|
|||||||
|
ما إن انتهى العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة إلا وبدأت الصحافة الإسرائيلية تتلمس مقدار التوتر الذي كان يسود أجواء القيادة الإسرائيلية بشأن وجهة الأمور أثناء العدوان. وقد دلل أكثر من غيره على هذا التوتر، الموقف الذي أعرب عنه كبير معلقي صحيفة "إسرائيل بيتنا" المقربة جداً من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، دان مرجليت. كذلك كانت عناوين الصحف الرئيسية التي أشارت إلى كمٍّ واضح من الارتباك. فقد تحدثت "يديعوت أحرنوت" عن "معضلة الحرب البرية"، في حين لفتت "معاريف" إلى تردد المستوى السياسي وخوفه من الورطة دولياً إذا أقدم على خطوة برية في القطاع. وكتب يوسي يهوشع في "يديعوت" تحت عنوان "المعضلة البرية"، "يبدو أنه لا توجد عند الجانب الإسرائيلي رغبة حقيقية في الخروج إلى حملة برية. لكن إذا ما انطلقت الدبابات، المجنزرات والآليات الثقيلة في نهاية المطاف نحو غزة، فسيكون ذلك أمراً لا مفر منه"، مشيراً إلى أن "الدخول البري لن يكون تكرارا لحرب الرصاص المسكوب، إذ أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي استخلصتا الدروس: زادتا كمية الصواريخ، تعلمتا كيف تستخدمان الوسائل التي تستلماها من إيران بشكل أفضل، وهما بالأساس غيرتا خطة الانتشار في مواجهة الجيش الإسرائيلي". اليوم ليس كالأمس وأوضح يهوشغ "قبل نحو أربع سنوات بدأت الحملة بتليين مكثف للأهداف قام به سلاح الجو، بالتزامن مع نار بطاريات المدفعية. وفقط بعد الضربة من الجو دخلت القوات البرية لتطهير مناطق إطلاق الصواريخ، التي كانت في معظمها على الأرض المفتوحة. أما اليوم فالقصة مختلفة تماما، وبالتالي فإن القوات التي سيتعين عليها الدخول ستكون ملزمة بالدخول أعمق بكثير، والخطر على حياتها سيكون أعلى بأضعاف. هذه المرة لن ينتهي الأمر بعشرة قتلى". ولفت يهوشع إلى أن "لحالة الطقس دوراً في القرار. فالشتاء يقترب، ولا أحد في الجيش الإسرائيلي يرغب في أن يغرق، في الوحل الغزي"، مضيفاً أن "تعميق الضربة لحماس والجهاد ليس هدفاً عسكرياً بل غاية سياسية، وعليه فإنه من الواضح الآن أنهم إذا كانوا يريدون الخروج في حملة برية فيجب أن يأخذوا بالحسبان أنه ينبغي أن تكون مغايرة، أي مختلفة، مركبة وخطيرة أكثر من تلك التي يتحدثون عنها الآن". ويشرح أن "مثل هذه الحملة، التي تتضمن بتر القطاع والسيطرة على معبر رفح، للكثير من الوقت، تحتاج إلى الكثير من الوقت وطول النفس والدعم الجماهيري. وبالتأكيد ليست هذه حملة يتم الانطلاق إليها عشية الانتخابات". وفي صحيفة "هآرتس"، أشار المعلق العسكري عاموس هارئيل إلى أن الوضع على الحدود يظهر التشخيصات التالية: "فقدان التفوق النسبي، حيث حظيت المرحلة الأولى من العملية بنجاح لأن إسرائيل استغلت فيها مزاياها في مكافحة الإرهاب، أي التكنولوجيا المتطورة والتفوق الجوي المطلق والسيطرة الاستخبارية، لكن الآن أصبحت المرحلة الجوية قريبة من النفاذ. وقد تمت مهاجمة جزء كبير من الأهداف المهمة ويُبذل الآن جهد للقضاء على بعض الخلايا بالضربات الجوية". وإلى جانب نجاحات في نقاط معينة، فإن هذه العملية تجري في منطقة شديدة الاكتظاظ وفي ضغط زمني كبير، وكلما طالت هذه المرحلة فستحدث اختلالات مؤسفة كاستهداف المدنيين، ولا يمكن تجنبها وستتضاءل فرصة تأييد الشرعية الدولية لاستمرار العملية. وأضاف معلق "هآرتس" أن الاحتكاك على الأرض سيجعل دخول القوات البرية شديد السوء. والحاجة إلى حمايتها من الأخطار الكثيرة في القطاع وستقتضي استعمالاً عنيفاً جداً للنيران يزيد بصورة مطّردة عدد القتلى المدنيين في الجانب الفلسطيني والضغط على إسرائيل لإنهاء العملية. وأشار المحلل السياسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، شمعون شيفر، إلى أن الحقائق الأساسية الموضوعة أمام صناع القرار في إسرائيل هي: أن إسرائيل استنفدت عملياً تفوقها النوعي الذي وضعه أمامها الجيش وجهاز الأمن. وأن الشرعية الدولية للعملية العسكرية الإسرائيلية على وشك الانتهاء. والتوغّل البري في القطاع ومخاطر المس بالسكان المدنيين ليسا مقبولين لدى أوباما ونظرائه الأوروبيين. كما أن إسرائيل ستخاطر باحتمال الدخول في مواجهة مع مصر، واحتمال إسقاط الملك الأردني عبد الله الثاني. وأن المقاومة ما زالت تطلق الصواريخ ولا توجد لديها أية نية للتوسل من أجل وقف إطلاق النار كما قال وزير الحرب الإسرائيلي أيهود باراك. وكتب شيفر أن "مئات آلاف الإسرائيليين يسمعون باتصالات حول وقف إطلاق النار ويتساءلون: من أجل ماذا فعلنا ذلك (شن العملية العسكرية)، وما الذي حققناه حتى الآن؟". ولفت إلى أنه "لا شك في أن صورة انتهاء المعركة الحالية ستؤثر على قرار الإسرائيليين وما إذا كانوا سيمنحون (في الانتخابات القريبة) نتنياهو فرصة أخرى ثالثة لترؤس الحكومة، وهو سيأخذ هذا الأمر بالحسبان لدى إقدامه على اتخاذ أي قرار حول متى وكيف سيبشرنا بانتهاء العملية العسكرية". من جهة ثانية كتب المحللان في "هآرتس"، العسكري عاموس هارئيل، ومحلل الشؤون الفلسطينية آفي سسخاروف، أن "إسرائيل ستضطر إلى اتخاذ قرارات خلال فترة قصيرة، من أجل الامتناع عن التلكؤ الذي ميّز حرب لبنان الثانية. ومن الصعب أن ترى لدى المستوى السياسي أو لدى هيئة الأركان العامة نية حقيقية بشن عملية عسكرية برية: ولا توجد تطلعات لإسقاط حماس، وإنما التخفيف من الأضرار البالغة التي ترغب بها هذه الحركة لتبادل الضربات المتواصل". كذلك أشار المحلل العسكري في صحيفة "معاريف"، عمير ربابورت، إلى أن "عملية (عمود السحاب) العسكرية وصلت إلى مرحلة مصيرية: فالغارات الجوية استنفدت نفسها، وتزايدت الاتصالات من أجل وقف إطلاق النار. تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الإسرائيلية قررت، أثناء العدوان على غزة، تجنيد 75 ألف جندي في الاحتياط، وهو عدد لم تجنده إسرائيل منذ حرب لبنان الثانية. ويرجح محللون عسكريون إسرائيليون أن القرار بتجنيد هذا العدد الهائل من جنود الاحتياط لم يكن يتعلق باحتمال اجتياح القطاع وإنما كان تحسباً من تصعيد أوسع من قطاع غزة. وأشار المحلل العسكري في موقع "واللا" الالكتروني، أمير بوحبوط ، إلى إنه "بالإمكان التقدير أن تجنيد 75 ألف جندي احتياط غايته تمرير رسالة، ليس فقط إلى حماس في قطاع غزة وباقي الفصائل، وإنما إلى جميع دول الشرق الأوسط وفي مقدمتها سورية ومصر ولبنان، وفي داخله حزب الله، وإيران. والرسالة التي يمررها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، بيني غانتس، هي أن إسرائيل لا تخشى من الحرب". المفاجآت العسكرية والأمنية أولى المفاجآت المذهلة التي أذهبت عقول قادة الاحتلال وأربكت حساباتهم تمثلت في دقة الإدارة العسكرية للمعركة التي نجحت فيها فصائل المقاومة بكل جدارة وامتياز. لم يكن وارداً في حسابات قادة الاحتلال العسكريين والسياسيين على السواء أن ترتقي الإدارة العسكرية للمقاومة إلى هذا المستوى الرفيع الذي يحاكي الإدارة المؤسسية لأي جيش نظامي قوي في العالم، وأن تتمكن المقاومة في غضون فترة زمنية وجيزة تقل عن أربع سنوات من تحقيق طفرة عسكرية كبرى تجاوزت معها الثغرات والسلبيات التي كشفتها حرب "الرصاص المصبوب" على غزة نهاية عام 2008 وبداية عام 2009. ولعل أقصى ما جال في خاطر قادة الاحتلال -وهم يرسمون ملامح قرار الحرب الأخيرة على غزة استنادا إلى معلوماتهم الاستخبارية - أن المقاومة التي تمكنت من امتلاك كمية لا بأس بها من الصواريخ والعتاد الحربي بعمليات التهريب المتواصلة عبر الأنفاق الحدودية، لن تقوى سوى على استخدام جزء محدود منها في بداية المعركة، فيما يتكفل سلاح الجو الإسرائيلي بالقضاء على البقية الباقية، وإجبار حماس على رفع الراية البيضاء والرضوخ لاشتراطات الاحتلال. لقد تراكمت الحصيلة الاستخبارية الإسرائيلية معطيات كثيرة حول النشاط الواضح والفعاليات المتلاحقة التي تجترحها فصائل المقاومة وأجنحتها العسكرية في مختلف المجالات العسكرية، لكن الغرور الإسرائيلي المعروف حجب عن قادة الاحتلال -وخصوصاً قادته العسكريون والأمنيون- إمكانية تحقق سيناريو النهضة العسكرية الشاملة لتنظيمات عسكرية صغيرة بالمقاييس العسكرية الإسرائيلية، أو إمكانية وقوفها وصمودها في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة بروافد أمنية واستخبارية واسعة في يوم من الأيام. ولا ريب في أن شيئاً من المعلومات قد بلغ مسامع قادة الاحتلال ومؤسساته العسكرية والأمنية والاستخبارية حول التطور المؤسساتي المطرد الذي غزا كتائب القسام وسرايا القدس في مرحلة ما بعد حرب "الرصاص المصبوب"، والجهود الهائلة لاستخلاص العبر واستدراك الأخطاء، والعمل الدؤوب الذي وصل الليل بالنهار لإنتاج حالة مؤسسية رائدة لا تختلف عن المنظومة المؤسسية للجيوش النظامية، لكن تقديرات الاحتلال -أمنياً واستخبارياً- لامست هذه التطورات بنوع من الاستخفاف، ولم تتوقع أن تتحول مجموعات عسكرية ذات تسليح محدود إلى ما يشبه الجيش النظامي الذي تحكمه مؤسسة قوية وفاعلة، ويحيط به نظام أمني محكم، وتتفرع عنه دوائر عسكرية مبدعة في مختلف المجالات، استطاعت في غضون مرحلة زمنية قصيرة نسبيا بناء منظومة عسكرية متكاملة ذات أهلية كاملة لمواجهة الاحتلال والتصدي للعدوان. وهكذا، لم تستطع إسرائيل بكل ترسانتها الحربية وقدراتها الاستخبارية المساس بالمنظومة الصاروخية للمقاومة، ولم تصب من مقاوميها سوى عدد محدود لا يزيد على أصابع اليد الواحدة، وبقيت المقاومة كما هي، قدرات وإمكانات، لم تتأثر بحمم ونيران العدوان، ولم تفقد سوى مئات الصواريخ التي أطلقتها على مدن وبلدات الاحتلال، في إطار منظومتها الصاروخية التي يعتقد الاحتلال أنها ما زالت تحتوي على ما يقارب 10000 صاروخ. لقد كانت صدمة قادة الاحتلال مدوية، وذهولهم صارخاً، حين تكسّرت مخططاتهم العسكرية على نصال غزة، وسقطت مراحل عدوانهم الواحدة تلو الأخرى، في ضوء تكتيكات محسوبة ومنهج مدروس وإجراءات دقيقة ابتدرتها المقاومة منذ نهاية حرب "الرصاص المصبوب"، ورعتها عبر جهود شاقة لم تتوقف يوما على طريق الإعداد والتدريب والاستعداد للمواجهة، وتوّجتها قبل عدة أسابيع بوحدة تنسيق ميداني بين حركتي حماس والجهاد، قبل أن تكتمل الدائرة بتشكيل غرفة عمليات مركزية شملت قوى المقاومة الحية، وتم الإعلان عنها مع بداية العدوان. وحين شمرت المقاومة عن ساعد الجدّ والعمل عندما وضعت حرب 2008-2009 أوزارها، وبدأت في إعداد العدّة ليوم النزال ومعركة المواجهة القادمة مع الاحتلال، كانت تدرك تماما أنها تسابق الزمن، وأن مستقبل مشروعها الوطني والجهادي يرتبط بمدى جاهزيتها للمعركة، ومدى قدرتها على التطور والارتقاء عسكريا بما يتناسب مع التحدي العسكري الإسرائيلي الذي لم يخفِ يوما نواياه العدوانية للانقضاض على غزة والقضاء على مقاومتها وتدمير قدراتها وبنيتها التحتية. وهكذا، حشدت المقاومة كافة عقولها العسكرية وشحذت قرائحها المفكرة في السياقين: العسكري والأمني، وعقدت مئات ورش العمل على امتداد أشهر طويلة حتى أنجزت خلاصات رائعة ارتكزت على مقاربة بالغة الدقة والأهمية، استوعبت تجربة الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وتجربة الحرب على غزة 2008-2009، فضلا عن دراسة طبيعة ومضامين السلوك العسكري الإسرائيلي المبثوث طيلة السنوات الماضية ضد قطاع غزة والمنطقة العربية عموماً، ومجاراة المخططات العسكرية والتطور العسكري الإسرائيلي الذي يرشح أو يتم الكشف عنه إسرائيلياً. ومن هنا فقد أعدت المقاومة خطة المواجهة العسكرية بكل دقة وثقة واقتدار، ولم تضيّع في سبيل إنجازها لحظة واحدة، وبنت في ضوئها مئات الأنفاق الحدودية والأرضية في طول وعرض قطاع غزة طيلة المرحلة الماضية، وأفنت أوقاتها في تدريب وتأهيل عناصرها وكوادرها في مختلف الميادين والمجالات العسكرية، وعكفت على تطوير منظومتها الصاروخية المحلية الصنع بوساطة عقولها العسكرية الفذة مثل صاروخ "M75" المطور الذي يتراوح مداه ما بين 75 و80 كيلومتراً، واستجلبت تقنيات ما تستطيع من القذائف الصاروخية المتطورة البعيدة المدى مثل صواريخ "فجر 5" التي يزيد مداها على 75 كيلومترا، والقذائف الفعالة المضادة للدبابات من طراز "كورنيت" التي تخترق الدبابات المحصنة على بعد خمسة كيلومترات، ناهيك عن صواريخ أرض/جو المضادة للطائرات، وصواريخ أرض/بحر المضادة للسفن والبارجات الحربية، الأمر الذي غيّر قواعد اللعبة ومسار المعركة وحوّلها إلى معركة مكلفة للاحتلال. من البديهي أن الإدارة العسكرية للمعركة لم تكن لتتكلل بالنجاح لولا قدرة المقاومة على إدارة المعركة أمنياً. فالواضح تماماً أن إدارة المقاومة للمعركة أمنيا لم تقل كفاءة عن الإدارة العسكرية، وأن الأمن العسكري الخاص لحماس تزاوج مع الأمن الفلسطيني العام في توليفة مهنية رفيعة، شكلت تحدياً بالغاً لأجهزة الأمن والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. لقد تجلت ملامح الإدارة الأمنية الرفيعة للمعركة في قدرة المقاومة على حفظ أمن عناصرها وكوادرها وقياداتها وعموم قواتها العاملة، وحفظ أمن عتادها ومعداتها ومواقعها العسكرية السرية، واعتماد أساليب تمويه وإخفاء متقنة جعلت منصات إطلاق الصواريخ أشبه ما تكون بالأشباح التي لا يمكن بلوغها وتجسيد مواقعها وأماكن وجودها، وهو ما أحبط الاحتلال فأسقط في يده وحُرم من المعلومات الأمنية الدقيقة التي يحتاجها لتغذية بنك أهدافه الذي تفاخر بإعداده وهدد باستهدافه قبل اندلاع العدوان، وجعل منه بنكاً فارغ المحتوى وقاصراً على المواقع الحكومية والمنشآت العامة المعروفة، وهو ما اضطره للضرب العشوائي في عمق المدنيين في ظل حالة من التخبط الواسع والإرباك الكبير. علاوة على ذلك، فقد أقدمت كتائب القسام وسرايا القدس على تحصين ذواتها الأمنية عبر شبكة اتصالات خاصة على شاكلة شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله اللبناني، وأدارت كافة اتصالاتها وفعالياتها في سياقات المواجهة المختلفة بأمان تام وأريحية كاملة، خلافا للحرب السابقة التي استطاع فيها الاحتلال آنذاك اختراق خطوط وشبكات الاتصال التي يستخدمها المقاومون، مستغلا الكثير من الثغرات التي أثخنت المقاومة وأرهقت كاهلها، وحققت العديد من الإنجازات لصالح الاحتلال. وليس بعيداً ما أنجزه الأمن الخاص بالمقاومة حين استطاع تدشين بنك أهداف إسرائيلي بالغ الأهمية والخطورة، وخصوصاً في المجالين: العسكري والأمني، بما اشتمل عليه من تحديد جغرافي دقيق لقواعد ومواقع سياسية وعسكرية وأمنية بالغة الخطورة، ومن بينها موقع مبنى "الكنيست" الإسرائيلي (البرلمان) في مدينة القدس، وموقعا وزارة الحرب وهيئة الأركان في مدينة تل أبيب، والكثير من القواعد العسكرية التي تم ضربها واستهدافها من قبل كتائب القسام وسرايا القدس في المواجهة الأخيرة. وإن شئنا مزيداً من الدقة، فإن الصراخ والغضب الإسرائيلي الرسمي الذي بلغ ذروته بعد قصف مدينتيْ تل أبيب والقدس يرجع في أحد أهم جوانبه إلى دقة استهداف المقاومة لبعض المواقع والقواعد العسكرية جنوب فلسطين المحتلة، مما فرض على حكومة وجيش الاحتلال ممارسة التعتيم الإعلامي وإخفاء كافة المعلومات ذات العلاقة بالمواقع المستهدفة، ومنع نشرها بأي حال من الأحوال، وإخضاع أخبار القصف الصاروخي الفلسطيني لمقص الرقيب الإسرائيلي الرسمي، والسماح فقط بنشر الأخبار ذات العلاقة بالاستهدافات الصاروخية العامة التي لا تؤثر على الأمن الإسرائيلي. وبكل تأكيد، لم تستطع المقاومة تدشين بنك أهدافها إسرائيليا في يوم وليلة، بل كان ذلك نتاجا لسنوات طويلة من الجهد البالغ والعمل المضني والبحث الدقيق الذي شاركت فيه طواقم عمل أمنية متخصصة، لم تغفل أو تهمل معلومة واحدة حتى تمكنت -مع وسائل أخرى- من إعداد بنك أهداف محترم، تم وضع جزء هام منه في دائرة الاستهداف المقاوم خلال المعركة الأخيرة. وقد نشرت المقاومة أدواتها وعيونها الرقابية في كل مكان في إطار جهدها الأمني الرامي إلى فضح وكشف عملاء الاحتلال الذين ينشطون في تزويده بالمعلومات الهامة عن مواقع وجود المقاومين الفلسطينيين، وأماكن إطلاق وتخزين الصواريخ، ونجحت في اكتشاف عدد منهم إبان المعركة، وتم إعدامهم على الفور بعد التحقيق معهم، وهو ما شكل ضربة أمنية ومعنوية للاحتلال، فاضطر عدد آخر من العملاء لتسليم أنفسهم لوزارة الداخلية التابعة لحكومة حماس. لذا، لم يكن مستغربا أن تصنع المقاومة النصر من رحم المعركة، وأن تنتزع الإنجاز من قلب الموت والدمار، فقد أبلت بلاءً حسناً، وأتقنت الإعداد والتخطيط والعمل والتنفيذ، وأدارت معركتها مع الاحتلال عسكرياً وأمنياً بكل جدارة واقتدار، فكانت النتيجة: جزاءً وفاقاً ومجداً تليداً ونصراً مجيداً. كذبة "القبة الحديدية" بعد يومين من اختراق طائرة من دون طيار الأجواء الإسرائيلية، نشر جيش الاحتلال بطارية صواريخ باتريوت مضادة للطائرات والصواريخ في منطقة الكرمل شمال فلسطين المحتلة. وعلى الرغم من رفض مصادر الجيش ربط نشر البطارية بحادثة اختراق الطائرة، إلا أن وسائل الإعلام العبرية أكدت أن عملية النشر جاءت على خلفية الخشية من محاولات تغلغل إضافية لطائرات من دون طيار داخل الأجواء الإسرائيلية. وذكرت تقارير إسرائيلية أن المؤسسة الأمنية عززت يقظتها على مستوى الدفاع الجوي في أعقاب حادثة اختراق الطائرة. وأشارت الإذاعة العبرية إلى ارتفاع أرجحية التقديرات التي تحمّل حزب الله المسؤولية عن إرسال الطائرة. وقالت الإذاعة إن خبراء من سلاحي الجو والاستخبارات أعادوا تركيب أجزاء الطائرة التي جُمعت بعد تفجيرها، ليتبين أنها لم تكن مسلحة، وأنها أرسلت في مهمة استخبارية على ما يبدو. وأوضحت الإذاعة أن نوع الطائرة وكيفية وصولها إلى الأجواء الإسرائيلية لا يزالان غير واضحين، إلا أن الجيش يجزم بأنها لم تنطلق من قطاع غزة. وقالت الإذاعة إن الطائرة هي من النوع الكبير والمتطور وتخضع للتحكم عن بعد عبر أجهزة منصوبة داخل حاوية. وأشارت إلى أن تقنيتها الحديثة شرقية ويقف وراءها عادة دول أو منظمة مجهزة جيداً مثل حزب الله. وفي طهران، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية "ارنا" عن مساعد شؤون التنسيق فی الحرس الثوري العميد جمال الدين ابرومند قوله "إن تغلغل طائرة من دون طيار إلی عمق 100 كيلومتر داخل أجواء الأراضي العربية المحتلة يعكس ضعف نظام القبة الحديدية وفشله والنظام الدفاعي للكيان الصهيوني". لكنه لفت في الوقت عينه إلى أنّ "من المحتمل أن تكون مزاعم الكيان الصهيونی حول تغلغل هذه الطائرة داخل أجواء الأراضي العربية المحتلة نوعاً من الحرب النفسية التي يمارسها هذا الكيان". وقال: "يجب أن نأخذ في الاعتبار أن للكيان الصهيوني أعداءً كثيرين، ومن الممكن أن يقوم هؤلاء بمثل هذه الإجراءات". وفي نفس السياق لا ينفك الصحافيون في أكبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، يتحدثون عن نجاعة منظومة "القبة الحديدية" في اعتراض صواريخ المقاومة الفلسطينية التي تطلق من قطاع غزة باتجاه المستوطنات والبلدات الإسرائيلية، في ظل الهجوم الإسرائيلي على غزة، ويجمع معظمهم على أن نسبة نجاحها في تدمير الصواريخ بلغت 90%. إلا أن بعض المعطيات، كالأرقام الرسمية المنشورة في وسائل الإعلام الإسرائيلية والمنسوبة أحياناً إلى الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، كشفت أن قدرة "القبة الحديدية" على الردع لم تتجاوز 54% في أحسن الحالات. كما أن البث المباشر للقنوات التلفزيونية "فضح" مراراً إخفاقات هذه القبة بالصوت والصورة، وإحدى هذه "الفضائح" حدثت عندما كان مراسل القناة الإسرائيلية الثانية ينقل، حدثاً مباشرة من منطقة نصبت بها بطارية لمنظومة "القبة الحديدية"، وكانت هذه البطارية تظهر من خلف المذيع، فانطلقت الصافرات منذرة بصاروخ فلسطيني بطريقه للمنطقة. فقال عندها المراسل: "عيوننا تتجه إلى القبة الحديدية" بعد أن كان قد أثنى مراراً على قدرتها الردعية، إلا أن صواريخ الردع التي انطلقت منها بدت "مجنونة" وهوت على الأرض، لتدفع المذيع إلى التبرير بأنه لا تزال هناك بعض المشاكل التقنية التي يجب التغلب عليها". وفي حادثة مشابهة، نقل البث المباشر لإذاعة الجيش الإسرائيلي مراراً أصوات انطلاق صافرات الإنذار، فكان المراسلون ينتظرون من المنظومة اعتراض الصواريخ الفلسطينية، لكن سرعان ما كانت تأتيهم الإجابة العكسية التي كانت تؤكدها أصوات الانفجارات على الأرض. وعلى صعيد الأرقام، نشرت صحيفة "هآريتس" على موقعها الإلكتروني، معطيات قالت إن مصدرها الجيش الإسرائيلي، جاء فيها أنه استهدف أكثر من 1350 هدفاً في غزة، كما أن أكثر من 540 صاروخاً فلسطينياً سقطت في المناطق الإسرائيلية، 35 منها في أماكن مأهولة، في حين تمكنت منظومة "القبة الحديدية" من تدمير 310 صواريخ. وعند إجراء حسابات رياضية بسيطة لهذه المعطيات يظهر أن العدد الإجمالي للصواريخ الفلسطينية التي استهدفت إسرائيل هو 850 صاروخاً، وبالتالي فإن الـ310 صواريخ التي اعترضتها "القبة الحديدية" تشكل نحو 36% من هذا العدد فقط. ومن جانبها، نشرت صحيفة "يسرائيل هيوم" معطيات مختلفة، وجاءت فيها فعالية "القبة الحديدية" أكبر من تلك التي تستنتج من معطيات "هآرتس"، إلا أن نسبة نجاح القبة في معطيات "يسرائيل هيوم" لا تتعدى الـ54%. فقد نشرت الصحيفة أن المقاومة الفلسطينية أطلقت 544 صاروخاً باتجاه إسرائيل، 33 منها سقطت في أماكن مأهولة، في حين اعترضت منظومة "القبة الحديدية" 290 صاروخاً، وعند حساب النسبة المئوية يتبين أن الـ290 صاروخاً تشكل 53.3% من إجمالي الصواريخ، إلا أن المفارقة تكمن في أن الصحيفة نشرت في عنوانها أن نسبة نجاح المنظومة بلغت 85%. وفي سياق متصل، أشارت الصحافة الإسرائيلية إلى أن خللاً فنياً حال دون تشغيل المنظومة وردعها الصاروخ الذي أدى إلى مقتل ثلاثة إسرائيليين في كريات ملاخي. ومن جانب آخر، كانت صحيفة "يسرائيل هيوم" قد أفردت عنواناً أشارت فيه إلى أن عدد الصواريخ المنبعثة من غزة آخذ في الانخفاض، لكن الضرر الذي ألحقته الصواريخ في العديد من المناطق كان كبيراً. كما ذكرت الصحيفة أن إسرائيل تستخدم اليوم خمس بطاريات ضمن منظومة "القبة الحديدية"، وهي صناعة إسرائيلية بدعم مالي أمريكي، وتسعى لإنتاج 13 بطارية أخرى، علماً أن تكلفة البطارية الواحدة تصل إلى نحو 100 مليون دولار. الحجج الصهيونية الضعيفة وهكذا نجد أن الفرح المنفجر في شوارع غزة، لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار، لم يكن فحسب احتفالاً بالانتصار في المعركة المحددة التي اندلعت قبل ذلك بأسبوع، بل كان أيضاً، وخصوصاً، فرحاً مشروعاً تماماً بالحياة، بالفسحة المتاحة فجأة لاستمرارها كمقابل للموت الذي حمله القصف الرهيب للطائرات والمدافع، ووعَد به التهديد باجتياح بري. وهذا صحيح، بالرغم من أن الفلسطينيين لا يمتلكون بالدرجة الأولى سوى حيواتهم يقدمونها، أو يُبدون الاستعداد لتقديمها من أجل تصحيح الاختلال في توازن القوى، وأن ما تهابه إسرائيل فوق كل شيء هو الدخول في مواجهة مباشرة، لأن الارواح التي ستتكبدها، حتى لو عادلت واحداً بالمئة مما يتكبده الطرف الآخر، تبقى حكماً غير مقبولة ولا تطاق بالنسبة إليها. وثمة من يظن ذلك حرصاً على الحياة من قبل الإسرائيليين، واحتراماً لها كقيمة عليا، وثمة من لا يرى فيه إلا جبناً موصوفاً. ولكن هناك احتمالاً ثالثاً غالباً ما يتم تجاهله، مع زعمي أنه الأساس: كون الأمر يدل على وصول المشروع الإسرائيلي/الصهيوني إلى نهايته. فما يُدْعى اليوم الإسرائيليون للدفاع عنه لم يعد ذا صلة بفترة التأسيس، حين بدت هناك ضرورة لإيجاد ملجأ آمن ليهود العالم بمواجهة اضطهاد تاريخي في أوروبا تكلل بالمحرقة النازية. وحين مُزج ذلك بنجاح مع الأساطير التوراتية عن المنفى والسبي والعودة، وهو مزج جرى تحديثه ليلائم ولادة إسرائيل. ولم يكن من الممكن تخيل القادة المؤسسين لإسرائيل وهم يلاحَقون بتهم من قبيل الفساد والاحتيال واغتصاب السكرتيرات المجندات. أما اليوم، فنتانياهو وباراك وليبرمان يشحذون همم الإسرائيليين للقتال بحجة ضعيفة للغاية ومبتذلة، وهي توفير الحماية لهم من قذائف الكاتيوشا المنطلقة من غزة، والتي إن أصابت أحداً فهي تصيب سكان المستعمرات المحيطة بالقطاع، وهم حصراً أفقر الفقراء في إسرائيل. وفي خلفية الحجة كلام مضمر عن إسرائيل التي لا تتحمل أي هزيمة من أي نوع، والتي يحاصرها الأعداء وينتظرون اللحظة المناسبة للفتك بها، وتحتاج لتأكيد تفوقها في كل لحظة وبصورة مطلقة. وفي ذلك تناقض مربك، فإسرائيل الأولى التي تنزعج من الكاتيوشا دولة "عادية"، من واجبها ومن حقها -كما قال قادتها (ومعهم باراك أوباما وقتها وبان كي مون والعديد سواهما)- أن "تدافع عن نفسها". أما إسرائيل الثانية، تلك التي تُرى من بين السطور التهويلية، فهي القلعة المحاصرة التي إن تساهلت مرةً سقطت. لكن تظهير "الإسرائيليَيْن" معاً عملية شاقة، بل محفوفة بالمخاطر، أقله أن ذلك بلا نهاية، أي أن الإسرائيليين موعودون وفق هذه الصيغة بأن يبقوا مقاتلين جيلاً بعد جيل، ومقتولين بالضرورة، بينما تزدهر طبقة من المترفين الذين يضعون أبناءهم وأموالهم في مأمن من الخطر. ومن لم يقرأ خطاب قائد الأركان الإسرائيلي للجنود حين استدعاء الاحتياط فاته الكثير، فقد ذكّرهم في بيانه إلى الأمة، بأنهم استعدّوا وتدربوا من أجل هذا، ويعرفون أنه ضروري، فكان خطابه أشبه بالاعتذار، أو أنه كان يسعى إلى ربطهم بالتزام أعطوه وتمنوا في سرهم ألا يضطروا أبداً لاحترامه. لذا غلبت الصيغة الأولى، تلك المتعلقة بمنع الكاتيوشا! وبدا أنه من الصعب إقناع المجندين وذويهم بالذهاب إلى غزة وتطهير كل حي فيها. فذلك مخيف وهو مجهول النتائج والثمن... لاسيما إن كان الأمر سينتهي حكماً، ومهما نجح، بانسحاب وبعودة الأمور رويداً إلى ما كانت عليه. من المرجح أن الإسرائيليين لا يريدون الموت من أجل هذا. ولاستطلاعات الرأي التي أجريت بينهم في عز أيام القصف دلالة أكيدة على هذا الاتجاه، فقد أيدت أغلبية ساحقة تماماً (87%) العملية واستمرار القصف الجوي وتكثيفه، مقابل أقل من 30 بالمئة أيدوا اجتياحاً برياً. لكنْ عوضاً عن الكاتيوشا، انهالت على تل أبيب وعلى ضواحي القدس آلاف الصواريخ سميت بعيدة المدى (مع أن المسافة لا تصل في أي حال لمئة كلم). ومن جهة أخرى، فإن هول أصواتها وهي تنفجر في الجو لم يكن قليلاً. قالت القيادة الإسرائيلية إنها ضربت منصات هذه الصواريخ في اللحظة الأولى من العملية، وهذا إنجاز، لكن القلة التي لم تدمر انطلقت. وتقول الأجواء العامة في إسرائيل اليوم، إن الناس استبطنوا وجود تلك الصواريخ، ويعرفون أن الفصائل الفلسطينية ستعود للتزود بها حتى لو أغار الطيران الإسرائيلي مراراً وتكراراً على مصانع الأسلحة في السودان وعلى القوافل الناقلة، وعلى الأنفاق المسربة لها. بهذا المعنى، يحق للفلسطينيين أن يشعروا بأنهم حققوا انتصاراً، وأن يحتفلوا به في شوارع غزة بذلك الفرح المؤثر. وبهذا المعنى يُنظر إلى الهتاف الحماسي الذي صاحب إطلاق الصواريخ نحو تل أبيب، فالفلسطينيون يعرفون حدود هذا الحدث، ولكنهم بخبرتهم التاريخية بإسرائيل يعرفون أيضاً، وبالمقدار نفسه، أنها لا تتحمل حتى تلك الجزئية، ولا بد من توقع نشاط استخباراتي وعسكري محموم من قبلها لتعديل هذه المحصلة. وقد ترتكب إسرائيل حماقات وجرائم في فلسطين وخارجها، مما لا بد من التحوط منه، ولكنها في نهاية المطاف وحقيقة الأمر، ومهما فعلت، اكتشفت "حدود القوة". لذا، ولأنه بعد 64 عاماً من التأسيس تبدو الأمور عند خط بدايتها بلا رجاء، فهي تظهر كحلقة مفرغة: ليس التطبيع ممكناً ولا الغلبة المطلقة ممكنة، ولن يكون مستغرَباً أن يقوى بشكل خطير ذلك الميل الانتحاري الكامن في أساس فكرة إسرائيل نفسها: عليَّ وعلى أعدائي يا رب! |
||||||