|
|||||||
|
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه المنتجبين، وبعد، فقد قررت أن أكتب هذه المقالات عن النبي الأكرم(ص) لأن مولده هو مولد النور، والنور لا ينطفئ بمجرد انقضاء تاريخ ولادته المباركة، ولا بمجرد مرور أسبوع الوحدة الإسلامية، الذي جعله الإمام الخميني(قده) تاريخاً يوحِّد المسلمين، يجمع ولا يفرِّق، حوَّله من تاريخٍ خلافي إلى تاريخ توحيدي، يجمع بين تاريخي ولادته الكريمة بحسب اختلاف الروايات (أي 12 ربيع الأول و 17 ربيع الأول)، وشتّان بين من يجمع بين المسلمين، وبين من يدعي الإسلام ويعمل ليل نهار لتفريقهم، وكأنه لم يسمع بأن النبي محمد(ص) أتى بدين التوحيد، وأن التوحيد أصل من أصول الدين الإسلامي، بل من أصول الديانات السماوية. والواقع أن هناك اهتماماً لدى المسلمين بذكرى ولادة سيد المرسلين محمد(ص)، ولكنها لا ترقى إلى المستوى المطلوب. ولا بد أن نلتفت إلى أننا عندما نكون مع الشخصيةِ المحمديةِ لا بد لنا من خشعةِ صلاة، وصيحةِ حرية، ومعجمِ فضائل، فالله قد ألقى الكلمةَ الأخيرةَ في الناسِ كلِّ الناس، بواسطةِ الوحي الذي نزل على قلبِ الصادقِ الأمين، لتهطلَ السماءُ على جنباتِ نفسهِ حنانَ الحياة، وليزهرَ نبتةً تعبُقُ بأريجِها وعُطْرِها الفواحِ في صحراءٍ مجدبةٍ مختصَرةٍ بلهبِ الرمالِ وزفيفِ الريحِ وصعوبةِ الحياة، وليتوهَّجَ نورُ محمدٍ، فهو كلمةُ اللهِ الفصل، وحُكمُهُ العدل، ونورُهُ الذي أضاءَ ظلماتِ الجاهلية، وإرادتُهُ على العصور، صَنَعَهُ اللهُ على عينهِ، فاختصرَ الإنسانيةَ بأنبيائِها وحكمائِها في سيرتِه. القرآن والسيرة النبوية لا يمكن الحديث عن سيرة خاتم الرسل والأنبياء(ص) بعيداً عن القرآن الكريم. ومن الواضح أن البداية الطبيعية لتاريخ الإسلام، وأعظم وأهم ما فيه بعد القرآن الكريم، هو سيرة سيد المرسلين محمد(ص). وقد كتب الصحابة وكتب غيرهم ممن عاش في القرن الهجري الأول الكثير عنه(ص)، وكان كثير منهم يملك صحفاً وكتباً يجمع فيها طائفة من أحاديث الرسول(ص) وسننه، ولاسيما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، الذي لم يكن يفارق رسول الله(ص) في سفر ولا في حضر، وكان يهتم بتدوين حديث رسول الله(ص) اهتماماً بالغاً. النبي(ص) هو هادي الناس، إذ إن من عناية الله سبحانه بعباده أنه وهب الناس العقل والقدرة على التمييز بين الخير والشر، والقدرة على تزكية نفوسهم، وأرسل الأنبياء والأوصياء ليعملوا على هدايتهم وإصلاحهم، ليفوزوا بسعادة الدارين، فالأنبياء هم أطباء القلوب، والعارفون بحقيقتها، والإنسان لا يمكنه أن يصل إلى السعادة من دون المُرشد الغيبي، فوجود الهداة لازم لتكامل الإنسانية. وحتى القرآن الكريم لا يكتفي بمجرد الأوامر والتعاليم الكلية، بل إنه يستعرض أسوة عينية، ونماذج واقعية، يطلب من الناس أن يتَّبعوها، هذه القدوة تتمثَّل بالأنبياء والرسل، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾(1). والإسلام يوجب على أتباعه الإيمان بجميع الرسل والأنبياء، ومحمد(ص) هو خاتم الرسل والأنبياء وأعظمهم، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾(2). والنبي محمد(ص) هو النموذج الحي والمثال والقدوة، هو الإنسان الذي يجب أن يقتدي به الآخرون، فيسعون لفهم عقيدته، واكتشاف ومعرفة صفاته الشخصية، وتقليده في سلوكه العملي، والرجوع إليه عند الشدائد. والشرع المقدَّس لم يرضَ بترك الناس بدون نموذج وقدوة ومرشد وقائد، يكون هو الأعلم والأعدل والأخبر وبالتالي الأصلح في هداية الناس وإدارة شؤون الأمة، فأرسل الأنبياء والرسل، وأخلفهم بالأوصياء، والأولياء. ولا بدَّ للولي من صفات شخصية كالرحمة مع العدل، واللين مع الحزم، والعفو عند المقدرة، فيشكل بذلك أبرز مصداقٍ للآية الكريمة التي تأمره بأن يكون رحيماً مع المؤمنين، يعفو عنهم، ويستغفر لهم، ويشاورهم قبل اتخاذ أي قرار، وإن كان القرار النهائي له، بما لديه من صفات شخصية، وقدرات ذاتية، وتشخيص للمصلحة العامة: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(3). كان النبي محمد(ص) يعتمد مبدأ المشورة، وإن كان الأمر واضحاً وبيِّناً بالنسبة إليه، لأنه كان يريد أن يعطي درساً تربوياً بأن المشورة مطلوبة بحدِّ ذاتها، للإحاطة بالموضوع من كل جوانبه، والإطلاع على جميع حيثياته، ولإشراك من يتصدى من الصحابة في تحمل المسؤولية، ولاسيما في كل أمر يتعلق بالنفوس، والأعراض، والأموال، والحيثيات الكبرى، فهو يعرف أنه ليس مخلَّداً بجسده الطاهر، وأنه سيأتي يوم يترك فيه هذه الأمة بين أيدٍ أمينةٍ، وينتقل إلى الرفيق الأعلى، وأنه لا بد للولي من أن يستشير الأصحاب من أهل الثقة، والأمانة، والخبرة، والاختصاص، ولاسيما في القرارات العامة والمصيرية. لكن المشورة ليست مُلزمة في كل أمر، وعلى نحو الإطلاق، لأنها تهدف إلى كشف الحقيقة، فإذا كُشِفت الحقيقة دون مشورة، فلا داعي لها. والمشورة غير مقيَّدة بالجنسية، أو بالمؤسسات الدستورية. وكذلك الأمر فإن ولي أمر المسلمين يتعيَّن بالاسم من قبل الرسول(ص)، أو بالصفات، وأعني بها الأعلم والعدل والأخبر في عصره، فالبيعة ليست أساساً لشرعية الولاية، بل تؤكد حجم الالتزام بالولاية، والوقوف إلى جانب الولي. فقد أوصى النبي محمد(ص) بالرجوع من بعده إلى أوصيائه، ولكل نبي وصي، أو أوصياء، بحسب أهمية رسالته، وما تقتضيه الحاجة العملية في كل زمان ومكان، وبالرجوع من بعد أوصيائه إلى علماء الدين المخلصين، الذين يتمتعون بصفات هي الأقرب إلى صفات الأنبياء والأوصياء(ع)، وذلك كي لا يضيع الدين، ولا يتيه الناس، ولا تمتلئ الأرض بالفساد، فيختل النظام العام، أو يصبح بيئة ضلال وفساد وإفساد، تسوده شريعة الغاب. فالولاية بمعنى الحكومة هي حكم إلهي، فكما أن الله أوجب الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك أوجب على الناس طاعة أشخاص محددين إما بالاسم، وإما بالصفات. والنبي محمد(ص) هو صاحب الخُلُقِ العظيم، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(4). كان محمد(ص) رحيماً بالناس، وقد وصف القرآن نبي الإسلام بنبي الرحمة، من دون تمييز بين بني البشر. كما دعا الإسلام إلى الدفع بالتي هي أحسن، من دون تصعيد الموقف في حالة الصراع، ما استطاع إليه سبيلاً، ومما يدل أيضاً على تأكيد الإسلام على القيم والأخلاق، والسيطرة على نوازع الشر، هو دعوته الإنسان للجم غضبه، وكظم الغيظ الذي يشعل النار في داخله، بل والعفو عن الناس ما استطاع إليه سبيلاً، حيث ورد في القرآن الكريم التشجيع على الفعل الحسن، بل على الفعل الأحسن، في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(5). ولكن بعض الناس لا ينفع معهم الإحسان، بل يزيدهم إساءةً للآخرين، لأنهم يفهمون مقابلة الإساءة بالإحسان والمحبة رسالة ضعف. ولم تكن رحمة النبي محمد(ص) تتنافى مع عدله، فلا بد في بعض الأحيان من مواقف حازمة، ومن شدة قاسمة، ولاسيما على الكفار المحاربين، وعلى المعتدين، قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾(6). محمد(ص) مؤسس الحضارة الإسلامية لقد كان للإسلام تأثير كبير على المجتمعات العربية في الحجاز على مستوى التكوين الديني، فقد ظهر بين العرب نبي أحدثت رسالته انقلاباً جذرياً في نمط الحياة، والمعتقدات، والقوانين، والقيم، والأخلاق، والعادات، ورؤية العرب للألوهة والكون والإنسان والحياة والموت. لقد كان الحاكم في المجتمع الجاهلي هو العادات والتقاليد، وإن كانت سيئة ومدمرة. فجاء الإسلام ليحرر الإنسان من العادات السيئة، التي تدفعه نحو الانحطاط، وتدمير الذات، والمجتمع. كانت العنصرية للعروبة والعشيرة والعائلة هي السائدة. فجاء نبي الإسلام ليحارب العنصرية، ومقولة "شعب الله المختار"، إلا أن يأمر بمعروف، وينهى عن منكر، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(7). لقد كانوا أهل جهل فشجعهم على طلب العلم ومنفعة الناس، كل الناس، وأحاديث النبي محمد(ص) واضحة في هذا المجال: "الخَلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله عزَّ وجلَّ أنفعهم لعياله"(8). فخرجوا إلى البلدان المجاورة ناشرين الشريعة الإسلامية في بلاد الشام والعراق وفارس ومصر والأندلس وصولاً إلى الصين. كانت الوثنية هي السائدة، وكانت عقيدة الشرك وعبادة الأصنام متفشية. فجاء نبي الإسلام ليحارب عبادة الأصنام التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وليدعو إلى عبادة الله الواحد، العادل، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم، الجبار. كانت الجاهلية العربية تفرض على العبد عبادة سيده الحر، وعلى الأسود عبادة الأبيض، وكان العرب يرون أنهم أفضل من العجم. فجاء نبي الإسلام ليحرِّر الإنسان من عبودية من هو مثله، فالله تعالى عادل لا يميِّز بين عباده دون سبب وجيه، والله تعالى حكيم، ولا يرجِّح دون مرجِّح، بل يعتبر أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى، وحارب الاستعباد والرق. وأحاديث النبي محمد(ص) واضحة في هذا المجال: "يا أيها الناس إلا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى"(9). وقد وصف جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) الوضع الجاهلي، لمَّا دخل على ملك الحبشة النجاشي الذي سألهم عن أحوالهم بقوله: "كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّده، ونخلع ما كنا نعبده نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفُحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام"(10). وقد أسهمت مبادئ الإسلام في الحضِّ على الاستزادة من العلوم والمعارف، وعلى تأكيد المساواة بين البشر، ورفض التفرقة فيما بينهم، وهكذا تشكلت الحضارة الإسلامية، وكانت اللغة العربية هي لغتها الأساسية، فهي لغة القرآن، والسُّنَّة الشريفة، وتطورت العلوم، وزاد التقدم والعمران، في ظلِّ مناخ مميَّز من الحرية المسؤولة. المستشرقون والإساءة للنبي محمد(ص) الاستشراق تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم. ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، بحيث تشمل حضارته، وأديانه، وآدابه، ولغاته، وثقافته. ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة، وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة، معبِّراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما. لقد كتب في السيرة النبوية كتاب غير مسلمين أيضاً، أطلق عليهم تسمية "المستشرقين" نظراً لأنهم أرادوا أن يتعرفوا على الإسلام، وعلى حضارات المجتمعات الشرقية، ومنهم مؤرخ يهودي معاصر يدعى الدكتور إسرائيل ولفنسون، في كتابه "تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام"، ولعلَّه مؤرخ اليهود في العصر الحديث. لقد أخذ الكتاب حظه من الشهرة، فهو رسالة حصل مؤلفه بها على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية، وكان المشرف على الرسالة الدكتور طه حسين، الذي له شهرته الأدبية المعروفة، ما أضفى على الكتاب صبغة زادته قيمة، وجعلته في مصاف المؤلفات التي يشار إليها، ويحرص القراء والباحثون وذوو الثقافة العالية أن يقتنوه. ومن يقرأ مقدمة الدكتور طه حسين للكتاب، يعتقد أن الكتاب مبرأ من العيوب والمآخذ التاريخية، والحق أن المؤلف أنصف الحقيقة في مواضع مختلفة من الكتاب، حيث عاب على بني إسرائيل تفضيلهم الوثنية على التوحيد، وذلك حين ذهب زعماء بني النضير إلى أهل مكة يشجعونهم على حرب المسلمين. ولكنه لم ينصف الحقيقة في مواضع أخرى، حيث كانت كتاباته مليئة بالمغالطات، وتحريف الكلم عن مواضعه. فقد ركز الكاتب على التأثير الكبير لليهود في الجزيرة العربية على لغة العرب، وأدبهم، وشعرهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، ودياناتهم. كما رأى أن تحالف اليهود مع كفار قريش ومشركي مكة عبدة الأوثان ضد أهل التوحيد بهدف استئصالهم، أمر لا يوجه إليه أقل لوم، لأنهم يحاولون الثأر من خصومهم المسلمين، بحجة أنها سجية من السجايا البشرية، وطبيعة من الطبائع الإنسانية، بل وعمل مشروع مقبول لدى جميع الأمم! ولم يكتف بعض المستشرقين بذكر افتراءات حول ثبوت الرسالة والوحي، والكتاب، والمعجزة في الإسلام، بل تحاملوا وتطاولوا على شخص صاحب الرسالة، على اعتبار أن كل شبهة ترد على شخصه الكريم، هي شبهة على رسالته التي حملها، وعلى دينه الذي جاء به للعالمين. وذلك بهدف عزل الإسلام ورسوله عن حياة المسلمين بخاصة، والناس بعامة، ليحلَّ بدلاً عن ذلك علمانية الغرب وإباحيته. لقد قام المستشرقون بدراسات متعددة عن الإسلام، واللغة العربية، والمجتمعات المسلمة، ووظَّفوا خلفياتهم الثقافية، وتدريبهم البحثي، لدراسة الحضارة الإسلامية، والتعرف على خباياها، لتحقيق أغراض الغرب الاستعمارية. الإساءة للنبي محمد(ص) والحرب الناعمة إن الإساءة للنبي الأعظم محمد(ص)، والقرآن الكريم، والمسيح، وأمه العذراء مريم عليهما السلام، والمقدسات الدينية، سواء بواسطة السينما والفضائيات الغربية، أو في الصحافة والرسم الكاريكاتوري، هو فعل غير حضاري، وهو أمر مرفوض شرعاً، وقانوناً. وإن الحرية المطلقة التي يدعيها بعض المفكرين الغربيين ليست واقعيةً، فلا بد من حدود لحرية الإنسان، سواء تجاه أخيه الإنسان، أو تجاه الطبيعة، فكما أنه لا يمكن القبول بحرية تقلب موازين الطبيعة، وتسبب الاحتباس الحراري، والفياضانات، والتصَحُّر، كذلك لا يمكن القبول بحرية تشقُّ المجتمع وتهدِّد أمنه، وتثير الفتن، وتسيء إلى المقدسات. وهذه هي حقوق الإنسان الحقيقية والواقعية، التي تجمع ولا تفرق، وتعمِّر ولا تدمِّر. إن الإساءة للنبي الأعظم محمد(ص) هي إحدى نتائج الحرب الناعمة الثقافية والاجتماعية والإعلامية والدبلوماسية، حرب المفاهيم والأفكار، فالعدو يوجِّه سهامه الخفية إلى عقائدنا، وأفكارنا، وقيمنا. إن العدو يمارس الآن أكثر ضغوطاته من خلال الطريق الثقافي، وهذه الحرب غير مرئية، فهي تتم بواسطة الفضائيات، ومواقع الانترنت، والهواتف الذكية، والكتب والأبحاث الموجهة، إنهم يحاولون تبديل نمط حياتنا، حتى تفقد مجتمعاتنا هويتها الحضارية الإسلامية، وعزمها الإيماني، وإرادتها الجهادية. ويمكن تشبيه القدرة الصلبة أي العسكرية بالأسنان، والقدرة الناعمة باللسان. وتدعم القوة الناعمة القوة الصلبة، وكذلك تعتبر القوة الصلبة إحدى المؤثرات في اللاوعي الإنساني، فالإنسان يتأثر بكل قوة، ويحسب لها حساباً مهما كانت طبيعتها. ومع ظهور الأديان، وبخاصة الإسلام، وانتشاره السريع في العالم، أصبح دور القوة الناعمة أكثر بروزاً، وتحولت إلى عاملٍ مصيريٍّ. فالإسلام لم ينتشر بالأصل على أساس القوة الصلبة، بل بالاعتماد والاتكاء على القوة الناعمة، وعلى مخاطبة العقل والقلب، وعلى البلاغة والفصاحة والبيان. إن عناصر التهديد الناعم كثيرة منها: صرف الشباب المؤمن عن ارتباطاتهم المحكمة بالإيمان، وتحقير التيار الأدبي والفني والثقافي الثوري، وعزلة العناصر الثقافية والأدبية والفنية، والتشكيك بالعقائد والتفكر السياسي للإسلام في الكتب والصفوف المدرسية، وتضخيم القدرات الغربية وعالم الاستكبار، وتلويث الشباب والبنات والصبيان، وقتل الأمل والضياء في القلوب، وعرض صورة مظلمة عن المستقبل، وتعتيم أفق المستقبل للشباب، وتضعيف هممهم داخل البلاد، وإيجاد التشاؤم والانشقاق بين الناس والمسؤولين السياسيين المخلصين لشعوبهم وأوطانهم، والاستفادة من سلاح العمليات النفسية لإيجاد التشنج والاضطراب واللاأمن في المجتمع، والتنظير على أساس التفكير الثقافي للغرب، وإشاعة إعراض الناس والدولة عن أهداف الثورة الإسلامية المباركة في إيران وحكم الإسلام، وإيجاد الاختلافات بين الشعب الإيراني نفسه وبين الشعب الإيراني وبقية المسلمين، وإيجاد الاختلافات المذهبية بين المسلمين، والاستفادة من البيئة الملوثة بالفتنة، وصنع الشائعات وبثها، وإيجاد الشك والتردد بالنسبة للحقائق الواضحة، وتعطيل فعالية العنصر النخبوي المبتكر الشاب والناشط في المجتمع، وإيجاد الغفلة بالنسبة لهجوم العدو الثقافي. ولا يصح لنا إنكار هذا الهجوم الثقافي الذي يشنُّه الغرب على أمتنا الإسلامية وغض النظر عنه، فهو يستهدف قيمنا وهويتنا الأصيلة، بل لا بد من مواجهة الحرب الناعمة بحرب ناعمة مضادة. الخاتمة النبي محمد(ص) كغيره من الأنبياء من ولد النبي آدم(ع)، إنسان له روح تنتقل بعد وفاته إلى عالم الآخرة، حيث مقامه الأرفع، وجسد محدود يعود إلى التراب، والموت حق على الناس أجمعين، ولا بد من حفظ الرسالة الخاتمة لله رب العالمين، ولا بد من وصي أو أوصياء للنبي يقوم مقامه في حفظ الرسالة الإلهية المحمدية وتبليغها، ونشر الدين، والحفاظ على مصالح المسلمين، يقول الإمام علي(ع): "ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَه لِمُحَمَّدٍ(ص) لِقَاءَه، ورَضِيَ لَه مَا عِنْدَه وأَكْرَمَه عَنْ دَارِ الدُّنْيَا، ورَغِبَ بِه عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى، فَقَبَضَه إِلَيْه كَرِيماً، وخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا، إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ ولا عَلَمٍ قَائِمٍ: كتاب ربكم فيكم.."(11). ولا بد من التأكيد على أهمية حفظ وصايا النبي محمد(ص) من بعده قولاً وفعلاً، قال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾(12). وقد أوصى النبي (ص) بوصايا عديدة، أذكر منها قوله للإمام علي(ع): يا علي أوصيك بوصية فاحفظها، فلا تزال بخير ما حفظت وصيّتي: يا علي: ينبغي أن يكون في المؤمن ثمان خصال: وقارٌ عند الهزاهز، وصبرٌ عند البلاء، وشكرٌ عند الرخاء، وقنوعٌ بما رزقه الله عز وجل، لا يظلِم الأعداء، ولا يتجاهلُ الأصدقاء، بدنُه منه في تعبٍ، والناسُ منه في راحة"(13). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين، وصحبه المنتجبين، وعلى العلماء الربانيين، والمجاهدين في سبيل الله إلى يوم الدين. باحث في الشريعة والقانون الدولي، من لبنان(*). هوامش (1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (2) سورة الأحزاب، الآية: 40. (3) سورة آل عمران، الآية: 159. (4) سورة الأحزاب، الآية: 21. (5) سورة القلم، الآية: 4. (6) سورة الفتح، الآية: 29. (7) سورة آل عمران، الآية: 110. (8) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ط2، قم-إيران، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414هـ، ج 16، ص: 345. (9) ابن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن هلال، مسند احمد، بيروت-لبنان، دار صادر، ج 5، ص: 411. (10) المقريزي، تقي الدين، إمتاع الأسماع، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1420هـ، 1999م، ج4، ص: 107. (11) عبده، محمد، نهج البلاغة، ط5، بيروت، دار البلاغة، 1412هـ-1992م، ص: 79-80. (12) سورة آل عمران، الآية: 144. (13) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ط2، قم-إيران، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ج 4، 1404ه، ص: 354. والهزاهز الفتن التي يفتتن الناس بها، والبلايا الموجبة للحركة. |
||||||