الإسلام كرسالة إنسانية..
مقاربة في المشروع الثقافي الإسلامي من زاوية التحدي والاستجابة(ج 3)

السنة الثانية عشر ـ العدد 134 ـ (  ربيع أول ـ ربيع ثاني 1434  هـ ) شباط ـ 2013 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

        إن فاعلية هويتنا الإسلامية الحضارية مرهونة بالمشاركة المسؤولة والانخراط الواعي والمدروس في البناء والتأسيس للقيم والمفاهيم الإنسانية المشتركة، أي بأن نشارك في بناء حضارة العصر الكونية، ونتحمل مسؤولياتنا فيه (خصوصاً الثقافية منها) بإيجابية تامة، ونتعامل مع معطياته بنجاح..

        وسبيلنا إلى ذلك هو هذه اللغة المشتركة مع الحضارات الأخرى وهي المتمحورة حول قضيتي العلم، والإيمان، والعمل بهما، وتدبر قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ﴾(الرحمن:33). فالسلطان هنا هو العلم والمنطق، والحجة، والبرهان، وهو أيضاً ضرورة العمل على مختلف التطبيقات العملية لمعطيات ومعايير العلم، وتجاوز ونفوذ حسب قوانينه التي تبقى اكتشافاً لقدرة الخلق وقوانين الكون الذي يدبره تعالى وتبارك بقدرته وحكمته وروعة نظمه للكون والحياة والوجود بصورة عامة..

        لذلك وفي مواجهة التحديات السابقة – بإشكالياتها وتعقيداتها الحاضرة والمستقبلية– نتساءل: ماذا يمكن أن يفعل العرب والمسلمون، خصوصاً وأنهم أصحاب أطروحة ربانية شاملة نؤمن بقدرتها الذاتية والموضوعية على قيادة الإنسانية جمعاء إلى شاطئ وبر الأمان على الصعيد الروحي والمفاهيمي؟!. وما هي حركيتهم الثقافية والاجتماعية التي سينطلقون على أساسها في مواجهة تلك المتغيرات؟!. ثم هل نحن مؤهلون كفاية لمواجهة التحولات والمتغيرات الجذرية الجديدة في تاريخ البشرية، بكل ما تحتويه من استحقاقات، وما تطرحه من إشكاليات ومتطلبات على المستويين: الحاضر والمستقبل؟!.

        إن قراءة نقدية متأنية هادئة وواعية لواقع الحال العربي والإسلامي الراهن، بما يحتويه من هياكل اقتصادية وبنى اجتماعية وسياسية وثقافية، سوف تجعلنا في مواجهة حقائق فائقة الخطورة وبالتالي لها آثار سلبية غير مطمئنة على صعيد حركة مستقبلنا في علاقته مع الذات الحضارية الإسلامية من جهة، ومع الدائرة الحضارية العالمية من جهة أخرى، حيث أننا – في واقعنا الداخلي– نسقط دائماً تحت تأثير أي واقع جديد، لأن هذا الواقع لا يبرز من خلال عنوانه الكبير كقوة إقليمية أو عالمية، بل يبرز متناحراً و متشظياً، يمكن أن يلتقطه أي فريق ليسيطر على أوضاعه، ومواقعه، وثرواته.. كذلك لا نزال – على الرغم من تحقيق بعض الإيجابيات العلمية في هذا المجال- أسرى لكثير من معايير ومنظومات تفكيرية وأنساق معرفية بعيدة عن روح العصر وتطبيقاته العلمية الصحيحة..

        ومن خلال ذلك نلاحظ كيف أن ردود أفعال البلدان العربية والإسلامية على مخاطر وتحديات الواقع العالمي القائم، خصوصاً العلمية والبحثية منها، لا تزال تخفق أشد الإخفاق في إدراك حجم التحولات العالمية السريعة، إضافة إلى عدم شعورها بوجوب المبادرة الحضارية الفورية في التكيف الإيجابي مع حاجات الواقع والحياة المستجدة، رغم وجود كم نظري هائل من القواعد المعرفية الإسلامية الداعية والمحرضة على قيم العلم وطلب العلم والتفكر والتعقل والعمل وغيرها.. ويعود هذا الإخفاق –في حقيقته وبالدرجة الأولى– إلى طبيعة السياسات التي طبقتها في بلداننا الحكومات والنخب السياسية القائمة، حيث اتخذ الإصلاح السياسي والاقتصادي - قبل البدء بتأسيس الهياكل العلمية البنيوية - شكل تنفيذ وتطبيق برنامج التصحيح الهيكلي المفروضة من قبل الدول والقوى الكبرى والمؤسسات المالية الدولية التي أسستها، وهي الباحثة دوماً عن مصالحها ومنافعها أساساً. 

وقد أدى ذلك كله -في ظل غياب سياسات رسمية حقانية عادلة، وفي ظل انعدام وجود الحرية والحياة السياسية الصحيحة، وفي ظل عدم وجود أية وسائل وبنى مؤسسية دستورية للتعبير عن الرأي ومساءلة ومراقبة شعبية حقيقية- إلى هيمنة الجزئي على الكلي، والفرعي على الرئيسي، واستبدال شركات القطاع العام المفلسة –بسبب السرقات والنهب، وسوء التخطيط والإدارة– بقطاع خاص تسيطر عليه المافيات المالية، والرأسمال المضارب.. وباءت جميع المحاولات الرامية إلى خلق تكتلات اقتصادية عربية وإسلامية شاملة أو جهوية بالفشل الكبير، فلا الوحدة العربية تحققت، ولا الوحدة الإسلامية قامت..

        ويظهر ذلك على أداء بلداننا العربية والإسلامية في كثير من الميادين الاقتصادية والتقنية والعلمية والاجتماعية والثقافية أيضاً.. أي تلك المظاهر والمعطيات التي تحدد مكانة الدول وموقعها في الواقع العالمي الجديد.

        إذاً هذا الواقع الحقيقي للعالم العربي والإسلامي عموماً.. وهو وضع سلبي وسيئ بكل المقاييس، ولا يبشر بأي خير في الحاضر أو في المستقبل. وهو بالتالي يعكس –في واقع الأمر– فشلنا وإخفاقنا الذريع في بلورة سياسات وردود أفعال إيجابية وناجعة على التحديات العالمية الجديدة وعجزها عن المواءمة والتكيف مع متغيرات الواقع العالمي  التي بدأت تظهر ملامحها منذ أكثر من عقدين..

        وما أعنيه من كلمة التكيف والاستجابة هو حصراً العمل على إدماج الهوية الإسلامية في العالم المعاصر، وتوطين العلم والمعرفة العلمية والتقنية في واقع هذه الثقافة والهوية الحضارية المنفتحة والإيجابية في قبول الآخر أكثر من كل الهويات الأخرى، حيث أن هذه الهوية تمكن أهلها المسلمون سابقاً من التفاعل الخلاق والمبدع مع باقي الدوائر والحلقات الحضارية العالمية خلال عصور الفتوحات الإسلامية وما بعدها، فتمكنت من التأثير فيها، وبناء أسس للتعاطي والتفاعل معها، على مستوى الأخذ والعطاء.. وهذا يعني أنها كانت هوية منفتحة مبادرة ومبادأة.. فانطلقت العلوم والأفكار والتطبيقات العلمية، وانتشرت حركة الترجمة، وشاعت في الأفاق الإسلامية والكونية كلها أسماء لامعة ومعروفة عالمياً حتى الآن لعلماء وفلاسفة وأطباء ومخترعين ومكتشفين عرب مسلمين، حيث كانت لتلك الحضارة الإسلامية آثارها ونتائجها وأفضالها الباقية على كل حضارات الإنسان الأخرى كالحضارة الغربية في مختلف وشتى العلوم والمعارف الإنسانية والتطبيقات العلمية من الفلك والطب والجغرافية والكيمياء.. وغيرها.. وهذه الأفضال والأسبقية العلمية معترف بها حتى الآن من قبل حضارة الغرب بالتحديد.

        هذا كله كان قائماً، وهو موضع فخر لنا جميعاً، ولكن ما حدث بعد ذلك هو انقطاع كلي عن تلك العصور الزاهرة، نتيجة الدخول في عصور التخلف المعرفي والفكري.. وقد استمر هذا الانقطاع شبه الكامل عن معطيات الحياة والعصر القائم حولنا عدة قرون.. خضعنا فيها لمنظمات دولية ومراكز استقطابات سياسية دولية كبرى واحتلالات واستلابات سياسية وثقافية وعلمية كونية، كنا فيها أسرى للآخر بلا قوة ولا حراك ولا قدرة ولا تأثير..

        طبعاً نحن لا نريد – من خلال استخدامنا السابق لكلمة "التكيف" أو لكلمة "الاستجابة"– التخلي عن اعتقاداتنا ومبادئنا وسلوكنا الحضاري والقيمي الإسلامي في سبيل إرضاء نزعات وأهواء عصرنا المهووس والمنبهر بعقدة الجديد، والتعصرن المزيف واللامعقول.. ولكننا نريد به أن نندفع بقوة العقل والتفكير العلمي الخلاق باتجاه إيجاد المعادل الموضوعي المثمر والمنتج لحضور الآخر المستمر والمتكرر في بيئتنا وفضائنا الثقافي والسياسي، والإعلامي، والاقتصادي، وذلك من داخل وعينا وتراثنا ونسيجنا العقائدي والاجتماعي المعبر عن حقيقة تصوراتنا الإسلامية الأصلية عن الحياة والإنسان.

        فالمطلوب هنا – في إطار السعي والتكيف مع العصور العلمية الجديدة، وعدم الهروب من مواجهة الجديد- هو التعامل مع المستجدات بلغة العقل ومنطق الوعي والعلم، وأن نشارك (من موقع الانفتاح المتوازن) في صنع حضارة العالم، ونستجيب إيجاباً لحركية السعي الحضاري العالمي، لنكون جزءاً فاعلاً ومنتجاً، وليس مستهلكاً أو متطفلاً كما هو واقع الآن.

        ونحن – ضمن هذا الاتجاه– نرفض أن نكون استجاباتنا على تلك التحديات مجرد بيانات مشككة أو منذرة ومحذرة بتلك الأخطار.. ذلك لأنه ما لم تقم مجموعة عربية وإسلامية متضامنة بتنسيق خططها التنموية وسياساتها الاقتصادية فإن عالمنا العربي والإسلامي سيفشل فشلاً ذريعاً في مواجهة تحديات المنافسة الاقتصادية الدولية، وميولها العدائية المصلحية كما يعبر عن ذلك الواقع الحالي سواء تم الأمر في إطار منظومة العولمة، أو في أي إطار "نظام!" عالمي آخر.

        من هنا علينا أن نفهم أن المواجهة ليست مع العصر الجديد بقيمه وتحولاته التي قد لا تناسبنا بحد ذاتها، بقدر ما هي مواجهة مع النفس والذات الإسلامية المطلوب منها إعادة البناء والتأسيس.. هذه المواجهة مع الذات الحضارية للمسلمين تقتضي منا توفير الشروط والمناخات المناسبة التي تسمح لنا بمواجهة واقع كوني قائم قوي البنيان والقواعد، فنحن ندرك سلفاً أننا سنواجه مجموعة من التحديات على غير صعيد لذلك لا نستطيع مواجهة هذه التحديات على المستويين القريب والبعيد، إلا إذا واجهنا، قبل ذلك الذات ورؤيتنا من منظور الإسلام نفسه كثقافة وقيمة كبرى، ما يشكل وسيلتنا الثقافية، أو العقائدية لمواجهة تحديات البناء الحضاري المتين.

        طبعاً، ومع كل ما ذكرناه من هيمنة الأجواء السلبية على واقعنا الإسلامي المعاصر، لا يعني أن المسلمين لم يتمكنوا من بناء مواقع قوية لهم في عالم اليوم، أو أنهم لم يحققوا الاكتفاء الذاتي في كثير من مواقع الحياة المعاصرة، بل يبدو لي أن هناك بعض الدول الإسلامية، وعلى رأسها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعت وفهمت هذا التحدي الكبير، وانطلقت في مقاربتها المعرفية النقدية للتراث الإسلامي، من زاوية الاهتمام بالعلم والتقنية والمعرفة العلمية، ليس من باب الدعوة والحض والدفع فحسب، وبناء الجامعات التقنية العلمية وفسح المجال لبناء مواقع وبنى تحتية للبحث العلمي فحسب، بل من زاوية الاستجابة الفاعلة لمتطلبات الثقافة العلمية العملية اختراعاً وكشفاً وفتوحات علمية مهمة وفاعلة، بما يبني لها موقعاً ووجوداً ودوراً قوياً وفاعلاً في عالم يحتقر الضعفاء، ولا يحترم إلا الأقوياء بالعلم والمعرفة العلمية قبل أي شيء.. وهذا هو الفرق بين إيران وبين كثير من دولنا الإسلامية الأخرى التي اشترت كثيراً من منجزات ومفردات العلم، ولكنها عجزت حتى الآن عن بناء أسس ومعايير البحث العلمي الحقيقي، وفشلت في توطين قواعد المعرفة العلمية، بمقدماتها ومكوناتها البديهية الأولى.

        وفي هذا انطلقت إيران – ونأمل أن تتحرك وتنطلق غيرها من بلداننا العربية والإسلامية- من خاصية العلم الذي هو القيمة الإنسانية الكبرى في الحياة، لأنّه هو الذي يعطي الإنسان معنى إنسانيته المنفتحة على مسؤوليته في الحياة كلها.. وعندما أكد الله سبحانه أهمية العلم، أراد للأمة أن لا تقف عند مستوى معين منه، بل أن تظلّ في حال ارتقاء وصعود حتى تستوعب كل معرفة وكل علم.. يقول تعالى:﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾(طـه: من الآية114).. لأن الإسلام انطلق من أجل أن يعطي الإنسان حضارته، ولا حضارة بدون العقل أو العلم.

        وهذا هو المطلوب، في أن لا نبقى نلف وندور حول معطيات ومفردات الثقافة القديمة، وأن لا نلغي الهوية ولا القيم التي تنتجها وتتمخض عنها، بل أن نتعاطى بعقل ووعي وحكمة وتوازن معها، وأن نخرج أفضل وأهم ما تختزنه ذاتنا الثقافية الإسلامية.. أي أن نؤسس لثقافة إسلامية أصلية جديدة تخوض غمار مواجهة الواقع السياسي الاستبدادي القائم، وأنظمته المغلقة التي تعمل على إفساد وهدم الثقافة نفسها من خلال عملها على أن لا يكون للثقافة سلطة على الإطلاق، في مقابل سلطة الأنظمة نفسها التي أسسها على العصبية والقبلية والعشائرية ومن خلال ذلك يمكن أن نخوض أجواء "التحدي ورد التحدي" ونواجه سلبيات المرحلة الراهنة بإنتاج ثقافة خاصة تعتبر الإسلام مصدرها الأول، والعصر – بتحدياته وتنوعاته– مصدرها الثاني.

        فهل نجرؤ على مواجهة ذاتنا كشرط مسبق لمواجهة تحديات العولمة والهويات الثقافية في عمق مجتمعات الثورة المعلوماتية؟!.

        في اعتقادي نعم نستطيع، لأنه لا نهضة من دون مساءلة وحوار مع التراث كما ذكرنا، لأن غاية تحقيق نهضة المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تتحرك مفاعيلها الصحيحة من دون العمل على وعي التراث الإسلامي من داخل بنيته الحقيقية، وإعادة النظر فيه، وصياغته بصورة تناسب منطق التطور، ودينامية الإبداع البشري فيه. وهنا بالذات علينا جميعاً – كنخب واعية ومفكرة– ألا نهرب من تحمل مسؤولياتنا التاريخية الحاضرة والمستقبلية، وننكص إلى الوراء لنتهم العقل الإسلامي هنا (والعقل العربي هناك) بالاستقالة والعجز.

        طبعاً نحن لسنا ضد ممارسة عملية النقد، بل إننا ندعو بقوة إلى إتباع هذا السبيل القويم (سبيل النقد الموضوعي) ونعتبره شرطاً حاسماً لإنتاج حراك إسلامي فعال يلائم حاجات إنساننا في هذا العصر.. ولكن الاستغراق في نقد الآباء والأجداد، وتحميلهم المسؤولية الكاملة عما يجري حالياً من انقسام وتخلف وتفتح سياسي واجتماعي.. الخ، لا يمكن إلا أن نعتبره – كما قلت– هروباً من تحمل مسؤولية النقد ذاتها.

        وهذا المنهج السائد في ساحاتنا حالياً يعبر عن سعي النخب العلمانية العربية إلى رمي مسؤولية الفشل عن كاهلها، وتحميله للآخرين الذين لم يعرفوا الشروط والمناخات الحديثة والعصر الجديد، ولم يعيشوا فيه بعمقه وإحساسه الحقيقي، ولم يواجهوا تحدياته الحديثة، ولم يكن بإمكانهم أن يبلوروا حلولاً موضوعية ومنطقية للمشكلات المطروحة علينا في القرنين التاسع عشر والعشرين التي اتبعنا –من أجل مواجهتها– سياسات ومناهج ضبابية، وهمية، غير عقلانية، وإيديولوجيات مفروضة بقوة السلاح، وليس لها أية قيمة علمية..

        جوهر الموضوع هو أن نبحث – ضمن محاولتنا وضع، وصياغة بداية مشروع عام لمواجهة تحديات العولمة المفروضة على العرب والمسلمين– عن أسباب تخلفنا وهزائمنا، وكثرة أمراضنا المزمنة، وتزايد حجم الخسائر المادية والمعنوية التي تلحق بنا يومياً. علينا أن نتقصى أسباب ذلك في سياسات حكوماتنا، ومناهج أنظمتنا السياسية في الحاضر وليس في الماضي كما ذكرنا.. في طبيعة الاعتقادات المسيطرة على نخبنا السياسية، في تصوراتها الحديثة عن تكوين الدولة والمجتمع، وبناء المؤسسات العامة، لا أن نستغرق في متاهات الحديث عن اعتقاداتنا السابقة.

        إن المواجهة الثقافية الصادقة والناقدة للذات هي الأساس الذي تتطلبه عملية دراسة ووعي وقائع الحياة الجديدة، والتأسيس الجدي لمشروع نهضوي حضاري إسلامي يقوم –قبل كل شيء– بتجنيد الجماهير ضد اللامبالاة واللا التزام من خلال إيقاظ الشعور العام بالمسؤولية، والوعي بالأخطار الداهمة التي تواجه الأمة (أقطاراً وشعوراً وتيارات وقوى، مسؤولين ومواطنين)، وبتعبئة الجهود ضد واقع التخلف والانقسام، وبمباشرة الجهاد الأصغر والأكبر قولاً وفعلاً.

        ثمة حاجة ماسة إذاً، لالتزامات روحية جديدة في الوعي والعمل والحركة، جوهرها الكفاح والجهاد بلا هوادة من أجل تحرير الأرض التي لا تزال مغتصبة، وقبل ذلك تحرير الإنسان نفسه، وتحقيق شروط وجوده الأولية.. فالراحة والسكون اليوم حرام، ويجب ألا يكون هناك وقت لدينا جميعاً – كل بحسب موقعه ودوره - إلا للسعي والعمل والإنتاج.. هذا هو شعار المرحلة القادمة الذي يجب أن نستجيب لندائه الكبير بلا خوف من انفتاح أو مشاركة في تحولات هذا العصر.. والبشرية اليوم تحتاج – خصوصاً مع دخول بعض الحضارة والثقافة الغربية عصر ما بعد الحداثة- إلى ثقافة إنسانية بمعايير غائية هادفة روحية، ترتقي باهتماماتها وهمومها وأشواقها ورغباتها وطموحاتها إلى المثال الأعلى.. ثقافة تضع الإنسان في مركز الحدث، وغاية الوجود، وهدف الخلق.. ثقافة تعلم البشرية أن وظيفتها الحقيقية تكمن في استخدام وتملك الأشياء، لا في أن تستخدمها الأشياء، وتمحورها حول ذاتها ومصالحها وأهوائها.

        ونحن كأمة إسلامية -كانت خير أمة أخرجت للناس تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر- تمتلك النموذج والبديل الثقافي والاجتماعي الإسلامي الحضاري الفاعل للحاضر والمستقبل، والذي ينطلق من خلال عنوان الاستخلاف الرباني كقاعدة وثابت مركزي أساسي في داخل بنية التفكير الإسلامي… يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة: من الآية30) ونحن نعتقد – بكل تأكيد- أنه يمكن لثقافتنا الإسلامية الأصيلة والمنفتحة وغير المنغلقة أو لمتكورة على ذاتها كما هي ثقافة اليهود وغيرهم، أن تقدم لهذا الإنسان كل إمكانيات ووسائل تمكينه من بناء حياة فاعلة على الأرض، والتصرف عليها بوصفه الأمين والمؤتمن على نفسه، وعلى سواه من عناصر الطبيعة والحياة. والفكر الإسلامي المعاصر حقق – على هذا الصعيد –  الكثير من التقدم.. حيث استطاع استيعاب منجزات العلم الحديث، وأساليب التنظيم المعاصرة، ووضع مشاريع إجابات إسلامية واعية مبنية على اجتهادات فقهية لصيغ التعامل بين الأنا والآخر، والكشف عن إقرار الإسلام بالتعددية الثقافية والحضارية، واعترافه بشرعية التنوعات بين الأقوام والجماعات البشرية المتعددة. ولكن لا بد لنا من الاعتراف هنا – في سياق تحليلنا للمشهد الثقافي الإسلامي الراهن، على طريق كدحه الارتقائي ﴿يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾(الانشقاق:6) نحو طموحاته المستقبلية العالية– أننا لم نصل بعد إلى المستوى الملائم لما تقتضيه تحديات المرحلة في كثير من مواقعها وامتداداتها التي لا تزال تطرح من خلالها قضايا مهمة جداً كقضية الدولة الإسلامية، وآليات تنظيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التفصيلية، حيث أننا لا نزال – على هذا الصعيد– نسمع حتى الآن أصداء الخطاب التعبوي العاطفي.. وإن كنا نلاحظ أن هناك بعض التقدم الحاصل في هذا المجال تحديداً، فإنه لم يبلغ بعد درجة الكفاية والتطلب الحقيقية التي تجعله يستجيب للمستجدات السياسية والاجتماعية والثقافية والسلوكية في التعامل مع مجتمعاتنا والمجتمعات الأخرى.

كاتب وباحث سوري(*)

اعلى الصفحة