|
|||||
|
الكلمةُ الطيبة... والزرع الطيب في معظم الأحيان عندما يتناول الكاتب المنصف شأناً عاماً يركز اهتمامه على المبدأ والفكرة وأبعادها وآثارها ولا يخطر بباله، الأشخاص تحديداً، فتداوُلُ الأفكار في العمل الصحفي والفكري أهم من تداول الأسماء، وتداول الأفكار جزءٌ من التدافع السلمي والسياسي في الحياة العامة، فالكتابة لغرضِ الإساءة للأشخاص لون من ألوان الكتابة الموجّهة التي يفترض أن يترفّع عنها الكاتب لأنها تقود إلى متاهة تطغى على المبدأ وعلى المعنى العام الذي يدافع عنه الكاتب. وتناوُلُ الأشخاصِ ـ عادةً ـ يكون لغرضٍ ما إما للمدح أو التزلُّف أو التجريح أو لبيان دور محدود لشخص ما في قضية عامة لا يستقيم الوضوح بدونه، وهذا ما يستلزم التقصي والتوثيق والتأكد من الحقائق حتى لا يعرض الكاتب نفسه للمساءلة الشخصية والقانونية أو فقدان المصداقية، وفي معظم الأحوال قد يؤدي تناول الأشخاص إلى تحويل القضايا العامة إلى قضايا شخصية. والمشكلة أن المعنى في أي قضية عامة قد ينسحب على أكثر من جهة وعلى أدوار متشابهة في العمل العام، وقد تشعر بعض الجهات أو الأشخاص التي قد لا يقصدها الكاتب، إن المعنى قد يصيبها من زاوية ما دون أن يكون ذلك الهدف المباشر للكاتب. ومع أنني أعتقد أن ما في الناس من خير واستقامة يجب أن يذكر لغرض إعلاء معنى الخير وجعله قدوة في العمل العام، إلا أن ذكر الجوانب السيئة في سلوك الناس يجب أن يؤخذ بحذر وبحرص على الحقيقة لأن أثره قد يتعدى الشخص المعني ليصيب كثيرين ممن يهمهم أمره من أهله وأسرته وأحبائه، فالتشهير ليس مهمة الكاتب وسوق معلومات خاطئة أو مُبَالَغٍ فيها عن أي قضية عامة لغرض الإثارة معناه أن الكاتب يضلل الناس بقصد أو غير قصد وهذا أسوأ ما يصيب سمعة الكاتب ويصيب الحقيقة قبل أن يصيب الأشخاص الذين يتعرضون لمثل هذا الأمر. وبقدر ما يجب أن يحرص الكاتب على الحقيقة وعدم خلطها بالهوى يجب الحفاظ على مبدأ نزاهة القلم ونزاهة دور الكلمة في الحياة العامة، فالكلمة التي لا تدافع عن الحقيقة والحق وتستهين بها من خلال عدم الدقة في تقصي الحقائق سهم طائش يجرح الآخرين ولا بد أن يرتد على صاحبه في النهاية، فجزء من النزاهة العامة أن يكون القلم نزيهاً وأن لا يكون قلم ضغينة، أو قلم تعصّب، أو قلم منفعة خاصة، وأن يكون العقل الذي يديره منفتحاً على كل رأي يناقش بدون تعصب، وأن لا يستكبر صاحب القلم والرأي عن الاعتراف بالخطأ إذا وقع فيه، وأن يقارع الفكرة بالفكرة، والموقف بالموقف، وأن لا يقارع الفكرة أو الموقف بالشتيمة أو التوصيف الذي يحط من قيمة أو قدر الأشخاص أو المذاهب أو الطرف الآخر. فالنقد لسلوك عام خاطئ وأخذ العبرة منه حتى لا يتكرر نموذجه وحتى لا يترسخ في مفاهيم الناشئة وبخاصة ممن يعملون في مجال الكلمة أو العمل العام أمر مهم وحتى لا يتوهم من يستخدمونه بشكل خاطئ أيضاً، إنه الطريق الصحيح للتعامل مع الآخرين. والذين في مواقع المسؤولية عادة يجتهدون بطرق مختلفة في كيفية التعامل مع أصحاب القلم أو وسائل الرأي العام، وقد يخطئون أو يصيبون. لكن أصحاب القلم والكلمة هم الذين يضعون القواعد الصحيحة لما يجوز ولا يجوز في التعامل معهم أو لمواجهة ما يمس بنزاهة دورهم، وحيثما يضع المرء نفسه يكون ووفق ذلك يتعامل معه الناس إن خيراً.. فخير, وإن شراً.. فشر. وصاحب المسؤولية العامة رجل عام أيضاً من الطبيعي أن يختلف الناس معه في الرأي أو في تقييم أدائه، وما يراه أحدهم في محله قد يراه غيره بصورة أخرى، وعلى أصحاب المسؤولية العامة أن يوسعوا صدورهم للنقد واختلاف الرأي، فما اجتمع الناس حتى على نبي. وعندما يتصرف رجل المسؤولية العامة بشكل يسيء لدوره وموقعه من حق وسائل الإعلام إلقاء الضوء على تصرفه ما دام المسؤول لم يتحرج من تصرفه وليس عليه أن يلقي اللوم على وسائل الإعلام إذا قامت بدورها بدون تطرف أو تشهير. ويجب أن لا يتردد صاحب القلم بالاعتراف لكل صاحب إنجاز في العمل العام بإنجازه وأن يسجل لأصحاب النوايا الطيبة نواياهم الحسنة حتى لو لم يستطيعوا تحقيقها لأسباب خارجة عن إرادتهم، وأن لا تمنع الصداقة أو القربى من نقد الخطأ دون المساس بكرامات الناس وحقهم في الدفاع عن أنفسهم بطريقة ملائمة. وعلينا أن نعترف بأنه ليس هناك وجه واحد للحقيقة في جميع القضايا، فالحقيقة حمالة للأوجه واختلافات الرأي، وقد يختلف الناس وكذلك أصحاب القلم والرأي في تفسيرها وتقييمها، لكن الهدف الأساس لدى الكاتب المنصف مناقشة المبدأ والأفكار والأسباب والحقائق التي أملت أي تصرف أو سياسة أو سلوك وتناول الحقائق المجردة بأمانة دون غمز أو لمز أو إشارات تثير الريبة دون داع وكأنها إصدار حكم مسبق على الأشخاص، والأهم تتبع نتائج السلوك أو العمل وآثاره في ساحته خصوصاً إذا كانت نتائجه غير سليمة أو ضارة بالمصالح العامة. وفي كل الأحوال للشرفاء والكرماء في واقعنا الذين يجتهدون بنية حسنة حتى لو شاب عملهم الخطأ كل المحبة والتقدير على صعيد أشخاصهم حتى لو اختلفنا معهم في رأي أو إجراء أو سياسة أو موقف أو اجتهاد، فالأصل في الكلمة أنها زرع طيبٌ جذره في المصلحة العامة ودافعه في ضمير قلبِ محبٍّ للوطن والناس حتى عندما يقارع صاحبها الخطأ بالرأي والكلمة.
|
||||