نحو مقاربة منهجيّة لمشروع الزواج المدني

السنة الثانية عشر ـ العدد135 ـ ( ربيع ثاني ـ جمادى أولى 1434  هـ ) آذار ـ 2013 م)

بقلم: السيد جعفر محمد حسين فضل الله

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

كثيرةٌ هي الإشكالات الشرعيّة على مشروع قانون الزواج المدني المطروح أخيراً في لبنان؛ لأنّنا إذا تجاوزنا مسألة صيغة عقد الزواج، انطلاقاً من أنّ كلَّ صيغةٍ تدلُّ في العُرفِ العامّ للناس على إنشاء الزوجيّة صراحةً تُعتبر صيغةً لإنشاء الزواج شرعاً، فإنّ المباينة بين شروط الزوجين لجهة دين الزوجين، كما بالنسبة لشروط الطلاق ونظام الإرث وما إلى ذلك، كلُّ ذلك يجعلُ المُسلم الملتزم بالزواج المدني ومفاعيله متناقضاً مع التزامه بالشريعة الإسلاميّة أساساً لنَظْمِ حياتِهِ؛ بل قد يؤدّي الأمرُ به إلى هدرِ الحقوقِ وسلبِها من أصحابها، كما في مفاعيل الإرث.

وإذا كانت لبعضِ موادّ مشروع القانون ذاك، بعضَ الحلول الشرعية، كأن يوصي المرءُ بما يساوي معه بين الحصص، أو يعطي الزوجُ إمكانيّة الطلاق لزوجته، أو ما إلى ذلك، فإنّ ذلك إنّما ينبع من الالتزام الإسلامي الذي يُبقي المسألة اختياريّة للمكلّف، ولا يُجبره عليها بفعل القانون.

وإذا كان "المؤمنون عند شروطهم"، كقاعدةٍ شرعيّة يُمكن للإنسان فيها أن يُلزم نفسه بما ليس لازماً عليها في أصل التشريع، فإنّ هذا الأمر إنّما يكون في إطار الأحكام الشرعية؛ فلا يصحُّ للإنسان أن يشترط عدم القيام بواجبٍ، أو فعلَ محرَّمٍ، أو أخذَ مالٍ من غير إذن أصحابه المُفترضين شرعاً. إنّ قاعدة إلزاميّة الشروط إنّما هي للشروط التي يُباح للإنسان أن يفعلها أو يتركها أو يكون الحقُّ الثابت له قابلاً للنقل، فيُلزمُ نفسه بأحد طرفي الخيار، إيجاباً أو سلباً؛ أي بأن يلتزم بفعل ما يُباحُ له تركُهُ، أو يلتزم بترك ما يُباح له فعلُه، وأن ينقل الحقَّ الذي يجوز له أن ينقله إلى طرفٍ آخر؛ وهكذا.

الدراسة التفصيليّة للمشروع

ومن نافل القول أنّه عندما يُعرض على الجهات التشريعيّة في الإسلام، مشروعُ قانونٍ يشتمل على بنودٍ وتفاصيل عديدة ومتشعّبة، ليُعطوا رأيهم فيه من موقعهم الشرعي الإسلامي، فإنّ المطلوب أن يتمّ تشريح الموضوع إلى شعبه وتفاصيله، ويتمّ عرضُ كلِّ تفصيلٍ على قواعد الشرع وأحكامه، بحيث يتّضحُ حُكم كلّ بندٍ أو تفصيلٍ من الناحية الشرعية، ثمّ يتمّ إصدار الحكم المناسب عليه تبعاً للإحاطة الشامل به من جميع الجهات.

ثمّ أن يتمّ بعد ذلك إنزالُ ما يُمكن إنزالُه من التفاصيل الشرعية التقويمية إلى الناس، بهدف نشر الوعي الشرعي، ليكون الالتزام بالموقف الشرعي نابعاً من الفهم للتكليف الشرعي، لا من الالتزام الأعمى به؛ لأنّ من يملك ثقافة شيءٍ هو أكثرُ تمسّكاً به ممّن لا يملك ثقافته؛ لأنّ التزامه به سيكون له روافد متعدّدة تبعاً لحجم المعرفة في ذلك.

الفتوى وثقافتها

وإنّنا قد نخطئُ، ولاسيّما في هذا العصر الذي تُضخُّ فيه المعارف والمعلومات للناس من دون حواجز ولا رقابات، ويدخُلُ فيه شبابُنا حواراتٍ متلوّنةً في المدارس والجامعات، وتُمرِّرُ وسائلُ الإعلام المتنوّعة ما تُريد تمريره من عناوين جاذبة، أو معلوماتٍ ناقصة، أو أحكامٍ مزيّنة؛ قد نُخطئُ عندما نرى بأنّ علينا فقط أن نبيّن الحكم الشرعي، جوازاً أو حرمةً أو وجوباً أو ما إلى ذلك؛ لأنّنا نفترضُ سلفاً أنّ المُسلم إذ يلتزم الإسلام، فهو مسلّمٌ للتكليف الشرعي على النحو الذي قالَ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(الأحزاب: من الآية 36).

الفرضيّة المذكورة صحيحةٌ تماماً؛ ولكنّها كذلك عند الملتزمين أحكام الشرع في حياتهم، دون أولئك الذين يأخذون من الدين جانباً ويتركون جانباً آخر أو جوانب، أو قد يتسرّبُ إليهم الشكُّ تجاه موقفِ هذه الجهة الدينيّة أو تلك، أو قد يتلمّسون الرُخصَ من أكثر من مصدرٍ، ولا سيّما عندما لا يخضع تقويم الأشخاص أو رجال الدين أو الناطقين باسمه إلى ميزانٍ دقيقٍ، ومعايير ثابتة، فيقعُ الناسُ تحت رحمةِ وُعّاظ السلاطين، أو جهّال المتنسّكين، أو أشكالِ المتعلّمين.

وعلى هذا الأساس قد نجد أنّنا في عصرٍ يفرُضُ إطلاق الفتوى إلى جانبِ دليلِها، وليس من الضروريّ أن يكون الدليلُ عميقاً يتطلّب تخصّصاً شرعيّاً، وإنّما يُمكن إيرادُ آيةٍ أو حديثٍ أو بعضِ قواعد عقلائيّة، أو تقريبُ المسألة بمثالٍ مشابهٍ يورثُ قبولاً نفسيّاً إلى جانبِ القبول التكليفي للحكم الشرعي.

وقد يكون من آثار تعقيدات العوامل المؤثّرة بذهنيّة الإنسان في هذا العصر، حتّى المُسلم المتلزم، ولاسيما مع روح الحرّية وازدياد الشعور بالثقة بالنفس ـ بما يُشبه الطفرة أحياناً ـ، سرعةُ النفورِ من الأحكام الحادّة، والفتاوى العنيفة، التي سرعان ما تُرمى في الإعلام، أو في أقلام المحلّلين، أو حتّى على مستوى الشكّ في نفوسِ المتديّنين، بأنّها تدلُّ على الفكر التكفيريّ الإلغائيّ للآخر، بغضِّ النظر عن أيّ نقاشٍ في المسألة العقديّة في هذا المجال.

مقاربات متنوّعة للنقاش

وقد يحسُنُ لنا أن نتنبّه إلى نقطةٍ مهمّة، وهي أنّ بعضَ القضايا الحسّاسة، والمُثيرة للجدل، تتطلّبُ مقارباتٍ متعدّدة؛ إذا لا يكفي مقاربة موضوع، كالزواج المدني، من زاوية شرعية بحتة؛ لأنّ موضوع الزواج بطبيعته ذو جوانب وأبعادٍ متعدّدة، أهمّها البُعد الاجتماعي المُرتبط بقيم تأسيس الأسرة، وحصولها على المقبوليّة الاجتماعيّة، إضافةً إلى البُعد السياسي المرتبط بفتح مسارب لتغيّرات قد تكون بنيويّة في المدى البعيد في تركيب البلد. ومن هذا المنطلق، يبدو أنّ من المفيد للجهات الدينية عموماً أن تتحرّك في عدّة اتّجاهات:

1. القيام بدراسة تفصيليّة دقيقة لمشروع القانون، وصوغ الموقف الإسلامي التفصيلي من كلّ بنوده وتفاصيله، الذي سينتهي إلى بيان الموقف الكلّي المستند إلى معايير وقواعد واضحة على المستوى الشرعي.

2. أن تقوم الدراسة الشرعية لمشروع القانون على قراءات مقارنة للآراء والقواعد الشرعية لدى مختلف المذاهب الإسلاميّة؛ لأنّ من شأن ذلك أن يُحدّد دائرة أيّ اختلافٍ فقهيّ اجتهاديّ في المسألة، كما أنّ من شأن ذلك أن يفتح أفق الحلول إذا كانت ثمّة في مروحة الآراء الفقهيّة المتنوّعة.

3. القيام بقراءات في الآثار الاجتماعيّة أو السياسيّة لمشروع قانون الزواج المدني، من قبل مختصّين ينطلقون في المسألة من روحٍ علميّة موضوعيّة، يحلّلون المسألة على أساس ما يُمكن أن يحرّكه القانون على مستوى الظاهرة الاجتماعيّة، أو البنية السياسية، عندما توضع الأسرة ـ النواة الاجتماعيّة الأولى ـ في دائرة الشكّ في الشرعيّة، أو عندما تصطدم الالتزامات داخل البيت الواحد في مفاعيل الزواج، كما في مسألة الإرث أو غيره... وهل سيحلُّ الزواج المدني في لبنان المسألة الطائفيّة، أو أنّه سيعقّدها، ليتمّ الحديث واقعيّاً عن زيادة طائفة في لبنان على عدد الطوائف الموجود حاليّاً، هي طائفة غير المنتمين إلى أيّ طائفة من الطوائف... وما إلى ذلك من أسئلة وإشكاليّات، تُعطي للمسألة بُعداً آخر، وتفترض مقاربة أخرى.

4. من المهمّ استشراف مآلات الأمور، فيما لو فُرض القانون بطريقة وبأخرى، ليتمّ وضع الدراسات الشرعية، في مدى وجود قواعد شرعية يُمكن أن تضع إطاراً، أو ترسم حدوداً، لشرعية العلاقات، ومفاعيل الزواج، كما في قاعدة "لكل قومٍ نكاحٌ"، أو قاعدة "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم"، وما إلى ذلك؛ لأنّ هناك إشكاليّات ما بعد الوقوع، حتّى في الظرف الحالي الذي يذهب فيه بعض المُسلمين ليعقدوا مدنيّاً خارج لبنان.. فهل نُلزمهم بما التزموا به من بنود القانون، فيما لو حصل الطلاقُ مدنيّاً مثلاً وهو مخالفٌ لشروط الصحّة في الفقه الإسلاميّ، فهل يُمكن لمُسلم أن يُقدم من الزواج من تلك المطلّقة مدنيّاً؟ أو هل نحكُمُ بحلّية الأموال المقسّمة مدنيّاً خارج نظام الإرث الإسلامي؟ فهل تعتبرُ البنتُ الملتزمة دينياً ـ مثلاً ـ أنّ حصّتها المساوية لحصّة أخيها الذكر والتي حصلت عليها كنتيجة لزواج أبويها مدنيّاً، هي حقّها، أو يلزمها التصالح مع أخيها؟ وما إلى ذلك من إشكاليّات شرعية في هذا المجال.

5. القيام بدراسات واستطلاع رأي لتحديد طبيعة الذهنيّة الشعبيّة تجاه الموضوع؛ لأنّنا نتوقّع أنّ تغيّرات تحصل بسبب عوامل عديدة، وعدم التنبّه لها يؤدّي إلى غياب عناصر مهمّة عن أيّ خطّة مقاربة أو تدخّل شرعي أو تربوي أو ما إلى ذلك. ولعلّ هذا الأمر لا يزال غائباً عن ساحتنا، ومن الضروري التفكير الجدّي في البناء عليه كإحدى الآليّات التي نبني عليها خططتنا وخطابنا لنكون أكثر فعاليّة وتأثيراً.

6. التأكيد على كلّ ذلك في نشر المعرفة بالآثار السلبيّة المترتّبة على ذلك في واقع المتديّنين، لكي تمتلك الأسرة المسلمة ثقافة ما تربّي عليه أبناءها، في زمنٍ متسارعٍ في التغيّر.

ما تقدّم بعض الأفكار العمليّة في مقاربة موضوع مشروع قانون الزواج المدني، والذي من الواضح أنّ اختياريّته لا تكاد تفيدُ في الحدّ من أيّ أثر سلبيّ مفترض على المستوى الشرعي، أو على المستوى الاجتماعي والسياسي، وإن على المدى الطويل؛ والله من وراء القصد. 

 

اعلى الصفحة