|
|||||||
|
هل لدى فرنسا الحق في التدخل العسكري في مالي؟ هذا السؤال بمجرد طرحه يحيلنا مباشرة إلى عودة سياسة "فرانس أفريك" التي اعتقدنا أنها انتهت عن المسرح الجيوبوليتيكي في القارة الإفريقية إلى غير رجعة. وتشكل الحرب التي تخوضها فرنسا في وسط الرمال المتحركة لمنطقة الساحل، وتحديدا في مالي، ضد الجماعات الإسلامية المتشددة، و التي جاءت ردّاً على طلب عاجل من السلطات المالية، وهي تحظى بموافقة الشرعية الدولية،أي أنها تلقت الضوء الخضر من مجلس الأمن، وتدعمها جميع دول غرب إفريقيا، مغامرة عسكرية جديدة للغرب في بلد إسلامي، قد تكون نتائجها أفضل من الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في كل من أفغانستان و العراق.. عام استعادة السيطرة على الشمال من وجهة نظر الحكومة الفرنسية، الحرب في مالي جاءت في سياق الردّ على العدوان الذي يمارسه الجهاديون الإسلاميون الذين قدموا من الخارج، وسيطروا على شمال مالي، وبدأوا يزحفون صوب العاصمة باماكو، حيث أن عدد الأجانب بين صفوفهم أكبر بكثير من عدد الماليين. تعاني مالي منذ الانقلاب العسكري الذي حصل في 22 مارس 2012من سلسلة معقدة من الأزمات، لاسيما هزيمة الجيش المالي في شمال البلاد الذي عجز عن صدّ التمرد المسلح الذي يقوده الطوارق من الحركة الوطنية لتحرير"أزواد" و"حركة أنصار الدين" الإسلامية المسلحة من الطوارق، التي أسسها إياد آغ غالي أحد القادة السابقين لحركة التمرد الطوارق في التسعينات، حيث تطالب هذه الحركة بفرض الشريعة في البلاد، منذ منتصف يناير 2012.فقد كشف الانقلاب الذي قاده النقيب في الجيش أمادو سانوغو، حجم فساد النظام، وعجز الجيش الذي غض الطرف عن تهريب الكوكايين القادم من أمريكا اللاتينية، وسمح للكتائب التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بالسيطرة على الجزء الصحراوي من البلاد، حيث تتكاثر عمليات خطف الأجانب. ويقول خبراء الأمن إن تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" بات يملك ثروة طائلة بفضل الفديات التي دفعت له للإفراج عن كثير من الرهائن الأجانب الذين خطفهم في مالي والنيجر والجزائر ومن مختلف عمليات التهريب المحلية. فمن خلال خطف 80 سائحاً غربيا، و قبض فديات بقيمة 183مليون يورو، تمكن تنظيم القاعدة من بناء قاعدة كبيرة في المنطقة الصحراوية التي تمتد على حدود الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر حيث يستغل سهولة التسلل عبر الحدود وضعف الوجود الأمني ووجود شبكات تهريب المخدرات. فبعد أن كانت مالي واجهة للديمقراطية في إفريقيا الفرنكوفونية من وجهة نظر باريس منذ عشرين سنة، تحولت إلى برميل من البارود الإسلامي المتشدد، الذي بات يهدد الأمن الإقليمي لمنطقة المغرب العربي، و بلدان الساحل الإفريقي، و بطبيعة الحال أمن أوروبا.وفي بداية العام 2012، لم يستطع الرئيس المالي (ديكونوكوندا تراوري) الصمود في وجه ثلاثة متغيرات: سقوط نظام العقيد القذافي، وعودة ألاف المرتزقة الماليين الذي كانوا يعملون في كتائب القذافي، وتزايد الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الإسلامية المتشددة، وثورة الطوارق. ويشكل القرار الذي اتخذه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ببدء التدخل العسكري في مالي في إطار ما عرف بحملة "القط المتوحش" يوم الجمعة 11كانون الثاني 2013، استجابة لطلب رسمي من الرئيس المالي، ولدرء المخاطر التي تهدد السكان في مواجهة القوى الإسلامية المتشددة المسيطرة على ثلثي البلاد، و التي باتت تهدد العاصمة المالية باماكو، نقطة تحول حقيقية في الأزمة المالية، ومن أهم القرارات التي اتخذها هولاند منذ وصوله إلى السلطة. فرنسا تعود إلى سياسة التدخل العسكري تشير مجلة "فورين بوليسي" إلى أن قرار التدخل في مالي يعكس تحولاً في السياسة الفرنسية. فباريس قالت في وقت سابق إنها لن تتدخل، وإن كانت مستعدة للمساعدة في تنسيق تدخّل متعدد الأطراف في البلاد. وعلى الرغم من حصول التدخل بطلب من الرئيس المالي ديونكوندا تراوري، إلا أن وجود قوات فرنسية على أرض كانت في السابق مستعمرة للفرنسيين (حتى العام 1960) تجعل الأمور بالتأكيد أكثر تعقيداً. وهذه هي المرة الثانية التي تتدخل فيها فرنسا في بلد أفريقي فرانكوفوني خلال السنوات الماضية، وذلك بعد مساعدتها في اعتقال الرئيس الإيفواري لوران غباغبو في العام 2011. وإن كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بطل الحرب المالية الآن، فهذا يعني أن مبدأ التدخل العسكري الجديد الذي أرساه الرئيس السابق نيقولا ساركوزي خلال أشهره الأخيرة (التدخل في ليبيا على سبيل المثال)، لم يكن مجرّد أداة انتخابية. لقد أرغمت المقاتلات الفرنسية التي نفذت غاراتها الجوية ضد مواقع الإسلاميين المتشددين في مالي، على تراجعهم من مدينة كونا الرئيسية وسط مالي، حيث دمرت مركز قيادة عسكرية. فبعد معارك استمرت يومين لإجبار المسلحين على التراجع من وسط البلاد، استطاعت القوات الفرنسية بفضل دعم لوجستي واستخباري أمريكي، فرض سيطرة الجيش المالي على بلدة كونا الواقعة قرب الخط الفاصل بين الشمال والجنوب. ومن ثم انطلقت الطائرات الفرنسية شمالاً لتشن سلسلة غارات جوية ضد مواقع للمقاتلين الإسلاميين في محيط مدينة غاو الشمالية، بانتظار المزيد من التعزيزات اللوجستية من بريطانيا، والتعزيزات العسكرية من دول غرب أفريقيا. ويتوقع أن تصل طلائع القوات التي وعدت الدول الإفريقية: بوركينا فاسو، والنيجر، والسنغال، بإرسال 500 جندي لكل منها،للانضمام إلى الحملة العسكرية. وسيكون نيجيري قائداً لتلك القوة لأن نيجيريا تساهم بنحو 600 جندي، وهو أكبر عدد ترسله أي من الدول. تخضع ثلاث مدن رئيسية في شمال مالي الذي تشكل الصحراء القسم الأكبر منه، منذ نهاية يونيو العام 2012 لسيطرة ثلاث مجموعات إسلامية مسلحة. ويسيطر على كيدال وغاو ومدينة تمبكتو التاريخية حركة "أنصار الدين"، و"حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا"، وتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". وحلت هذه المجموعات محل الطوارق من "الجبهة الوطنية لتحرير أزواد" المنادين باستقلال الشمال. في ظل القصف الجوي الفرنسي المركز من المقاتلات الفرنسية على قواعد الإسلاميين المتشددين، أخلى المقاتلون الإسلاميون في اليوم الأول من التدخل العسكري المدن الكبرى في شمال مالي بعد، في حين أعلن متحدث باسم الإسلاميين أنهم قاموا بـ"انسحاب تكتيكي". غير أن الإسلاميين في المقابل تمكنوا من شن هجوم في غرب البلاد وسيطروا على مدينة ديابالي الواقعة على بعد 400 كلم شمال باماكو إثر معارك مع جيش مالي. وقد نشر الجيش الفرنسي، للمرة الأولى منذ بدء تدخله العسكري في مالي، 1400 جندي من قواته البرية، استعداداً لخوض معركة قاسية لاستعادة بلدة ديابالي التي يسيطر عليها تحالف المقاتلين الإسلاميين غرب البلاد، معززين بقدرات تسلح عالية ستحتم رفع عدد الجنود الفرنسيين إلى 2500 خلال أيام، ومشاركة الوحدة الأفريقية التي ستضم قريباً حوالي ألفي جندي من نيجيريا وتشاد والنيجر ودول أخرى، في القتال. وقالت حكومة مالي إن قواتها تشارك مع الفرنسيين في المعارك الجارية في ديابالي ومواقع أخرى. وأضافت أنها أرسلت مئات الجنود لاستعادة السيطرة على المدينة وطرد المسلحين الإسلاميين. وبالفعل انضمت قوات تشادية، قدرت بألفي جندي بحسب مصدر أوروبي، إلى سرية نيجيرية في قاعدة "والام" العسكرية على الحدود مع مالي، بانتظار تقدمها في اتجاه مدينة غاو. وبحسب المتحدث باسم القوات الفرنسية تييري بوركهارد فإن ألف جندي من نيجيريا وتوغو وبنين والنيجر وتشاد موجودون اليوم في مالي. من جهته، أعلن الرئيس النيجيري غودلاك جوناثان أن قوات بلاده ستبقى في مالي إلى أن تحل الأزمة. وكانت ثماني دول من غرب إفريقيا، هي نيجيريا، وتوغو، وغانا، وبنين، وبوركينا فاسو، والسنغال، والنيجر، وغينيا، وغانا، وتشاد، اتفقت على تشكيل قوة تدخل لإفريقية قوامها 3300 جندي بموجب القرار رقم 2085، الذي اتخذه مجلس الأمن يوم 20 كانون الأول 2012، والقاضي بتشكيل قوة دولية لمحاربة الجماعات الإسلامية الجهادية في شمال مالي، ووضع تحت البند السابع لهيئة الأمم المتحدة، الأمر الذي يسمح للدول الأعضاء باتخاذ الإجراءات الضرورية لمساندة السلطات المالية في معركتها ضد تنظيم القاعدة وحلفائه. وفي المجموع، سينتشر 5300 جندي من القوة الإفريقية في مالي تدريجياً ليحلوا محل القوة الفرنسية. لم تكن تتوقع فرنسا مقاومة شرسة من المقاتلين الإسلاميين، هذا ما أفاد به مقربون من الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذين أكدوا أن الجماعات الإسلامية المسلحة "مجهّزة ومدربة بشكل جيّد" وتمتلك "معدات حديثة ومتطورة". واعتقد الفرنسيون في البداية أن الأمر "يتعلق ببعض الجنود المرتزقة على متن عربات تويوتا وبعض الأسلحة"، غير أنه تبين لهم لاحقاً على أرض الواقع أن الإسلاميين "مجهّزون جيداً ومسلحون ومدربون بشكل جيد". ويعود السبب في ذلك، إلى أن الجماعات الإسلامية المتشددة استولت في ليبيا على معدات حديثة متطورة أكثر صلابة وفاعلية مما كان يتصور الفرنسيون، الأمر الذي شكل صدمة حقيقية لهم، بالقياس إلى تجهيزات الإسلاميين الحديثة، وتدريبهم وقدرتهم على استخدامها.. فقد أظهر الإسلاميون كيف يمكنهم إلحاق الضرر بمروحية وإصابة قائدها إصابة قاتلة، في إشارة إلى قائد مروحية قتالية فرنسية قتل يوم الجمعة الماضي. وبحسب المقربون من هولاند، فإن "الأمر لا يتعلق فقط بوقف هجوم (الإسلاميين) نحو جنوب مالي وإنما حملها على مغادرة شمال البلاد وأبرز المدن التي تحتلها أي غاو وتمبكتو وكيدال". خطر القاعدة التي استولت على شمال مالي، لم يعد يهدد مالي فحسب، بل الدول الإفريقية المحاذية لها، إذ أدركت "أن هذه المجموعات المدججة بالسلاح خطيرة وقادرة على إسقاط دول أخرى هشة في المنطقة في غضون عدد من الأشهر الواحدة تلو الأخرى". فبعد أن سيطرت القوات الفرنسية على مدينة ديابالي في وسط مالي، انسحبت منها لتترك المدينة في يد الجيش المالي، تزامناً مع وصول المزيد من القوات الأفريقية إلى الحدود بانتظار إشارة التدخل. وبعد 11 يوماً من بدء الحرب، قال رئيس الأركان المالي الجنرال إبراهيم داهيرو دمبيلي، في حديث لإذاعة "فرنسا الدولية"،إن هدفنا "هو التحرير الكامل لشمال مالي"، مضيفاً "ذا كان الدعم مناسباً فإن الأمر لن يستغرق أكثر من شهر بالنسبة لمدينتي غاو وتمبكتو". الأطماع الفرنسية تتحكم في قرار التدخل العسكري الفرنسي الأمور التالية: 1- الرواسب الاستعمارية لفرنسا باعتبارها القوة الاستعمارية المعنية أكثر من غيرها في التدخل بشؤون الدول الفرنكوفونية. وكان حلم رئيس مالي السابق أمادوتوماني توريه جعل دولته دولة منتجة للنفط غير مدرك أن الذهب الأسود ما هو إلا ذهب شيطاني يدخل صاحبه في طابور اللعنة كما هو حال باقي المستعمرات الفرنسية القديمة .و يعتبر حوض تاوديني الذي تصل سماكة الطمي فيه إلى 5000م وعلى مساحة مليون وخمسمائة ألف كيلو متر مربع تقريباً، أكبر الأحواض الرسوبية البرية في غرب أفريقيا حيث انه يمتد من مالي إلى النيجر وموريتانيا وبوركينافاسو وحتى الجزائر. وكانت مالي أبرمت اتفاقيات بامتياز وتشارك في الإنتاج على 29 مركزاً موزعاً على خمسة أحواض رسوبية بين حكومة مالي وشركات بحوث البترول، من تلك الشركات الشركة الايطالية للهيدروكربوريني (50٪) والاسترالية بتروليوم 25٪ والجزائرية سيبيكس 25٪ حيث قامت الشركة الوطنية الجزائرية الجيوفيزيائية إيناجيو بعمليات سبر الزلازل في بعض المراكز من سلسلة سوناتريش وهي الشركة الوطنية للبحوث وإنتاج ونقل وتحويل الهيدروكربور وتعتبر الشركة الأولى من أصل 12 شركة بترول أفريقيا. 2- الخوف المهيمن على باريس من إمكانية تهديد إسلاميي مالي المتطرفين لفرنسا، لاسيما أن أغلبية الإسلاميين هناك يتحدثون باللغة الفرنسية ولديهم العديد من الصلات والأقارب على الأراضي الفرنسية. كما أن تنظيم"القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" هدد في السابق فرنسا بنقل المعركة إلى داخل فرنسا. 3- عجز النظام المالي عن مواجهة الإسلاميين المتشددين الذين باتوا يهددون أبواب العاصمة باماكو خلال الفترة الماضية، وسيطرة قادة الانقلاب العسكري المستمرة على الجيش المالي وممارسة الحكم من خلف الكواليس، مع العلم أنهم كانوا ضدّ التدخل العسكري. 4- الانقسامات التي تعاني منها قوات "الإيكواس"لإفريقية، وصعوبة التنسيق الكامل بين القوة الأفريقية وبين حكومة باماكو والجيش المالي. إضافة إلى هذه الدوافع مجتمعة، هناك عامل اقتصادي وجيبوليتيكي، يفسر لنا التدخل العسكري في مالي، ويتمثل في ضمان عدم سيطرة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وحلفائه من الجماعات الإسلامية المتشددة في دول الساحل وغرب إفريقيا على القوس الذي يخترق المصالح الإستراتيجية الفرنسية، في منطقة تتجاوز مساحة القارة الأوروبية ذاتها، من مالي فموريتانيا والنيجر، وهي المنطقة التي تضم أضخم مناجم اليورانيوم، لاسيما في النيجر، التي حصلت شركة "ريفا" الفرنسية على امتياز استغلالها منذ عقود، وهي تزود بالوقود النووي ثلث المفاعلات النووية المنتجة للطاقة في فرنسا. كما أن "القاعدة" حولت شمال مالي الجبلي المنيع إلى حصن تهيمن منه على 250 ألف كلم مربع، وتشن منه الغارات على دول المنطقة، وتحتفظ في مخابئه الكثيرة بسبع رهائن فرنسيين. إن النزاع في مالي، ليس مثل الحروب الإفريقية الأخرى ذات الانعكاسات المحدودة على الغرب، فالأمر يتعلق بالخوف من سقوط الدولة المالية الفاشلة وإقامة إمارة إسلامية على غرار ما حصل في أفغانستان. وفي الواقع أصبح شمال مالي ملجأ للجماعات الإسلامية المتشددة المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، لاسيما "أنصار الدين" و "جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا"، وقد احتلته بالكامل و تطبق فيه الشريعة الإسلامية بحزم، من خلال الرجم، و بتر الأعضاء، والجلد، واعتقال النساءغير المحجبات، وتدمير أضرحة الأولياء الصالحين. وهناك "بوك حرام" التي ترهب نيجيريا حيث نفذت هجمات ضد الكنائس، وتسببت في مقتل 3000 شخص على الأقل منذ العام 2009 ولغاية نهاية العام 2011 وقضى أكثر من 815 شخصاً في نحو 275 عملاً إرهابياً نفذته في عام 2012، والتي تتمركز في شمال ووسط نيجيريا. وبرزت طفرة هذه الجماعات التابعة للقاعدة في شمال مالي والساحل الإفريقي، في ظل ظهور النزاعات على الهوية المرتكزة على الإثنية، والعشائر، والمنطقة، وهشاشة الدول في غرب إفريقيا، ونقص في النمو، وتهميش الشباب، وسقوط نظام العقيد القذافي. كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت في جعل المنطقة ملائمة لانبعاث الجماعات الإسلامية المتشددة، وانتشارها. صعود القاعدة في ظل إحباط الربيع العربي لقد تحولت البلدان الإسلامية، التي تحظى بسيطرة ضعيفة للدولة، أو حتى بانعدام وجود الدولة إلى ملاذات آمنة لتنظيم "القاعدة"، مثال ذلك، اليمن، وموريتانيا، والصومال، ومالي. عندما انطلق الربيع العربي في بداية عام 2011، و بدأت الشعوب العربية تطالب بإقامة ديمقراطية حقيقية و فعلية في بلدان تونس ومصر و اليمن، بات معظم المحللين العرب يعتقدون أن الربيع العربي هو الذي بدأ يقوض بصورة حقيقية معاقل تنظيم القاعدة، الذي أصبح الخاسر الأكبر من التغيرات الجارية في العالم العربي . فقد حذّر النائب السابق لزعيم تنظيم القاعدة الدكتور أيمن الظواهري (الذي أصبح منذ وفاة أوسامة بن لادن الزعيم الأول لتنظيم القاعدة) الشعوب العربية بعد انتصار الثورات الديمقراطية التونسية و المصرية التي كانت ذات طبيعة علمانية إلى حد كبير، من أنهم يخرجون عن الإسلام، واصفاً الديمقراطية بأنها "لا يمكن سوى أن تكون غير دينية". غير أنه بعد أنه بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في كل من تونس و مصر، وليبيا، بدأت الحركة الشبابية التي فجرت الثورات في تلك البلدان، والطبقة الوسطى التي احتضنت المعارضة الديمقراطية منذ بدء الاحتجاجات قبل حوالي العامين تشعران الآن بخيبة أمل كبيرة ونفور من "الثورة" لاتخاذها طابعاً إسلامياً متشدداً، من خلال تحالف حركات الإسلام السياسي (والحال هذه الإخوان المسلمين) مع الجماعات السلفية المتشددة، لاسيما بعد سقوط نظام العقيد القذافي.. وكان العقيد القذافي عندما كان محاصراً، حذر من أن سقوط نظامه سيؤدي إلى انتشار الفوضى والحرب المقدسة في شمال إفريقيا.. وبالفعل أظهرت الأيام صحة هذه النبوءة المتشائمة. ولم تستطع الجمهورية المالية أن تصمد كثيراً، أمام المعطيات الجيوبوليتيكية الجديدة لمرحلة ما بعد سقوط نظام العقيد القذافي، باعتبارها مفتاح فهم المشاكل الحالية، والمتمثلة في الصدمة الثلاثية الأبعاد، وصول الإسلاميين إلى السلطة في ليبيا، و تفجير المتمردين الطوارق الصراع المسلح في شمال مالي مع بداية عام 2012، إضافة إلى تمدّد "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" في الصحراء .علماً أن الديمقراطية في مالي الراسخة في هذا البلد منذ عشرين سنة كانت تلقب بالنموذج الذي يحتذى به في منطقة إفريقيا الفرنكوفونية.. وهناك إجماع داخل الدول الغربية والمغاربية، ودول الساحل الإفريقي، من مخاطر انتشار الأسلحة بصورة كبيرة في ليبيا، ووانتقالها أيضاً عبر الحدود إلى الدول المجاورة (الجزائر، مالي، النيجر، وموريتانيا) وهي مناطق الصحراء الكبرى، التي ينشط فيها تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، إضافة إلى المتمردين الطوارق. ومنذ الإطاحة بنظام القذافي، تكافح تونس ومصر لضبط حدودها مع ليبيا من أجل وقف تدفق الأسلحة. وكانت تونس أعلنت في شهر شباط 2012 تفكيك تنظيم إرهابي تدرب في ليبيا، ويسعى إلى إقامة إمارة إسلامية في تونس. لكن الموضوع الذي بدأ يثير مخاوف الجزائر وموريتانيا، ومالي، والنيجر، هي عودة الطوارق المقاتلين في صفوف كتائب العقيد القذافي، والذين يقدر عددهم بنحو 800 مقاتلاً إلى بلدانهم، بعد أن جند ت القوات الليبية في عهد القذافي وبشكل جماعي طوارق من مالي والنيجير من المتمدردين السابقين، وأثارت عودة هؤلاء المقاتلين بأسلحتهم خوفا في منطقة الساحل الإفريقي، لأنهم يهددون استقراها، من خلال عودة تفجر تمرد الطوارق. وتواجه مالي منذ أواسط كانون الثاني 2012هجمات تشنها "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، و"حركة أنصار الدين" الإسلامية المسلحة من الطوارق، التي أسسها إياد آغ غالي أحد القادة السابقين لحركة التمرد الطوارق في التسعينيات، حيث تطالب هذه الحركة بفرض الشريعة في البلاد، وأصبحت تسيطر على ثلثي مالي. واتهمت حكومة مالي تنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي" الذي يقيم قواعد في شمالي البلاد بشن هجمات على العديد من دول الساحل انطلاقاً من أراضيها. وما يجري الآن، هو الوجه القاتم للربيع العربي الذي بطبيعته السلمية في كل من تونس، ومصر، أضرّ بـ"القاعدة" وحلفائها على الصعيد الأيديولوجي، ولكن بعد سقوط نظام العقيد القذافي، ساعد هذا الوضع الجديد كثيراً الحركات الإسلامية الجهادية المرتبطة بتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، على الصعيد اللوجيستي من خلال اتساع المناطق غير الخاضعة للسيطرة الحكومية، وانتشار السلاح، والفوضى في الشرطة والأجهزة الأمنية. فانفتح الصراع الشامل من مالي وموريتانيا في غرب إفريقيا إلى الصومال في منطقة القرن الأفريقي، وأصبح صراع تنظيم "القاعدة" والمنظمات المرتبطة به، وهو صراع ذو طبيعة عنفية، مرتبط برؤية جيوبوليتيكية. وصارت الصوملة بمنزلة النموذج الجديد المتوقع أن يسيطر على تطور الأحداث القادمة في تلك المنطقة التي تضم الصحراء الكبرى والقرن الإفريقي. مغامرة "القاعدة "التي لا تحظى بأية مساندة من جانب أي دولة منذ سقوط نظام طالبان في أفغانستان، تمثل مفارقة حقيقية. فبينما استطاعت الحرب الكلاسيكية على الإرهاب أن تشل قدرة "القاعدة "على تنفيذ عمليات دموية كبيرة على غرار عمليات نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2011، نجد بالمقابل أن أفكار "القاعدة" انتشرت في صفوف التيارات السلفية الجهادية، وظهرت عشرات الجماعات المسلحة في شمال إفريقيا، وبلدان جنوب الصحراء والصومال، واليمن، تسمي نفسها باسم تنظيم "القاعدة في كذا وكذا"، وإن كان هذا ليس دليلاً على وجود علاقة تنسيقية أو تنظيمية بينها وبين تنظيم "القاعدة" في أفغانستان، وإنما هو مجرد تشبه بالاسم والفكر والتوجه بتنظيم "القاعدة" الذي أصبح موضة وماركة مسجلة في وقت من الأوقات، وفي نفس الوقت كانت أعمالها تنسب خطأ إلى تنظيم "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. "القاعدة" هُزِمت في أفغانستان، فخارج منطقة وزيرستان، لا توجد أراضي تحت سيطرتها، وقتل زعيمها أسامة بن لادن في مايو 2012، يعيش زعيمها الجديد الدكتور أيمن الظواهري في أماكن سرية، مقطوعاً عن العالم الخارجي، كما أن "القاعدة "ضعفت كثيراً في العراق، وصُدَت في المملكة السعودية، ولكن في ظل الربيع العربي عادت إلى سوريا. يجمع معظم المحللين العرب على أن منطقة المغرب العربي بعد سقوط نظام القذافي تحولت إلى مسرح حقيقي لنشاط الجماعات الإسلامية الجهادية التي تمارس العنف والإرهاب، والتي استغلت تحول الربيع العربي إلى "شتاء قاس"، لاسيما من جانب "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، الذي وسّع نشاطه ليشمل المناطق الممتدة من جنوب موريتانيا إلى السودان، مروراً بالبلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى: مالي والنيجر وتشاد. ومنذ أن سيطرت حركة "أنصار الدين" و"جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا"، وتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" على شمال مالي في بداية عام 2012، ومحاولاتهم بسط سيطرتهم على كل مالي عبر الزحف على العاصمة باماكو، مستفيدين من الأسلحة الثقيلة والمتطورة التي غنموها من ليبيا الغارقة حتى الآن في فوضى السلاح والمسلحين،أصبحت منطقة المغرب العربي، وبلدان الساحل الإفريقي تعيش "مستقبلاً مأساوياً" ما لم تتمكن الحكومات في تلك البلدان من فرض سيطرتها على الأرض،و بسط هيبة القانون، وهو أمر ليس بالسهل لأنه يتطلب تنسيقاً عالياً عابراً للحدود بين دول المنطقة، ترفده بالضرورة مساعدات دولية جادة. وكان "أنصار الدين " الذين يقاتلون في مالي هم الذين اقتحموا القنصلية الأمريكية في بنغازي، وقتلوا السفير الأمريكي كريس ستيفنس وثلاثة آخرين في سبتمبر من العام الماضي. وها هي القوات الفرنسية المتكونة من المظليين والمشاة، والمدججة بسلاح الطيران والدبابات تغوص في حرب رمال الصحراء المتحركة في مالي ضد التنظيمات الجهادية المرتبطة بتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". اقتحام القوات الخاصة الجزائرية منشأة الغاز في الجزائر سيطرت مجموعة إسلامية مرتبطة بتنظيم "القاعدة" على منشأة للغاز في عين امناس بولاية إليزي (جنوب شرقي البلاد) واحتجزت رهائن، ويمكن القول أن هذه العملية كانت معدة سلفاًً منذ وقت طويل، وأن التدخل العسكري الفرنسي في مالي عجّل بتنفيذها. هذا هو رأي عدد من قدامى المسؤولين في الاستخبارات الفرنسية، إذ من الصعب ارتجال مثل هذه العملية في غضون أيام، ومن المستحيل دخول هذه المنشآت النفطية الخاضعة لرقابة شدي إلا في حال وجود متعاونين من الداخل. ودفع الهجوم على منشأة الغاز بالسلطات الجزائرية إلى اقتحام المنشأة بوساطة القوات الخاصة، ما أدى إلى نهاية دموية لأزمة الرهائن،بمقتل 67 رهينة مقابل 29 "إرهابياً"، في وقت كان لا يزال هناك خمسة أجانب في عداد المفقودين يُنتظر الكشف عن مصيرهم حسب ما أعلنته السلطات الرسمية الجزائرية. ويعتبر هذا الهجوم الأسوأ من نوعه في الجزائر، حيث إن الخاطفين الذين يتبعون القيادي المحسوب على تنظيم "القاعدة"مختار بلمختار، كانوا برئاسة جزائري ومصري وضموا في صفوفهم كندياً واحداً على الأقل لعب دور "المنسّق" (تحدثت تقارير عن كنديين اثنين) و11 تونسياً، قدموا مطالب لا يمكن تلبيتها، ولجأوا إلى إعدام رهائنهم برصاصة في الرأس. وقتلت قوات الجيش الجزائري 29 مسلحاً وقبضت على ثلاثة مسلحين أحياء. "القاعدة" والبحث عن الملاذات الآمنة في الصحراء في ظل الضربات التي تلقاها تنظيم "القاعدة"في العراق،و اليمن، وأفغانستان، بفعل الدور الذي لعبته القوات المسلحة المحلية إضافة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سي.آي.إي"، عملت قياداته على تأسيس ملاذات آمنة جديدة في إفريقيا، ولاسيما في منطقة المغرب العربي، وبلدان الصحراء الكبرى، والصومال، حيث تمكنت التيارات السلفية الجهادية المرتبطة بالقاعدة من شن عمليات ضد الولايات المتحدة الأمريكية أو وكلائها في هذه المناطق. إن بلدان الساحل الإفريقي والصحراء الكبرى التي تضم كلا من مالي، والنيجر وتشاد، وموريتانيا لا تمتلك قوات عسكرية متمرسة على خوض الحرب ضد التنظيمات الإرهابية، مثل الجيش الجزائري الذي يمتلك خبرة واسعة في هذا المجال. وتواجه دول الساحل أكبر التحديات المتمثلة بالمساحة الشاسعة لهذه المنطقة التي تربو على 660 ألف كيلومتر مربع، إضافة إلى أن المنطقة صحراوية ووعرة لها جغرافية معينة، تحتاج إلى دراسة مكثفة لمعرفة خباياها و نقاط تمركز عناصر "القاعدة"فيها، وهو ما يُلزِمُ الدول المعنية بالبحث عن طرق كفيلة بمطاردة عناصر"القاعدة" و إيجاد مناطق تموضعها، لاسيما إلى أن كل التقارير تشير إلى أن عناصر "القاعدة" لا تتمركز في مكان معين، مستغلة التمويه. لقد تحولت هذه الصحارى الشاسعة إلى مناطق خطيرة جداً من العالم، حيث تتقاطع وتتشابك فيها مصالح الإسلاميين المتشددين، ومهربي المخدرات والسجائر، والمهاجرين السرّيين، الذين يحمي بعضهم بعضاً. وذلك أن الجامع بين نسيج هذه المنطقة كلها، هوية شعبها "العربي والطارقي"، ونمط حياة بدائية، عمودها الماشية، مع نشاط ضعيف للأسواق المحلية، التي تعيش على البضائع المهربة من الجزائر في أغلب الأحيان. وتفتقر هذه المنطقة الشاسعة للمشاريع التنموية، إضافة إلى أنها تعيش في ظل فراغ أمني، حيث لا يوجد في تلك الأقاليم، ما يستدعي حضور أي حكومة، وأغلب الأهالي يحتكمون إلى الأعراف الاجتماعية التي كانت سائدة حتى قبل الاستعمار، وإن احتاجوا إلى تدخل الحكومة فهم من سيذهب إليها في بعض مراكزها المتواضعة، في مدن مثل (تمبكتو، وكيدال، وإيغدز) والمراكز التابعة لها.أما الفساد الذي يرمز إليه السكان في تلك المناطق الصحراوية الشاسعة بقصصهم العجيبة، لا يستثني أي إدارة في تلك الناحية، فإضافة إلى الفقر الشديد الذي غيب الذمم، تذمر السكان، من توزيع فرص التنمية بشكل غير متوازن. فكل وزير، أو صاحب ولاية، يعتبر أن ما يديره هو ملك شخصي له، وعلى من يريد نيل نصيبه أن يدفع الرشوة. في وضع كهذا بوسع "القاعدة"، أن تسير الحكومة نفسها من الباطن. ناهيك بالمستضعفين من البدو وأبناء القرى، الذين ليست لديهم حيلة، ويرتعبون لمشاهدة أي غريب، وثمن ماشية أحدهم أو مزرعته، لا يتجاوز ألف دولار. في حين تملك "القاعدة" مئات الملايين من الدولارات تحتار كيف تصرّفها، ومن وفرة السيولة النقدية بفضل ملايين الفدى!. |
||||||