تركيا ورهاناتها على القضية الكردية

السنة الثانية عشر ـ العدد 134 ـ (  ربيع أول ـ ربيع ثاني 1434  هـ ) شباط ـ 2013 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تعد القضية الكردية في تركيا من أهم القضايا التي واجهتها الحكومات التركية المتتالية منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، إلى درجة أنها باتت مشكلة تاريخية مزمنة، تهدد أمن البلاد وترهق اقتصادها وتعيق التنمية الشاملة والتعايش السلمي، فضلاً عن أنها تسبب لتركيا مشكلات مع دول الجوار الجغرافي، لاسيما في ظل الصراعات الإقليمية الجارية وتطلع العديد من الدول والقوى الإقليمية إلى استخدام القضية الكردية ورقة في صراعاتها وتطلعاتها وخلافاتها مع الدول الأخرى.

خلال العقود الماضية ولاسيما في العشرينيات والثلاثينات من القرن الماضي، قمعت الحكومات التركية المتتالية العديد من الانتفاضات الكردية المسلحة وارتكبت العديد من المجازر ضد الأكراد، كما حصل خلال ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 حيث أعدمته مع 243 مقاتلا كرديا ،ومن ثم ارتكبت مجزرة ديرسيم عام 1939 (منطقة معظم سكانها من الأكراد العلويين – لاحقاً تم تغير أسمها من ديرسيم إلى تونجلي) التي قتل فيها الجيش التركي أكثر من سبعين ألف كردي كما تقول المصادر الكردية التاريخية، فيما اعترفت تركيا بمقتل 14 ألف فقط، وقد اعتذر رئيس الحكومة التركية أردوغان مؤخراً عن ارتكاب هذه المجزرة محملاً المسؤولية إلى حزب الشعب الجمهوري الذي هو الوريث التاريخي لحزب أتاتورك، وقد أنكرت الحكومات التركية على الدوام وجود مشكلة كردية ومارست سياسة الإنكار والتهميش والإقصاء ضد المكون الكردي، لكن مع القضاء على كل ثورة وانتفاضة كان الأكراد يتمسكون بقضيتهم أكثر فأكثر، ويثبتون قدرتهم على تنظيم أنفسهم من جديد وعلى استئناف دورة العنف بحثاً عن حقوق حرموا منها، حقوق دونها لا يبدو لدى الكردي استعداد للتنازل عن بندقيته والنزول من معاقله الجبلية، خصوصاً بعد أن اكتسبت القضية الكردية بعداً إقليمياً ودولياً في السنوات الأخيرة، وفي ظل ثورات الربيع العربي التي أوحت للأكراد بوجود فرصة تاريخية لنيل حقوقهم وتحقيق تطلعاتهم القومية التي حرموا منها. 

جهود للحل أم للمناورة؟

لا يخفى على المراقب أن سياسة تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية شهدت تحولات اجتماعية وسياسية مهمة في الداخل، ومن بين هذه التحولات محاولة مقاربة القضية الكردية وحلها سلميا بما يحقق لحزب العدالة والتنمية الحاكم المزيد من التطلعات تجاه الداخل والخارج،وذلك من خلال الربط بين هذه القضية والإصلاحات التي أجرتها الحكومة، وانتهاج مساعي محددة من نوع خارطة الطريق الكردية التي طرحها أردوغان عام 2009 قبل أن يتراجع عنها لصالح خطة الانفتاح الديمقراطي والتي تبخرت لاحقا هي الأخرى، وكذلك من خلال اتخاذ سلسلة خطوات انفتاحية كالبث التلفزيوني باللغة الكردية في التلفزيون الرسمي وحق التعلم باللغة الكردية كأي لغة أخرى دون الإقرار بها دستوريا كلغة أم لشعب مختلف عن الشعب التركي قومياً، لكن كل ذلك بالتوازي مع الاستمرار في سياسة وضع حزب العمال الكردستاني في خانة الإرهاب ورفض الحوار معه أو الاعتراف به ومواصلة النهج الأمني ضده سواء في داخل تركيا أو خارجها.

فجأة ومع مطلع العام الجديد، قفز الحديث عن وجود فرصة تاريخية لتسوية القضية الكردية في تركيا سلميا إلى واجهة المشهد السياسي التركي والكردي. بدأت القصة في الأول من شهر كانون الأول/ يناير عندما كشفت مصادر تركية عن أنه بتكليف من أردوغان أجرى رئيس الاستخبارات العامة التركية هاكان فيدان محادثات مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المعتقل في إمرالي، وقضى معه يومين المحادثات بغية التوصل إلى وثيقة للحل السلمي عبر سلسلة خطوات ومراحل. بعد ذلك بيومين سمحت السلطات التركية وللمرة الأولى منذ تاريخ اعتقال أوجلان قبل نحو 15 عاماً للنائبين الكرديين احمد تورك وآيله أكات بزيارة أوجلان في السجن بغية الإطلاع منه على ما جرى، لتشهد الساحتين الكردية والتركية لاحقا حملة من الردود والمواقف، اتسمت جميعها بالتأييد والحذر باستثناء موقف الحركة القومية المتطرفة الذي اتسم بالرفض الشديد، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى تقسيم البلاد.

حسب المصادر التركية والتي سربتها الصحافة التركية، فإن رؤية الحكومة التركية تقوم على وقف إطلاق النار وانسحاب المقاتلين الأكراد من الداخل التركي إلى معاقل الحزب في جبال قنديل بكردستان العراق ، والبدء بنزع سلاح المقاتلين وإصدار عفو عام عن عناصر الحزب مع بحث مصير قياداته وتأمين أماكن لجوء لهم، وإطلاق سراح المئات من السجناء الأكراد، على ان تكون هذه الخطوات متسلسلة وتسمح بالانتقال إلى المرحلة الثانية، أي مرحلة المعالجة السياسية التي من أهم معالمها إقرار قانون للإدارة المحلية يشمل كل تركيا وليس المناطق الكردية فقط.

مقابل الرؤية التركية، تقوم الرؤية الكردية على خطوات محددة منها : النظر في وضع أوجلان في السجن مع الإشارة إلى إمكانية وضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله ان لم يكن هناك مجال للإفراج عنه، إصدار عفو عام وشامل عن جميع عناصر وقيادات الحزب في الداخل والخارج (وليس تأمين أماكن لجوء لهم كما تطلب السلطات التركية)، الاعتراف بالهوية الكردية دستورياً، وأخيراً منح الأكراد حكماً ذاتياً في مناطق جنوب شرقي البلاد.

مقارنة بسيطة بين الرؤيتين، تؤكد أن الجانب التركي يركز على نزع سلاح حزب العمال الكردستاني والتهرب من أي اعتراف بكيان ذاتي للأكراد أو حتى الاعتراف رسمياًَ بالهوية القومية الكردية في الدستور، فيما الجانب الكردي يركز على حل متكامل يربط نزع سلاحه بحل سياسي شامل ودائم، وهو ما يجعل رؤية الجانبين متباعدة وإمكانية التوصل إلى تسوية سلمية تاريخية منشودة صعبة إن لم تكن مستحيلة ما لم تقارب تركيا هذه المشكلة بطريقة واقعية تؤدي إلى الاعتراف بالحقوق الكردية، خاصة في ظل وجود قناعة عميقة لدى الأكراد بأن أردوغان الذي تنصل مراراً من وعوده بحل القضية الكردية في تركيا سلميا يتعامل مع هذه القضية بعقلية المناورة السياسية لتحقيق أهداف وحسابات سياسية مختلفة وليس التطلع إلى حل سلمي حقيقي وتاريخي.

أوجلان العقدة والحل

إذا كان مفهوماً أن يركز كل طرف على أولوياته ويحاول أن يفرضها على الطاولة، فان ثمة معركة حقيقية جارية بين الزعيمين التركي أردوغان والكردي أوجلان، مع فارق أن الأول سلطان تركي معاصر يتحدث بلغة الباب العالي، فيما الثاني معتقل في جزيرة معزولة ولكنه يحتل مكانة كبيرة في وجدان أكراد تركيا والعديد من أكراد الخارج، وحقيقة فإن الرجل وعلى الرغم من مرور قرابة 15 عاماً له في السجن إلا أنه ما زال صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد مصير القضية الكردية في تركيا والوحيد القادر على إنزال مقاتلي حزبه من الجبال إذا قرر ذلك في لحظة ما، وهذه حقيقة يبدو أن الحكومة التركية أدركتها مؤخراً، وعليه بعد سنوات من وصفه بالإرهابي وقاتل الأطفال والمجرم الذي يستحق مليون حكم إعدام.. اتجهت إلى التفاوض معه مباشرة في داخل السجن ومن دون وساطات على أمل أن يقتنع الرجل في لحظة ما بتوجيه رسائل إلى القيادات العسكرية لحزبه من أجل نزع سلاحه والانخراط في تسوية سياسية، مع أن من يعرف أوجلان عن قرب يدرك أن هذا الرجل لا يثق بالوعود التركية أبداً.

محنة تركيا هنا، تبدو أنها مجبرة على الحوار مع رجل وصف على الدوام بـ(الإرهابي والقاتل) والتحدي هنا، هو في كيفية الاقتناع بأن هذا (الإرهابي) كان يدافع عن قضية شعب حرم من حقوقه عبر التاريخ دفع من أجل ذلك الغالي والنفيس، ليتنقل بذلك من خانة الإرهابي إلى المناضل الذي كثيرا ما يقارنه الأكراد بنيلسون مانديلا.

ومحنة تركيا هنا أيضاً هي أنها تدرك أن الشخص الوحيد الذي يستطيع إنزال مقاتلي حزب العمال من الجبال هو أوجلان، وأن في الساحة الكردية التركية لا حزب يستطيع أن يحل محل حزب العمال الكردستاني أو أن يكون بديلاً عنه، وهي تدرك في العمق أنه حتى حزب السلام والديمقراطية الكردي الممثل في البرلمان بــ 36 نائباً، ليس سوى الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني ويأتمر هو الأخر بأوامر أوجلان، وعليه فان الرجل هو العقدة والحل معاً.

الأسئلة التي تطرح نفسها هنا كثيرة وهي من نوع: ما الذي يدفع بأردوغان إلى تكليف رئيس جهاز الاستخبارات العامة التركية هاكان فيدان الذهاب إلى إميرالي والبقاء هناك ليومين مع أوجلان من أجل التوصل إلى وثيقة للتسوية؟ هل حقاً هو مجرد الرغبة في حل المشكلة الكردية التي أصبحت مشكلة مزمنة لبلاده؟ أم استباق للخطر الكردي المحدق بتركيا في ظل ما يجري كردياً في العراق وسوريا؟ أم هو التطلع إلى دور إقليمي أكبر من بوابة الورقة الكردية في المنطقة؟ أم انه كمين مدروس لتوجيه ضربة قاصمة لحزب العمال الكردستاني؟ أم كل ذلك معا؟ في الواقع، ثمة قناعة تركية عميقة بأن الديمقراطية في تركيا تبقى ناقصة دون إيجاد حل مقبول للقضية الكردية، وثمة قناعة أيضا مفادها: استحالة حل هذه القضية اعتماداً على النهج الأمني وأن أسلوب الإقصاء والإنكار لم يعد مجدياً، ولكن على الرغم من هذه القناعة الدفينة فإن ثمة إصراراً تركياً قوياً على عدم تقديم أي تنازل أو إقرار من شأنه أن يؤدي إلى شكل من الاعتراف بالواقع الكردي اجتماعيا وسياسياً وتاريخياً...، لقناعتها بأن ذلك سيؤدي إلى انشقاق كردي عن بنية الدولة التركية ومفاهيمها منذ أن تأسست عام 1923.

لكن من الواضح أن تسوية القضية الكردية في تركيا باتت أكثر من قضية ملحة لصانع القرار التركي، لا لوقف مسيرة القتل والدم فحسب، بل لتحقيق رؤية تركيا المستقبل كما خطط لها حزب العدالة والتنمية في مؤتمره الأخير، فدون إيجاد حل لهذه القضية لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار والسلام الداخلي في البلاد من جهة، ومن جهة ثانية لا يمكن  تحقيق تنمية شاملة ونهوض اقتصادي منشود، ومن جهة ثالثة  كسب الأكراد في المنطقة الذين يتوزعون بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، حيث باتت قضيتهم تحظى باهتمام إقليمي ودولي كما تكسب المزيد من عوامل القوة الذاتية، والأهم نزع هذه القضية التي هي بمثابة قنبلة في الخاصرة التركية قابلة أن تتفجر في أي لحظة.

وفي العمق فإن تركيا أمام ما يجري في سوريا تخشى من ولادة إقليم كردي في شمال سوريا يكمل الفدرالية القائمة في كردستان العراق، لتكون خطوة لا رجعة عنها في طريق إقامة دولة كردية مستقلة تقلب الخرائط الجغرافية للدول في منطقة الشرق الأوسط.

صعوبة التنازلات وكثرة العقبات

الإحساس بالحاجة إلى حل القضية الكردية سلمياً لتحقيق أهداف وتطلعات داخلية وخارجية، لا يعني بالضرورة أن الحل بات قريباً، لا لأن الثقة مفقودة فقط، بل لصعوبة تقديم تنازلات كبيرة من الجانبين تحقق الحل المنشود.

دون شك، أنقرة لا تستطيع فجأة إقرار مطلب الحكم الذاتي للأكراد، لأن مثل هذا الإقرار سيؤدي تلقائياً إلى رفع سقف المطالب الكردية القومية وإقامة دولة كردية مستقلة من شأنها قلب الخرائط الجغرافية في المنطقة حتى لو قال حزب العمال الكردستاني إنه لا يريد مثل هذه الدولة، فضلا عن أن مثل هذا الإقرار سيكون له تداعيات كبيرة على الداخل التركي، وسيكون كافيا لاتهام حكومة العدالة والتنمية بالخيانة والعمل على تقسيم تركيا حيث بدء حزب الحركة القومية من الآن  يردد هذه التهم، سواء لأسباب إيديولوجية أو انتخابية أو سياسية، فيما يقف حزب الشعب الجمهوري المعارض والوريث التاريخي للأتاتوركية بالمرصاد لسياسة حكومة حزب العدالة والتنمية في كل خطوة على وقع الخلاف بشأن الأزمة السورية، مع انه أعلن تأييده للجهود الرامية لحل القضية الكردية سلمياً.

في المقلب الأخر، من المستحيل إقناع حزب العمال الكردستاني بنزع سلاحه وانتظار حل سياسي من أنقرة قد لا يأتي أبدا، كما من المستحيل الاقتناع بوجود رغبة تركية في الحل السياسي تزامنا مع استمرار أنقرة في نهجها الأمني حيث لا تتوقف حملات التمشيط  العسكرية في الداخل ويتواصل القصف الجوي لمعاقل الحزب في الداخل وضد معاقله في شمال العراق، فالمسألة تبدو له على هذا النحو أقرب إلى الاستسلام من حل سياسي. وعليه حتى لو راهنت تركيا على صدور نداء من أوجلان للحزب بترك سلاحه (مع أن مثل هذا الأمر مستبعد من أوجلان الذي لم يفعل ذلك حتى  في ظروف سيئة للغاية) فإن القيادات العسكرية التي تقود الحزب على الأرض كفيلة بإفشال أي حوار لا يؤدي إلى حل سياسي شامل يحقق الاعتراف بالهوية الكردية  للأكراد والأمن والاستقرار لتركيا، ولاسيما في ظل استمرار النهج الأمني التركي وغياب الثقة والتجارب السابقة الفاشلة للوساطة من أجل إلى الحل السلمي، ولاسيما أن أوجلان لا يثق بالوعود التركية بعد تجربته مع الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال عندما توسط الرئيس العراقي جلال الطالباني بين الرجلين مطلع التسعينيات من القرن الماضي،عندما أقر أوزال حينها بصيغة الفدرالية لحل القضية الكردية، ولكن سرعان ما توفي الرجل في ظروف غامضة وسط تقارير تقول إنه مات مسموماً بعد أسابيع من كشف المحادثات غير المباشرة التي جرت بينه وبين أوجلان.

بالتأكيد ظروف اليوم مختلفة عن مرحلة أوزال، فحزب العدالة والتنمية الحاكم يسيطر على الرئاسات الثلاثة (البرلمان – الحكومة – الجمهورية) ومتحرر من هيمنة الجيش والدولة العميقة، ولعل مجمل ما سبق يعطيه المزيد من عناصر القوة لاتخاذ خطوات تاريخية من أجل حل القضية الكردية سلمياً مع الإقرار بصعوبة ذلك، نظراً لأنها تمس البنيان العام للدولة التركية والأسس التي بنيت عليها هذه الدولة تاريخيا، وما شكل كل ذلك من ثقافة وقيم وإدارة وآليات، ولكن وبغض النظر عن الأسباب فإن ثمة عقبات كثيرة تعيق جهود الحل، ولعل من أهم هذه العقبات وجود تركية قومية تركية متطرفة ترفض أي حل سلمي للقضية الكردية ولعل ما حصل في باريس، أي اغتيال ثلاث ناشطات كرديات، إحداهن هي سكينة جانسيز (كانت المرأة الوحيدة من بين مؤسسي حزب العمال الكردستاني وقضت سنوات عديدة في السجون التركية قبل أن تتنقل إلى لبنان وسوريا والعراق ومن ثم إلى أوروبا، وقد سمعت من أوجلان شخصياً إشادة كبيرة بنضالات جانسيز ومواقفها داخل السجون وخارجها، معتبراً إياها رمزاً للمرأة الكردستانية المقاومة) شكل ضربة قوية لجهود الحل، وفي الوقت نفسه أثار العديد من الأسئلة، عن القوى الخفية أو ما تسمى بالدولة العميقة التي تتحكم بالأمور في تركيا واحتمال تورط أجهزة استخبارات تركية في الاغتيال لمنع تحقيق الحل السلمي كما حصل مع الرئيس الأسبق تورغوت أوزال.

أهداف تركية تتجاوز القضية الكردية

في الواقع، ليس من السهل تفهم التحرك التركي الذي يقوده أردوغان شخصياً باسم حل القضية الكردية دون فهم دوافع وأهداف هذا التحرك ولاسيما في هذه المرحلة حيث تتواصل الأزمة السورية التي باتت تشكل أكبر تحدي للسياسة التركية في الشرق الأوسط بعد أن انقلبت هذه السياسة على نظرية صفر المشكلات وانتهجت بدلاً من ذلك سياسة عكسية باتت معروفة باسم العثمانية الجديدة،وعليه فإن التحرك تركية يتجاوز في أهدافه حل القضية الكردية سلمياً إلى أهداف تتعلق بالهيمنة والسيطرة على المنطقة، ولعل من أهم القضايا التي يجب الإشارة إليها هنا، هي:

1- محاولة كسب حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان المزيد من الدعم الأمريكي تطلعاً إلى المزيد من الدور والنفوذ الإقليميين في الشرق الأوسط، واللافت هنا، هو أن كشف المحادثات التي أجراها فيدان مع أوجلان في السجن جاءت قبيل الزيارة التي ينوي أردوغان القيام بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال شهر شباط/فبراير في أول لقاء بين أردوغان وأوباما مع بدء الولاية الثانية لأوباما الذي التقى مؤخراً بالعديد من زعماء أكراد تركيا وسط حديثه عن ضرورة إيجاد حل سلمي للقضية الكردية في تركيا، حيث تحاول تركيا تسويق نفسها في الغرب والمنطقة كنموذج إسلامي معتدل يمكن الاعتماد عليه من أجل تعميمه ودعمه.

2-  سعي أردوغان إلى التحالف مع أكراد العراق وكسبهم إلى جانبه دعما لسياسته الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط ، وعلى هذه الأساس تطورت العلاقة بين تركيا وإقليم كردستان بشكل غير مسبوق في الفترة الأخيرة ولاسيما مع زعيم إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني إلى درجة أن هناك من يتحدث عن صفقة بين أردوغان والبارزاني بهذا الخصوص، مضمونها: اعتراف تركيا بدولة كردية في العراق مقابل دعم الأكراد لسياسة تركيا الإقليمية وتطلعاتها تجاه سوريا والعراق وإيران.

3- محاولة كسب أكراد سوريا إلى صف سياسته، ودفعهم إلى الانخراط في معركة إسقاط النظام السوري حيث باتت الأزمة السورية تشكل أكبر تحدي لسياسة أردوغان تجاه المنطقة، نظراً لأهمية سوريا في الإستراتيجية التركية، وتداعيات هذه الأزمة على السياسة التركية على كافة المستويات. والمفارقة هنا، هو انه بقدر ما يسعى اردوغان إلى كسب أكراد سوريا إلى جانبه فانه عبر المعارضة السورية السياسية (المجلس الوطني) والعسكرية (الجيش الحر وجبهة النصرة) يحاول إقصاء المكون الكردي عن الخريطة السياسية المستقبلية لسوريا، كما بدا ذلك واضحاً من جميع مؤتمرات المعارضة السورية التي عقدت في تركيا.

4-  إن تركيا تريد أن تقول للغرب ولاسيما أوروبا إنها بسعيها للتوصل إلى وثيقة لحل القضية الكردية في تركيا أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة وان (نموذجها الديمقراطي) قابل للأخذ به، وهي هنا تريد أن تعزز من موقفها التفاوضي بشأن قضية الانضمام إلى العضوية الأوروبية بعد أن تعثرت جهودها في هذا المجال طوال العقود الماضية.

5- أن الجهود التركية الأخيرة بشأن حل القضية التركية سلميا تأخذ شكل الهجوم السياسي والدبلوماسي ضد حزب العمال الكردستاني أكثر من الرغبة في التوصل إلى حل سلمي، ولعل من يدقق في الشروط التركية سيكتشف هذا الأمر جليا، وثمة قناعة عميقة لدى الحزب والعديد من الأوساط الكردية بأن أردوغان يهدف من وراء تحركه الأخير إحداث انشقاقات كبيرة في صفوف حزب العمال الكردستاني، وخلق نوع من الخلاف بين أوجلان والقيادات العسكرية للحزب، انطلاقاً من قناعتها بأن هذه القيادات لن تستجيب لنداء أوجلان بنزع السلاح إذا ما قرر الأخير توجيه مثل هذا النداء في لحظة ما.

6- إلى جانب ما سبق، ثمة قناعة عميقة لدى حزب العمال الكردستاني بأن التقرب التركي الأخير منه باسم الحل السلمي هدفه الأساسي هو محاولة جلب الحزب إلى جانب السعي التركي لإسقاط النظام السوري، وأن حكومة أردوغان ستنقلب على أي شيء سيتم الاتفاق عليه فور تحقيق هذا الهدف، خصوصاً وأن تركيا تعتقد في العمق أن ثمة تحالفاً غير معلن بين الحزب الكردستاني والنظام السوري ضد تركيا.

7- إن مجمل السياسة التركية بخصوص القضية الكردية كما واضح من ما سبق أعلاه تدخل في إطار التعامل مع هذه القضية كورقة لتوسيع النفوذ والدور في المنطقة، وربما استخدامها كورقة في سياساتها الإقليمية ضد سوريا والعراق وإيران في مرحلة لاحقة في إطار الصراع الجاري في المنطقة والذي بدأ يحمل بعد طائفي في أحيان كثيرة وفي أكثر من منطقة وقضية.

8- إلى جانب هذه الأهداف الخارجية فان حكومة أردوغان تسعى من وراء التقرب من القضية الكردية سليما، تحقيق جملة من الأهداف السياسية في الداخل، لعل أهمها: كسب الأكراد كورقة انتخابية قوية في صناديق الاقتراع، وتمرير مشروع الدستور الجديد الذي يعد له عبر البرلمان من خلال الحصول على موافقة النواب الأكراد في البرلمان، والحد من تصاعد نفوذ المعارضة التركية ولاسيما حزب الشعب الجمهوري الذي بدأت شعبيته في ازدياد على وقع الخلاف مع أردوغان بشأن سياسته إزاء الأزمة السورية.

يبقى القول، إن السعي إلى حل سياسي شامل يحقق الاعتراف بالهوية الكردية القومية والأمن والاستقرار لتركيا، ينبغي أن لا يكون في إطار الصفقات السياسية أو التطلع إلى أهداف آنية محددة أو من باب النظر إلى أي تحرك كخطوة أو ورقة ضد الآخرين، بقدر ما ينبغي أن يكون في إطار القرارات التاريخية والخطوات العملية غير مسبوقة، لأنها وحدها الكفيلة بوضع القضية على سكة الحل الذي دونه يعني البقاء في دوامة النار والدم، في زمن لم يعد فيه من الممكن تأجيل القضايا الكبرى والمزمنة ولاسيما أن قضية الحرية والكرامة لدى شعوب المنطقة أصبحت فوق كل شيء.

كاتب وباحث بالشؤون التركية والكردية(*)

اعلى الصفحة