القلق الصهيوني من الانتفاضة الفلسطينية الثالثة

السنة الثانية عشر ـ العدد 134 ـ (  ربيع أول ـ ربيع ثاني 1434  هـ ) شباط ـ 2013 م)

بقلم: عدنان عدوان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

"لم نعد على شفا انتفاضة ثالثة، إنها قائمة بالفعل، نتوقّع الكثير من الاشتباكات من الآن فصاعدا". هذا ما صرح به القائد العسكري الإسرائيلي لقطاع إتزيون (عتصيون) العقيد يانيف الآلوف رغم حرص المؤسسة العسكرية على عدم المبالغة في موجة الاضطرابات الأخيرة المتنامية التي تجتاح الضفة الغربية، بحسب صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية في موقعها الالكتروني بتاريخ 7/1/2013.

وفي سياق التخفيف من حدّة توقّعاته قال في كلمة له أمام القوات النظامية والاحتياطية في قطاعه: "ربما لا نواجه عدّة آلاف من المتظاهرين الذين يقتحمون السياج الحدودي ببنادق أي كي-47، لكن هذا لا يقلّل من خطورة الموقف" وذكرت الصحيفة أن الآلوف، وهو أحد كبار ضبّاط القيادة المركزية، تحدّث عقب دورة تدريبية في المنطقة كجزء من جهود الجيش الإسرائيلي للتعامل مع التوترات المتزايدة في الضفة الغربية عقب عملية "عمود السحاب" ورفع وضع فلسطين في الأمم المتحدة إلى وضع دولة مراقب غير عضو. واستطرد.. السؤال: ماذا سيحدث بعد ذلك؟.. ربما نرى فوضى إقليمية مع حملة عسكرية من جانبنا، وأعرب عن القلق من أنه إذا تعيّن على إسرائيل القيام بعملية عسكرية ثانية في قطاع غزّة أو التعامل مع تدهور في الوضع الإقليمي فإن الجيش الإسرائيلي ربما يواجه نقصا في جنود الاحتياط..

ولمواجهة هذا الوضع تخطط إسرائيل لتكثيف عمليات اعتقال النشطاء الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة لمنع تحول المواجهات المحلية إلى انتفاضة جديدة. وقال مصدر أمني إسرائيلي "هناك بالتأكيد صحوة فلسطينية. ونتيجة لذلك، اتخذ قرار في المؤسسة الأمنية بمضاعفة النشاط الاستخباراتي والاعتقالات بين أعضاء حماس والنشطاء ضد إسرائيل"، مشيراً إلى أن ذلك "بدأ في الأيام القليلة الماضية وسيزيد".

صحوة فلسطينية

تبين قراءة الواقع السياسي الفلسطيني الراهن إلى وجود حراك شعبي يدفع نحو احتمالات اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة تكون بمثابة ثورة وربيع فسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي‏.‏

وقد تزامن مع ذلك ظهور مجموعة فلسطينية حديثة النشأة تدعى كتائب الوحدة الوطنية, والانتفاضة الفلسطينية تتشكل من أعضاء ينتمون إلي حركات حماس وفتح والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية أعلنت في فيديو عن البدء في الانتفاضة الثالثة من أجل استرداد جميع الأراضي الفلسطينية. وقد جاء ذلك الحراك في ضوء تنامي العديد من العوامل يمكن أن تساهم في اندلاع تلك الانتفاضة, تتعلق بعضها بالاحتلال وممارساته العدوانية ضد الفلسطينيين, وتأتي في مقدمتها التوسع الاستيطاني, والإعلان عن بناء آلاف الوحدات السكنية في مدينة القدس ومناطق الضفة الغربية. هذا فضلاً عن فشل المفاوضات ووصولها إلى طريق مسدود.

كما فرضت إسرائيل العديد من العقوبات المالية مؤخرا على السلطة, ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية, وذلك عقابا لها علي توجهها إلي الأمم المتحدة والحصول على عضوية دولة مراقب.

وقد ساهم في تحريك تلك العوامل السابقة العدوان الأخير على غزة الذي استمر ثمانية أيام, وأدى إلي امتداد المواجهات مع جنود الاحتلال إلى العديد من مدن الضفة. إلا أن الأمور تفجرت بشكل واضح بعد أن قتلت مؤخرا إحدى المجندات الصهيونيات الفتى محمد السلايمة (17 عاماً), بالقرب من الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل, أثناء تواجده بالقرب من منزله لتستقر6 رصاصات في جسده.

فماذا عن موقف إسرائيل من تلك الانتفاضة المتوقعة, وما هي حدود التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل؟ وهل من مصلحة إسرائيل جر الفلسطينيين إلى مواجهة عسكرية معها في الضفة؟ وهل يعني أن إسرائيل تريد التخلص من السلطة من خلال محاربتها ماليا, أم أنها تسعي إلي مجرد الضغط من أجل إجبارها على التنسيق الأمني معها؟.

يمكن استخلاص الإجابة على تلك التساؤلات من خلال متابعة الإعلام الإسرائيلي الذي يبدو ظاهريا وكأنه يروج لتلك الانتفاضة وأن الجيش الإسرائيلي على استعداد كامل للقضاء عليها. حيث أن ذلك لا يتجاوز حدود الحرب النفسية وإثبات القدرة علي مواجهة تلك الانتفاضة, فالواقع يشير إلى أن إسرائيل ستظل تخشي من أن تتطور تلك الاحتجاجات إلى حالة من الفوضى تنقلب معها حالة الهدوء التي دامت لعدة سنوات, ومن ثم سوف تسعى من خلال كافة الوسائل الأمنية والمخابراتية والعسكرية إلى إجهاض تلك الانتفاضة ليس فقط حماية لأمن إسرائيل بل من آجل الحفاظ على السلطة لأن وجود السلطة يمثل أمام العالم إدارة ذاتية فلسطينية.

أما بالنسبة للجانب الفلسطيني, فإنه علي الرغم من حالة الاحتقان والغضب الجماهيري, إلا أنه يوجد ثمة عوامل سوف ترجح من احتمال تأجيل تلك الانتفاضة ليس بسبب هبوط العزيمة الوطنية ولكن بدلالات توقيت الانتفاضة من أجل احتساب فاعليتها وتحديد أهدافها, حيث يشكل الانقسام وتشرذم الفصائل الفلسطينية مع اختلاف أجندتها ومصالحها أولى العوائق التي تحول دون فاعلية تلك الانتفاضة. وبالفعل هناك محاولات جادة من أجل رأب صدع البيت الفلسطيني, وكان من بين مؤشراتها إعطاء رئيس السلطة أوامر من أجل الشروع في عدم ملاحقة عناصر حماس وإطلاق سراح المعتقلين منهم وإعادة فتح مؤسساتهم في الضفة الغربية, هذا فضلاً عن السماح لكل من حماس وفتح إقامة نشاطات لكلا الطرفين سواء في غزة أو في الضفة.

وتأتي أهمية المصالحة كشرط للانتفاضة بأنه بافتراض رضوخ السلطة للتهديدات الإسرائيلية, فإنه من غير المؤكد أنها سوف تختار مسار الانحياز للشعب كما هي الحال في الانتفاضات السابقة, لأن حماس عند ذلك ستسيطر على النظام السياسي الفلسطيني كاملاً في الضفة الغربية وقطاع غزة, خاصة مع النجاح الذي حققته المقاومة في مواجهة العدوان الأخير على غزة, وأكد أن المقاومة هي الطريق لاسترداد الحقوق, حيث أظهرت نتائج استطلاع أجراه مركز العالم العربي للبحوث والتنمية في رام الله أن 88% من العينة صوتوا لصالح طريق الكفاح المسلح لتحقيق الاستقلال مقابل المفاوضات. إلا أن تحقيق ذلك السيناريو سوف يصطدم بآلة البطش الإسرائيلية, ما يؤدي إلي احتمال انحراف مسار الانتفاضة إلى حالة من الفوضى تؤدي إلي إعادة احتلال الضفة الغربية أو بسط السيطرة على مزيد من الأراضي الفلسطينية. ومن ثم فإن إسرائيل سوف تسعي لمنع حدوث انتفاضة ثالثة تجني ثمارها فصائل المقاومة الإسلامية وفي مقدمتها حماس والجهاد الإسلامي.

ومن ثم فإن مقتضيات المصلحة الوطنية تتطلب من جميع الفصائل إبرام المصالحة التي تتضمن الاتفاق علي ترتيبات الأوضاع الأمنية في الضفة, ثم إجراء انتخابات حرة ونزيهة في الضفة والقطاع, بحيث يتوحد البيت الفلسطيني على أسس وطنية وديمقراطية.

مقدمات الانتفاضة

كثر الحديث مؤخراً عن إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية المحتلة, وبخاصة أن الأجواء السائدة حالياً أشبه ما تكون بأحوال ما قبل الانتفاضتين السابقتين. من جهة فإن موظفي السلطة في الضفة الغربية يقومون بإضرابات متتالية نتيجة لعدم صرف رواتبهم. من ناحية ثانية فإن السلطة وقفت عاجزة عن صرف حتى لو جزءٍ ضئيل من الرواتب، وان جرى صرفها فسوف يتكرر المشهد في الشهر القادم. والسلطة تعيش أزمة خانقة بسبب الحصار المالي المفروض عليها من العدو الصهيوني، فلم يجرِ تسليم أموال الضرائب للسلطة، والتي تجنيها إسرائيل باسم الفلسطينيين, كما أن أموال الداعمين لا يجري تسديدها بشكل منتظم. وجامعة الدول العربية قررت نظرياً مؤخراً استعدادها بصرف 100 مليون دولار للسلطة شهرياً غير أن ذلك لم يتم حتى اللحظة.

على صعيد آخر فإنه وأثناء العدوان الصهيوني الأخير على القطاع في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي, قامت في الضفة الغربية حراكات جماهيرية فلسطينية واسعة وساخنة في مواجهة قوات الاحتلال. وإسرائيل ماضية في استيطانها وآخر حلقة فيه: المشروع "إي1" الذي يقسم شمال الضفة الغربية عن جنوبها, ويصادر 10% من أراضي الضفة الغربية. المشروع هو بمثابة المسمار الأخير في نعش المراهنة على حل الدولتين, فهو يلغي إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتواصلة جغرافياً. الاستيطان والجدار والطرق الالتفافية الإسرائيلية صادرت حتى اللحظة ما ينوف عن الـــ60% من مساحة الضفة الغربية، عدا عن أن المشروع الاستيطاني الأخير يزيد من عزلة المدن والقرى والمناطق الفلسطينية, ويجعل منها كانتونات معزولة تماماً بعضها عن بعض.

على الصعيد السياسي: فإن الإنجاز الذي تحقق في الأمم المتحدة بقبول دولة فلسطين عضواً مراقباً في المنظمة الدولية, ظلّ إنجازاً معنوياً ليس إلا، ولا يمكن تطبيقه واقعاً على الأرض في ظل موازين قوى الصراع مع العدو الصهيوني. من جانبٍ آخر فإن التسوية وصلت إلى طريق مسدود ومفاوضات عشرين عاماً مع إسرائيل لم تُنتج سوى الكوارث والويلات على المشروع الوطني الفلسطيني وقضيته وعلى الحقوق الفلسطينية. فإسرائيل تريد فرض رؤيتها للتسوية مع الفلسطينيين والعرب، وجوهرها: رضوح كامل فلسطيني وعربي والمزيد من الاشتراطات عليهم. سقف التسوية هو شعار: "سلام مقابل سلام" وليس"سلام مقابل الأرض". كما أن الحقوق الفلسطينية تخُتزل إسرائيلياً بالحكم الذاتي، أي أن الفلسطينيين يشرفون على قضاياهم الحياتية دون امتلاك أية عناصر سيادية، ودون حق العودة والقدس وكامل حدود منطقة عام 1967، ودون المياه مع حق إسرائيل في دخول الأراضي الفلسطينية متى شاءت, وتواجد عسكري إسرائيلي في منطقة غور الأردن عدا عن ذلك: على الطرفين الفلسطيني والعربي الاعتراف "بيهودية دولة إسرائيل".

على صعيد الداخل الإسرائيلي: فالمقدمات واستطلاعات الرأي الإسرائيلية كلها وبلا استثناء تشير إلى أن اليمين واليمين المتطرف هو الذي يختاره الناخب الإسرائيلي. ماذا يعني كل ذلك؟ هذا يشير إلى أننا سنكون أمام ائتلافات حكومية إسرائيلية قادمة بزعامات متطرفة ومتشددة مع قوى أشد يمينية وتطرفاً من أحزاب الائتلافات الماضية. هذا يشير أيضاً إلى أننا أمام تسوية مذلّة واختزال أكبر للحقوق الفلسطينية.

بالمقابل: فإن السلطة الفلسطينية في ظل هذا التعنت الإسرائيلي الشديد, والتنكر المطلق للحقوق الوطنية الفلسطينية، لم تطرح إستراتيجية بديلة لنهج المفاوضات بل تزداد يوماً بعد يوم تمسكا بها رغم عقمها وعدم جدواها وآثارها التدميرية على القضية الفلسطينية. السلطة للأسف تعتبر المقاومة المشروعة (عنفاً) بل وأحياناً (إرهاباً) على الرغم من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة يومياً على الأرض والإنسان في الأراضي المحتلة (في الضفة الغربية وقطاع غزة ومنطقة 48).

بالمقابل أيضاً: فإن السلطة الأخرى في قطاع غزة متمسكة بالتهدئة والهدنة مع العدو الصهيوني إلى أمد غير معلوم. إسرائيل ما تزال تمارس ذات الحصار على غزة. المقصود القول: أن إسرائيل في وضع ملائم دون عمليات عسكرية مقاومة ضدها، لا من قطاع غزة (إلا من تلك التي تجري دون الالتزام بالتهدئة أو شروطها) ولا من الضفة الغربية, في ظل التشديدات بضرورة ضبط النفس والتزام التهدئة لعدم انطلاق عمليات ضد العدو الصهيوني. هذا في ظل استمرار التنسيق الأمني القائم  مع الكيان الصهيوني. في الوقت الذي تفرض قيه الحكومة الإسرائيلية المزيد من القوانين العنصرية ضد أهلنا في منطقة 48، وسيستمر في وضع العراقيل أمام نيلهم لحقوقهم.

عربياً: فإن الآمال الفلسطينية التي كانت معقودة على متغيرات إيجابية تجاه القضية الفلسطينية, وفي مجال الصراع مع إسرائيل, لم تتحقق ولو في جزءٍ صغير منها، فالدول التي شهدت تغيرات في أنظمة الحكم ما زالت تعيش إرهاصات التحولات فيها وإشكالاتها الداخلية، وفلسطين والصراع مع العدو، لا يحتلا أولوية في أجنداتها وبالتالي فلا متغيرات حقيقية تنعكس إيجاباً على المشروع الوطني الفلسطيني.

الوضع الدولي هو ذات الوضع والذي يبقى في صالح إسرائيل, إلا من انتقادات واحتجاجات على الاستيطان الإسرائيلي، وهو ما لا تحسب حسابه إسرائيل, وتقوم بفرض حقائقها على الأرض. إنجاز قبول الدولة المراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة كما صمود المقاومة في حرب الثمانية أيام لم يجر استثمارهما للأسف في إنجاز المصالحة الفلسطينية والعودة بالوحدة الوطنية الفلسطينية إلى سابق عهدها, على أساس الثوابت الوطنية الفلسطينية, ولم يجر إحياء للمقاومة وإعادة الاعتبار لها كما لم يجر إصلاح لمنظمة التحرير الفلسطينية.

لكل ذلك: فإن الأجواء مهيأة لاندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة, وقد تشمل المنطقة المحتلة في عام 1948, غير أن الانتفاضة بحاجة إلى قيادة فلسطينية موحدة (وهذه تفتقدها الساحة الفلسطينية في ظل الانقسام) وهذا ما يؤثر سلباً على اندلاعها, لكن في كثير من الأحيان: فإن اندلاع الانتفاضات الشعبية لا يرتبط بالواقع السياسي المعاش ولا بالحسابات هذا من ناحية, ومن ناحية ثانية: فإن الانتفاضة تندلع "بالقشة التي تقصم ظهر البعير" والتي تأتي في معظم الأحيان نتيجة حدث غير متوقع. في ظل وجود أرضية وأجواء مهيأة. أغلب الاحتمالات أن انتفاضة فلسطينية ستندلع في فترة قريبة (قد تطول أو تقصر), ما دامت الأوضاع السياسية جامدة إلى هذا الحد في الوضع الفلسطيني المثقل بالأزمات المالية والسياسية والبنيوية التنظيمية, وفي ظل عدم استقرار الوضع العربي, وفي ظل ميزان قوى دولي منحاز بالكامل للطرف الصهيوني.

"باب الشمس"

شكلت المبادرة التي أقدم عليها ناشطون فلسطينيون بنصب خيام في أراضي "إي 1" المهدّدة بواحد من أخطر المخططات الاستيطانية، تطوراً نوعياً في مسار المواجهة المستمرة مع الاحتلال. قرية الخيام التي أعطيت اسم "باب الشمس"، تعبّر عن رفع منسوب التحدي مع الاحتلال لدرجة الصدام الشعبي في المناطق المهدّدة بالاستيطان.

قد يتمكّن جيش الاحتلال من تفكيك هذه القرية، وفعلاً تمكن, فالنشطاء ليسوا قوة عسكرية بل مجموعة مدنية تمارس المقاومة الشعبية السلمية، باعتبارها أحد أشكال المقاومة. ومن المرجّح أن يهاجمهم جيش الاحتلال ويعتقل كل المخيّمين في المكان ويزجّهم في سجونه مثل مئات آلاف الفلسطينيين والعرب وحتى غير العرب الذين تقلبوا على صفيح الأسر منذ بداية اغتصاب فلسطين, إذا عاودوا المحاولة التي سوف تتكرر بالتأكيد. لكن شيئاً لن يتغيّر في تصميم الفلسطينيين على استعادة وطنهم.

ومع كل ارتفاع في درجة الاحتكاك الفلسطيني- الإسرائيلي ميدانياً أو دبلوماسياً، تتصاعد الأسئلة عن مدى احتمالية اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة. أكثر المتسائلين هم من  الإسرائيليين أنفسهم، محللين وإعلاميين وسياسيين ومسؤولين أمنيين وعسكريين سابقين. كل هؤلاء يتوقّعون الانتفاضة الثالثة، بل إن بعضهم يحصر التساؤل في التوقيت، باعتبار أن الشرارة مسألة وقت لا غير. ورغم أن أحداً لم يعلن بداية الانتفاضة الثانية أو نهايتها، فإن انخفاض المواجهات الشعبية الشاملة التي أعقبت تدنيس أرييل شارون للمسجد الأقصى في سبتمبر/أيلول عام 2000، اعتبر بنظر البعض بمثابة نهاية لموجة من الفعل الانتفاضي الشعبي الفلسطيني على نطاق واسع وشامل. لكن في واقع الحال، فإن ملامح انتفاضية ما زالت قائمة بلا توقّف، وإن كانت متفرقة ومتنقّلة. ولعل ما يجري أسبوعياً في نعلين وبلعين والنبي صالح وبيت أمر وكفر قدوم، ليست سوى أمثلة ونماذج على أن هذا الصراع مع الاحتلال، قد يخفت أو تخف وتيرته، لكنه لا يتوقّف.

عندما اندلعت الانتفاضة الكبرى في التاسع من ديسمبر/كانون الأول عام 1987، كان ذلك بعد أن صدمت سيارة عسكرية تابعة لجيش الاحتلال، بشكل متعمّد، سيارة فلسطينية في قطاع غزة وقتلت كل ركابها، فكان الرد فورياً في الضفة وانتشرت الاحتجاجات سريعاً لتشمل كل الضفة وغزة. لكن لم تكن تلك الجريمة هي السبب بل الشرارة والمناسبة، لأنها أتت بعد مسلسل طويل من التراكمات الكميّة في القهر الصهيوني للشعب الفلسطيني، وبعض المحاولات الرسمية العربية لتهميش القضية الفلسطينية.

الخبراء الإسرائيليون باتوا قادرين على قياس "بارومتر" الفلسطينيين، لذلك يتوقّعون الانتفاضة الثالثة بالنظر إلى ما يشاهدونه من جانب قادتهم السياسيين ومن جيشهم ومستوطنيه على الأرض.  لذلك يتساءل أحدهم وهو عامير ميزروخ رئيس تحرير موقع "اليوم" الإلكتروني باللغة الانجليزية "مداهمات في رام الله.. واعتقالات في جنين.. وإطلاق رصاص وتظاهرات في الخليل. هل هي مشاهد لبداية الانتفاضة الثالثة؟". أما يوفال ديسكين رئيس جهاز ما يسمى الأمن الداخلي (شين بيت) فقال "عندما ترتفع مستويات تركز أبخرة الغاز في الهواء بدرجة كبيرة يكون السؤال الوحيد هو متى ستأتي الشرارة لإشعاله".

الانتفاضة لا تقوم بقرار فوقي ولا بضغط على زر كهربائي، ولا يقررها اجتماع في قاعة أو واحد من صالونات المثقفين من أصحاب النظارات السوداء والقبّعات المائلة والجيوب الدافئة، الذين أمطرونا بالتحليلات أكثر مما أمطر أطفال فلسطينيون جيش الاحتلال ومستوطنيه بالحجارة. المنتفضون لا ينتظرون قراراً أو أمراً من مسؤول، ولا تحليلاً من مثقّف يمضغ الكلام علكة ويقبض ثمنه اعترافاً به في الطابور الخامس الذي يعمل مأجوراً لإسقاط القلعة من الداخل.

وهكذا نرى أن العوامل الموضوعية متوفرة حالياً لاندلاع انتفاضة ثالثة، فالانتفاضة لها شروط ذاتية وموضوعية، وهي لا تكون بقرار ذاتي ولا نتاج رغبة أي طرف خارجي، بل هي نتاج تفاعل هذه الشروط، كما جرى في الانتفاضتين الأولى والثانية. وأن هناك العديد من الشروط الموضوعية المتوفرة الآن لاندلاع انتفاضة جديدة، أهمها اتضاح طبيعة المشروع الصهيوني أكثر فأكثر رغم جولات التفاوض التي جرت منذ اتفاقيات أوسلو وحتى الآن، فإسرائيل تصر على الاستيلاء على الارض وتسارع في الاستيطان، واتباع كل الأشكال والوسائل في القمع، وفي استمرار وتشديد الحصار الاقتصادي الذي يجعل الشعب الفلسطيني يعاني أكثر فأكثر.

وإن فشل المفاوضات التي جرى الترويج لها كخيار وحيد، وعلى أنها الخيار الذي يمكن من خلاله تأمين حقوق شعبنا، قد أقنع الشعب الفلسطيني بأن هذا الخيار لم يعد مجدياً ولا يمكنه تأمين حقوقه الوطنية، وبالتالي من الطبيعي أن يبحث عن خيار آخر، خاصة وأن أي مراهنة لا زالت قائمة على المفاوضات لن يكتب لها النجاح.

القلق الإسرائيلي

بعد أبرز تطورين على الصعيد الفلسطيني في العام الأخير، فقد تصاعدت الأحداث في الضفة الغربية المحتلة في الأسابيع الأخيرة بشكل ملحوظ، أي نتائج العدوان الإسرائيلي على غزة والقرار الدولي بالاعتراف بدولة فلسطين كمراقب في هيئة الأمم المتحدة. وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة شرع الإسرائيليون بالحديث عن احتمالات نشوب الانتفاضة الثالثة فعلياً بعدما كانت مجرد افتراض. وبدا للكثـيرين أن كل أسباب ومؤشرات هذه الانتفاضة قائمة سواء جراء اسـتمرار غطرسة الاحتلال أو انسداد أفق التسوية أو تنامي الكفاحية على طريق استعادة الوحدة الوطنية.

ومن الجائز أن الموقف الإسرائيلي من السلطة الفلسطينية في رام الله، وتراجع التنسيق الأمني بين الطرفين زادا من إحساس الفلسطينيين العام بضرورة تغيير أساليب النضال وعدم حصرها في مناطق الاحتكاك المعهودة قرب جدار الفصل العنصري والأراضي المصادرة. وشكلت الخليل ونابلس والقدس ورام الله مناطق احتكاك يومية في الآونة الأخيرة حيث تزايدت أعمال التصدي للمستوطنين وللقوات الإسرائيلية. وأظهرت العديد من القرى الفلسطينية في المناطق "ب" و"ج" كفاحية عالية في التصدي للقوات الإسرائيلية التي كثفت دورياتها، أو مهام الاعتقال، والحواجز كما حدث في كفر قدوم ونعلين. 

وتربط الأجهزة الإسرائيلية بين تزايد الصدامات ونتائج العدوان على غزة والتي وفرت للفلسطينيين فرصة للاعتقاد بأن الإسرائيلي لا يفهم سوى لغة المقاومة. وبديهي أن عدوان غزة الأخير أظهر حدود القوة الإسرائيلية والتي باتت أضيق في إطار الظروف الإقليمية والدولية الجديدة. ويخشى ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي من ما يعتبرونه ضرراً استراتيجياً ناشئاً عن تلاشي مفهوم الردع لدى الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية الأمر الذي قد يزيد الحوافز للعمل ويمكن أن يقود نحو توسيع حالات الاشتباك.

ويربط رون بن يشاي في موقع "يديعوت" الإلكتروني بين الأحداث الأخيرة في الضفة الغربية والذكرى الخامسة والعشرين للانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية العام 1987. ويرى أن السلطة الفلسطينية في رام الله تعزز التوتر هذه الأيام بهدف تحقيق أربعة أهداف: تهديد حكومة إسرائيل كي تكف عن خطواتها العقابية التي بدأتها بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتعزيز مكانتها في الوسط الفلسطيني بعد نجاحات حماس في غزة، وكسب المزيد من التأييد المالي للسلطة، وأخيراً مساعدة معسكر الوسط في إسرائيل عبر التهديد بانتفاضة ثالثة. 

من جهته كتب المعلق الأمني في "معاريف"، عمير ربابورات، أن التاريخ يشير عموماً إلى صعوبة تحديد لحظة زمنية معينة يبدأ فيها التغيير الاستراتيجي للوضع. ومع ذلك فإنه يعتقد أنه يمكن تحديد لحظة بدء التغيير الاستراتيجي في الضفة الغربية بمنتصف تشرين الثاني الماضي عند بدء حرب "عمود السحاب" على غزة.

وأشار إلى أن المقلق لدى إسرائيل هو أن الصدامات التي بدأت تلك اللحظة لم تتوقف مع انتهاء الحرب وإنما تواصلت وتصاعدت. 

ويعتبر ربابورات أن إسرائيل أسهمت في إذكاء العنف عبر تكريسها الجمود السياسي من جهة، وتعزيز مكانة حركة حماس إثر حرب غزة من جهة ثانية. وأوضح أن ذلك قاد الجمهور للضغط على أجهزة الأمن الفلسطينية لعدم التعاون الأمني مع إسرائيل.

إلى ذلك نقلت صحيفة "معاريف" عن مصادر عسكرية أن جيش الاحتلال يستعد لإمكانية اتساع دائرة المواجهات في الضفة وانفجار الأوضاع. وأشارت الصحيفة إلى أن الجيش قام مؤخراً برصد الارتفاع في الصدامات والتظاهرات بعد العدوان على غزة، موضحة أنه بحسب التقديرات، تتسم الأوضاع حتى اليوم بالهدوء النسبي إلا أنها قد تنفجر في أي لحظة في حال وقوع "حادث صعب" مماثل لما حدث في مدينة الخليل، أي حادثة استشهاد الشاب محمد زياد سلايمة. فمن الممكن أن يقود حادث من هذا النوع إلى اتساع المواجهات وانتقالها إلى مناطق مختلفة في الضفة الغربية. 

 

من جهته قال شاؤول موفاز, 11/1/2013, إن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة باتت وشيكة ويجب على قوات الجيش الاسرائيلي أن تظهر قوة الردع التي تملكها على أرض الواقع.

واضاف موفاز "ان مشهد جنود الجيش ينسحبون امام ملقي الحجارة الفلسطينيين كما حدث مؤخرا يمس بقوة الردع وبالجنود. ويجب على الجنود الا يخشوا ويقاتلوا كما يجب منح القادة في الميدان صلاحية اتخاذ القرارات في الحال".

وبدروه طلب وزير الداخلية الاسرائيلي ايلي يشاي اجراء نقاش في المجلس الوزاري المصغر للشؤون الامنية والسياسية في تعليمات اطلاق النار التي يخضع لها الجنود.

واضاف ان الاحداث التي يتعرض فيها جنود الجيش الاسرائيلي "للخطر" من جانب فلسطينيين تكاثرت مؤخرا معتبرا انه يجب على الجنود استخدام اسلحتهم في حالات الخطر على حياتهم ويجب منحهم كامل الدعم اذا اضطروا الى استخدام هذه الاسلحة.

كما كتبت "يديعوت أحرونوت" في موقعها على شبكة الانترنت أن تصريحات رئيس أركان الجيش الإسرائيلية بيني غنتس، بشأن عمل قوات الاحتلال في الضفة الغربية بشكل متزن وواع ومن خلال أقصى ما يمكن من التنسيق الأمني، لم تأت من فراغ، حيث يتضح أنه في الأسابيع الأخيرة، نقلا عن مصادر إسرائيلية وفلسطينية، أنه حصل حادثان، على الأقل، تصدت فيهما قوات تابعة للسلطة الفلسطينية لقوات الاحتلال، واضطر جنود الاحتلال إلى النكوص على أعقابهم لتجنب الانجرار للمواجهات.

وبحسب الصحيفة، فقبل أكثر من شهر وصلت قوات الاحتلال إلى مشارف طولكرم، في عملية وصفت بأنها روتينية. ولكن قوات الاحتلال فوجئت بانتشار أجهزة الأمن الفلسطينية على مداخل المدينة، ومنعت قوات الاحتلال من الدخول، ما اضطرها إلى التراجع.

وأضافت أن حادثا مماثلا وقع بعد الأول بعدة أيام في جنين، حيث اضطرت قوات الاحتلال أيضا إلى التراجع بدلا من الدخول في مواجهات مع قوات الأمن الفلسطينية. في المقابل، ادعى الناطق بلسان جيش الاحتلال أنه لا علم للجيش بالحادثين المشار إليهما.

ونقلت "يديعوت أحرونوت" عن مصدر إسرائيلي قوله إنه "يجب تأجيل تنفيذ عملية الاعتقال لأن فرضية العمل تقول إن التأجيل أفضل من أن يتدهور الوضع إلى مواجهات بين الطرفين بسبب الحساسية".

كما نقلت الصحيفة عن مصدر فلسطيني أمني قوله إن "ما يحصل بعد 29 تشرين الثاني/ نوفمبر (تغيير مكانة السلطة الفلسطينية إلى دولة غير كاملة العضوية في الأمم المتحدة) يختلف عما قبله، وكل جندي إسرائيلي يتواجد في حدود 67 هو جندي احتلال بحسب الأمم المتحدة ويتواجد في داخل دولة تحت الاحتلال".

كما نقلت الصحيفة عن مسؤول فلسطيني آخر قوله "إذا كان الإسرائيليون يعتقدون أن أجهزة الأمن الفلسطينية هي أنطوان لحد الجديد (قائد قوات جيش جنوب لبنان) فهم مخطئون.. الطرف الفلسطيني ليس لحد ولا سعد حداد.. أجهزة الأمن الفلسطينية هي جزء من منظمة التحرير الفلسطينية".

وكتبت أيضا أن عدم تحويل أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية، وتحويله المبلغ بالكامل لسداد ديون لشركة الكهرباء لم يثر غضب القيادة الفلسطينية فحسب، وإنما عناصر الأجهزة الأمنية الذين يتلقون رواتبهم من أموال الجمارك.. والآن يجري تأخير دفع الرواتب أو دفعها بشكل جزئي".

وأخيراً نقول: يبدو أن الفلسطينيين بحاجة إلى ابتكار تعبير جديد يفسر الحالة النضالية الجديدة التي تتبلور والموجهة ضد الاحتلال في واقع متشابك وبالغ التعقيد. فمن ناحية هناك في قطاع غزة، وهو لا يزال يعتبر أرضا محتلة بالمعنى القانوني الدولي، ما يمكن اعتباره أرضا محررة مع وقف التنفيذ. إذ نشأت هناك سلطة فلسطينية بغير رضى المحتل ورغما عنه وهي تعلن جهارا نهارا أنها في موقع العداء والاشتباك معه. وهي سلطة تمر بين حين وآخر بفترات صدام وتهدئة وتحاول التشديد على أنها تريد لهذه البقعة من الأرض أن تكون منطلقا لتحرير بقية المناطق. لكن هذه السلطة تصطدم بواقع الحاجة إلى إدارة شؤون نسبة كبيرة من الفلسطينيين الباقين على أرضهم في ظل الاشتباك.

ومن ناحية أخرى هناك الضفة الغربية، التي تركز الجهد الإسرائيلي الأساسي فيها على سلب الأرض وفرض واقع الاستيطان والبانتوستانات، وهي أرض محتلة بكل معنى الكلمة. صحيح أن السلطة الفلسطينية هناك ترتدي أحيانا مظهر الدولة وتحاول التأكيد على حريتها إلا أن الرئيس الفلسطيني نفسه يقر بأن حريته مرهونة. وتحاول السلطة الفلسطينية في الضفة، استنادا إلى اتفاقيات أوسلو و"الشرعية الدولية"، المناورة محليا ودوليا لاكتساب أو لترسيخ وقائع في مصلحة الفلسطينيين.

عموما كان الجميع، بلا استثناء تقريبا، يعتقد أنه يصعب جدا بلورة حالة نضالية فلسطينية موحدة في ظل الانقسام. غير أن استمرار الانقسام وتدهور الوضع الفلسطيني قاد في النهاية إلى الضجر من ذلك الوضع والتمرد عليه بتظاهرات مناهضة للانقسام قبل العدوان على غزة. لكن هذا العدوان وفر الفرصة للقفز عن جراحات الماضي وللتلاقي ولإحياء الأمل بإنهاء الانقسام. كما أن نتائجه ساعدت في تحويل الجهود التي بذلت لنيل الاعتراف من الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى مكسب وطني عام.

والمطلوب ليس فقط توحيد الصفوف وإنما إعادة قراءة الواقع من جديد واستشراف الآفاق الممكنة لتطوير النضال الوطني الفلسطيني. فلم يعد يكفي استخراج التوصيفات من الماضي وإسقاطها على الحاضر، صارت مهمة الوعي والتجديد أكثر تحديا من أي وقت مضى. وبديهي أن إنهاء الانقسام هو المدخل الشرعي لتأكيد وعي الواقع الجديد للكفاح الفلسطيني الجامع.

اعلى الصفحة