الدوافع التركية من تطوير العلاقة بإقليم كردستان العراق

السنة الثانية عشر ـ العدد135 ـ ( ربيع ثاني ـ جمادى أولى 1434  هـ ) آذار ـ 2013 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تبدو تركيا في علاقاتها مع أكراد العراق وكأنها أمام حملة سياسية دبلوماسية اقتصادية مركبة، لتحقيق جملة من الأهداف التي تتجاوز العلاقة بإقليم كردستان العراق إلى أهداف إقليمية تتعلق بالدور والنفوذ والصراعات الإقليمية والطائفية في المنطقة، وأخرى داخلية تتعلق بالقضية الكردية في تركيا وإمكانية الاستفادة من دور أكراد العراق في إيجاد حل سلمي لهذه القضية بما يتناسب كل ذلك وسياسات حزب العدالة والتنمية في الداخل والخارج.

ولعل التوجه التركي هذا يرجع إلى مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق، إذ أفرز الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 واقعاً جديداً في علاقة تركيا بأكراد العراق، وغيّر من المعادلات السابقة التي كانت تحكم العلاقة بين الجانبين، من حالة الخشية والمخاوف إلى التعاون المفتوح والمصالح المتبادلة.

فالقادة الأكراد وتحديداًَ رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لم يعد مجرد زعيم عشائري كما كانت أنقرة تصفه من قبل، بل بات السجاد الأحمر يفرش له كلما أراد  زيارة تركيا، فيما حركة التجارة التركية تجاه كردستان العراق في تواصل على مدار الساعة حتى تبدو وكأنها في سباق مع الزمن بحثا عن السياسة في عراق ما بعد رحيل القوات الأمريكية حيث بات الأكراد يشكلون رقما صعبا في صناعة المشهد السياسي العراقي.

هذا الواقع الجديد في العلاقة بين الجانبين  يشير إلى نهاية لمرحلة من علاقات اتسمت بالتوتر والقلق والخوف والعداء طيلة العقود الماضية إلى مرحلة جديدة، أساسها المصالح والتعاون، كل له تطلعاته وأسبابه الخاصة.

سقوط الخطوط الحمر

في الذاكرة الكردية ثمة مخاوف دفينة إزاء تركيا التقليدية، ولعل سبب ذلك تلك التجربة التاريخية التي بدأت مع تأسيس تركيا الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 واستمرت إلى نهاية عهده حيث سحق خلال هذه الفترة العديد من الثورات والحركات الكردية، إذ قمع الجيش بقوة ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 التي اندلعت احتجاجاً على إعلان أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية وإنكاره للحقوق القومية الكردية التي وعد بها، وقد أعدمت تركيا لاحقاً معظم قادة الثورة بما في ذلك الشيخ سعيد، واستمرت مسيرة قمع الثورات الكردية وصولاً إلى الذروة في انتفاضة ديرسيم التي تزامنت مع نهاية عهد أتاتورك حيث ارتكبت القوات التركية مجزرة تمثلت في قتل نحو سبعين ألف كردي علوي ما بين أعوام 1937 و 1939 حسب التقارير الكردية، فيما تقول التقارير التركية أن عددهم كان قرابة 15 ألف شخص، وقد أضطر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً إلى تقديم اعتذار عن هذه المجزرة بعد أن تمت إثارتها إعلامياً وسياسياً.

بالنسبة لأكراد العراق، فإنه إضافة إلى هذا الإرث من الخوف الدفين ثمة مخاوف ارتبطت بالسياسة التركية التقليدية تجاه شمال العراق، ولعل ما عزز منها البرنامج السياسي للحركة القومية التركية المتطرفة بزعامة مؤسسها الراحل ألب أصلان توركيش الذي كان كثيراً ما يشبه شمال العراق بشمال قبرص، وسط دعوات تاريخية تجاه ولاية الموصل (كانت في السابق تشمل كل شمال العراق الحالي ) والقول إن تركيا تنازلت عنها لبريطانيا عام 1926 نتيجة تداعيات الحرب العالمية الأولى، فضلا عن إظهار تركيا نفسها بمظهر المدافع عن تركمان العراق، كما ان تجربة الاجتياحات العسكرية المتكررة لشمال العراق بحجة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، كانت في ذهن أكراد العراق شكلاً من أشكال الاستعداد التركي لغزو إقليمهم في أي وقت.

في المقابل، نظرت تركيا خلال العقود الماضية إلى الأكراد بشكل عام على أنهم مجرد عشائر وقبائل متمردة تبحث عن إقامة دولة كردية في المنطقة ومستعدة للتحالف مع أعداء تركيا. وعليه، عندما غزت القوات الأمريكية العراق كانت تركيا وضعت مجموعة من الخطوط الحمر قبل أن تسقط مع الزمن، ولعل من المفيد التذكير بأهم هذه الخطوط  لفهم أبعاد التحول الجاري في العلاقة بين الجانبين، وهي:

1- عدم السماح بدخول القوات الكردية (البيشمركة) إلى مدينتي كركوك والموصل والسيطرة عليهما.

2- رفض ضم كركوك إلى إقليم كردستان تحت أي بند، لقناعة تركيا بأن مثل هذا الضم سيؤمن التمويل اللازم لإعلان إقامة دولة كردية.

3- قناعة تركيا بأن الاكراد سيعلنون عن دولة كردية بعد انهيار نظام صدام حسين بما سيؤدي ذلك إلى تداعيات مباشرة على وضع أكراد تركيا الذين يزيد عددهم على أكراد العراق بأضعاف، وهو ما لن تسمح به تركيا حتى لو تطلب ذلك تدخلاً عسكرياً.

4- الدفاع عن حقوق الأقلية التركمانية في حال تعرضها لاضطهاد أكراد العراق.

دون شك، هذه الخطوط الحمر كانت تركيا ترى أنها تمس أمنها القومي وأنها مستعدة لاجتياح شمال العراق في حال خرقها من قبل أكراد العراق، ولكنها لم تحصل، ولعل عدم حدوثها يعود إلى سببين رئيسين:

الأول: أن أكراد العراق لم يعلنوا دولة كما كان متوقعاً تركيا، بل المفاجأة كانت أن أكراد العراق نقلوا ثقلهم السياسي إلى بغداد، ومن هناك مارسوا سياسة كردية ضمنت حقوقهم ونجحت في إيجاد علاقة سلمية بين الإقليم والمركز قبل أن تتوتر العلاقات بين الجانبين في الفترة الأخيرة هذا من جهة، ومن جهة ثانية فان السياسة الهادئة التي انتهجتها قيادة إقليم كردستان العراق جمدت من مخاوف دول الجوار الجغرافي، أي تركيا وإيران وسوريا إزاء مسألة إقامة دولة كردية في المنطقة رغم عدم نفي الأكراد رغبتهم في ذلك إذا توفرت الظروف الملائمة.

الثاني: إعلان الإدارة الأمريكية مراراً عقب غزوها العراق أنها لن تسمح لدول الجوار العراقي بالتدخل في شؤونه الداخلية، وقد كان ذلك بمنزلة تأكيد قطعي لأنقرة بأن سياسة التوغل العسكري في شمال العراق انتهت وأن الاستمرار في النهج القديم سيؤدي إلى الاصطدام مع الإدارة الأمريكية نفسها، ويبدو أن تركيا أخذت هذا العامل بعين الاعتبار وأدرجته في حساباتها، خصوصاً وأن غزوها لشمال قبرص عام 1974 جلب لها العديد من المصاعب والخيبات، وبات سبباً من أسباب توتر العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ورفض انضمام تركيا إلى العضوية الأوروبية.

في الواقع، إذا كانت التجربة التاريخية السلبية للعلاقة بين تركيا والأكراد راكمت من صفحات عدم الثقة وزرعت إرثاً من الخوف والتوتر، فإن سقوط الخطوط الحمر وضع السياسة التركية في امتحان مع نفسها إزاء كردستان العراق قبل أن تشهد العلاقة بين الجانبين في السنوات الأخيرة انفراجة كبيرة على وقع المصالح المتبادلة والحملة السياسية التي يقودها وزير الخارجية أحمد  داود أوغلو شخصياً، والذي بات يزور اربيل مرارا، ومنها يزور كركوك حتى دون موافقة بغداد، وخلافا للشعارات التي كانت تركيا ترفعها بشأن الدفاع عن تركمان العراق، إلى درجة أن هذا السلوك التركي دفع بتركمان العراق إلى اتهام أنقرة بالخيانة والتخلي عنهم.

لغة المصالح

لعل أفضل وصف للعلاقة الجديدة بين تركيا وكردستان العراق ما قاله وزير التجارة الخارجية التركي ظافر كاغليان من: "إن التجارة هي مفتاح السياسة وتطوير علاقاتنا سيسمح بحل مشكلاتنا"، وترجمة هذا الكلام على أرض الواقع يحيلنا إلى لغة الأرقام، فحسب التقارير التركية والكردية بلغ حجم التجارة بين الجانبين خلال العام الماضي نحو ثمانية مليارات دولار وسط توقعات بأن يصل الرقم خلال العامين المقبلين إلى اثني عشرة  مليار دولار، رقم ضخم يضع إقليم كردستان في المرتبة الخامسة بين الدول أو الجهات التي تتعامل تركيا معها تجارياً، وهو رقم يفوق حجم التعامل مع سوريا والكيان الإسرائيلي والأردن ولبنان معا، ويوازي تقريبا حجم التبادل مع إيران.

في الواقع، هناك مجموعة من الأسباب الرئيسية التي تقف وراء هذا التحول الكبير في العلاقات التركية - الكردية العراقية، ولعل أهمها:

1- الرغبة المتبادلة في الاستفادة: فتركيا تسعى للاستفادة من الصعود الكردي في العراق وتعاظم نفوذ الأكراد ودورهم في صوغ المشهد السياسي العراقي، ومثل هذا الأمر يدخل في الحسابات الإقليمية للدول والتنافس الخفي والعلني على رسم السياسة العراقية، حيث التنافس التركي - الإيراني في العراق قديم مع اختلاف أسلوب كل طرف. أما الأكراد فيريدون إقامة علاقة قوية مع دولة إقليمية مؤثرة تشكل منفذاً لهم على الغرب وتحديداً الولايات المتحدة في ظل العلاقات التاريخية المتينة التي تربط بين تركيا والولايات المتحدة منذ انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي عام 1952.

2- السعي التركي الحثيث للإفادة من أكراد العراق في محاربة حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من المناطق الحدودية المشتركة مع إيران معقلاً لقواعده العسكرية وصولاً إلى إيجاد حل للقضية الكردية في تركيا، وهو أمر يلقى الترحيب من أكراد العراق شرط اعتماد الحل السلمي، وقد ظهر لافتاً السعي التركي في هذا المجال بعد المحادثات التي جرت مؤخرا بين رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان وزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان والاتفاق على جولة من المحادثات بين الجانب التركي والقيادات العسكرية للحزب خلال شهر نيسان/ابريل المقبل في أربيل برعاية القيادة الكردية في إقليم كردستان.

3- مظلة الدور الأمريكي، فالولايات المتحدة هي حليف مشترك للجانبين، وكان لها دور بارز في منع تفجر العلاقات بينهما خلال الفترة الماضية، ومن ثم دفعها إلى التنسيق سواء عبر تشكيل لجنة ثلاثية لمكافحة حزب العمال الكردستاني وإيجاد حالة من التنسيق المشترك أو التعاون على مستوى القضايا الإقليمية.

4- أمام هذا التوافق السياسي يبدو العامل الاقتصادي مغريا ومنتجا في الوقت نفسه لحالة من الوئام والدفء في العلاقات بين الجانبين، حيث تقول التقارير أن هناك أكثر من عشرة آلاف شركة تركية باتت تعمل في كردستان العراق وتقوم بتنفيذ سلسلة ضخمة من المشاريع الخدمية والبنية التحتية ولاسيما الطرق والمطارات والمنشآت السياحية والعقارية وغير ذلك من المشاريع الاقتصادية والتجارية التي باتت تزدهر في إقليم كردستان العراق.

مشاريع إستراتيجية

دون شك، تشكل العوامل والمصالح المذكورة أعلاه دوافع كفيلة بنسج علاقات جديدة لتجاوز المخاوف الدفينة وبلوغ مرحلة من الثقة والتعاون والعمل المشترك، فمسار العلاقة بينهما بدأ يتخذ شكل الانفتاح الكامل وعلى كل المستويات. ولعل من أهم مظاهر هذا التحسن:

1- سلسلة الزيارات المتبادلة والرفيعة المستوى، فقد أصبح مألوفا أن يقوم وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بزيارة أربيل ويقارن من هناك بين أربيل والمدن التركية ويضعهما في مصير واحد، في المقابل يزور رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني وبقية مسؤولي الإقليم تركيا ويتم استقبالهم بالسجاد الأحمر، في إشارة إلى الرغبة المشتركة في تطوير العلاقات بينهما.

2- الاعتراف التركي الضمني بالحكومة المحلية في إقليم كردستان العراق  بعد فتح قنصلية تركية في أربيل وغياب التحذيرات السابقة من إقامة الفدرالية، وهذا أمر يعزز من انفتاح أكراد العراق على تركيا والثقة بها وفتح الإقليم أمام المصالح التركية رغم خطورة ذلك على الإقليم مستقبلاً، فما يجري على الأرض هو أقرب إلى غزو اقتصادي وثقافي وسياسي.

3- جملة المشاريع التركية الضخمة في كردستان العراق، إذ تشير التقارير المشتركة إلى أن نحو 90% من المواد الغذائية في إقليم كردستان تأتي من تركيا، كما أن الشركات التركية تزدهر في الإقليم لدرجة أنها تكاد تنفرد في مجال المقاولات والعمران وإقامة مشاريع البنية التحتية، وقد اتفق الطرفان مؤخراً على إقامة سكة حديد تربط بين إسطنبول وأربيل. وبالتوازي مع لغة المصالح بدأت تركيا بحركة ثقافية على مستوى إقامة المراكز الثقافية وأخرى لتدريس اللغة، فضلا عن الجامعات.

4- دخول النفط والغاز على خط العلاقة بين أربيل وأنقرة بعد اتفاق الجانبين على إقامة خط لتصدير النفط وأخر للغاز من كردستان العراق إلى تركيا دون موافقة بغداد، وهو ما أثار التوتر في علاقة بغداد مع الجانبين، وينذر بالصدام خصوصاً في ظل قناعة بغداد بأن تركيا باتت تتدخل بشكل مباشر وعلني في الشؤون الداخلية العراقية لزيادة نفوذها والتأثير على المشهد السياسي العراقي حيث حضور البعد الطائفي في هذا التدخل، وهو ما أدى إلى توتر شخصي وتلاسن أكثر من مرة بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان.

5- أمام هذا التحسن في العلاقات التركية بكردستان العراق تبقى عيون تركيا شاخصة إلى تطوير تعاونها مع أكراد العراق من أجل إيجاد حل لمشكلة حزب العمال الكردستاني. ويبدو أن هناك جهوداً كبيرة تبذل في السر، حيث كان لافتاً إعلان حزب العمال مراراً عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد وسط حديث عن دور قام بها الرئيس جلال الطالباني قبل مرضه الأخير  وتلقيه مقترحات من زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بهذا الخصوص، حيث سبق أن قام الطالباني بوساطة مماثلة بين الجانبين في أواخر عهد الرئيس الأسبق تورغوت أوزال مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ويبدو اليوم أن رئيس الإقليم مسعود البارزاني هو ما يقوم بهذا الدور.

6- مع استمرار الأزمة السورية وتورط تركيا فيها وما أفرزته هذه الأزمة من حالة اصطفاف إقليمي ودولي تضغط تركيا على القيادة الكردية في العراق وبقوة، سواء لدفعها إلى الانخراط في صفوف القوى الإقليمية الساعية (قطر، السعودية، مصر، تركيا ... الخ) إلى إسقاط النظام السوري أو الضغط على أكراد سوريا للانخراط  في الحرب الداخلية ضد هذا النظام بعد أن اتسم موقف أكراد سوريا بنوع من الاتزان ومحاولة تجنيب مناطقهم المواجهات الدموية الجارية في العديد من المناطق السورية.

دوافع غير معلنة

في الواقع إضافة إلى الطموحات التركية السابقة من وراء العلاقة مع إقليم كردستان ثمة دوافع تركية غير معلنة، وهي الأخطر على المستوى الاستراتيجي، فالأجندة التركية تجاه إقليم كردستان العراق تتجاوز الإقليم  إلى الإصرار على تفجير العراق والمنطقة ككل وتفكيكها وإضعافها بغية السيطرة عليها، انطلاقاً من التطلعات التركية التاريخية والتي وصلت إلى حد الجموح، مدفوعة بالدعم الأمريكي والغربي عموماً.

فالمراقب للتطورات الجارية، لا بد أن يرى أن السعي التركي الحميم لتطوير العلاقات مع أربيل يرافقه توترٌ كبيرٌ في العلاقة بين أربيل وبغداد من جهة وبين أنقرة وبغداد من جهة ثانية، ولعل السبب الأساسي لهذا التوتر هو سياسة رجب طيب أردوغان وتصريحاته الاستفزازية ودوافعه السياسية والطائفية، فلا يكاد يمر زمن إلا وأردوغان يحذر ويهدد، تارة باسم تطبيق الدستور العراقي وأخرى بالتحذير من الحرب الطائفية، وثالثة بالدفاع عن مكون عراقي في مواجهة أخرى، ورابعة بعدم احترام سيادة العراق، سواء من خلال اختراق الطائرات التركية للسيادة العراقية بحجة ضرب مقاتلي حزب العمال الكردستاني أو حتى من خلال الزيارات التي يقوم بها المسؤولون الأتراك دون التنسيق مع بغداد، كتلك التي قام بها وزير الخارجية أحمد داود اوغلو إلى كركوك والتي أدت إلى استدعاء بغداد للسفير التركي ومن ثم مطالبة العديد من القوى العراقية السياسية والبرلمانية بطرده، ومثل هذا الأمر أي التدخل التركي في الشؤون الداخلية العراقية تطور لاحقا إلى الممارسة على الأرض من خلال دعم التظاهرات الشعبية ضد حكومة نوري المالكي والمطالبة بإسقاطه، وقد كان غريباً ولافتاً في وقت واحد رفع البعض للإعلام التركية خلال التظاهرات والمسيرات الأخيرة التي جرت ضد حكومة المالكي، وهو ما زاد من الشحن الطائفي في العراق وبما ينذر بحرب طائفية وأهلية.

في الواقع، مجمل هذه السياسة الاستفزازية والتدخل التركي في الشؤون الداخلية للعراق، أدت إلى توتر شديد في العلاقات بين البلدين، تمثلت في استدعاء السفراء والبيانات التحذيرية المتبادلة، فمع كل تحذير لأردوغان من اندلاع الحرب الطائفية يضطر نظيره العراقي نوري المالكي إلى إصدار تصريحات مماثلة، والقول إن تركيا لن تكون بمنأى عن مثل هذه الحرب والطلب من أردوغان بالكف عن التدخل في الشؤون الداخلية  للعراق وإظهار نفسه (كـأنه يدير العراق) في إطار سياسة الباب العالي، فيما أردوغان لا يتوقف عن ذلك.

دون شك، التوتر الجاري بين تركيا والعراق ليس له علاقة بمراعاة تطبيق الدستور كما تقول تركيا وإنما باصطدام السياسات والمواقف من التطورات الجارية في المنطقة وفي المقدمة منها الأزمة السورية وما أفرزته هذه الأزمة من اصطفافات إقليمية ودولية من جهة، ومن جهة ثانية بمجمل السياسات التركية التي تحمل تطلعات جامحة ودفينة في إطار التطلع إلى الهيمنة والسيطرة ضمن ما بات يعرف بالعثمانية الجديدة. وعليه يمكن القول إن التوتر بين تركيا وباقي دول المنطقة وتحديداً العراق وسوريا وإيران وحتى روسيا ، بدأ يأخذ مسارات خطرة، ولعل مردها جملة من الأسباب المتعلقة بالسياسة التركية نفسها والتي يمكن تلخيصها بنقاط سريعة:

1- إحساس تركيا بفائض القوة بحكم التغييرات الإقليمية والدولية التي جرت عقب الغزو الأمريكي للعراق ومحاولة تركيا انتهاج الحرب الناعمة ضد هذه الدول، ولعل أدواتها في ذلك إثارة المشكلات الداخلية لهذه الدول والتدخل فيها تحت عناوين الحرية وحقوق الإنسان مستغلة شعارات مرحلة (ثورات الربيع العربي). في حين على أرض الواقع تمارس حرباً حقيقية بوسائل وأدوات أمنية واقتصادية وطائفية...هدفها تفجير هذه الدول وتفكيكها لصالح نفوذ تركي مهيمن يتيح له صوغ المشهد السياسي لهذه الدول في المستقبل في إطار قناعة تركية بأنها الدولة المؤثرة والصالحة لقيادة الشرق الأوسط الجديد.

2- الدور الوظيفي الذي تقوم به تركيا في الإستراتيجية الغربية الأطلسية، كما هو واضح من نشر صواريخ باتريوت ومن قبل الدروع الصاروخية على أراضيها في استمرار لسياسة الارتباط بالغرب والتبعية له كما كان في عهد الحرب الباردة والصراع مع الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، طبعاً كل ذلك على حساب علاقاتها مع الدول الجوار الجغرافي التي ترتبط تركيا بمصالح هائلة.

3- حضور البعد الطائفي في سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية، وقد لخص وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو هذه السياسة ببداية عهد (الإحياء السني) ونهاية عهد (الإحياء الشيعي)، وقد بدأت هذه السياسية تثير مخاطر اجتماعية وسياسية كبيرة في المنطقة على شكل تصادم اجتماعي بين أبناء البلد الواحد، وضرب التعايش السلمي بين المكونات الاجتماعية والسياسية والثقافية في المنطقة، بما يحقق كل ذلك من قصد أو دونه، نظرية الفوضى الخلاقة التي بشرت بها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كوندليزا رايس خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006  وعملت من أجله الدوائر الغربية والإسرائيلية.

4- النزعة الإمبراطورية النابعة من مرحلة العهد الاستعماري العثماني ، وهي نزعة محملة بالتطلعات التاريخية والجغرافية والمصالح والسياسات، بما يؤسس كل ذلك لتصادم  جغرافي وسياسي على أسس تاريخية وطائفية وسياسية، بدلاً من الانصراف إلى التعاون والتكامل في السياسات والمصالح وبناء عمق إسلامي في مواجهات ما يخطط للمنطقة من مشاريع واستهداف متواصل، وللأسف فان حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بنى سياساته المستقبلية على هذا الأساس في انقلاب على سياسة صفر المشكلات التي طرحها أوغلو نفسه.

5- ممارسة الحرب الناعمة عبر الدبلوماسية والاقتصاد والأمن والتجارة والثقافة وغيرها، لتفجير الدول العربية من الداخل، بغية التأثير فيها وتشكيل مشهدها السياسي من جديد في ضوء المصالح التركية كما هو واضح وجلي في السياسة التركية تجاه كل من سوريا والعراق.

في الواقع، مجمل الدوافع السابقة تشكل الأسباب الحقيقية للتوتر الجاري بين أنقرة وبغداد، وأدوات أردوغان في ذلك، هي وضع الأكراد في مواجهة العرب والعكس، السنة في مواجهة الشيعة، الشمال والغرب في مواجهة الجنوب والوسط، أكراد العراق في مواجهة أكراد تركيا، وانطلاقاً من هذه السياسة ليس غريباً أن تعمل تركيا على تقديم المزيد من الدعم لأكراد العراق ليس محبة بهم بل من أجل دفعهم إلى الصدام مع بغداد، مستفيدة من أخطاء الحكومة العراقية وعدم حلها للقضايا الخلافية مع إقليم كردستان حتى الآن، ومستغلة الوضع العراقي الهش بسبب تداعيات مرحلة ما بعد الاحتلال ومجمل السياسات السابقة، وعلى هذا الأساس باتت تركيا تراهن على إقليم كردستان العراق ليس لتمرير سياستها تجاه العراق فحسب، بل تجاه الأزمة السورية ومجمل التطورات  الجارية في المنطقة، إنها العثمانية الجديدة التي تقوم بتوظيف كل شيء لتحقيق أهداف تمثل جوهر الطموحات التاريخية. 

كاتب وباحث في الشؤون التركية(*)  

اعلى الصفحة