الأزمة السياسية والإعلان الدستوري في مصر

السنة الثانية عشر ـ العدد 134  ـ ( صفر ـ ربيع الأول  1434  هـ ) كانون الثاني 2013 م)

بقلم: محمود إسماعيل

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إعلان دستوري كان كافياً لدخول الرئيس المصري محمد مرسي في مواجهة مع قضاة مصر وأحزابها السياسية وقسم كبير من شعبها. الإعلان الدستوري قضى بتحصين الإجراءات التي يتخذها مرسي وجعلها بمنأى عن رقابة القضاء، كما يجعل من الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى اللذين يهيمن عليهما الإخوان المسلمون خارج الرقابة القضائية. رفض الجسم القضائي في مصر بشكل مطلق ما سمي بالإعلان الدستوري، الذي وصفه بالاعتداء غير المسبوق على استقلال القضاء وأحكامه. فإلى أين تسير الأوضاع في مصر؟.

ميدان التحرير يستعيد حشوده تلبية للمليونية التي دعت إليها أحزاب وشخصيات معارضة ونقابات. عنوان الاعتصام إسقاط الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي. حالة من الغضب تعبر عنها جموع المحتجين ضد ما يعتبرونه نوايا جماعة الإخوان المسلمين لتغيير طبيعة الدولة المصرية.

تبدو الحشود في ميدان التحرير مصممة على مواصلة الاحتجاجات حتى تراجع الرئيس مرسي عن إعلانه، ولا مكان لديها لمناقشة تفاصيله، ذلك أن الإعلان بحد ذاته، يبدو من وجهة نظرهم انتهاكا للقانون. المتظاهرون الذين قدموا من كل حدب وصوب، اجتمعوا على المطالبة باستقلال القضاء، بينما سخر البعض من هجوم الإخوان المسلمين على قضاء صادق من قبل على فوزهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية.

الناظر إلى ميدان التحرير اليوم يرى التصميم ذاته الذي شهده الميدان أيام ثورة يناير/كانون ثاني ٢٠١١، تصميم يتجلى في الشعارات وفي الهتافات وفي الحشود المتوافدة على الميدان دون انقطاع.

الدور المصري الداخلي والإقليمي

مصر أم الدنيا بالنسبة إلى المصريين على الأقل، لكنها كذلك أم ٨٠ مليون إنسان تعيش الغالبية العظمى منهم تحت خط الفقر، في ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، أضيفت إليها في الأشهر الأخيرة ظروف سياسية قاسية، جعلت أرض النيل بمثابة قنبلة موقوتة أو برميل من البارود جاهز للانفجار في أي لحظة.

على مر تاريخها، برزت في مصر إشكالية الدور الكبير خارج الحدود والتعثر في الدور الأساسي داخل الحدود. أذكر فيلماً لفاتن حمامة بعنوان "أفواه وأرانب" أنتج في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، يلخص بشكل ممتاز قضية الفقر وعدم التخطيط الأسري في بلاد النيل. سيدة تكافح مع زوج سكير لإشباع أفواه ٩ أولاد بكل ما أوتيت من قوة.

أما مصر السياسية فمسألة أخرى. فعلى مدى التاريخ، من جمال عبد الناصر إلى أنور السادات وحسني مبارك وصولاً إلى محمد مرسي بقي السؤال نفسه: كيف السبيل إلى ترجمة عشرات الملايين من الأفواه المصرية الجائعة إلى قوة وازنة لها دور فاعل في المنطقة؟.

آمن عبد الناصر بمقولة " القوة تصنع الدور"، فاكتشف بعد نكسة حزيران ١٩٦٧ أن الأمور ليست بهذه البساطة. البساطة كلمة سحرية صالحة لوصف موقف المصريين من استقالة الرئيس المصري الراحل بعد النكسة. لقد تصرف عبد الناصر كما يتصرف المسؤول في البلدان الديمقراطية، فرد عليه المصريون بأن المحاسبة، وإن كانت من المسؤول ذاته غير ممكنة في هذا الشرق السعيد.

مع أنور السادات، كان الدور الإقليمي لمصر قد اتخذ طابع الانقلاب. الانقلاب أولاً على عبد الناصر نفسه، وثانياً على الحرب والدخول في ما أسماه السادات ذاته الرهان على السلام، وهو رهان دلت الأيام على انه رهان على وقف الحرب فقط ، أما السلام فمسألة فيها نظر.

اغتيل السادات على يد شخص من الإخوان المسلمين أسمه خالد الاسلامبولي قبل أن ينجح إخواني آخر هو محمد مرسي بعد ٣١ سنة في أن يصبح أول رئيس إسلامي لمصر. وما بين السادات ومرسي، حكم حسني مبارك. في بداية عهده، اعتمد سياسة النأي بالنفس عن مشكلات شعبه لاسيما إطعام الأفواه الجائعة، وفي نهايته، اعتمد على ابنه جمال ونائبه عمر سليمان.

شهد حكم مبارك تراجعاً في الدور المصري الإقليمي في مقابل صعود نجم إيران مع الثورة الإسلامية ونجم تركيا مع رجب طيب أردوغان. أصبح الدور المصري الإقليمي خارج الحدود شبه مستحيل، فيما في الداخل، مزيد من الفساد ومن الازدحام في شوارع القاهرة، ومن الحياة فوق السطوح، ومن القنابل الاجتماعية الجاهزة للانفجار.

في ٢٥ يناير/ كانون ثاني ٢٠١١، انفجرت هذه القنابل في ميدان التحرير، فخرج مبارك من السلطة وجاء إليها محمد مرسي حاملا لواء التغيير والإصلاح. بعد أشهر قليلة في السلطة، وضعت تطورات غزة الرئيس مرسي أمام الامتحان. فهل ما زالت مصر قادرة على لعب دور محوري في الأزمة الأساسية أي الأزمة الفلسطينية؟.

جاءت هيلاري كلينتون إلى القاهرة لتقول للرئيس مرسي أن هذا الدور مطلوب.. وقبل أن يأتي الجواب عن هذا السؤال، هز قرار مصادرة الصلاحيات القضائية المشهد مجدداً. طرح الإعلام المصري في الأيام الأخيرة سؤالاً غير بريء مفاده: هل تمر استعادة الدور الإقليمي لمصر بمصادرة الدور الداخلي؟.

ما يجري في مصر لا يبدو مفاجئاً للكثيرين، والمرحلة الانتقالية لا تمر في بلدان العالم الثالث بعملية الاقتراع في صناديق الاقتراع فقط، فالشارع هو الأساس. في القاعة الرئيسية داخل مطار القاهرة الدولي رفعت عبارة تقول: "ما يحصل في مصر لا يحمل جديداً، المصريون يصنعون التاريخ كالعادة". الجزء الأول من العبارة صحيح، "ما يجري في مصر ليس جديداً"، فهناك تعثر في الدور الداخلي بانتظار رأي الشارع، وشهية مفتوحة على دور إقليمي.

المجلس العسكري والفوضى في مصر

من المسؤول عن الفوضى في مصر؟ إنها خريطة الطريق المشوشة التي وضعها المجلس العسكري الذي حكم مصر عقب الإطاحة بمبارك. فبدلاً من إرساء قواعد للتحول الديمقراطي عن طريق وضع الدستور أولاً، هرعوا إلى إجراء انتخابات برلمانية مبنية على قانون انتخابي معيب. يتحمل الإخوان المسلمون بدورهم أيضاً جزءاً من اللوم، لأنهم أيدوا خارطة الطريق التي وضعها المجلس العسكري، ظناً منهم أنها سوف توصلهم إلى السلطة بسرعة، فلم تجر الأمور بالطريقة التي أرادوها. وعندما حالت القوانين الحالية بين الإخوان المسلمين وبين ما يريدون، قرروا تغيير تلك القوانين لما فيه مصلحتهم.

إن الخوف الحالي من الفوضى الوشيكة في مصر أدى إلى التشبث بشبح الزعيم المنقذ. يرى المؤيدون للنظام القديم والقوى المحافظة في الجيش والمؤسسة الأمنية، أن مصر غير مؤهلة للديمقراطية ولا يمكن أن تُحكم إلا بقبضة حديدية، وهم يشاهدون الفصول المتعاقبة للأزمة في مصر ويبتهلون أن يظهر رجل قوي للحيلولة دون وقوع الفوضى.

قرار مرسي بمنح نفسه سلطات شبه مطلقة أغضب معارضيه وأفسح في المجال لاتهامات بشأن إحيائه حكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك الاستبدادي، إضافة إلى أن هذه الخطوة قد أججت مخاوف معارضيه من العلمانيين التي تذهب إلى أن الإسلاميين يتخذون الديمقراطية مطية للوصول إلى السلطة، ثم لا يلبثون أن يتخلوا عنها فيما بعد عندما يستتب الأمر لهم. هناك ملاحظتان تجدر الإشارة إليهما، وهما دور القضاء والمشهد الإعلامي:

دور القضاء: إن ما يثير الحيرة والدهشة هو أن يصبح القضاة رأس الحربة في المعركة الدائرة بين جماعات المعارضة وبين الرئيس محمد مرسي، ذلك أن القضاة لم يعتادوا أن يذهبوا بعيدا في الاشتباك مع رئيس الدولة إلى الحد الذي يجعلهم يعلنون تحديه والصدام معه، بل وتصعيد إجراءات المواجهة حينا بعد حين. وما يبعث على الدهشة هو أن الذين يقودون ذلك الصدام أناس وصفوا ثوار يناير بأنهم من الرعاع. لم يسمع لهؤلاء القضاة صوت في ظل النظام السابق، سواء حين سحل أحد المستشارين أمام نادي القضاة، أو حين تم تزوير الانتخابات بشكل فاضح، رغم أنف الإشراف القضائي، كما أنهم لم يسمع لهم صوت في الدفاع عن دولة القانون حين أصدر المجلس العسكري إعلانه الدستوري الذي فرض فيه وصاية العسكر على مصر.

المشهد الإعلامي: إذا كان القضاء هو رأس الحربة في الاشتباك الدائر، فإن الإعلام هو الساحة التي تدور فيها رحى المعركة، وإذا كان القضاء يضغط على السلطة ويتحداها، فإن منابر الإعلام هي التي تنقل ذلك كله إلى الناس، باعتبار أن الإعلام يشكل وعي المجتمع. فالدور الجوهري الذي يقوم به التلفزيون في الحياة السياسية مشهود ومعترف به في كل بلدان العالم، لكن الفراغ السياسي الذي خلفه النظام السابق في مصر أضفى عليه أهمية مضاعفة، ذلك أن تعدد مؤسسات المجتمع المدني والحيوية السياسية التي تشع في الديمقراطيات الحديثة تتمتع بدور خاص بالإضافة إلى التلفزيون في تشكيل الرأي العام.

لقد ظلت قناة النيل للأخبار تبث طوال ٤ ساعات تقريباً مؤتمراً لنادي القضاة حفل بالتهجم على رئيس الجمهورية والهتاف ضده، في حين أنها خصصت ٤ دقائق فقط لتغطية مؤتمر قضاة من أجل مصر لتأييد الرئيس ونظامه وعرض وجهة نظر مغايرة للطرف الآخر.

لا يمكن للمراقب أن يتجاهل أموراً عديدة منها أن الأحزاب المدنية والائتلافات المتنافرة حولها ظلت متباعدة ومتنافسة منذ قامت الثورة، فلم يخل الأمر من انشقاقات وتجاذبات في ما بينهما، وأغلب تلك الجماعات لم يكن لديها هدف ولا برنامج واضح. أما اليوم، فقد تحولوا إلى كتلة واحدة ذات هدف محدد هو الاشتباك مع الرئيس محمد مرسي وممارسة الضغط عليه.

ويبقى السؤال: من هو صاحب المصلحة في وقف مسيرة التطور الديمقراطي في مصر؟ لا شك أن في مصر جهات عديدة حريصة على مستقبل البلد وأمنه، ومن واجبها أن تجلي الغموض المريب الذي يخيم على الساحة، بحيث يكشف عن المعارضة الحقيقية التي تريد استمرار الثورة، والتفريق بينها وبين تلك التي تتآمر لإجهاض مسيرتها.

جمعة الكرت الأحمر

انتظرت مصر طويلاً خطاب الرئيس مرسي لعله يحمل انفراجاً للأزمة الراهنة، لكن الخطاب بقي دون التوقعات العالية للشارع المناوئ له، ما اضطر أحزاب المعارضة إلى رفض دعوته للحوار. لم يقترب مرسي من مطالب المعارضة ولم يتعامل معها، فهو أكد تمسكه بإعلانه الدستوري الذي أشعل الأزمة وإن كان قد لوح بتعديل إحدى المواد أو إلغائها، ولم يشر إلى إمكانية تأجيل موعد الاستفتاء على مشروع الدستور.

وكانت أحزاب جبهة الإنقاذ الوطني قد رفعت هذين الشرطين لتوافق على الحوار. إن الأحداث التي وقعت في محيط القصر الرئاسي أفزعت البلد من نشوب حرب أهلية وقلبت مزاج الشارع رأسا على عقب، إذ بات يعتبر أن هجوم الإخوان المسلمين على المتظاهرين سوف يسقط شرعية الرئيس، وبالتالي، أصبح عليه أن يتنحى. لذلك، رفضت جبهة الإنقاذ إمكانية التعامل بمرونة مع الدعوة إلى الحوار.

وقد لفت تأخر خطاب مرسي إلى أن الخلافات داخل جماعة الإخوان حول التنازلات الممكنة هي التي أخرته، فكان واضحاً أنه خصص وقتاً طويلاً للحديث عن فلول النظام السابق متهما إياها بإطلاق النار على المتظاهرين، ليخفف من المسؤولية ويوجه الأنظار إلى وجود مؤامرة على نظامه وليبرر عدم تراجعه، متجاهلاً دعوة الأزهر إلى تجميد الإعلان الدستوري كبداية مخرج من الأزمة. ولم يتأخر الشارع في رفض اقتراحات الرئيس، ممهداً بذلك لما سمي بـ"جمعة الكرت الأحمر".

في الواقع، إن هذه الأزمة أظهرت أن جماعة الإخوان المسلمين أخطأوا في قراءة اتجاه الرأي العام المصري وفي تقدير قوتهم وشعبيتهم، ولم يتوقعوا من المعارضة رد فعل بهذا التصميم والاتساع، فكان أن أوقعوا الرئاسة والرئيس في مأزق بالغ الصعوبة.

مدرعات الجيش المصري في محيط قصر الاتحادية للفصل بين المتظاهرين لأول مرة في عهد الرئيس مرسي، فيما نزلت قوات الحرس الجمهوري لتؤمن منطقة قصر الرئاسة، مطالبة بإخلاء المنطقة بالكامل من أي تظاهرات. لقد تردد صدى ما يحدث على الأرض في جنبات القصر الرئاسي، فظهر في استقالات متتالية لمستشاري الرئيس، كان آخرها استقالة المستشار القبطي رفيق حبيب الذي اعتزل العمل السياسي، بما فيه منصبه كنائب لحزب الحرية والعدالة.

مفترق جديد دخلته الأزمة في مصر، وسط سؤال عما ينتظرها، في ظل ما تشهده من شد حبال بين القوى المؤيدة لقرارات الرئيس محمد مرسي والمعارضة الرافضة للإعلان الدستوري، رغم دعوة مرسي في كلمته إلى الحوار واستعداده التخلي عن المادة السادسة من الإعلان الدستوري الأكثر جدلا. الأزمة في مصر وصلت إلى نقطة اللاعودة بين الطرفين، مما ينذر بتداعيات خطيرة، في ظل تهديد القوى المدنية بتصعيد التحرك في الشارع.

انطلاق الحوار ومقاطعة المعارضة

وسط مقاطعة من معظم قوى المعارضة، انطلق الحوار الذي دعا إليه الرئيس المصري محمد مرسي بمشاركة أحزاب إسلامية وشخصيات قضائية، في حين قاطعه أكثر من ٢١ حزباً وجمعية معارضة على رأسها جبهة الإنقاذ الوطني برئاسة محمد البرادعي عازية موقفها إلى تمسك الرئيس مرسي بقراراته. وقد طرحت أحزاب الوسط و " غد الثورة " و " العدل " المشاركة في الحوار كمبادرة لحل الأزمة، تقوم على تعديل الإعلان الدستوري والتوافق على دستور جديد للبلاد ونبذ العنف.

وأما في ميدان التحرير، فقد أغلق المعتصمون الطرقات المؤدية إلى مجمع التحرير الإداري، احتجاجا على استمرار الاعتصام أمام المحكمة الدستورية من قبل مناوئي جماعة الإخوان المسلمين، في وقت واصل فيه أنصار الرئيس مرسي تجمعهم أمام أحد المساجد القريبة من القصر الرئاسي، فيما استمرت الأحزاب السلفية بالاعتصام قرب البوابة الرئيسية لمدينة الإنتاج الإعلاني التي تضم عددا من القنوات الفضائية الخاصة، احتجاجا على طريقة تغطية هذه القنوات للأحداث الجارية.

لا بد من تفادي، وبأي ثمن، الانقسام العميق، وربما المستعصي، بين قوتين تزعم كل واحدة منهما أنها الوريث الوحيد للثورة. ليس هناك أي بلد في العالم، فضلا عن كونه مفلسا، يستطيع تحمل هذه الدوامة التي لا نهاية لها. إن أولئك الذين يزعمون أنهم ديمقراطيون يحتاجون إلى أن يعيدوا اكتشاف فن الحلول الوسطية الذي ظل طي النسيان فترة طويلة.

إن ما يجري في مصر هو المظهر الخارجي فقط للديمقراطية، إذ تستطيع المعارضة ملء الشوارع بالمتظاهرين واللافتات، لكنها حتى الآن، تفتقر إلى الزخم لخلع الإسلاميين في المعركة من أجل شخصية الأمة. لكن في الشوارع الجانبية، تبقى هذه الأفكار غامضة وغريبة، حيث يعتقد الناس هناك أن البلد يواجه ثورة جياع، وأن الفقراء سينتفضون من أجل الخبز وليس من أجل السياسة أو الثقافة.

لم تحسن الثورة الأوضاع المعيشية في مصر، إذ إن متوسط الدخل السنوي للفرد يبلغ نحو ٤ آلاف دولار، وأن أكثر من ٤٠% من السكان المصريين يعيشون على دولارين يوميا، وبالنسبة لكثير منهم، فإن هذا هو فشل الدولة الرئيسي، وكل الوعود التي تردد صداها في التجمعات السياسية والقنوات التلفزيونية قد تجاوزتهم كالدخان.

إزاء هذه التطورات، لا بد من طرح الأسئلة الآتية: هل سيدخل الجيش مجدداً مثل ما فعل فورا بعد سقوط مبارك؟ وهل ستقفز البورصة في مصر مرة أخرى؟ وهل سيلاحق أولئك الذي يقتلون المتظاهرين؟ ولماذا كلما زارت هيلاري كلينتون القاهرة، كما فعلت مؤخرا، يحدث أمر سيء عقب ذلك مباشرة؟ ولماذا لا ينفتح الإخوان المسلمون على الآراء المختلفة والطرق المتنوعة في النظر إلى الأمور؟.

إن الفوضى والارتباك هما سيد الموقف في مصر، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام جملة من السيناريوهات التي تنذر بما هو أسوأ. إن النسخة النهائية من الدستور لا تمثل أي نوع من الإجماع الوطني، ولا يبدو أنها قد خضعت لقراءة متأنية. وبرغم أن المسودة تتضمن بعض الجوانب التي تثير قلق النقاد، فيما يتعلق بالمرأة، فإن ثمة جوانب إيجابية مثل الحماية من الاعتقال العشوائي والتعذيب على أيدي الشرطة.

يبدو أن الولايات المتحدة تحتضن الماضي مرة أخرى وتتجنب الدروس المستفادة من الطريق الصعب خلال انتفاضة يناير. لقد خفضت الولايات المتحدة إلى حد كبير علاقاتها مع مصر وامتنعت عن إصدار تقييم جاد للحكومة التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين.

الإعلان الدستوري الجديد

استيقظ المصريون على إعلان دستوري جديد يلغي سابقه، فكان المشهد على النحو الآتي: أمام القصر الرئاسي، ومع ساعات الصباح الأولى، بدأ يعلو السور الإسمنتي الذي يفصل المعتصمين عن القصر الرئاسي، لكن خيمهم لا تزال قائمة. ازدادت أعداد المعتصمين بعدما وصلت مسيرات من مناطق مختلفة في القاهرة، حيث رفعت شعارات رافضة للإعلان الجديد الذي حد من الصلاحيات الواسعة في الإعلان الأول، لكن بحسبه، فإن الاستفتاء على الدستور قائم في موعده منتصف ديسمبر/ كانون أول الجاري، فقوى المعارضة التي قاطعت الحوار الوطني مع الرئيس تصر على موقفها. من جهتها، تصر القوى الإسلامية على دعم الرئيس مرسي والخروج في تظاهرات تقابل مظاهرات المعارضة تأييدا للإعلان الجديد ودعما لإقرار الدستور.

الإعلان الدستوري الجديد، وإن لم يغير موعد الاستفتاء على الدستور، فإنه رسم خريطة طريق إذا جرى التصويت عليه بـ"لا"، وأبقى على الآثار المترتبة على الإعلان القديم، والتي خلقت أزمة بين مؤسسة الرئاسة والقضاء.

يظل الدستور نقطة الخلاف بين قوى المعارضة المصرة على موقفها الرافض لإجراء الاستفتاء منتصف الشهر الجاري، والقوى الإسلامية المؤيدة له، حتى على الرغم من التزام الرئيس مرسي بطرح المواد الخلافية للنقاش أمام البرلمان الجديد، لإنهاء حالة الاحتقان السياسي التي تسود الشارع في مصر.

في هذه الأثناء، تبدو مصر وكأنها لا تهدأ. ففي الوقت الذي تراجع فيه الرئيس محمد مرسي عن قانون لتعديل الضرائب بعد ساعات من إصداره بسبب إثارته لجدل واسع، أصدر قانوناً يمنح القوات المسلحة حق الضبطية القضائية، الذي يعني أن لرجال القوات المسلحة المصرية صلاحية توقيف أي فرد يشتبه في ارتكابه جرائم من شأنها التأثير على سلامة الاستفتاء على الدستور. وعلى الرغم من أن الخطة الجديدة للجيش قصيرة الأجل لكنها تعيد إلى الأذهان قانون الطوارئ الذي طبق في عهد الرئيس السابق حسني مبارك.

أما الاستفتاء على مسودة الدستور، فلا تزال غالبية القوى المعارضة، وعلى رأسها جبهة الإنقاذ الوطني، ترفضه، لكن نادي قضاة مجلس الدولة، وهو أحد ٥ أندية تتحكم في القضاء المصري، قد أعلن موافقته على الإشراف على الاستفتاء، وهو تحول في موقف عدد من القضاة الذين رفضوا من قبل الإشراف عليه.

على الرغم أن الاستفتاء على مسودة الدستور بات قاب قوسين أو أدنى، فإن مظاهرات المعارضة وما يقابلها من تظاهرات، تيارات الإسلام السياسي التي تؤيد شرعية الاستفتاء، تبدو وكأنها تخطف الأضواء، بل وقد تخطف ما تبقى من زمن حتى موعد الاستفتاء.

الرئيس المصري محمد مرسي مصرّ على موعد الاستفتاء على مشروع الدستور في موعده المحدد، والمعارضة التي تحشد لتظاهرات مليونية مصرة على رفض المشروع وتدعو إلى التصعيد. تقف مصر اليوم أمام أخطر أزمة سياسية منذ نجاح الثورة، ويبقى التخوف سيد الموقف من احتمال انفلات الوضع على الأسوأ، أي حدوث صدامات واسعة بين المعارضين وأنصار التيار الإسلامي. أما السؤال الكبير فهو التالي: كيف ستتصرف القوات المسلحة المصرية لاحتواء الأوضاع؟.

لا شك أن انعدام الثقة هو الأساس في هذه الأزمة، وقد فاقمها نقص الخبرة في الحكم وإدارة الشأن العام، رغم إحاطة الرئيس مرسي نفسه بعدد كبير من المستشارين الذين فوجئوا جميعاًَ كسواهم بالإعلان الدستوري ومضمونه. وفي غياب أي حوار أو حلول وسط أو تراجع للرئيس عن قراره، يمكن للأزمة أن تطول، مع ما يبدو من تداعياتها الخطيرة على الاقتصاد والأمن، وبالأخص على مسار التحول الديمقراطي في مصر.

اعلى الصفحة