مبادئ القانون الدولي الإنساني من وجهة نظر إسلامية
مبدأ وحدة الوجود البشري نموذجاً

السنة الثانية عشر ـ العدد 134 ـ (  ربيع أول ـ ربيع ثاني 1434  هـ ) شباط ـ 2013 م)

بقلم: الدكتور الشيخ علي ناصر(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لقد مرَّ القانون الدولي الإنساني برحلة طويلة من الزمن بدأت مع اتفاقية جنيف الأولى لعام 1864م، بشأن تحسين حالة الجرحى من أفراد القوات المسلَّحة في الميدان، مروراً بالعديد من الاتفاقيات التي صاغت قواعد لحماية ضحايا النزاعات المسلَّحة، والحدِّ من أساليب ووسائل القتال، وبالتالي الحدّ من آثار الحرب على الأشخاص والأعيان، وصولاً إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية الدائمة وفقاً لاتفاقية روما لعام 1998م.

ويقوم القانون الدولي في الإسلام، والقانون الدولي الإنساني، على جملة من المبادئ المهمة المشتركة كمبدأ "الإنسانية"، و"التفرقة" بين الأهداف العسكرية من جهة، والأشخاص المدنيين والممتلكات أو الأعيان المدنية من جهة أخرى، و"التناسب" في القيام بالأعمال الحربية، و"الرفق بالأسرى والجرحى"، و"الضرورة العسكرية"، الذي يوضع أحياناً في وضع تعارض مع القانون الإنساني، فهل يُخفي تعبير "الضرورة العسكرية" وراءه التهاون أو اللامبالاة؟.

وتفرض أحكام القانون الدولي الإنساني على الأطراف المتحاربة احترام الضمانات الواردة في مواثيقه، وتقيِّد أو تحظِّر استخدام وسائل، وأساليب، وأسلحة معينة، في القتال. والقانون الدولي الإنساني، وإن كان لا يمنع الحرب، ولم يتجاهل ضروراتها، إلا أنه يسعى إلى الحدِّ من آثارها حرصاً على مقتضيات الإنسانية، ويدعو إلى "التفرقة" بين الأهداف العسكرية، والأشخاص المدنيين، والممتلكات، أو الأعيان المدنية، وإلى  "التناسب" في القيام بالأعمال الحربية.

ومن خلال استعراض هذه المبادئ، يمكن أن نتأمل في العلاقة بين القانون الدولي الإنساني، وأحكام الإسلام الحنيف، الذي سبق المدنية الحديثة إلى سنِّ القوانين التي تمنع الحرب ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، ووضع القواعد التي تحكمها وتلطِّف من آثارها إذا اضطر الجيش الإسلامي إلى خوضها دفاعاً عن المسلمين، أو رفعاً لظلم واقع على الشعوب. وألزم الجندي المسلم بواجبات وبأخلاقيات عظيمة، يجب عليه التحلي بها في سلوكياته ومعاملاته مع الآخرين من الأعداء، والمغلوبين في الحرب، والمعاهدين، أو المهادنين، وغيرهم.

والسلام هو القاعدة الرئيسة التي تنطلق منها العلاقات الدولية في الإسلام، ولكنه السلام الذي ينطلق من مقام القوة، ويحمي الحقوق.. وأما الحرب فهي الاستثناء عن تلك القاعدة، ويعدها الإسلام جريمة إن لم تكن عادلة، ولغرض مشروع كالدفاع عن الدين، ونشره. فالأصل في الإسلام أن الحرب ضرورة تقدَّر بقدرها، والقتال ليس هدفاً بحدّ ذاته، وإنما يهدف لكسر شوكة العدو. 

أولاً - وحدة الوجود البشري

إن القانون الدولي في الإسلام يستلهم مبادئه وقواعده من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، التي عمل بها أيضاً أهل بيت النبي الأطهار، وهو يدعو للتعارف بين الشعوب، قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(1). فالإسلام يهتم بالعلاقات مع الشعوب والدول الأخرى انطلاقاً من مبدأ الفطرة الإنسانية الواحدة، والمشتركات الإنسانية العامة، ويدعو إلى التعارف، والتآلف، والتعاون، لحفظ السلم الأهلي، والاجتماعي، والدولي.

ويعتقد المسلمون بوحدة الوجود البشري، ويدعون لوحدانية الخالق، فالناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب. والناس جميعاً باختلاف أجناسهم، وألوانهم، وأعراقهم، هم فروع عائلة واحدة تعيش في بيئات جغرافية وثقافية مختلفة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾(2). ويخاطب الله تعالى رُسله أجمعين، مؤكداً على وحدة الناس جميعاً بمختلف أديانهم السماوية، قائلاً: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(3).

وقد وصف القرآن نبي الإسلام بنبي الرحمة، من دون تمييز بين بني البشر، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(4). كما دعى الإسلام إلى الدفع بالتي هي أحسن، من دون تصعيد الموقف في حالة الصراع، ما استطاع إليه سبيلاً، حيث ورد في القرآن الكريم التشجيع على الفعل الحسن، بل على الفعل الأحسن، في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(5)، إلا إذا اضطر القيِّم على الأمر إلى استعمال القوة، بسب عناد الطرف الآخر، وإصراره على تجاوز الحدود، وهتك محرمات.

ثانياً- تكريم الإنسان

تصرِّح آيات من القرآن بتكريم الله الأولي لبني آدم، قال تعالى:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(6). فالأصل هو أن الله عز وجل قد خلق الكون لأجل بني آدم، وخلق بني آدم لأجله، فهم أشرف الكائنات الحية، وأعظمهم. وهناك آيات أخرى تدعو الإنسان إلى أن يشكر الله على نعمه، وعدم تجاوز الحدود التي رسمها الله تعالى لعباده، قال تعالى:﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(7). والفعل "كرَّم" يقودنا إلى لفظ "الكرامة" وهذه العبارة مدار القواعد الأساسية الرامية إلى صيانة الذات البشرية حتى في أشد الظروف قسوة، وهي الحروب. والقرآن الكريم يؤكد على تمييز الله تعالى للإنسان، وجعله الكائنَ الحيَّ المتفوِّق على باقي المخلوقات، فيقول بعد قسمٍ مؤكدٍ في سورة التين: ﴿لقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(8).

ويؤكد القرآن الكريم أن الإنسان الصالح هو أرفع شأناً من الملائكة، الذين هم مخلوقات نورانية، ضربوا المثل العالي في طاعة الله والإخلاص له، لقوله تعالى بعد أن خلق آدم وصوَّره: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾(9). فإذا كانت الكرامة  الإنسانية محلَّ احترام وتبجيل، لدرجة أن نكرانها أمر لا يرضاه، ويستوجب الطّرد من جنان الله الواسعة، فمن ذا الذي يرضى لنفسه أن يكون إبليساً؟.

ويستنكر القرآن الكريم على فرعون عدم المساواة في الكرامة الإنسانية، إذ جعل الناس شيعاً، فوقَّر شيعته، واستخفَّ بالطوائف الأخرى، فاستحقَّ أن يلحق بالمفسدين، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(10). ولا بد لمن يتبع نهج الإسلام المحمدي الأصيل من العمل بمضمون هذه الآيات، فتكريم الإنسان من الأصول العامة لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا ما يبرز بوضوح في المواد الآتية:

- المادة الأولى، حيث صوَّت الشعب على نظام الحكم في إيران بالإيجاب بأكثرية 98.2% ممن كان لهم حق التصويت، خلال الاستفتاء العام الذي جرى في سنة 1358هـ.ش، الموافق لسنة 1399هـ.ق.

- المادة الثانية، إذ يقوم نظام الجمهورية الإسلامية على الإيمان بكرامة الإنسان، وقيمه الرفيعة، وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله. وهو نظام يؤمِّن العدالة، والاستقلال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والتلاحم الوطني، عن طريق الاجتهاد المستمر من قبل الفقهاء جامعي الشرائط، والاستفادة من العلوم، والفنون، والتجارب المتقدمة لدى البشرية، من خلال محو الظلم، والقهر، مطلقاً.

- المادة الثالثة، إذ تلتزم حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأن توظف جميع إمكاناتها لخلق مناخ ملائم لتنمية مكارم الأخلاق، ومكافحة كل مظاهر الفساد والضياع، ورفع مستوى الوعي العام في جميع المجالات، وتوفير التربية والتعليم مجاناً للجميع، وتقوية روح التحقيق والبحث والإبداع، وطرد الاستعمار، ومحو أي مظهر من مظاهر الاستبداد والديكتاتورية واحتكار السلطة، وضمان الحريات السياسية والاجتماعية في حدود القانون، ورفع التمييز غير العادل، وضمان الحقوق الشاملة للجميع نساءً ورجالاً، وتوسيع وتقوية الأخوة والتعاون بين الناس كافة، والحماية الكاملة لمستضعفي العالم(11).

وتبرز كرامة الإنسان أيضاً في الفكر الإسلامي في إيران، من خلال أصول الحكم الإسلامي، التي تم تحديدها استناداً إلى الأدلة العقلية والنقلية، وهي:

1- حاكمية الإنسان على مصيره، وأنه لا ولاية لأحد على أحد، وهو أساس قانون انتخاب الناس، ومشروعية الحكومة الإسلامية.

2- حرية الإنسان الذي تتشعب منه حرية الرأي والتعبير.

3- أن يكون الحاكم هو الشخص الأصلح.

4- المطالبة بتحقيق العدالة.

5- المطالبة بإحقاق الحقوق والذبِّ عنها، الذي يتشعَّب منه حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

6- حاكمية القانون.

7- أصل كرامة الإنسان.

8- الشورى والمشورة.  

9- التعاون بين الناس والمشاركة في الأعمال.

10- العزة وعلو المرتبة.

11- شمول الأمن لفئات المجتمع.

12- التحفظ من الإسراف والتبذير.

13- الاكتفاء الذاتي والاستقلالي.

14- الوفاء بالتعهدات.

15- السعي إلى الأمن والسلام مع الدول الأخرى.

16- مراعاة الاشتراك في الإنسانية بين المواطنين.

17- الثبات على الأصول والقيم، وأن الحكومة أداة لتطبيقها(12).  

ثالثاً- معيار التفاضل بين البشر

أضف إلى ذلك أن أحاديث الرسول(ص) التي تؤكد أن الأصل هو التساوي بين الناس كثيرة، وأن معيار التفاضل بين البشر هو التقوى، وما يُقدِّمه الإنسان من خير وعمل صالح: "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى"(13). فلا يميِّز الإسلام بين بني البشر على أساس الجنس، أو اللون، أو العِرق، أو الجنسية، فهي ليست معايير للتفاضل، سواء على مستوى الأفراد أو الشعوب، وهذا ما يؤيده الإمام الخامنئي (دام ظله) قائلاً: "إن البشرية وحدة متماسكة متلاحمة، ومن ثم فإن الاعتداء على فرد واحد من بني الإنسان يشكِّل اعتداءً على الإنسانية برمتها، بغضِّ النظر عن كل الفوارق الجغرافية، والعِرقية"(14). فإذا قلنا بأصالة الوحدة بين البشر، لا يجوز بالأصالة قتل الإنسان لأخيه الإنسان، سواء بالسيف، أو بالسلاح الناري كالبندقية، أو بأسلحة ثقيلة كالمدفعية، أو بأسلحة دمار شامل!.

ولكن تكريم الإنسان بالأصالة لا يعني تكريمه مطلقاً، فهناك آيات صريحة في الدعوة إلى عدم تجاوز الحدود التي رسمها الله تعالى لعباده، قال تعالى:﴿فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(15). فالإنسان ممتحن في هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(16)، فإما أن يسلك في طريق الخير، أو يسلك في طريق الشر. فالإنسان الذي ينصاع لهدي الله تعالى، وتعاليم دينه الحق، ورسله، وأنبيائه، وينصاع أيضاً للغة العقل، والحكمة، ويسعى في سبيل المصلحة العامة، والمصلحة البشرية العليا، هو الإنسان الذي يجب تكريمه، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ﴾(17)، بل إن الله تعالى يَعِد الذين يؤمنون ويعملون الصالحات بالنعيم الأبدي، مؤكداً على عدم الاكتفاء بالإيمان النظري، أي الإيمان بالقلب واللسان فقط، ومشيراً إلى أهمية العمل الصالح، الذي يعطي للإنسان كرامته: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(18). كما يعِد الذين يكفرون ويعملون السيئات بالجحيم الأبدي، أي بما هو أصعب من الموت، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعذِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾(19). فالعذاب الخالد هو أقصى عقوبة يمكن أن يتعرض لها كائن بشري.

وصحيح أن قتل النفس بحق من الأمور المباحة، بل قد تكون واجبة في كثير من الأحيان، ولكن قتل النفس التي حرَّم الله قتلها من أكبر المعاصي. وهل هناك عمل سيء أكبر من القتل بغير حق. وبناءً عليه فتكريم الله تعالى للإنسان ليس مطلقاً، بل مقيَّد بالتزام الإنسان بتعاليم الله تعالى، وهو الخير المطلق، الذي لا يأمر الإنسان بفعل شيء إلا وفيه مصلحة عامة، ولا ينهاه عن فعل شيء إلا وفيه مفسدة غالبة، وكذلك فإن تكريم الإنسان لأخيه الإنسان ليس مطلقاً، بل هو مُقَيَّد بعدم أذية الآخرين، والتعدي على حقوقهم الشخصي، والمدنية.

رابعاً- تأكيد الإسلام على القيم والأخلاق

ما يدل على تأكيد الإسلام على القيم والأخلاق، والسيطرة على نوازع الشر، هو دعوته الإنسان للجم غضبه، وكظم الغيظ الذي يشعل النار في داخله، بل والعفو عن الناس، والإنفاق في سبيل الله في حالات الرخاء والشِّدَّة، قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(20). وهكذا نجد أن الإسلام دعى إلى تأصيل الأخلاق الحسنة، والقيم الفاضلة، في النفوس، سواء في حالة السلم، أو الحرب، وما ذلك إلا رعايةً لحقوق الإنسان، التي قَلَّ أن تسلم حربٌ من انتهاكها، فمتى قامت الأخلاق، حميت الفضيلة، ورُعيت حقوق الناس سلماً وحرباً، وعاش الجميع في أمن واطمئنان، والنبي الأكرم(ص) هو أكمل إنسان يمكنه أن يتمم مكارم الأخلاق، وهذا ما ورد في الحديث الشريف: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(21).

ويرى الإمام الخميني(22) أن إنتاج السلاح أمر مضر بالبشرية، وأن الأهداف الإنسانية لن تتحقق إلا بالعلم وحسن الخلق قائلاً: "ما دام البشر يريدون الاستمرار في الحياة تحت ظل السلاح، فإنهم لن يستطيعوا أن يكونوا أناساً، ولن يستطيعوا تحقيق الأهداف الإنسانية، فالناس إنما يستطيعون تحقيق الأهداف الإسلامية والإنسانية، والحصول على الكمال العلمي، فقط عندما ينتصر القلم على الرشاش، وعندما يصل الفكر البشري بالبشر إلى الاقتناع بوضع السلاح جانباً، وإخلاء الميدان للقلم والعلم"(23).

إن المفاهيم والقيم الإنسانية والأخلاقية التي تقوم عليها فكرة الدولة في الإسلام، هي قيم العدالة، والحرية الواعية والمسؤولة، وحفظ كرامة الإنسان، وتحقيق التكامل الروحي والمادي لأبناء الأمة الإسلامية، والوطن، ما أمكن. إذ إن المجتمع الإسلامي ليس مجرد تعبير عن الضرورة الاجتماعية للإنسان، لحفظ حياته المتوازنة والطبيعية، واستمرار وجوده المنظَّم والمتكامل على مستوى الحياة المدنية، بل هو أيضاً التزام رسالي ومهمة حضارية. فقد رفض التشريع الإسلامي مبدأ الاستبداد في تكوين المجتمع السياسي، والدولة، والنظام السياسي، لأنه يؤدي إلى الظلم والطغيان. كما رفض الحرية المطلقة، وإن اعترف بها في حدود النظام التشريعي للفرد والمجتمع، لأن الحرية المطلقة هي حرية غير مسؤولة، ولا تحترم حقوق الآخرين، أو الحق العام، ولذلك فهي تجعل العدالة في خطر.

وإقامة العدالة الاجتماعية، وصيانتها من الانتهاك والتعدي سواء داخل الدولة، أو على مستوى المجتمع الدولي، هي تكليف إلهي، وهي مسؤولية الجميع، وهي مهمة عملية تحتاج إلى امتلاك وسائل تنفيذها على من يتعدى على الدولة الإسلامية، أو يهمُّ بالتعدي عليها، من قِبَل القوى الداخلية، أو الخارجية. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(24).

ويذهب القرآن الكريم أبعد من ذلك، فيشجِّع المؤمنين على ألا يقتصروا على العدل في معاملة الخصوم، بل أن يمزجوا ذلك بالإحسان، والرحمة، فيقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(25). والإحسان درجات، أول درجاته العفو عن خطايا الخصم، والصبر على الأذى، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾(26).

الخاتمة

لقد حرَّر الإسلامُ الإنسانَ من العبودية لغير الله تعالى، ومنحه سائر الحقوق والحريات المتعلقة بشخصه كإنسان، وقد جسَّد الإمام علي(ع) ذلك طوال فترة حكمه، وفي هذا السياق يرى بعض الباحثين أن خلافة الإمام علي(ع) كانت حالة طوارئ مستمرة، وأنه خاض امتحان تطبيق حكم الله وحفظ حقوق الإنسان حتى  في الأحوال الاستثنائية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، منع الإمام علي(ع) قادته من البدء بالقتال في حربه مع معاوية، ولم يستغل حالة الحرب ليقتل الجيش الأموي عطشاً، على الرغم من أن الجيش الأموي، عندما احتل شريعة الفرات، منع جيش الإمام علي(ع) من الوصول إلى الماء. وبذلك لم يتذرع الإمام علي(ع) بمبدأ المعاملة بالمثل، بل رأى أن الإنسان له الحق في ما تقدِّمه له الطبيعة، وأن الحقوق الأساسية للإنسان لا تخضع لتقلبات الموقف(27). ومع ذلك فإن هذا القانون ينطبق في موارد كثيرة يشخصها ولي الأمر، سواء كان رسولاً، أو نبياً، أو إماماً، أو فقيهاً عادلاً وخبيراً. أضف إلى ذلك أن هناك نقاط التقاء وافتراق بين القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان من جهة، وبين هذه القوانين الوضعية والقوانين الإلهية من جهة أخرى، سوف نطل عليها في المقالات القادمة بعون الله تعالى وتوفيقه.

اعلى الصفحة