اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الثانية عشر ـ العدد 134  ـ ( صفر ـ ربيع الأول  1434  هـ ) كانون الثاني 2013 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

العقل العربي والتحديث

قيل الكثير عن الحداثة ومدارس الحداثة النقدية وما بعد الحداثة، المدارس متنوعة وكثيرة من الألسنية، والبنيوية، والواقعية، والوجودية، والتفكيكية، والنظريات الحديثة حول النص والتناص، ونظريات القارئ، وموت المؤلف الكاتب، وغيرها من الاتجاهات والمذاهب والمدارس، فالإشكالية قائمة، ليس فقط لكثرة النظريات والمذاهب والاتجاهات.‏

بل هناك من وقف مع نظريات الحداثة الغربية بشكل تام ومطلق، وهناك من عارضها جملة وتفصيلاً، وبينهم الكثير من المؤيدين والمعارضين والوسطيين وغيرهم الكثير.‏

فهل النقل عن الحداثة الغربية يفتح الطريق أمام التبعية الثقافية ثم يكرسها، كما يقول بعضهم. وهل نرتكب إثماً لا يغتفر كما يقول البعض الآخر، حينما ننقل المصطلح النقدي الغربي، وهو مصطلح فلسفي بالدرجة الأولى، إلى ثقافة مختلفة هي الثقافة العربية. وهل نجد بديلاً عن الحداثة والنظريات النقدية الغربية المتنوعة، يقول بعضهم الآخر إن البديل موجود في التراث العربي، فالتراث البلاغي العربي موجود، وهناك بلاغيون عرب من أمثال: الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني، وقدامة بن جعفر، وحازم القرطاجني........‏

وماذا بخصوص الحداثيين العرب اليوم، سواء الجيل الأول من الحداثيين من أمثال طه حسين والمازني، والعقاد، الذين قدّموا الكثير من الإبداع والفكر والعلم، والجيل الجديد الذي أصبح الكثير منه فقط ببغاوات، وذلك دون التمكن من صنعة الأدب، إذ ظلوا مترجمين ومرددين لكلمات ومصطلحات تأتينا من الغرب. هؤلاء الحداثيون العرب الجدد الذين ابتعدوا أكثر وأكثر عن الأصول الغربية للحداثة، واعتمدوا على عمليات نقل وترجمة غير دقيقة، ابتعدوا عن حقيقة الحداثة وما بعدها بخطوتين.‏

وماذا عن الجيل الوسط بين الحداثيين العرب!... وهل نكون موفقين عندما نطلق عليهم تسمية الوسطيين؟....‏

علينا إذاً وصل ما انقطع، فالانقطاع حصل منذ القرن الرابع عشر الميلادي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونحن الآن نكرس الانقطاع من خلال انبهارنا بإنجازات العقل الغربي في العصر الحديث، وباتخاذ موقف القطيعة الاختيارية والإرادية من تراثنا القديم، إذاً يجب وصل ما انقطع، ومحاولة رأب الصدع، ووضع نهاية لثقافة الشرخ والانفصام. فنحن نعيش في مجتمع ونفكر بتفكير مجتمع آخر، يختلف عن مجتمعنا في العادات والتقاليد والقيم والثقافة والتربية، فليس من المعقول أن نسقط النظريات الغربية بقوالب جاهزة ومجمدة على حياتنا وثقافتنا ونجعلها مرشداً ومقياساً موحداً لنا.‏

أخطأنا إذاً حتى في فهم الحداثة ولم نستطع استيعابها بل هي التي استوعبتنا واحتوتنا، فنحن لدينا تراث وكان يجب أن نحافظ على منجزات التراث والعقل العربي مع الاستفادة من منجزات العقل الأوربي في العلوم والتكنولوجيا، كما فعلت اليابان على سبيل المثال.‏ إلا أننا تحولنا من الانتقاء الذكي والاستفادة من ثمرات الحضارة الغربية، منذ ذروة عصر النهضة، إلى الارتماء في أحضان ذلك الآخر الغربي.‏

أخطأنا حين ربطنا بين التحديث وإدارة ظهورنا بالكامل لمنجزات العقل العربي، كما يفعل الحداثيون العرب الآن، إذ يقولون يجب أن تكون هناك قطيعة معرفية مع الماضي على أساس أن الحداثة تتطلب ذلك، علاوة على ذلك كانت هناك ثنائية وهي الانبهار بالعقل الغربي ومنجزاته، واحتقار العقل العربي ومنجزاته، فأصبحنا نعيش شرخاً ثقافياً.‏

لكن هناك من أدرك الاختلافات بين الثقافتين العربية والغربية، أدركوا أن إنجازات العقل الغربي ليست خيراً كلها، أدركوا أيضاً عكس ذلك، فليست إنجازات العقل الغربي شراً كلها، وليست إنجازات العقل العربي خيراً كلها. يجب علينا إذاً أن نأخذ من الثقافة الغربية ما يتناسب مع ثقافتنا وتراثنا، وألا تكون هناك قطيعة معرفية مع التراث كما ينادي به الحداثيون وما بعد الحداثيين، إذ يجعلون القطيعة المعرفية شرطاً أساسياً لتحقيق التحديث والحداثة، فأصحاب الحداثة كبارهم وصغارهم يتجاهلون نقائص الحضارة الغربية مع علمهم بهذه النقائص؛ لكن هناك الكثير من الأدباء حذروا، من الارتماء الكامل في أحضان الثقافة الغربية، ونقل الفكر الغربي والانفصال عن الواقع بل الدعوة إلى ثقافة تقترب من الواقع الثقافي والحياتي العربي، أكثر من اقترابها من الثقافة الغربية، أي يجب أن نرفض النقل، وهذا لا يعني أن نرفض التأثير.

إن التفكير الخصب هو الذي نستمده من الحياة ونبنيه على الواقع، فيجب التجديد في حياتنا، والاستفادة من الآداب والفنون الأوربية، مع الحفاظ على الذات، يجب أن نعرف أنفسنا قبل أن نتعرف على غيرنا. فسؤال من أنا ومن نحن، والإجابة عنه أصبحت مهمة لا غنى عنها أمام الأدباء والمفكرين والمثقفين والشرائح الأخرى. وكي نعرف في أي عالم نعيش، وكيف نطور أنفسنا نحو الأفضل والأحسن الذي يسعى إليه الكل ونحن من ضمن هذا الكل علينا أن نطور أنفسنا وأن لا ننسى ثقافتنا في الوقت نفسه الذي ننظر فيه إلى الثقافات الأخرى، وأن لا نتغاضى عنها أو نغمض أعيننا عنها، فتجاهل الآخرين لا يجوز أبداً في عصر تلاقح الثقافات.‏

إن اللون الأبيض والأسود ليسا الوحيدين بل هناك ألوان كثيرة بينهما، هناك إمكانية لاستلهام الماضي والانطلاق منه والاستفادة من الحديث، بحيث يتم تطوير الذات، فمعرفة الذات الأنا والنحن توفر علينا الكثير من الجهد والمشاكل، وتساعدنا على تطوير أنفسنا، فالآن ليس مقبولاً أن نعيش التاريخ القديم، ونحن في عصر آخر يختلف عن السابق بالكثير من تفاصيله وجزئياته، فالكثيرون من الغربيين يحاولون شرنقة الشرق، ويجب ألا نفصل أنفسنا ونتجرد من ماضينا وأن نحقره كما يفعل الكثيرون من الحداثيين، فالعقل العربي يجب أن يصبح فاعلاً، وليس منفعلاً فقط، ومحاوراً وليس فقط مستقبِلاً، وأن نكف عن أن نكون مستهلكين لفكر آخر، وأن ننتج فكراً خاصاً بنا، مثل الشعوب الأخرى التي تتميز عن الغرب ولها خصوصيتها الفكرية واللغوية والثقافية كاليابان والصين.. نحن أيضاً لنا قيم خاصة بنا كاللغة والثقافة، تميزنا عن غيرنا، وتحافظ على هويتنا أمام الغزو الثقافي الذي نتعرض له اليوم ولا يعني ذلك أن نبقى جامدين متحجرين، بل يجب أن يزداد الوعي بالذات.. وبحوارها مع غيرها من الثقافات الأخرى.‏

اعلى الصفحة