|
|||||||
|
انعقدت منذ بضعة أيام القمة العربية التنموية الاقتصادية في دورتها الثالثة لمناقشة وتدارس مختلف هموم وشجون وأزمات اقتصادياتنا العربية التي لا نزال نعاني منها في عالمنا العربي.. ولا ندري فيما إذا كانت هذه القمة ستنتهي لاحقاً بلا أية نتائج عملية (وليس نظرية فقط)، لتلقى المصير والمآل نفسه الذي وصلت إليه سابقاتها من الاجتماعات والقمم العربية الدورية الكثيرة التي انعقدت وانتهت مفاعيلها ونتائجها ومخاضاتها العسيرة بمجرد إعلان بياناتها الختامية، والعودة إلى المربع الأول (مربع الصفر المطلق)، و"كفى الله المؤمنين شر القتال".. ومشاكل الاقتصاد العربي المزمنة، معروفة في عللها وتشخيصاتها النظرية الأكاديمية، ونحن هنا لا نقدم شيئاً جديداً عندما نشير إلى بعض الأرقام المخيفة المتعلقة بصعوبة الواقع الاقتصادي والتنموي العربي (التي تحاذر تلك القمم البحث عن أسبابها الحقيقية الكامنة أضلاً في الجذر السياسي الفاسد)، والتي تفرض ذاتها ووجودها أكثر من أية تحليلات رسمية ورؤى رغبوية وأمنيات ذاتية تأتي فقط من باب الآمال العربية المعقودة على حدوث نهوض وربيع اقتصادي وسياسي عربي قادم حقيقي غير مزيف.. والأرقام والبيانات والإحصائيات -التي هي أكبر من محاولة إخفائها وتغطيتها بالآمال الواهية- تقول بأن التجارة البينية العربية العربية لا تتعدى أكثر من 27%، وأن هناك بطالة عربية حادة كبيرة تعجز مؤسسات الحكم العربية الرسمية عن احتوائها والسيطرة عليها، وأن هناك تراجعاً بل نزفاً مخيفاً مستمراً في حجم ونوع الاستثمارات (الداخلية والخارجية) القادمة إلى الداخل العربي، وربما هروب الموجود منها إلى الخارج بسبب الخوف من موجات الأصولية الدينية ومشروع التغيير الإسلامي، وهناك أيضاً الارتفاع الكبير وغير المسبوق في أسعار السلع والبضائع والمستوردات، أي أن هناك صعوبات جمة كبيرة في قدرة الفرد العربي على تأمين معيشته اليومية المرتبطة بحاجياته ومستلزماته اليومية من ماء وغذاء وكساء، أي إنفاقه على السلع الضرورية.. إضافةً إلى التردي الواضح في طبيعة الخدمات والبنى التحتية المقدمة من قبل الحكومات العربية للفرد العربي.. سواء على مستوى نوعية وسلامة المياه، وخدمات الصرف الصحي، والضمان الصحي والاجتماعي، وشبكات الطرق والمواصلات الحديثة، وغيرها.. ولن نتحدث بالطبع عن الحالة المأساوية للبحث العلمي العربي، حيث تنفق الدول العربية مجتمعة أقل بكثير مما تنفقه إسرائيل لوحدها على البحوث العلمية التي باتت مرتبطة في عالم اليوم بعجلة الإنتاج الاقتصادي لأية دولة متقدمة ومتطورة، وتعطي انطباعاً ما عن وضعها وحالة التعافي الاقتصادي من عدمه.. إذاً، المؤشرات هنا تبدو خطيرة للغاية، حيث لا ينعقد أي مؤتمر أو اجتماع إلا وتكون تلك الأرقام المرعبة على طاولة البحث والنقاش لساعات وأيام طويلة ولكن بلا أية حلول أو جدوى ولا أية فائدة عملية تذكر.. وبصورة أكثر تفصيلية، نجد على صعيد ضعف الاستثمارات العربية والدولية القادمة للبلدان العربية مثلاً، أن البيانات والمعطيات الحقيقية تشير إلى أن حجم الاستثمارات العربية خلال العام المنصرم (2012) لا يتعدى الـ23 مليار دولار، في حين أنها كانت خلال العام 2010 في حدود 68 مليار دولار، وانخفضت خلال العام 2011 إلى 43 مليار دولار، أي بنقصان قارب الـ37%، وهذا الانخفاض في حجم الاستثمارات له أسبابه الداخلية، وهو يؤشر بالضرورة إلى فقدان ثقة الشركات العربية الضخمة بأجواء ومناخات بلدانها السياسية، وبحكامها ومؤسساتها الرسمية العاملة، بما يدفعها دفعاً للاستثمار في الخارج.. كما حدث مع شركات نجيب سايروس (الملياردير المصري القبطي المعروف) الذي يبدو أنه سينهي وجوده القانوني في مصر منتقلاً للعمل في الخارج بعد موجة التشكيك به، وبوطنيته من قبل الجماعات المحسوبة على التيارات الإسلامية التي لم تبدع في شيء أكثر من إبداعها في سياسة ترهيب المستثمرين وتخويف الناس وتطفيش الرساميل والخبرات الوطنية، نظراً لغبائها السياسي وسوء تدبيرها الاقتصادي ونزعتها الانغلاقية الماضوية، وعيشها الأبدي في ظل أفكارها التمجيدية القديمة مع أن الواقع أهم من الأيديولوجيا، ومصالح الناس والمجتمع في العيش المادي الآمن والرغيد أهم وأبقى من كل القناعات المزيفة المؤدلجة الموعودة، وأهم من رموز السياسة كلهم. ولو عدنا قليلاً إلى الوراء للوقوف على طبيعة المشهد الاقتصادي العربي من زاوية أشمل وأوسع، نستحضر العراق كمثل على ما تقدم، حيث أن هذا القطر العربي الغني بثرواته النفطية، كان يملك في العام 1979 فائضاً من العملة الصعبة يقدر بحوالي 50 مليار دولار.. وبعد أقل من عشر سنوات أصبح هذا البلد مهدداً بمجاعة حقيقية بالرغم من كونه بلداً نفطياً بامتياز، إذ أضحى مديناً بمئات المليارات من الدولارات وينوء تحت كارثة اقتصادية مهولة، اضطرته لبيع نفطه بأبخس الأثمان عن طريق الأمم المتحدة ليشتري دواء وخبزاً وطعاماً!!.. والآن يمكن أن نستحضر أيضاً المثل السوري الذي دخل فيه هذا البلد في أتون حرب داخلية خطيرة ومدمرة (أحاذر وصفها بالأهلية والطائفية)، حيث تتحدث الأرقام عن أن تكلفتها حتى الآن يمكن أن تكون قد قاربت حد الـ200 مليار دولار توزعت ما بين خسارة استثمارات اقتصادية، وإيقاف شبه كامل لعجلة التنمية ومختلف قطاعات العمل الإنتاجية الخاصة والعامة (نقل تجار حلب بعض استثماراتهم البالغة 10 مليارات دولار إلى مصر)، وتدمير لكثير من البنى التحتية، مع ارتفاع في معدلات التضخم وصلت حدود الستين بالمائة، فضلاً عن خسارة أرواح ضحايا وأبرياء قاربت أعدادها المائة ألف قتيل.. ونزوح عدة ملايين من البشر عن قراهم ومدنهم، ولجوء مئات آلاف من السكان للدول المجاورة.. يعني كارثة اقتصادية وإنسانية بكل معنى الكلمة.. طبعاً نحن لن نتحدث عن باقي البلدان العربية كالسودان وليبيا وغيرها التي أضاعت نفسها في دهاليز السياسة وأنفاق الحروب الداخلية، ولم يفكر حكامها سوى بكراسي الحكم، ونسوا الاقتصاد والتنمية الحيوية لمجتمعاتهم وشعوبهم سوى ما يحقق لهم قبل غيرهم استمرارية الوجود في الحكم على قاعدة التمكين السياسي لذواتهم وتنمية ثرواتهم وليس تنمية مقدرات وموارد المجتمع الطبيعية والبشرية.. فالاقتصاد في النهاية هو لغة أرقام وبيانات عددية ومعطيات مادية على الأرض، وليس مجرد خطابات يلقيها هذا الحاكم أو ذاك، وليست اجتماعات ونداءات، أو لغة تحليل وخطابة وبلاغة.. وقد أدى سوء التعاطي الاقتصادي لتلك الحكومات السلطوية إلى تدهور مريع في تلك الاقتصادات كما ذكرنا، أفضت بمجملها إلى البطالة والفقر والمرض، وهذه الثلاثية تتعلق وتتصل في العمق بوجود إنسان، بشر، له حاجياته وطلباته الحيوية البديهية الأساسية التي لا يمكنه الاستغناء عنها.. فقد يستغني عن الثقافة والفكر والإيمان والتدين، ولكنه لا يمكنه الاستغناء عن الأكل والشرب والسكن والملبس والعمل لإثبات الوجود والحصول على المال.. وللتدليل على أهمية الاقتصاد والعمل في البناء المجتمعي للفرد، يحضرني هنا حديث مأثور عن نبي الإسلام الرسول محمد(ص) يقول فيه: "لولا الخبز ما صمنا ولا صلينا".. وهذا ما يعطينا فكرة قوية صحيحة عن أهمية الإنتاج والاقتصاد، وعن أن الناس لا تهمها الأفكار وصراعات العقائد والفكر وتناقضات الأيديولوجيات، بمقدار ما يهمها تأمين معاشها وتدبير شؤونها الحياتية مادياً وتعليمياً وصحياً وأمنياً.. من هنا يكون الفرد-المواطن هو جوهر التنمية الاقتصادية، وهو قاعدة الإنتاج الاقتصادي وغايته المرجوة. وهكذا فإن المرض العضوي لا يعاني منه إلا الإنسان المحروم من حقوقه المعيشية البسيطة حيث لا مال يكفيه للاستطباب والعلاج والحصول على التأمين والضمان الصحي، والبطالة هي حرمان الإنسان من العمل بغرض العيش وتأمين المستلزمات الحياتية له ولعياله وأسرته.. وكل عامل من تلك العوامل يتداخل مع نظيره الآخر سلباً.. فوجود أحدها سيؤدي بالضرورة إلى بروز الآخر.. إذاً، اقتصادياً العالم العربي يعاني من أزمة حادة كما سلف القول، وهذه لها أسبابها غير الاقتصادية التي باتت أوضح من الشمس في كبد السماء، يأتي على رأسها، عدم الاستقرار السياسي لكثير من البلدان العربية، وعدم وجود أدنى اعتبار أو احترام أو تقدير لقيمة وحرية وكرامة الفرد العربي، وعدم الاكتراث بأهمية المواطنة والحقوق الفردية والحاجات البديهية له كأساس للبناء الدولتي المؤسساتي المدني الحديث.. وحتى نعرف نحن تحت كنف أية دول عربية نعيش ونحتمي ونسير، نقول بأن قوة الدولة (أية دولة) تعرف بعناصر وموازين ثلاثة مهمة، في الشكل والمضمون، تتكامل مع بعضها بحيث إذا اختل عنصر واحد منها، اختل انتظام وسير مؤسسة الدولة ككل، وبالتالي كان الفشل والسقوط الحتمي في براثن الفوضى والتخلف والتأخر الاقتصادي والسياسي هو مآلها النهائي.. وهذه العناصر هي، قوة القانون، وقوة الشعب، وقوة أجهزة السلطة الشرطية والأمن الداخلي.. - قوة القانون: تعني وجود مؤسسات قانونية ودستورية عريقة لحل الخلافات وفصل النزاعات والخصومات بين الناس بصورة عادلة دون ظلم لأحد على آخر.. - قوة الشعب: تعني وجود مؤسسات تشريعية قوية منتخبة طوعياً تحاسب السلطة التنفيذية القائمة (السياسية منها والأمنية والعسكرية المنوطة تقديم خدمات العيش الوجودي الحر والآمن للناس، وقيامها بحمايتهم والدفاع عنهم ودرء الأخطار الداخلية والخارجية عنهم).. - قوة الجهاز الردعي: تعني وجود مؤسسات عسكرية وأمنية وشرطية قوية خاضعة للقانون والمؤسسات في كل مواقعها ومناحيها، مراقبةً ومساءلةً ومحاسبةً.. وإذا ما سألنا عن وضع الدول والشعوب العربية من ذلك كله.. ربما سنرى ونعاين وجود اختلالات واضحة في كل معيار أو كل عنصر من العناصر السابقة بما يؤدي في النهاية إلى ضعف وتدني مستوى وقيمة وفعالية العناصر الأخرى، لتكون النتيجة الكلية فشل منظومة الدولة ككل في الحكم والسيطرة وتحقيق غايتها في الحكم العادل القانوني.. إننا نعتقد أن فشل البلدان العربية في بناء اقتصادات قوية ناجم في العمق الفكري والقيمي عن فشلها الكامل في بناء واقع سياسي ديمقراطي تعددي تداولي، يجعل من الإنسان الفرد أساس وعلة الوجود السياسي، ويجعل من تأمين وتعميم وضمان وصيانة الحريات الفردية والعامة معياره الرئيسي، لأنه لا اقتصاد تنموي صحيح وسليم ومعافى من دون مناخ سياسي وتربة سياسية ديمقراطية ملائمة له تحفز أجمل ما في المرء من قيم العمل والإنتاج والإبداع الحضاري.. ففي ظل الديكتاتوريات الدينية وغير الدينية لا حلول اقتصادية جدية صحية وسليمة وصحيحة يمكن أن تتبلور لتحقيق العدالة الاجتماعية للناس، وتوفير رفاهية وحياة سعيدة وهانئة.. بناءً على ذلك، الناس تريد أن تحقق وجودها المعيشي وتؤمن حاجتها اليومية بالاستناد على قاعدة المواطنة والحكم الصالح المؤسس بدوره على قاعدة صلبة متينة من قيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة واحترام وضمانة حقوقها المواطنية دستورياً وعملياً.. وهذا ما لم تحققه لها ظلام عقود طويلة من استبداد الديكتاتوريات العربية الفاشية السابقة، والأمل يحدوها ويحدونا جميعاً بأن ينجز ويحقق الربيع العربي القادم الموعود (الذي لا يزال في نسماته الأولى) بعضاً من تلك الأماني الاقتصادية في العيش الرغيد الهانئ والآمن والمطمئن.. كاتب وباحث سوري(*) |
||||||