الأزمة في سوريا - تهديدات وفرص لإسرائيل

السنة الثانية عشر ـ العدد135 ـ ( ربيع ثاني ـ جمادى أولى 1434  هـ ) آذار ـ 2013 م)

ترجمة وإعداد: حسن سليمان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

نشرة التقدير الاستراتيجي للعام 2013 التي تصدر عن مركز أبحاث الأمن القومي

كتابة وإعداد الدكتور إيال زيسر مختص بشؤون الشرق الأوسط.

 

في منتصف شهر آذار 2011، "ربيع الشعوب العربي"، الذي تفشّى في أنحاء الشرق الأوسط منتصف الشتاء من نفس العام، حلّ في سوريا أيضاً. التظاهرات، التي بدأت في مدينة درعا جنوب البلاد وفي عدد من مدن الساحل في شمالها، سرعان ما امتدت إلى كل أنحائها، وفي النهاية وصلت أيضا إلى المدن الكبرى، العاصمة دمشق وحلب.

فشل النظام السوري في محاولته لقمع التمرد أو على الأقل لاحتوائه، فتمدّد وتجذّر وسط أطياف واسعة من المجتمع السوري في كافة المناطق. مع ذلك، لاقى معارضو النظام صعوبة لفترة طويلة في توحيد صفوفهم وإنشاء حركة معارضة موحدة ذات قيادة متفق عليها وفعالة وسطهم، بحيث تشكّل بديلا للنظام. وهكذا، رغم قوة النيران التي شهدتها أنحاء سوريا، يبقى النظام السوري حتى الساعة على حاله حتى أنه حافظ على تماسكه وسيطرته وسط قواعد القوة التقليدية له في المجتمع السوري - أبناء طوائف الأقليات وأبناء الطبقة الوسطى والعليا في المدن الكبيرة.

وغرقت سوريا أكثر فأكثر في مستنقع الصراع العنيف والدموي، صراع غير حاسم. في ظل هذا الصراع العنيف، بدأت الدولة، ولاسيما المجتمع السوري، تتفكك إلى مكوناتها الأساسية، طوائف، عشائر وعائلات. حلّ مكان النظام، ولاسيما أجهزته الأمنية، التي بواسطتها فرض رعبه طوال الأربعة عقود الأخيرة، حلت مكانه الفوضى والاضطراب اللذان انتشرا في مناطق واسعة. وبسرعة طفت على وجه الأرض توترات طائفية، مناطقية وحتى اجتماعية تمّ احتواؤها ولجمها حتى الآن، ووجدت سوريا نفسها واقعة في حرب أهلية وحتى حرب بين الأخوة. الأسوأ من ذلك، سوريا أصبحت ساحة جهاد، تدفق إليها متطوعون شبان من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي لمحاربة النظام الكافر العلوي القابع في دمشق.

وشكّل التمرّد في سوريا بشارة بنهاية فترة طويلة عكست خلالها هذه الدولة، بقيادة سلالة الأسد، استقرارا وثباتاً وقامت بدور فعال وحتى مركزي في المنطقة المحيطة بها - في لبنان مقابل إسرائيل، وفي الساحة الفلسطينية وحتى العراقية. دفعة واحدة رُميت سوريا في حالة من اللا استقرار واللا يقين، كان أحد تمثّلاته الصراع على سوريا نفسها - صراع داخلي للسيطرة على الدولة وصراع خارجي أيضاً على السيطرة وعلى التأثير فيها بين قوى إقليمية عديدة، وعلى رأسها إيران وحزب الله من جهة، والمحور العربي - السنّي، ويضم دولاً عربية معتدلة كالسعودية وتركيا أيضاً، من جهة ثانية. هذا الواقع يعني بالنسبة لسوريا العودة إلى الربع الأول من القرن على وجودها، الذي تميز بضعف على صعيد الدولة، عدم استقرار سياسي وبتحولات سلطوية مباشرة، وخصوصا بتدخل أجنبي في شؤونها.

إذاً الحالة التي اصطدمت سوريا بها إثر اندلاع الاضطرابات فيها، تضع سلسلة ورطات غير بسيطة أمام دولة إسرائيل. صحيح أنّ إسرائيل رأت في سوريا نظاما معاديا بل خطيرا بسبب ارتباطه بـ"محور الشر" الإقليمي، إلى جانب إيران ومنظمة حزب الله وحماس، لكن في نفس الوقت لم تتمكن من تجاهل حقيقة حرص سوريا على الحفاظ على هدوء تام على طول الحدود المشتركة بين الدولتين في هضبة الجولان، بل تصرفت بضبط نفس وتجنّبت أي رد على عمليات إسرائيلية كانت موجهة ضده.

إن سقوط نظام بشار الأسد قد يُنزل ضربة قاصمة بموقع إيران وحزب الله، لكن في نفس الوقت قد يسمح لجهات إرهابية تعمل بإيحاء من تنظيم القاعدة بالتمركز على طول الحدود بين إسرائيل وسوريا في هضبة الجولان وجعل هذه المنطقة الهادئة "توأما" لشبه جزيرة سيناء - منطقة بدون سيطرة مركزية تشكّل حاضنة  لمنظمات إرهابية. إضافة إلى ذلك، يخشون في إسرائيل في حال انهيار المؤسسة الرسمية في سوريا، أن يتدفق سلاح متطور، وأيضاً سلاح غير تقليدي سوري، إلى يدي مجموعات إرهابية، وإلى حزب الله أيضاً.

هذا المقال يرسم خطوطاً لصورة الاضطرابات السورية طوال عامها الأول ويدرس على حدّ سواء تداعيات - مخاطر وفرص- ما يحصل في سوريا على دولة إسرائيل.

إسرائيل والصراع على سوريا

تاريخ الدولة السورية منذ فجرها، عندما حصلت على استقلالها في نيسان 1946، تميز بصراع دائم على السلطة فيها، على نهجها وهويتها وفي الحقيقة على نفس وجودها. جذور هذا الصراع، الذي أطلق عليه  في المدوّنات البحثية "الصراع على سوريا"، تعود بقدر كبير إلى مصادر ضعف سوريا من الداخل ومن الخارج، ومن بينها، ضعف مؤسسة الدولة والصعوبات التي لاقاها حكامها في توطيد وإقامة مركز سلطوي قادر على فرض سلطته على سكانها، انقسام عميق وسط المجتمع السوري على خلفية طائفية، دينية، مناطقية، اجتماعية - اقتصادية وحتى إيديولوجية، فجوة تتزايد باستمرار ما بين المراكز المدينية وبين المناطق القروية والريفية وغيرها.

هذا الواقع جعل كافة الأنظمة السورية تركّز عملها في سوريا من الداخل، وتلقائيا سلبت منها القدرة على لعب دور رائد ومركزي في الساحة الإقليمية، بما في ذلك في ساحة الصراع مع إسرائيل  في الأربعينيات والخمسينيات. على أنّ صعود حزب البعث إلى السلطة في سوريا في آذار 1963 أدّى في الحقيقة إلى تغيير محدد في هذا الواقع، حيث قادت سياسته الراديكالية إلى تسخين الحدود بين الدولتين وفي نهاية الأمر جرّ المنطقة كلها إلى حرب الأيام الستة. رغم ذلك، عشية الحرب وخلالها لم تُعتبر سوريا لدى أصحاب القرارات في إسرائيل كتهديد عسكري على غرار ما جسّدته مصر، والتعامل معها كان على الأغلب، بحسب شهادة وزير الدفاع آنذاك موشيه ديان، كغير "مقلقة".

لا شكّ بأنّ صعود حافظ الأسد إلى السلطة في دمشق في تشرين الثاني 1970 أحدث تغييراً أساسياً في الواقع السوري وأدى، كما كان يبدو، بـ"الصراع على سوريا" إلى نهايته. الأسد منح سوريا استقراراً سياسياً لم تشهده في السابق، ما جعلها دولة إقليمية كبرى ذات قوة، تلقي بظلها على المنطقة المحيطة بها. في عهد حافظ الأسد أصبحت سوريا لاعباً مؤثراً في ساحة الصراع الإسرائيلي - العربي. ومع ذلك، باستثناء حرب يوم الغفران، التي كانت في أساسها بمبادرة مصرية-  سورية مشتركة لمهاجمة إسرائيل، حرصت دمشق - ربما كعبرة من هذه الحرب - على عدم المبادرة أو حتى الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل والحفاظ على هدوء تام على طول جبهة هضبة الجولان. حتى أنّ المواجهة بين الدولتين في لبنان في حزيران 1982 لم تحصل بمبادرة سورية، كانت إسرائيل هي التي بادرت إليها رغبة منها في طرد سوريا من لبنان. سوريا تجنبت أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل، لكن في نفس الوقت استخدمت "وكلاء" من أجل تعزيز شؤونها ومصالحها، من بينهم تنظيمات فلسطينية ولبنانية وجّهت ضربات لإسرائيل سواء في الساحة اللبنانية أو في الساحة الفلسطينية.

في ثمانينيات القرن العشرين، إثر عملية "سلامة الجليل"، التي هاجمت خلالها قوات الجيش الإسرائيلي القوات السورية في لبنان، تبنّت سوريا سياسة "التوازن الاستراتيجي" التي كان هدفها تحويل الجيش السوري، بمساعدة سوفيتية، إلى خصم يمتلك قوة توازي قوة الجيش الإسرائيلي. ولكن، انهيار الإتحاد السوفيتي في نهاية التسعينيات أدى إلى إهمال هذه الإستراتيجية. علاوة على ذلك، ارتأى حافظ الأسد أيضاً الانضمام إلى عملية السلام العربية التي بدأت في مطلع ذلك العقد وبدأ بإدارة مفاوضات مباشرة مع ممثلي إسرائيل بغية التوصّل إلى تسوية سلمية بين الدولتين. كان هناك قيود لاستعداد الأسد للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل، لاسيّما منها الخطوط الحمراء، وكذلك أيضا لإسرائيل، وفي نهاية الأمر فشلت الدولتان في جهودهما للتوصّل إلى السلام بينهما.

في حزيران 2000 مات حافظ الأسد وحلّ مكانه ابنه بشار. صعود بشار الأسد إلى السلطة رافقه الشك وسط كثيرين في سوريا وخارجها حول قدرته في الحلول مكان والده ومواصلة دربه. ولكن، مع مرور السنين كان يبدو أنه تمكن من ترسيخ مكانته وسلطته داخل سوريا وخارجها. تابع بشار بشكل عام سياسة أبيه بالنسبة لإسرائيل، لكنه أدارها بطريقة أقل حذرا وحكمة من حافظ الأسد. واستمر بالإعلان عن التزامه بعملية السلام مع إسرائيل وكان مستعدا أيضا لإجراء محادثات سلام معها، مثلا في الأشهر الأولى من عام 2008، في فترة ولاية رئيس الحكومة أيهود أولمرت. حرص أيضاً على عدم الوصول إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل والاستمرار بالحفاظ على الهدوء على طول الحدود المشتركة في هضبة الجولان. مع ذلك، عمّق علاقاته جدا مع إيران ومع حزب الله وسمح بتزويد المنظمة بسلاح متطور، بعضه من صناعة سورية. كذلك قراره بإنشاء مفاعل نووي بمساعدة من كوريا الشمالية في منطقة دير الزور شمال سوريا.

عقد على حكم بشار (2000- 2010)

في نهاية العام 2010، العقد الذي تلا اعتلاءَه عرش أبيه، كان يبدو نظام بشار الأسد متيناً ومستقراً على الدوام. بشار بدا كمن نجح بالحلول مكان أبيه وفرض سيطرته على المؤسسة السلطوية السورية، وعلى رأسها مختلف أجهزة الحزب ومؤسسات الحكم والجيش والقوات الأمنية. إضافة إلى ذلك، تمكّن من تعزيز سلسلة إجراءات اقتصادية - محدودة وضئيلة من حيث الحجم - لكن ذات تأثير متراكم، كانت مناسبة لفتح الاقتصاد السوري على العالم الرحب بشكل ضئيل وتشجيع نشاط القطاع الخاص على حساب القطاع العام الذي تسيطر عليه الحكومة السورية وحزب البعث. هذه الإجراءات منحته دعما من الطبقات الوسطى والنخبة الاقتصادية السنيّة في المدن الكبيرة، وعلى رأسها دمشق وحلب.

كما سجّل بشار نجاحاً كبيراً، مثل أبيه في حينه، في مجال السياسة الخارجية. في هذا الخصوص، من الجدير ذكره أنه منذ بداية طريقه أظهر تصلّباً إزاء الولايات المتحدة وعمل على تخريب كل خطواتها وخططها في المنطقة. بشار وضع نفسه في رأس المعسكر الراديكالي في العالم العربي، ارتبط بإيران وأصبح شريكاً مركزياً وفاعلاً في المحور المعادي لإسرائيل والمعادي لأمريكا. إلى جانب حزب الله وحماس. في البداية كان يبدو أن المسألة تتعلق بسياسة متهورة، خطيرة وربما أيضا انتحارية لبشار ونظامه، جعلت إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش تخرج إلى معركة علنية ضد سوريا لطردها من لبنان وفرض عزلة دولية عليها، حيث لم تخفِ رغبتها بتغيير النظام في دمشق. هذه الخطوات عززت الثقة، على الأرجح، لدى بشار والخوف من أن تواجه سوريا بزعامته تهديداً وجودياً لاستقرارها واستقلالها من جانب بلاد الرئيس بوش.

في الحقيقة، بشار الأسد الذي خرج من المواجهة مع الولايات المتحدة منتصراً، خصوصاً وأنّ الأخيرة كانت تفتقر إلى العزم وقوة الإرادة، وربما أيضاً قدرة فعلية، للعمل ضد سوريا وإسقاط  النظام الحاكم فيها. فلا عجب، إذن، أن يحدث قبيل نهاية العقد الأول من نظام بشار تحسن حقيقي في موقع سوريا الإقليمي والدولي. دمشق نجحت في إنقاذ نفسها من العزلة التي فرضتها عليها إدارة جورج بوش حتى أنها عادت للعب دور إقليمي، لاسيما في الساحة اللبنانية، الفلسطينية وحتى العراقية.

إسرائيل بقيادة رئيس الحكومة أيهود أولمرت كانت الأولى، حتى مطلع عام 2008، التي لم تطع أمر الولايات المتحدة واستأنفت المفاوضات الإسرائيلية - السورية للسلام. إثر ذلك أيضا عملت دول أوروبية أيضاً على  تحسين علاقاتها مع دمشق. طوال ذلك الوقت استمرت كل من تركيا وسوريا في العمل على رعاية وتوثيق علاقاتها إلى حدّ حلف صداقة وأواصر قربى، يعتمد على صداقة شخصية عميقة نُسجت بين رئيس الحكومة التركي، رجب طيب أردوغان، وبين الرئيس السوري. سُجل أيضاً تحسن في علاقات سوريا مع السعودية، ومع دول عربية أخرى في الخليج وفي شمال أفريقيا أيضاً.

وشكّل انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة في تشرين الثاني 2008 ودخوله إلى البيت الأبيض في كانون الثاني 2009 بشارة بوضع حد للمعركة الأمريكية ضد النظام السوري وبداية جهد من جانب الولايات المتحدة للبدء بصفحة جديدة في العلاقات بين الدولتين، جهد لم يتكلّل بالنجاح.

على امتداد فترة طويلة، حتى اندلاع موجة الثورات العربية مطلع العام 2011، كان الرأي السائد، حتى وسط سوريين عديدين لم يخفوا نفورهم من نظام بشار الأسد، بأن لا بديل للرجل ولنظامه حتى الساعة. بيد أن هذا الرأي كان على وشك أن يتغير بسرعة.

"الربيع العربي" يصل إلى سوريا، جذور الاحتجاج

في كانون الأول 2010 اندلع "الربيع العربي"، أولاً في تونس وبعدها في مصر أيضاً، في ليبيا وفي اليمن. ولكن، في الأشهر الأولى من القلاقل التي حلّت في الشرق الأوسط بقيت سوريا تشاهد ما يجري عن بعد، وكان يبدو ظاهرياً أن موجة الثورات العربية ستعبر من فوقها وتتجاوزها.

في نهاية كانون الثاني 2011، قبل عدة أيام من سقوط نظام مبارك في مصر، لكن عندما كان واضحاً أن مصيره حُسم وأيامه معدودة، منح بشار الأسد مقابلة للصحيفة الأمريكية "وول ستريت جورنال"، تطرق فيها للمرة الأولى إلى الأحداث والمصير الذي تواجهه المنطقة. بثقة عالية بالنفس، التي سرعان ما تبددت، هدّأ بشار محاوريه القلقين قائلاً إن، "سوريا ليست مصر". وشرح سبب اعتقاده بأنّ الزلزال الذي ضرب العالم العربي سيتجاوز سوريا، ... مصر تلقت مساعدة أمريكية، بينما نحن نبقى بدون شيء وتحت عزلة دولية، ومع ذلك لم يخرج الناس عندنا إلى الشوارع كي يتظاهروا. إن المسألة التي تخرج الناس إلى الشوارع ليست مطلب الإصلاحات أو مشاكل اقتصادية، إنما عقيدتهم الأيديولوجية".

وسائل الإعلام السورية، التي حافظت خلال الأزمة في مصر على ضبط نفس تام وانتهجت خطّاً حذراً، هرولت في أثر رئيسها وسارت خطوة إضافية عندما ربطت سقوط نظام حسني مبارك بالتزاماته باتفاقية السلام مع إسرائيل، كأن مسألة العلاقة مع إسرائيل هي التي أخرجت الجماهير إلى الشوارع في القاهرة، وكأن التزام سوريا بمعسكر "المقاومة" هو الذي ضمن بقاء كرسي بشار الأسد. هكذا على سبيل المثال، كتبت صحيفة النظام السوري، تشرين، في 13 آذار 2011، "الشعب المصري أسقط من السلطة "نظام كامب دايفيد"، نظام سلب منه لقمة عيشه".

بشار الأسد سرعان ما كان سيكتشف أنّ مسألة الصراع مع إسرائيل فشلت في أخذ حيز أساسي على الجدول اليومي للرأي العام العربي وأنها ليست هي التي حركّت أكثر الجمهور في الشارع العربي، كما كان في الماضي البعيد وحتى طوال العقد الأول من الألفية الثالثة- في ظل الانتفاضة الفلسطينية، حرب لبنان الثانية وعملية "الرصاص المسكوب".

مع انتهاء صلاة يوم الجمعة في المساجد، في 18 آذار 2011، بدأت التظاهرات في عدة مدن في شمال ووسط سوريا، من بينها حماة، حلب وبانياس، وفي مدينة درعا جنوب البلاد، حيث جرت هناك تظاهرة كبيرة بالأخص. هذه التظاهرة، التي شارك فيها بضعة آلاف من الناس، خرجت سريعاً عن السيطرة فبدأ المتظاهرون بالهجوم وإطلاق النار من مباني عامة ورسمية. في صدام مع قوات الأمن السورية قُتل متظاهران، وفي اليوم التالي قُتل أيضاً 3 خلال تشييع قتلى اليوم الأول للتظاهرات. من هذه اللحظة لم تعد سوريا تعرف الهدوء.

من احتجاج إلى ثورة

بعكس دول عربية أخرى، مثل تونس أو مصر، حيث حُسمت فيها المعركة فوراً بعدما اندفعت التظاهرات الأولى في شوارع المدن الكبيرة، وأيضاً بعكس ليبيا أو اليمن، التي امتدت فيهما النيران بسرعة وطاولت كل أنحاء الدولة، في سوريا كان يدور الحديث عن خطوة بطيئة وتدريجية، ترتفع وتنخفض، وضعت الدولة وسكانها في صراع مزمن ومستمر، ودموي أيضاً. وفي الحقيقة، من الصعب الإشارة إلى حادثة دراماتيكية واحدة أنبأت أو أفادت بحصول تحول خلال "الانتفاضة" السورية، أو حتى عن الانتقال من مرحلة واحدة إلى غيرها. كان يدور الحديث في الحقيقة عن غرق بطيء ومستمر لسوريا داخل مستنقع، ستلاقي صعوبة في الخروج منه. هكذا تحولت تظاهرات غير منظمة، كبيرة، ومهمة بحد ذاتها، إلى احتجاج شعبي واسع، أصبح بمثابة صراع عنيف وعنيد بين النظام ومعارضيه، إلى أن وجد السوريون أنفسهم في نهاية الأمر عالقين في حرب أهلية دامية.

منذ اللحظة الأولى، ارتأى النظام السوري استخدام القوة ضد المتظاهرين، على أمل أن يؤدي ذلك إلى احتواء وقمع التمرد ضده. في وقت لاحق، بعد أن فشلت قوات الشرطة والأمن في قمع المتمردين وإن كان الثمن سقوط عشرات القتلى كل أسبوع، رُمي الجيش السوري في أواسط نيسان 2011 في المعركة. في 22 نيسان أُدخلت قوات عسكرية إلى مدينة درعا وفي وقت لاحق أُرسلت إلى كافة مراكز المواجهة، مستخدمة قوات مدرعات، مدفعية وكذلك طائرات ومروحيات سلاح الجو السوري. بيد أن إرسال الجيش لمواجهة المتمردين لم ينجح في إيقاف الحريق. بل العكس هو الصحيح، عنف الجيش قوبل بعنف  مقابل من قبل المتمردين. النتيجة كانت أن الاحتجاج في سوريا غيّر وجهته من تظاهرات هادئة على الأغلب في نهاية الأسبوع إلى مواجهات على أساس يومي بين قوات الجيش والمجموعات المسلحة.

في ظل هذا الوضع بدأ الفرار من صفوف الجيش السوري، الذي تزايد مع مرور الوقت. مجموعات الفارين توحدت في تموز 2011 وشكّلت "الجيش السوري الحر" بقيادة رياض الأسعد على شاكلة هيئة عليا يعمل قادتها من تركيا ويسيطرون، وإن بشكل ضعيف، على قسم من المجموعات المسلحة، لاسيما تلك التي لا تصنّف مع الإسلام  الراديكالي أو مع مؤيدي القاعدة الذين تسللوا إلى سوريا. هذه الهيئة تشكّل قناة دعم لوسائل قتالية، وكذلك مساعدة مالية، من دول عربية، من تركيا وربما أيضاً من الولايات المتحدة، للمتمردين داخل سوريا.

المتمردون في سوريا فشلوا في محاولتهم تأسيس حركة موحدة، ولاسيما قيادة متفق عليها. الصعوبة في توحيد الصفوف وسط المتمردين تعبر عن الانشقاق والانقسام الذي لطالما تميز به المجتمع السوري. هكذا، على سبيل المثال، "المجلس القومي"، هيئة أنشاها معارضو النظام السوري بدعم عربي وغربي في أيلول 2011 في اسطنبول، أصبح هيئة جوفاء لأنه لم ينجح في فرض هيبته وأن يوحد حوله مجموعات المعارضة المختلفة داخل سوريا وخارجها. في تشرين الثاني 2012 أُعلن في الدوحة، في قطر، بتشجيع من الولايات المتحدة ودول الخليج، عن إنشاء هيئة معارضة جديدة - "الائتلاف القومي"، الذي حُدد ليحل مكان "المجلس القومي"، كهيئة تنسق نشاط المتمردين ضد النظام السوري.

مضت سنتان تقريباً على اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد، لكن نهاية الصراع الدموي الذي تعانيه سوريا منذ ذلك الحين، والذي كان ثمنه حياة عشرات آلاف الأشخاص، لا تبدو في الأفق. النظام السوري فشل في قمع الاحتجاج الذي يعمق جذوره أكثر فأكثر. في نفس الوقت، ما زال النظام السوري واقفاً على قدميه، وإن بشكل ضعيف وواهن، حيث يقوم بهجوم مضاد ويقاتل في سبيل حياته ولا تزال تعاضده عناصر قوة مهمة في المجتمع السوري، وعلى رأسها أبناء طوائف الأقليات. النتيجة هي غرق سوريا في وضع من الفوضى وحمّام دماء لا ينقطع.

في بداية الاضطرابات اعتمد النظام السوري على الدعم المتين لائتلاف الأقليات في سوريا، على دعم الطبقات المتوسطة والنخبة في المدن الكبرى وعلى الجيش، الأجهزة الأمنية والبيروقراطية الحكومية. في ظل هذا الواقع برزت تصدعات واضحة. في الحقيقة، طوائف الأقليات استمرت بالوقوف إلى جانب النظام (وعلى رأسها العلويون، وإلى جانبهم المسيحيون والدروز أيضاً، وحتى الأكراد في شمال الدولة الذين حافظوا على ضبط النفس)، واستمر الهدوء النسبي سائداً في المدن الكبرى، واستمر الجيش وأجهزة الحكم بأداء دورهم ومساعدة النظام في محاربة معارضيه، بيد أنه لم يكن بالإمكان التغاضي عن حقيقة أن الجيش والأجهزة الأمنية بدأوا يضعفون جراء الاتجاه المتزايد للفرار من صفوفهم. كذلك دعم الأغلبية الصامتة وسط أبناء الطبقة الوسطى والعليا في المدن الكبيرة، دمشق وحلب، أخذ يتلاشى. هذه الجهات ساعدت النظام خوفاً من أن تسود الفوضى في سوريا نتيجة سقوط النظام، على شاكلة الوضع السائد في العراق. غير أن اتجاه الرأي العام وسط أبناء الطبقة الوسطى والعليا بدأ يظهر تحولاً، على الرغم من أن الكثير من السوريين خافوا أن يؤدي سقوط بشار الأسد إلى فوضى، أيضاً احتمال كهذا بدأ يظهر في نظرهم أفضل من استمرار وضع سفك الدماء، تدهور الوضع الاقتصادي وغياب الأمن الشخصي. من هنا ظهر استنتاج واضح بالنسبة لهم، إذا لم يكن الرئيس السوري قادراً على إنهاء الأزمة، وإن كان بقاؤه في السلطة يغذيها فعلياً، فالأفضل أن يغادر السلطة.

ذروة التدهور في سوريا شكّلتها العملية التي وقعت في 18 تموز 2012 في مقر "مكتب الأمن القومي" - قدس أقداس المؤسسة الأمنية السورية - عملية اغتيل فيها كبار المؤسسة العسكرية والأمنية في سوريا الذين أداروا حتى اللحظة الأخيرة من حياتهم الصراع ضد المتمردين على النظام. يدور الحديث عن وزير الدفاع داوود راجحة، رئيس خلية إدارة الأزمة حسن تركماني ونائب وزير الدفاع وصهر الرئيس آصف شوكت. كما أصيب في العملية أيضا رئيس "مكتب الأمن القومي" هشام اختيار، الذي توفي بعد يومين من إصابته، وكذلك وزير الداخلية محمد الشعار، الوحيد الذي نجا في العملية.

وترافق استهداف قادة النظام السوري مع هجوم مجموعات مسلحة، بعضها ينتسب إلى "الجيش السوري الحر"، على دمشق. نجح المسلحون في السيطرة على عدد من أحياء المدينة، ومنها حي الميدان، وتكوّن انطباع للحظة بأن دمشق على وشك السقوط بيد المتمردين في غضون ساعات أو أيام. بعد عدة أيام على ذلك، بدأ المتمردون هجوماً على مدينة حلب، المدينة الثانية من حيث الأهمية في الدولة، ونجحوا كذلك في السيطرة على أجزاء كبيرة منها. بالموازاة، أفيد أن المتمردين تمكّنوا من السيطرة على المعابر الحدودية التي تربط بين سوريا وبين تركيا والعراق. كما أفيد أن الأكراد في شمال وشرق الدولة (حوالي 10% من مجمل سكان سوريا)، الذين جلسوا حتى ذلك الوقت "على حياد"، حرّروا أنفسهم من قيد الظلم وانفصلوا عن النظام السوري، وإن لم ينضمّوا بعد إلى صفوف المتمردين.

هذه التطورات الدراماتيكية أتت على خلفية تزايد ظاهرة الفرار من صفوف النظام، سواء من الجيش أو من أذرع الحكم الأخرى. هكذا، على سبيل المثال، أفيد في مطلع تموز 2012 أن مناف طلاس، ابن وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، الذي كان قائد لواء في وحدة الحرس الجمهوري والمعروف بقربه الشخصي من بشار الأسد، فرّ إلى باريس مع عدد من أبناء عائلته. للمرة الأولى ظهرت تصدعات أيضاً في السلك الدبلوماسي السوري، حينما أعلن عدد من السفراء السوريين في عدة دول، مثل العراق، باكستان والإمارات المتحدة العربية، أعلنوا أنهم سيتوقفون عن تمثيل النظام في دمشق. ما ظهر في بداية التمرد في سوريا كنذير وغير مهم لمشهد فارين من سفينة النظام، أصبح جارفا، حيث الجميع يحاول إنقاذ نفسه من السفينة الغارقة. لا شك أن التمرد دخل في مرحلة قد تتضح كمرحلة حاسمة في المعركة على سوريا، المحتدمة منذ آذار 2011.

سوريا كملعب إقليمي ودولي

تحت سلطة حافظ الأسد أصبحت سوريا قوة إقليمية كبرى ذات موقع وثقل في المنطقة المحيطة بها وما وراءها. اندلاع الثورة في 2011 أعادها إلى الوراء عشرات السنين، إلى أولى أيامها كدولة مستقلة، حينما كانت كيس ملاكمة وساحة صراع بين قوى إقليمية ودولية أرادت أن تنال موقع سيطرة وتأثير فيها.

ردّ المجتمع الدولي على الأحداث في سوريا كان في البداية ركيكا ومبهما. وكان رد الدول الغربية مهما ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن هذه الدول مستعدة  لموجة الاحتجاج التي اجتاحت أرجاء الشرق الأوسط وسرعان ما وجدت نفسها غارقة حتى العنق في الواقع المتأزم الذي تشكّل في مصر، ليبيا، اليمن والبحرين. مع ذلك، فإن تجنب التدخل والتورط في جبهة مواجهة أخرى حيث فرص النجاح فيها تبدو غير مضمونة بوضوح، جعلتها تفضّل، في الأشهر الأولى من الاضطرابات في سوريا، "الجلوس على حياد"، ومشاهدة ما يحدث وحتى أنها منحت بشار الأسد دعما في مساعيه لتهدئة الرياح العاتية في بلده. ساهم في موقفهم هذا أيضاً طابع التقييد في بداية الاحتجاج في سوريا والتقدير بأن النظام في دمشق قادر على مواجهته، وكذلك الخوف من أن هذا الخيار معناه أن الفوضى ستعمّ لبنان، الساحة الإسرائيلية- الفلسطينية والأردنية وحتى الساحة العراقية. كما خافت هذه الدول من الصبغة الإسلامية التي تميزت بها الثورات في مصر، تونس وليبيا، كما اعتبرت قوة الحركات الإسلامية في سوريا دائما مقيدة بسبب بنية السكان في الدولة (أبناء طوائف الأقلية يشكّلون 4% من مجمل السكان) ولأن النهج العلماني قوي ومتجذر وسط الطبقة الوسطى السنيّة في مدنها الكبيرة.

كلما مرّت الأسابيع والأشهر، لم يُقمع الاحتجاج في سوريا فحسب إنما تزايد وقوي، بدأ يحدث تغيير، أصبح دراماتيكيا، في مواقف الشارع العربي، في موقف دول عربية وفي مواقف المجتمع الدولي بالنسبة لما يجري في الدولة، وتلقائياً في كل ما ذُكر بحق نظام بشار الأسد. هذا التغيير نتج، بادئ ذي بدء، من تقدير متزايد بأن نهاية النظام السوري هو الانهيار، كما حدث للأنظمة في تونس، مصر وحتى ليبيا، لكن أيضاً من اطّلاع العالم، ولاسيما الشارع العربي الذي أصبح ذي ثقل في قسم كبير من الدول العربية، على القمع الوحشي والعنيف وقتل المتظاهرين في سوريا بالعشرات كل يوم.

وقادت السعودية مبادرة إنقاذ سوريا. هذا، كما يبدو إدراكا منها بأن سوريا ستتحول إلى ساحة صراع بين إيران وبين العالم العربي ـ السنّي، وأنه بناء على ذلك، ينبغي العمل بحزم من أجل حسم هذا الصراع بإسقاط نظام بشار الأسد. هذا الموقف تعزز على ضوء الضعف وعدم الحيلة التي أظهرتها الولايات المتحدة في معالجة المشاكل في المنطقة. تركيا كانت شريكة في هذا الفهم، لأن لها ولزعمائها مصالح إضافية لدى جارتهم الجنوبية، المرتبطة بمساعيهم لرؤية تركيا تلعب دوراً رائداً في العالم العربي والسنّي.

هكذا وقفت تركيا خلف "الأخوان المسلمين" السوريين، وبالموازاة منحت غطاء ومساعدة لوجستية لـ"الجيش السوري الحر" الذي تقيم قياداته على أراضيها. في المقابل، السعودية، اكتفت بمنح تمويل سخي للمتمردين، ولاسيما لمجموعات إسلامية تعمل داخل سوريا، وفعلت مثلها قطر، التي إلى جانب تجنيد قناة "الجزيرة" التي تسيطر عليها للصراع ضد نظام بشار الأسد، قدمت دعماً ومساعدة مالية لمختلف مجموعات المتمردين(يبدو أن لقطر والسعودية مجموعات تابعة لها منفصلة عن بعضها داخل سوريا).

على الرغم من الضغط العربي، الذي انضمت إليه أيضاً مصر بعد انتخاب محمد مرسي رئيسا لها في حزيران 2012، لاقى المجتمع الدولي صعوبة في إيجاد حل للأزمة السورية. الولايات المتحدة والدول الغربية لم تخفِ خشيتها من التدخل فيما يجري في الدولة، ليس فقط بسبب رد سوريا، إنما أيضاً خوفاً من أن تتحول سوريا إلى مستنقع مثل أفغانستان أو العراق، يغرق فيه كل من يحاول التدخل، والأدهى من ذلك أنّ الجيش السوري ما زال يتمتّع بقدرة دفاع جوي وصاروخي، قد تجعل أي تدخل غربي في سوريا مغامرة مكلفة وتوقع خسائر كثيرة. من غير المفاجئ، إذن، أن تكتفي الولايات المتحدة والدول الأوروبية بتقديم مساعدة لوجستية وغيرها لمجموعات المتمردين، على أمل أن تقوم بالمهمة لصالح الغرب.

وهذا ما حصل فعلاً، فسوريا، التي اعتُبرت في العقود الأخيرة دولة إقليمية كبرى في صورة مصغرة، عادت لتصبح كيس ملاكمة وساحة صراع إقليمي ودولي، حيث تقف إيران وحزب الله من جهة، ومن الجهة الثانية تركيا، السعودية وبقية الدول العربية المعتدلة، وفي الخلفية الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من جهة وروسيا من جهة ثانية. إيران وحزب الله بدأوا بمساعدة النظام السوري على البقاء، وربما يكونوا قد أرسلوا عناصر من قبلهم من أجل ذلك، وعملوا خصوصاً على مساعدته في تنظيم ميليشيات من وسط أبناء الطائفة العلوية ذات الأصول الشيعية. روسيا من جهتها اعتبرت نظام بشار الأسد آخر حصن في الشرق الأوسط أمام انتشار الإسلام الراديكالي، الذي قد يهددها أيضاً في المستقبل.

دلالات لإسرائيل

منذ اندلاع الاضطرابات في سوريا في آذار 2011 لم يخفِ كثيرون في إسرائيل خوفهم من سقوط نظام الأسد وزعزعة الاستقرار على طول الحدود الإسرائيلية- السورية، وربما أيضاً في المنطقة كلها. بشار كان بنظر إسرائيليين كثر بمثابة "الشيطان المشهور والمعروف"، شريك مريح لحكومات إسرائيل في مسعى الحفاظ على واقع اللا السلم واللا حرب، وفي الحقيقة شريك في الحفاظ على الوضع القائم بين الدولتين. الحفاظ على الوضع القائم كان السياسة المفضلة بالنسبة لمعظم حكومات إسرائيل، التي خافت من المخاطر السياسية المرتبطة بالتقدم نحو السلام، لكن في نفس الوقت أرادوا أن يستمر الهدوء السائد على طول الحدود في هضبة الجولان. في هذا الخصوص، من الجدير التذكير بالمقابلة التي منحها المقرب من بشار الأسد ونسيبه، رجل الأعمال السوري رامي مخلوف، والتي قال فيها إنه في حال ساد اللااستقرار في سوريا، فلا يوجد أي أمل بأن يصبح هناك استقرار في إسرائيل. مخلوف أوضح أن، "ليس بمقدور أحد أن يضمن ما سيكون عليه الحال إذا ما حصل شيء ما للنظام السوري. أنا لا أقول إن الحرب ستندلع، لكنني في الحقيقة أقول إنه لا ينبغي أن يحشر أحد بشار في الزاوية".

هناك أشخاص في إسرائيل أرادوا أن يجدوا دلالة لما قد يحدث في ما حصل على طول الحدود الإسرائيلية - السورية يوم النكبة، في 15 أيار 2011 وفي يوم النكسة، في 5 حزيران 2011. خلال هذه الأيام حاول مئات بل آلاف اللاجئين الفلسطينيين اقتحام أراضي دولة إسرائيل في هضبة الجولان في منطقة عين أتينا بالقرب من مجدل شمس وفي الحدود الإسرائيلية - اللبنانية في منطقة بوابة فاطمة. هذه الأحداث التي تطورت على السياج الحدودي خلّفت وراءها قتلى وجرحى. كان من الصعب تقدير إن كان النظام السوري هو الذي يقف وراء هذه الأحداث بغية "الاستفزاز"، لإزاحة الانتباه عما يجري داخل سوريا أو لإرسال رسالة لإسرائيل.

في إسرائيل توصلوا رويداً رويدا إلى استنتاج أن مصير بشار الأسد قد حُسم. من هنا كثرت تصريحات مسؤولين إسرائيليين رفيعين - مثلاً وزير الدفاع أيهود باراك أمام لجنة الخارجية والأمن للكنيست في كانون الثاني 2012- تفيد أن أيام بشار الأسد معدودة. كما نسب لرئيس هيئة الأركان العامة، بني غانتس، تصريح مفاده أن إسرائيل مستعدة لاستقبال لاجئين علويين قد يفرّون إلى هضبة الجولان في حال سقوط النظام السوري.

لا شك أن إسرائيل انزعجت من تدخل إيران وحزب الله المتزايد في السعي لمساعدة نظام بشار الأسد. والدليل على ذلك ما قاله قائد منطقة الشمال، يائير غولان، في نيسان 2012، إيران تزوّد سوريا بالسلاح دائماً. إنه مسعى مستمر ودائم. الإيرانيون يقولون للأسد، "اسمع، أنت غال علينا"، وهم يدعمونه بطاقة كبيرة. إن جزءاً من صمود النظام السوري ينبع من شعور الأسد بأنه لا يزال يلقى دعما في المدى القريب، ما وراء البحر وكذلك في مستوى القوة. أي، عندما ينظر الأسد إلى الخارج يقول، "لدي هنا حزب الله، هو سند لي، لدي الإيرانيون، هم يدعمونني، وفي الخلفية هناك الصين وروسيا..." . إيران وحزب الله متورطان حتى العنق. عندما نتحدث عن "محور الشر"، فالحديث يدور عن عناصر حزب الله الذين يقاتلون هناك، يدربّون، يعلمون وبرأيي يقاتلون.

كلما مرّ الوقت تبدأ إسرائيل بالانشغال بمشكلة اللاجئين الذين سيأتون أو لا يأتون إليها من سوريا، ولاسيما مسألة السلاح المتطور الموجود بحوزة النظام السوري الذي قد يسقط في أيد معادية، بيد تنظيمات إرهابية، مثل القاعدة، بيد الثوار، أو في أسوأ الاحتمالات من ناحية إسرائيل، بيد تنظيم حزب الله، الذي قد يستغل علاقاته مع نظام بشار الأسد فيحاول، في ظل الفوضى السائدة في سوريا، تهريب سلاح متطور كهذا إلى قواعده في لبنان.

هناك مصادر في إسرائيل لم تذكر اسمها، كذلك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع أيهود باراك، حذروا بشكل واضح وحازم من أنه في حال حصول ذلك فإن إسرائيل لن تتردد في مهاجمة وتدمير منشآت السلاح الكيميائي في سوريا ومنع سقوطه في أيدي حزب الله وحلفائه أو بيد جهات إسلامية راديكالية.

الإدارة الأمريكية كانت تشارك إسرائيل قلقها فأطلقت تصريحات حادة إزاء النظام السوري مفادها أنها تعتبره مسؤولاً عن الوسائل القتالية الكيميائية التي بحوزته وحذّرته من استخدامها أو نقلها إلى أيدي غريبة. النظام السوري من جانبه نفى نيته استخدام سلاح كهذا ضد أبناء شعبه، ولكن في بيان صادر عن المتحدث باسم وزارة الخارجية السورية، جهاد المقدسي، اعترفت سوريا فعليا وللمرة الأولى بأنها تمتلك سلاحا كيميائيا، وتخصصه ضد من يهاجمها من الخارج.

بدأت الأصوات في إسرائيل الداعية للامتناع عن التدخل فيما يجري في سوريا، أو حتى الأصوات التي تأمل بقاء بشار الأسد على كرسيه، بدأت تغير دعواتها قائلة إنه من الأفضل لإسرائيل، وتلقائياً لأصدقائها وحلفائها في الولايات المتحدة الأمريكية وفي دول الغرب، أن تبقيه نازفاً وربما أيضاً من الأفضل أن يسقط، حينها يصبح من المناسب إضعاف قوة المحور الراديكالي في الشرق الأوسط - أمر يخدم بحد ذاته إسرائيل. وزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، اقترح أيضا مطلع آذار 2012 بأن تترأس إسرائيل الداعين لإزاحة بشار الأسد من النظام وأن تحث حلفاءها على العمل من أجل هذا الهدف. كذلك، وزير الدفاع أيهود باراك دعا خلال زيارة لواشنطن، مطلع نيسان 2012، الولايات المتحدة الأمريكية لانتهاج سياسة أكثر فعالية ضد الرئيس السوري، بغية إسقاطه. مع ذلك، استمر مسؤولون إسرائيليون كثيرون بالتأييد، بشكل سري، استمرار الوضع القائم في سوريا، التي لا يزال النظام يسيطر فيها وما زال بإمكانه الحفاظ على الهدوء على طول الحدود مع إسرائيل ومنع سقوط سوريا في أيدي مجموعات إسلامية راديكالية. هم نظروا بإيجابية أيضاً إلى التمرد المستمر ضده، الذي يصرف انتباهه إلى ما يجري داخل سوريا ويقيده وحتى يضعف قوته، وبالتالي يضعف قوة الدولة السورية عموماً، التي لا تزال تعتبرها إسرائيل عدواً. مع ذلك، ظللت على هذه التقديرات سلسلة أحداث إطلاق نار على طول الحدود السورية- الإسرائيلية بدءاً من تشرين الثاني 2012 وبعده، كان سببها فقدان النظام السوري سيطرته على المنطقة الحدودية، وكذلك حوادث إطلاق نار بين الجيش السوري وبين مجموعات من المتمردين، التي في حالات كثيرة "انسلت" إلى أراضي إسرائيل.

في إسرائيل سُمعت أصوات دعت إلى وجوب استغلال الأزمة الإقليمية للمضيّ في تفاهم جديد مع تركيا، التي تبدو كأنها تقود الضغط الدولي على سوريا وعلاقاتها مع دمشق وصلت إلى حد الأزمة وحتى إلى حافة مواجهة عسكرية. تركيا شددت من لهجتها ضد نظام بشار الأسد، بدأت تقدم مساعدة ومأوى لـ"الجيش السوري الحر" وللاجئين سوريين، وفي تموز 2012، إثر إسقاط طائرة حربية تركية من قبل الجيش السوري، وبعد أن بدأ الأكراد في شمال سوريا بالعمل على ترسيخ حكم ذاتي كردي في حدودها مع تركيا، بدأ حشد قوات عسكرية على طول الحدود المشتركة للدولتين. القلق مما يجري ومما هو متوقع في سوريا بدا لجهات عديدة في إسرائيل كقاسم مشترك يمكن أن يجمع بينها وبين تركيا. على الرغم من ذلك، لم تنجح الدولتان باستغلال هذا القلق والتغلب على الخلافات في وجهات النظر بينهما واستئناف الحوار الاستراتيجي، الذي انقطع إثر حادثة القافلة التركية إلى قطاع غزة في حزيران 2010.

خلاصة

أيّاً يكن مستقبل سوريا، سواء بقي على حراب الجيش أو أُسقط وحلّ مكانه نظام سياسي جديد، يبدو أن سوريا لن تعود بسرعة للعب دور مركزي في السياسة الإقليمية. علاوة على ذلك، ينبغي الافتراض أنه في المستقبل المنظور سيلاقي أي نظام في دمشق صعوبة في فرض سيطرته على أرجاء البلاد، مثل الوضع الذي ساد طوال العقود الأولى من استقلالها. يبدو أن سوريا المستقبل ستصبح ساحة عمل لمجموعات إرهابية إسلامية راديكالية، مثل القاعدة، و"الأخوان المسلمين" سيصبحون أحد أهم  مصادر القوة في الدولة.

لقد مرّ عامان تقريباً على اندلاع الاضطرابات في سوريا، وإسرائيل لا تزال تتابع بحذر وبخوف ما يجري هناك. في إسرائيل لا يأملون فقط استمرارية الوضع القائم على طول الحدود بين الدولتين، فأسفل منه، هناك أمل بسقوط النظام السوري وأمل بأن ينزل سيناريو كهذا ضربة قاسية بموقعية إيران وحزب الله في المنطقة.

ومع ذلك، إلى جانب الأمل بحدوث تغيير في سوريا، ثمة خوف في إسرائيل من أن يحل مكان الهدوء في هضبة الجولان فوضى وإرهاب، كالذي تشهده إسرائيل اليوم على طول حدودها مع مصر في شبه جزيرة سيناء. كذلك مستقبل السلاح المتطور الذي يمتلكه الجيش السوري يؤرق عيون صنّاع القرارات في إسرائيل.

الواقع في سوريا يفتح أمام إسرائيل نافذة فرص، يمكن استغلالها مع قوى إقليمية ودولية للمشاركة في تشكيل وجهها المستقبلي. هذا الأمر يتطلب من إسرائيل "عدم الوقوف على الحياد"، الانتقال من موقع المتفرج على ما يحدث في سوريا إلى لاعب فاعل، لديه موقف وشريك في التحالف الإقليمي والدولي ومعني بإسقاط نظام بشار الأسد وبضمان الاستقرار في سوريا في الفترة التي تليه. نافذة الفرص التي فُتحت أمام إسرائيل تضم، مثلاً، الاحتمالات التالية:

1- تعزيز قناة حوار مع تركيا ومع الدول العربية المعتدلة - الأردن، السعودية، ودول الخليج وحتى مصر - بالنسبة لمستقبل سوريا.

2- تعزيز حوار غير مباشر عبر دول الغرب، وربما أيضا عبر لاعبين إقليميين، مع أقطاب المعارضة في سوريا، على الأقل غير المصنفة منها مع التيار الإسلامي الراديكالي والمقرّبة من طاولة الولايات المتحدة، الدول الأوروبية وحتى التركية.

3- تعزيز حوار مع الولايات المتحدة الأمريكية، الدول الأوروبية وربما أيضاً روسيا، من خلال موقع لاعب فاعل يمكنه المساهمة في عمليات اتخاذ القرارات في هذه الدول بالشأن السوري، ولو كان ذلك عن طريق فهم أفضل لما يحدث في سوريا.

في المقابل، يجب على إسرائيل أن تستعد للتداعيات المحتملة لما يجري في سوريا، بما فيها احتمال انهيار النظام السوري، على ما يحدث في الأردن وفي لبنان - ساحتان مهمتين بالنسبة لإسرائيل، في الأردن يواجه النظام الهاشمي احتجاجاً جماهيرياً مستمراً قد يزداد في حال سقوط نظام بشار الأسد، في لبنان تواجه إسرائيل الوضع القائم، خصوصاً على حدودها المشتركة، منذ عام 2006. هذا الوضع قد يختلّ إثر التحولات في سوريا و"انسلال" الثورة من هناك إلى لبنان، ما سيثير توتراً بين السنّة والشيعة هناك، ويمسّ باستقرار النظام وبالتالي بقدرة ورغبة لبنان كدولة، وحتى حزب الله، في الحفاظ على الهدوء على طول الحدود الإسرائيلية - اللبنانية.

على أنّ السؤال هل ستدرس إسرائيل مواجهة تحديات الأمن الجاري الذي سيضع أمامها سيناريو سقوط النظام السوري، وهل ستعرف كيف تستغل سيناريو كهذا لتعزيز مصالحها الإستراتيجية مقابل تركيا، الدول العربية المعتدلة مثل السعودية وسوريا المستقبلية أيضاً، هذا السؤال منوط بسياستها العامة إزاء ما يجري في محيطها، علاقاتها مع مصر وعلاقاتها مع الفلسطينيين. هذه الأمور ستحدد إن كان "الربيع السوري" سيصبح فترة زمنية من "شتاء" يدوم بين دمشق والقدس، أو أنه سيكون علامة لتغيّر المناخ  - السياسي أيضاً - بين الدولتين.

اعلى الصفحة