمام الثاني عشر المهدي (عج) من وُلد رسول الله الأعظم محمد (ص)، الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظُلماً وجوراً، وهو يُعرف في الأديان السماوية وبعض الأديان الوضعية باسم المخلِّص. وتشكل الولاية الشرعية المصطلح الذي يُعبِّر عن حاكمية الله تعالى لعباده، من خلال رسله وأنبيائه وأوليائه، وهو مصطلح خطير ومهم جداً في حياة الإنسان كفرد، وكمجتمع، وكأمة، بل في حياة البشرية جمعاء. أولاً- الولاية أعمُّ من النبوة والإمامة لقد خلق الله الإنسان ليميِّز الحسن من القبيح، فيختار الحسن ويسلك في دروبه، وينكر القبيح ويبتعد عن سلوكه، فيتكامل بإتباعه الأمر الحسن بل الأحسن والأصلح، وعندما يتكامل الإنسان فردياً لا يقف عند حدود شخصه الكريم، بل يتعداه إلى أرحامه وأقاربه وجيرانه وزملائه وأهل قريته ومدينته ووطنه وكل العالم من حوله، فينتقل من السعي الدائم نحو الكمال الاختياري الفردي إلى السعي الدائم نحو الكمال الاختياري الفردي والجماعي أو الاجتماعي، وصولاً إلى أوسع دائرة ممكنة. وهذا يستدعي أن يرعى الله تعالى مخلوقاته ويُبيِّن لهم الطريق الذي يجب أن يسلكوه في الحياة، والطرق إلى الله وإن تعدَّدت على مستوى الأفراد بحسب التكوين النفسي والمقدرة العقلية الفعلية لكل منهم، إلا أن هناك ضوابط عامة، ومفاهيم دقيقة، وأحكام تشريعية تفصيلية، تهدي الناس إلى الصراط المستقيم، وصولاً إلى جنات النعيم، أتى بها الرسل والأنبياء، وطبقوها على أنفسهم قبل أن يدعوا غيرهم إليها، وكانوا النموذج والقدوة والنبراس. والولاية أعم من النبوة والإمامة وولاية الفقيه العادل الخبير، فهي تسري عمودياً في كل هذه المصطلحات التي تجسِّد المعاني الكبيرة، والتي تتعلَّق بالمقدَّس البشري، الذي يرعى ويدعم الوحيُ الإلهي نشأتَه ومسيرتَه ومصيرَه. والواقع أن ولاية الأنبياء والأئمة والأوصياء مستمدة من ولاية الله تعالى، فإطاعة العادل الذي يحكم بما أنزل الله هي إطاعة لله، ونكرانه ومحاربته محاربة لله تعالى، الذي نعتقد أنه الكمال المطلق، وما يعني ذلك من عدالة وثواب وعقاب، ورحمة على المؤمنين بالخير المطلق، والداعين إليه، ونقمة على الكافرين بالخير المطلق، والمفسدين في الأرض، والقاتلين للنفس المُحترمة بغير حق، وحبٍّ في الله وبغضٍ في الله، وهدايةٍ للبشر إلى الصراط المستقيم. وعندما لا تنفع هذه الوسائل فإن الله ينبِّه الناس بوسائل أخرى كالابتلاء. والواقع أن هناك دليلاً عقلياً يشكل فلسفة واحدة لمسألة النبوة والإمامة وولاية الفقيه، فالشرع المقدَّس لم يرضى بترك الناس بدون نموذج وقدوة ومرشد وقائد، يكون هو الأعلم والأعدل والأخبر وبالتالي الأصلح في هداية الناس وإدارة شؤون الأمة، فأرسل الأنبياء والرسل، وأخلفهم بالأوصياء، والأولياء. فبعثة الأنبياء حاجة وضرورة بشرية، ورحمة ونعمة إلهية، إذ إن من البديهي أن القائد المعصوم من أعظم النعم الإلهية التي يمكن أن تتوفر للمجتمع، حيث تُعالج بواسطته الكثير من المعضلات والاضطرابات الاجتماعية، ويتم إنقاذ الأمة من الاختلاف والتنازع والفوضى والانحراف، ليقودها باتجاه كمالها المنشود. وهناك فرق بين الولاية التشريعية والولاية بمعنى الحكومة والقيادة، فالمشرِّع الوحيد هو الله تعالى، أما الأنبياء والأئمة (ع) والأولياء فهم مبلِّغون لشرع الله ومبيِّنون له، وولايتهم تقع ضمن حدود إجراء القوانين الكلية وتطبيقها على الأمور الجزئية، وتنصيب المنفذين لهذه القوانين الإلهية. إن حدود الولاية بمعنى الحكومة تقع ضمن دائرة التطبيق، ولا تتدخل في أصل التشريع، ووضع القوانين. فالولاية بمعنى الحكومة هي حكم إلهي، فكما أن الله أوجب الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك فقد أوجب إطاعة الناس لأشخاص محددين إما بالاسم (كالأئمة (ع))، وإما بالصفات (كالولي الفقيه). وللنبي شخصيات متعددة، فهو المرجع الديني الذي يبلِّغ الوحي ويشرح الرسالة، والسياسي الذي يقود الأمة ويشخص مصالحها العليا وأولوياتها، والجهادي الذي يخطط ويقود المعارك والعمليات الأمنية والعسكرية، والقضائي الذي يفصل بين نزاعات الناس. كان النبي محمد(ص) الحاكم الشرعي، العالم بالإسلام، العادل، الخبير في الشؤون الاجتماعية والقضائية والسياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، والمتصدي لشؤون المسلمين، الذي يلي أمورهم. كان يحكم بما أنزل الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(1). وبالتالي فإن مسؤولية شرعية كبيرة تقع على عاتق المكلفين من البشر، نساءً ورجالاً، فمن يُعارض حكم النبي ويُخالف تعاليمه بعد أن يتثبَّت من نبوَّته، يخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الجحود والنكران. وصحيح أن الحاكم الشرعي هو القائد الأعلى للأمة، ولكنه ينطلق من الوظيفة الشرعية، وليس من المزاجية الشخصية، وإلا يفقد صفته الشرعية. إن المتصدي لشؤون المسلمين، الذي يلي أمورهم، ويشخِّص مصلحة المسلمين العليا في كل زمان ومكان، يجب أن يحكم بما أنزل الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(2). ولا بد من أن يكون القائد مجتهداً، عادلاً، مديراً، مدبراً، خبيراً في الشؤون السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، ذا رأي وبصيرة، قد عرفه الناس، ويُظهرون الرغبة فيه، والإقبال عليه. وإذا كانت الحِكمة الإلهية تقتضي أن يرسل اللهُ للناس الأنبياء، ليكونوا لهم القادة والقدوة والنموذج الذي يُحتذى، فهل يُعقل أن يترك النبي محمد(ص) الأمة الإسلامية دون وصي يقوم بنفس الدور؟ وهل يُعقل أن يترك الإمام الناس من بعده دون وصي يقوم بنفس الدور؟ لقد أوصى الأئمة(ع) بالرجوع إلى علماء الدين المخلصين من بعدهم، والذين يتمتعون بصفات هي الأقرب إلى صفات الأنبياء والأوصياء(ع)، وذلك كي لا يضيع الدين، ولا يتيه الناس، ولا تمتلئ الأرض بالفساد، فيختل النظام العام، أو يصبح بيئة ضلال وفساد وإفساد، تسوده شريعة الغاب. ولا بد للولي من أن يصبح نافذ الكلمة، فلا يجوز لأحد، حتى لو كان مجتهداً، أو مرجعاً دينياً، أن يتبع شخصاً آخر في الأحكام التي تتعلق بالأمة، لأن الولي الفقيه هو السلطان الشرعي، الذي لا بد له من أن يدافع عن حدود الإسلام والوطن الإسلامي، وهذا يتطلَّب أن يكون مبسوط اليد، وعنده قوة، ومناعة، وسلطة، ودولة، وجيش، وسيادة، وأتباع، بحيث يستطيع أن يقود الأمة بشكل طبيعي، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(3). ثانياً- الدليل على النبوة إن الاختيار الواعي والشعوري، ووجود الميل والدافع الداخلي لدى الإنسان، وحاجته للقدرة على ممارسة العمل، وتوفر الظروف والأجواء الخارجية لممارسة الأعمال المختلفة، أمور وإن كانت مطلوبة إلا أنها غير كافية، فالإنسان يحتاج أيضاً إلى المعرفة الصحيحة حول الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة، والطرق والأساليب والوسائل الصالحة وغير الصالحة، حتى يتمكن من اختيار طريق تكامله بكل حرية، ووعي، ومعرفة بالهدف، وطريق الوصول إليه، وبالعقبات التي تعترض تقدمه، والانحرافات التي تحرفه عن مساره وتبعده عن هدفه. إن معارف ومدارك البشر العادية والمتعارفة، والتي يحصل عليها الإنسان نتيجة التعاون بين الحسِّ الذي يشكل وسيلة لتحقيق الإدراك الأولي للمحسوسات الموجودة في الطبيعة، والعقل الذي يُدرك المفاهيم الكلية للأمور، ويدرك أضدادها كالكرم والبخل، والشجاعة والجبن، والسعادة والشقاء، فمصادر المعرفة هذه وإن كان لها دور فاعل في توفير ما يحتاج إليه في حياته التكوينية الفيزيولوجية والفيسيولوجية، ولكنها لا تكفي في التعرف على طريق الكمال والسعادة الحقيقية، فالمعرفة البشرية قاصرة في جميع المجالات الفردية والاجتماعية، والمادية والمعنوية، والدنيوية والأخروية. وبالتالي لا بد من طريق آخر للبشر من أجل التعرف على طريق الكمال في كل المجالات، وهو طريق الوحي الذي ثبتت ضرورته لتحقيق الهدف من خلق الإنسان، سواء منهم الأنبياء أو البشر العاديين. ويؤيد ما توصل إليه العلم الحديث في مجال التربية وعلم النفس هذا الدليل، فوجود القدوة في المنزل والعمل والمجتمع هو من أهم العوامل التي لها تأثيرها الفاعل في التربية، وفي تعليم الناس وتزكية نفوسهم ورشدهم وتكاملهم، ورقي المجتمع وازدهاره، وبناء الحضارة واستمرارها. والأنبياء الذين يمثلون الإنسان الكامل، والذين نشأوا في ظلال التربية الإلهية، يقومون بذلك خير قيام. ونحن نعلم أن القرآن الكريم قد قرن بين التزكية والتعليم في الذكر، وحتى أنه في بعض الآيات يقدم التزكية على التعليم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾(4). والنبوة في الفكر الإسلامي هي عمل طبيعي ينسجم مع الفطرة الإنسانية، فالإسلام يؤكد على أهمية الفطرة لأنها تعني الخصائص المشتركة بين جميع الناس على اختلاف انتماءاتهم الدينية، وألوانهم، وجنسياتهم، ومن هذه الخصائص النفور من النقص والعيب، والانجذاب نحو الكمال، بل نحو الكمال المطلق. وأحكام الفطرة لا يمكن أن يختلف فيها اثنان، لأنها من لوازم الوجود.. إنها أكثر بداهة من كل أمر بديهي، فمطلوب الفطرة لا بد أن يكون واحداً أحداً. والنبوة هي عمل لا بد أن يصدر عن الله الرحيم والحكيم، كي يوقظ الناس من الغفلة، وينقذهم من الجهالة، ويلقي عليهم حجته البالغة، ولاسيما عندما بَعَثَ خيرَ خلق الله محمد بن عبد الله ليكون خاتم الرسل والأنبياء، وفي ذلك يقول الإمام علي (ع): "ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَه آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عَيْشَه، وآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَه وحَذَّرَه إِبْلِيسَ وعَدَاوَتَه.. واصْطَفَى سُبْحَانَه مِنْ وَلَدِه أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ(5)، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِه عَهْدَ الله إِلَيْهِمْ(6)، فَجَهِلُوا حَقَّه واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَه(7)، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِه(8)، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِه. فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه(9)، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه(10)، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ(11)، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ(12)، ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ(13)، ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ(14)، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ. ولَمْ يُخْلِ الله سُبْحَانَه خَلْقَه مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ(15)، رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، ولا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَه مَنْ بَعْدَه، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَه مَنْ قَبْلَه، عَلَى ذَلِكَ نُسِلَتِ الْقُرُونُ(16) ومَضَتِ الدُّهُورُ، وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأَبْنَاءُ. إِلَى أَنْ بَعَثَ الله سُبْحَانَه مُحَمَّداً رَسُولَ الله (ص) لإِنْجَازِ عِدَتِه(17)، وإِتْمَامِ نُبُوَّتِه، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُه، مَشْهُورَةً سِمَاتُه(18)، كَرِيماً مِيلادُه. وأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّه لِلَّه بِخَلْقِه، أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِه(19)، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِه(20)، فَهَدَاهُمْ بِه مِنَ الضَّلالَةِ، وأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِه مِنَ الْجَهَالَةِ"(21). أضف إلى ذلك المعجزات التي أتى بها الأنبياء(ع)، والمعجزة هي عبارة عن الأمر الخارق للعادة، الذي لا يمكن أن يوجد من خلال الأسباب والعلل العادية، بل من خلال تغيُّر في الأسباب العادية، أو إيجاد أسباب غير عادية تؤدي إلى ظواهر غير عادية، تَظهر من مُدَّعي النبوة بإرادة الله، وبإذن خاص من الله تعالى، وتكون دليلاً على صدق دعوى النبي. وأسباب المعجزة الخارقة للعادة ليست في مقدور البشر، ولا يمكن التوصل إليها من خلال التدريبات والدروس والتعليمات الخاصة، أمثال المرتاضين، الذين يقومون ببعض الرياضات الروحية، بل هي غير قابلة للتعليم والتعلُّم، ولا يمكن لأي عامل آخر أن يقهرها، وهي مختصة بعباد الله المصطفين والمنتجبين، ولا يمكن أن تكون في متناول أيدي الضالين والعابثين، ولا يمكن لعامل آخر أن يمنع من حدوثها، أو استمرارها، أو إبطال تأثيرها، وفي حال صدورها من غير الأنبياء كالأولياء فهي تسمى حينئذٍ "كرامة". ويمكن أن يُعتبر ضلال فرد وفساد معتقداته وأخلاقه مؤشراً آخر على عدم ارتباطه بالله تعالى، وعلى كون أعماله شيطانية أو نفسانية. ويمكن لنا أن نعتبر أن الله تعالى هو الفاعل لهذه الأعمال الخارقة للعادة ولإمكانات البشر، ويمكن أيضاً أن ننسبها إلى الوسائط، أمثال الملائكة والأنبياء بملاحظة دورهم فيها كوسطاء أو فاعلين قريبين، بإذن الله تعالى، كما نسب القرآن الكريم لعيسى(ع) إحياء الموتى، وشفاء المرضى، وخلق الطير، وهي آيات من الله تعالى الذي قال في محكم كتابه: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(22). إن مبدأ العِلّية لا يفرض أن تكون كل علَّة قابلة للمعرفة والاكتشاف من خلال التجارب العلمية، لأن ميدان التجارب العلمية محدَّد بالأمور الطبيعية، أما تفسير وجود أمور ما وراء الطبيعة، أو نفيها، أو عدم تأثيرها، فلا يمكن إثباته من خلال أدوات المختبرات وأجهزتها. أما تفسير الإعجاز بالتعرف على العلل الطبيعية المجهولة، أو حصر أسبابها بالعلل العادية من السنن الإلهية التي لا تقبل التغير، فلا دليل عليه، بل هناك آيات كثيرة تدل على وقوع المعجزات وخوارق العادات، فإن إحياء النبي عيسى(ع) للموتى يعجز الطب عن اكتشاف أسراره منذ وجود البشرية على الأرض. أما مجموعة الآيات الشريفة التي تقول بثبات السنن الكونية كقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾(23)، أو قوله تعالى: ﴿اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾(24)، فهي تستهدف نفي تخلُّف المعلول عن العلَّة، لا أنها تنفي تعدُّد العلَّة، وقيام علَّة غير عادية مقام العلَّة العادية. ثم إن المعجزة هي أمر استثنائي في النظام الحاكم في الكون، وإن الهدف من إظهارها هو التعريف بأنبياء الله تعالى، وإتمام الحجة على الناس، لا إلزامهم وقهرهم على قبول دعوة الأنبياء، بل هي توجِد أجواء امتحان واختبار واختيار حرٍّ، ولا تتعارض مع حكمة الله تعالى التي اقتضت أن يُخلق الإنسان حُرّاً في اختياره، مسؤولاً عن أقواله وأفعاله، فالحرية في الإسلام مسؤولة وليست مطلقة، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوراً﴾(25). أضف إلى ذلك أن العقل يُدرك أن الشخص الذي يصلح لهذا الارتباط الخاص مع الله تعالى، والتزوُّد بالقدرة على إظهار المعجزات، إنما هو الشخص الذي لا يخون مولاه، ولا يكون سبباً في ضلال العِباد، وشقائهم الأبدي. إذن فإظهار المعجزة دليل عقلي قاطع على صحة دعوى النبوة. ثالثاً - الحركة الثورية للنبي لم يكن النبي محمد(ص) شخصاً عادياً، جامداً، تقليدياً، وإنما كان ثائراً على الذات، وعلى المجتمع، يقبل القول والفعل الحسن، الذي تقبله الفطرة الإنسانية الخالية من الشوائب، وينسجم مع روح الشريعة الإلهية عقيدة وأحكاماً، بل يعمل على دعم وتكريس ما تقبله الفطرة والشريعة كعادة وتقليد وسُنَّة اجتماعية، كالكرم، وحُسن الضيافة، ويرفض القول والفعل القبيح، الذي لا تقبله الفطرة الإنسانية الخالية من الشوائب، ولا ينسجم مع روح الشريعة، كالربا، وفتح بيوت للدعارة، وقتل الفتاة المولودة. ومن الأدلة الدامغة على ثورية النبي محمد(ص) هجرته وأغلب من آمن معه من مكة إلى المدينة، حيث كان في مكة مظلوماً مضطهداً لا يستطيع أن يغيِّر الكثير من أحوال مجتمعها الوثني الفاسد، ولذلك كان لا بد له من الانتقال إلى مكان آخر ينطلق الإسلام فيه بحرية، بعيداً عن ضغوط قريش ومناطق سيطرتها ونفوذها، إلى ساحة جديدة يستطيع النبي فيها إقامة الحكومة التي تضمن تطبيق النظام الإسلامي في الحياة، وتحقيق أهدافه الكبرى، ونشر الإسلام ليصل إلى كل إنسان في كل مكان، فنظَّمه بأحسن نظام وأعدَّ له أفضل إعداد. ومن الأدلة الدامغة على ثورية النبي محمد(ص) بناؤه الدولة والمجتمع الإسلامي، وينشئ أمة المسلمين على مبادئ الإيمان وأحكام الإسلام، ولأول مرة في التاريخ، في مدينة يثرب، التي أصبحت تسمى بالمدينة المنورة بعد هجرته إليها، فقد عمل على توحيد الكلمة بين جميع المواطنين في دولته التعددية الأولى من خلال الآتي: 1- بناء المسجد: الذي كان مركزاً للعبادة، والتعليم، والحكم، والإدارة، وكان مأوىً للفقراء، ومَعْلَماً حضارياً، ومركزاً روحياً، وثقافياً، وجهادياً، ومكاناً للتعارف، والتآلف، والوحدة بين المسلمين، وهو مكان صلاة الجماعة، ومقرُّ ورمزُ المجتمع المسلم، وعنوان وجوده، وسر عظمته. 2- المؤاخاة بين المسلمين: وقد حقق الرسول(ص) من هذه الخطوة المباركة أهدافاً عديدة، منها: الحد من الاعتبار القبلي، والتغلب على التناقضات الداخلية القائمة بين الأوس والخزرج، وبين المهاجرين والأنصار، وبين السادة الأشراف والمستضعفين أو الموالي، والتعبير العملي عن مبدأ المواساة والمساواة، والعدالة الاجتماعية، وإزالة الشعور بالوحشة والغربة في دار الهجرة، والحدِّ من الاعتبار الطبقي الاقتصادي، وعلاج مشكلة التفاوت في المستوى المعيشي، وتحويل المسلمين الأوائل من مجتمع مفكك يعيش أبناؤه التناقضات والأحقاد والعداوات، إلى مجتمع متآلف يعيش المحبة والمودة وتماسك البنيان. وهكذا لم تكن الأخوة مجرد شعور نفسي وكلام معسول، بل كانت واقعاً عملياً عاشه المسلمون. كانت الأخوة بذلاً وعطاءً من جانب الغني، وعفة وقناعة من جانب الفقير. كان الأنصار عارفين بفضل المهاجرين، وتضحياتهم، وأسبقيتهم إلى الإسلام، وتحملهم شتى أنواع العذاب في سبيل هذا الدين، وفي سبيل الإيمان بالله ورسوله، وكذلك عرف المهاجرون قدر الأنصار وتضحياتهم ومواساتهم لهم في اللحظة التاريخية الحساسة. 3- الانفتاح على أهل الكتاب: وهو من صلب عقيدتنا الدينية التي تعترف بالأديان السماوية وبكل الرسل والأنبياء، فعقد بين المسلمين واليهود الذين كانوا يسكنون في المدينة معاهدة سميت بالصحيفة، أو دستور المدينة، الذي يعتبر رداً علمياً دينياً تاريخياً على الذين يحاولون تشويه صورة الإسلام. هذه المعاهدة السياسية الخالدة التي تجسِّد عظمة النبي محمد(ص)، وتثبت أن الإسلام دين حوار وتعايش مع الديانات الأخرى، في كل زمان ومكان. فمنذ بداية هجرة النبي(ص) إلى المدينة وادع اليهود، وعقد معهم معاهدة تبيِّن حقوق الطرفين، وواجب كلٍّ منهما تجاه الآخر، والعلاقة بينهما، وترك النبي(ص) لليهود حرية الاعتقاد، ولم يجبرهم على الإسلام، وأعطاهم كامل الحقوق المدنية كسائر المسلمين، وكل ما طلبه منهم هو أن لا يكونوا عملاء لكفار قريش. وقد وافقوا على ذلك، ولكنهم ما لبثوا أن نقضوا العهد، وخانوا المسلمين وتآمروا عليهم. 4- إعداد القوة العسكرية: لقد أقدم النبي (ص) على خطوة أخرى على طريق بناء المجتمع والدولة، وهي خطوة الإعداد العسكري، سواء على مستوى القوة البشرية المُدَرَّبة، أو السلاح، أو الخيل، أو غير ذلك مما تحتاجه القوة المسلحة، وذلك عملاً بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾(26). لقد كان لهذه الدقة في التنظيم العسكري في عهد النبي (ص) دور كبير في تحقيق إنجازات عسكرية كبرى وفي فترة زمنية قصيرة. ولا بد أن نلفت هنا إلى إنسانية النبي محمد(ص) في الحروب، إذ إن الأدوات والوسائل التي استخدمها النبي(ص) لنشر دعوته، واستعان بها لنشر دينه، كانت إنسانية وأخلاقية تماماً. النبي(ص) لم يستخدم أبداً الأساليب اللاإنسانية في حروبه كقطع الأشجار، وما شابه ذلك، إلا عند الضرورة القصوى، والضرورة تقدَّر بقدرها، بل أوصى بأن لا يلحق الأذى بالنساء، والأطفال، والعجائز، وكبار السن، وأن لا تُقطع الأشجار، وأن لا يُشْرَع في قتال العدو قبل الدعوة إلى الإسلام، وإتمام الحجة عليه. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): "كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يبعث سريةً، دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: "سيروا بسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، ولا تغلوا، ولا تمثِّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأةً، ولا تقطعوا شجراً، إلا أن تضطروا إليها"(27)، والضرورات تبيح المحظورات كما نعلم. باحث في الشريعة والقانون الدولي، من لبنان(*) هوامش (1) سورة المائدة، الآية: 45. (2) سورة المائدة، الآية: 45. (3) سورة الحديد، الآية: 25. (4) سورة آل عمران، الآية: 164. (5) أَخَذَ عَلَيهم المِيثَاق أن يبلِّغوا ما أوحي إليهم، أو أن لا يشرِّعوا للناس إلا ما يوحى إليهم. (6) أي مِيثَاق الفطرة. (7) أي المعبودين من دونه سبحانه وتعالى. (8) أي صرفتهم عن عن قصدهم الذي وُجِّهوا إليه بالهداية المغروزة في فطرهم. (9) أي لم يرسلهم تباعاً، بل أرسلهم وبين كل نبي ومن بعده مدة من الزمن. (10) أي بعث إلى الناس الأنبياء ليطلبوا منهم أداء ذلك الميثاق وما تقتضيه فطرتهم. (11) أي يأتي النبيون لإثارة المعارف الكامنة، وإبراز الأسرار الباطنة. (12) السقف المرفوع السماء. (13) المِهاد الموضوع الأرض. (14) الأوصاب هي المتاعب. (15) أي الطريق القويمة الواضحة. (16) أي وُلِدت الْقُرُونُ. (17) أي وعده لأن الله تعالى وعد بإرسال محمد (ص) على لسان أنبيائه السابقين. (18) أي علاماته التي ذُكِرت في كتب الأنبياء السابقين. (19) الملحد فِي اسْمِه هو الذي يعتقد في الله صفات يجب تنزيهه عنها. (20) المشير إلى غيره هو الذي يُشرِك معه في التصرُّف إلهاً آخر فيعبده ويستعين به. (21) عبده، محمد، نهج البلاغة، ط5، بيروت، دار البلاغة، 1412هـ-1992م، ص: 77-79. (22) سورة آل عمران، الآية: 49. (23) سورة الأحزاب، الآية: 62. (24) سورة فاطر، الآية: 43. (25) سورة الإنسان، الآية: 3. (26) سورة الأنفال، الآية: 60. (27) الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط1، إيران–قم، دار الحديث للطباعة والنشر، 1416هـ، ج 1، ص:566. |
||||||