|
|||||||
|
تأتي ذكرى أربعين الإمام الحسين المعصوم(ع) لتعيد المآسي الكبرى إلى وجدان الإنسان الحرِّ والمسؤول، فنتذكَّر عطشه، وقسوة الأعداء، بل ووحشيتهم، والقتل الجماعي، وحزَّ الرؤوس، وخيانة من أرسل له كتباً من أهل الكوفة يعلن فيها تأييده ونصرته، ويطلب منه الخروج بهدف الإصلاح والتغيير، في عالم فقد العقل والضمير، عالم قضى فيه النموذج والقدوة وأفضل خلق الله في عصره، وأهله، وأولاده، وخيرة أصحابه، ضحايا التردد، والتراجع، وقلة الوعي لخطورة الموقف وانعكاسه على واقع الأمة الإسلامية في المستقبل. ولأهمية نصرة الحق في هذه اللحظة التاريخية الحساسة، والخوف من لمعان السيف، والانبهار بلمعان الذهب، وخيانة الرسالة الإلهية الخاتمة والرسول الأعظم(ص)، عالم يسوده العمى النفسي، والحقد الشرس الماحق. كيف يمكن للحياة أن تكون هكذا؟ الحسين وأهله ضحايا، والآخرون الذين يدَّعون الإسلام زوراً ونفاقاً جلادون يقتلون الشيوخ والنساء والأطفال دون أي شفقة! فالسؤال الذي يفرض نفسه قبل الدخول في تفصيلات أخرى: لماذا البحث حول فلسفة خروج الإمام الحسين(ع)؟ وما هي الأبعاد التربوية لإحقاق الحق التي ينبغي أن نسلِّط الضوء عليها؟ وما هي الأهمية التي يحتلها هذا الموضوع في الظروف التي تمرُّ بها الأمة الإسلامية اليوم؟ وهل من أولوية له في واقعنا المعاصر، ولاسيما أننا نعيش في زمن تحولات إستراتيجية على مستوى عالمنا العربي، والإسلامي، تحولات يراها بعض المحللين ثورة على الحاكم الظالم، وصحوة من الغفلة، ونهضة للأمة من سباتها بعد تنويم عميق، ويراها آخرين مؤامرة غربية تعيد إنتاج زعماء تابعين للغرب مجدداً، وسياسات تحقق مصالحه المعلنة والخفية، وفتنة بين المسلمين تكمل مخطط إضعافهم وشرذمتهم؟ أولاً -الإنسان بين العقيدة والسلوك: العقيدة هي مجموعة من الأفكار التي يؤمن بها الإنسان لأنها وصلت إلى درجة اليقين والقطع، الذي لا شك فيه، والتي تؤثر على سلوك الإنسان وحياته. ويرتبط العمل بالعقيدة، لأن فائدة العمل لا تترتب إلا مع العقيدة الصحيحة، وهي أول ما يُسأل عنه الإنسان بعد موته، وكذلك ترتبط العقيدة بالعمل لأنها تفقد معناها إذا لم تترجم على أرض الواقع، ولم يكن لها طابع عملي سلوكي. ولا بد لنا في هذا السياق من توضيح مفهوم الدين، الذي بُعِثَ به الرسل، وهدى إليه الأنبياء، ولاسيما خاتمهم وأعظمهم وأكرمهم محمد بن عبد الله(ص)، وخرج من أجله الإمام الحسين(ع) سبط الرسول وحبيبه، فالدين هو الإيمان بخالق الكون والإنسان، بل بمبدع الوجود، أي واجده من العدم، وبالتعاليم والوظائف العملية الملائمة لهذا الإيمان، والطاعة لولي الأمر الشرعي، الذي يقودنا إلى جادة الصواب، وإلى سعادتنا في الدنيا من خلال إعمارها وإقامة العدالة الاجتماعية، و سعادتنا في الآخرة من خلال ثواب إطاعتنا لله ولرسوله ولأولي الأمر الشرعيين الحقيقيين من بعده، حيث الجزاء على أعمالنا فيثيبنا الله على ما حسن منها، ويعاقبنا على ما ساء منها. والدين أمر فطري كما يصرح القرآن: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾(1). وأحكام الفطرة لا يمكن أن يختلف فيها اثنان، لأنها من لوازم الوجود، وهي عبارة عن الخصائص المشتركة بين جميع الناس على اختلاف انتماءاتهم الدينية، وألوانهم، وجنسياتهم، فالإنسان خُلِقَ بحسب البناء الروحي محتاجاً ومريداً للكمال، بل للكمال المطلق، وهو يحسُّ بحاجة لله تعالى في باطنه، دون تلقين وتعليم، فالإحساس الديني أصيل في عمق وجدان البشر، وهو ليس إحساساً مادياً، أو غريزة جنسية، وإذا اطلعنا على الأمم السابقة فإننا سنجد أن الإنسان لديه رغبة أولية في التديُّن تؤثر فيه بقوة. وقد اختلف علماء الأديان والاجتماع في تفسير نشأة الأديان المختلفة، أما الرأي الإسلامي فهو أن الدين وُلد مع الإنسان على البسيطة، إذ أن الإنسان الأول على الأرض وهو آدم(ع) كان نبيَّ الله، وداعياً للتوحيد. ونسأل: إذا كان النفور من النقص والعيب، والانجذاب نحو الكمال، بل نحو الكمال المطلق، مطلوب الفطرة، فلماذا ابتعد معظم المسلمين عن نصرة الإمام الحسين(ع)، الذي كان يجسِّد الكمال الإنساني في عصره، بينما كان يزيد يجسِّد النقص والعيب في كل أبعاده؟ وإذا كان التولي لأولياء الله، والتبرّؤ من أعداء الله، من فروع الدين الإسلامي، فلماذا فعل أغلب المسلمين عكس ذلك، فتبروا من الإمام الحسين(ع)، وتولوا عدو الله يزيد؟. لا شك أن سبب ذلك هو وجود عوامل غير فطرية، مكتسبة، نتجت عن عدم فهم فلسفة الإمامة في الإسلام، أو عن تفكير غير منطقي، أو عن هوى نفس غير مشروع لم يُكبح، بحيث تغلب الهوى على العقل والضمير، أو عن ارتكاب ذنوب والإصرار عليها، أو عن معاشرة رفاق سوء، أو عن معونة الحاكم الظالم، أو عن تعلق بالدنيا بعيداً عن قيم الفضيلة، وعن الإيمان بيوم الحساب، حيث لا ينفع مال، ولا جاه، ولا سلطة، ولا بنون، ولا عشيرة، إلا من أتى الله بقلب سليم. والواقع أنه لم يقع البحث في تاريخ الأفكار عند المسلمين حول عقيدة كما حصل مع أطروحة الإمامة، بل لم يسلُّ سيف في الإسلام كما سُلَّ حول الإمامة، وما زالت أطروحة الإمامة تخضع للتشريح على بساط البحث لكونها ترتبط بالواقع المعاصر للمسلمين، وليست مجرد نظرية مطوية في بطون الكتب التراثية الكلامية أو الفقهية، ولاسيما بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران على مباني أطروحة ولاية الفقيه العادل والخبير، التي تُعتبر فرعاً من فروع الإمامة وامتداداً لها، بل إن دليل الإمامة بعينه هو دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر. إن فلسفة النبوة والإمامة وولاية الفقيه واحدة، وهذا ما يدلُّ عليه العقل، فالشرع المقدَّس لم يرضى بترك الناس بدون نموذج وقدوة ومرشد وقائد، يكون هو الأعلم والأعدل والأخبر وبالتالي الأصلح في هداية الناس وإدارة شؤون الأمة، فأرسل الأنبياء والرسل، وأخلفهم بالأوصياء، والأولياء. وهذا ما صرَّح به أمير المؤمنين ويعسوب الدين علي بن أبي طالب(ع)، قائلاً: "إِلَى أَنْ بَعَثَ الله سُبْحَانَه مُحَمَّداً، رَسُولَ الله(ص) لإِنْجَازِ عِدَتِه وإِتْمَامِ نُبُوَّتِه، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُه، مَشْهُورَةً سِمَاتُه كَرِيماً مِيلَادُه، وأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّه لله بِخَلْقِه، أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِه، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِه، فَهَدَاهُمْ بِه مِنَ الضَّلالَةِ، وأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِه مِنَ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَه لِمُحَمَّدٍ(ص) لِقَاءَه، ورَضِيَ لَه مَا عِنْدَه، وأَكْرَمَه عَنْ دَارِ الدُّنْيَا، ورَغِبَ بِه عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى، فَقَبَضَه إِلَيْه كَرِيماً(ص)، وخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا، إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَملاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ ولا عَلَمٍ قَائِمٍ"(2). فالإسلام جاء لينظِّم المجتمع، وهدف بعثة الأنبياء لا ينحصر بمجرد بيان المسائل والأحكام، إذ أن أهم وظيفة للأنبياء في الحقيقة هي إقامة نظام اجتماعي عادل، من خلال تطبيق القوانين والأحكام، والإسلام ليس طقوساً دينية تقام في المساجد وفي المناسبات، بل هو دين إدارة وحكم ودولة، سواء في الحرب أو السلم. ويظهر هذا المعنى بوضوح من الآية الشريفة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(3). وهذا إنما يمكن من خلال تشكيل الحكومة وتنفيذ الأحكام. إن المتأمِّل في ماهية القوانين الإسلامية يجد أنها قد شُرِّعت لأجل تكوين دولة، ولأجل الإدارة السياسية، والاقتصادية، والثقافية للمجتمع، إذ تشتمل على قوانين ومقررات متنوعة تبني نظاماً اجتماعياً شاملاً، ويتوفر في هذا النظام الحقوقي كل ما يحتاجه البشر. وبالتدقيق في أحكام الشرع التي تهدف إلى تحقيق قيم الدين، ومنها العدالة الاجتماعية، نجد أن تنفيذها والعمل بها مستلزم لتشكيل الحكومة. وهذا ما سعى إليه الإمام الحسين(ع)، بعدما وجد أن الانحراف في الأمة وصل إلى حدٍّ لا يمكن السكوت عليه، ولا يمكن أن يعالَج إلا بوجود حكومة تحكم وفق مبادئ الإسلام وقيمه، التي تدعو إلى العدالة في كل أبعادها، سواء على المستوى الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي. والله تعالى أمر بإتّباع أنبيائه ورسله، وليس مثل هذه الأوامر الصادرة عن النبي(ص)، أو عن الأئمة إرشاداً إلى حكم الله، بل أوامر مستقلة منهم تجب طاعتها، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(4). فقضية إتّباع الحاكم الشرعي الفقيه والعادل والخبير هي مسألة عقائدية، سواء كان هذا الحاكم قد وصل إلى درجة العصمة أم لم يصل، وقد دلَّ عليها النصُّ الصريح والعقل الفصيح، وهي تحتلُّ أهمية كبرى في الفقه السياسي الإسلامي، وليست مسألة مستحبةً يمكن للإنسان العاقل المتديِّن العمل بخلافها. وقد عيَّن النبي محمد(ص) الحاكم الشرعي من بعده بالاسم، فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: "علي مني وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي"(5). ويكمل الرسول حديثه قائلاً: "يا بريدة، إن علياً وليُّكم بعدي، فأحِبَّ علياً فإنه يفعل ما يؤمر"(6). وفي هذا السياق نُطِلُّ على واقعة كربلاء وأبعادها التربوية، فما يصح لعلي(ع) يصح للحسين(ع) ولكل الأئمة المعصومين(ع)، فقد ورد عن رسول الله(ص) أيضاً أنه قال: "حسين مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط"(7). وسياق الحديث يأبى الحمل على الحب القلبي فقط، أو النصرة باللسان فقط، أو حتى النصرة بالسيف فقط، بل يتعداه إلى "الولاية" بمعنى "الأولوية بالتصرف"، أي كون الرجل إماماً وولياً شرعياً للأمر، ما يكشف عن كونه الأفضل في زمانه لقيادة الأمة، التي يجب عليها إطاعته في جميع أفعاله، ولا يجوز الردُّ عليه في شيء منها. وقد خاطب الإمام الحسين(ع) أعداءه مذكراً إياهم برسالة نبيهم محمد(ص)، وبمكانة أهل بيت الرسول(ع) عند الله عزَّ وجلَّ، قائلاً: "الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال.. فنعم الربُّ ربُّنا وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد(ص)، ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان.. أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي.. ولعله قد بلغكم قول نبيكم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"(8). وفي كلامه(ع) إشارة إلى التناقض الواضح بين ما يصرحون به من عقيدة وبين سلوكهم، فكيف يدَّعون أنهم مسلمون يؤمنون بالله تعالى وبكتابه المنزل على رسوله الأكرم محمد(ص)، ويخالفون وصية النبي(ص) في أهل بيته وأوصيائه من بعده، بل ويقومون بقتلهم، وسبي نسائهم؟!!. ثانياً-القيم الدينية الاجتماعية لعاشوراء: 1- الإصلاح والتغيير: قد يظن المرء للوهلة الأولى أن هذا الشعار ليس شعاراً إسلامياً، وأنه شعار حزبي سياسي يرتبط بموسم انتخابي، شعار يستعمل كوسيلة لكسب الأصوات، وللدعاية والإعلام، وليس شعاراً للتطبيق. والواقع أن هذا الشعار هو نبراس لكل حرٍّ وأبيٍّ في العالم، بل هو شعار لكل مدير ناجح، لا يقبل بأن يكون ساعي بريد، ولكل قائد فذٍّ حكيم، لديه تفكير استراتيجي وخارطة طريق يحدث المسير بناءً عليها نقلة نوعية في واقع الأمة، وهو شعار لكل مُبدع يقدِّم ما هو جديد ومفيد. والواقع أن شعار "الإصلاح والتغيير" هو شعار إسلامي ثابت على مرِّ العصور، إنه شعار يراعي الظروف السياسية الموضوعية ما أمكن، ولكنه شعار قابل للتطبيق في كل حال وفي كل حين، إنه شعار يبدأ بالإصلاح إن كان ممكناً، ولم يكن الانحراف جوهرياً، ولكنه ينتقل إلى مرحلة التغيير في حال كان الإصلاح غير ممكنٍ، وكان الانحراف جوهرياً، ولا بد للإصلاح والتغيير أن يبدأ من نفس الإنسان، أي من النفوس قبل النصوص، علماً أن كل حركة إصلاح هي نوع من أنواع التغيير التدريجي، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(9). ويقوم القانون الدولي في الإسلام على مبدأ الإصلاح، وفضِّ النزاعات بين الدول، والشعوب، بالطرق السلمية ما أمكن، ولاسيما إذا كانوا من أهل الكتاب، أي من أهل الديانات السماوية الأصيلة الحقيقية، وهي الأديان التي تشترك في ثلاثة أصول كلية هي: الإيمان بالله الواحد، الذي لا شريك له، والإيمان بأن لكل إنسان حياة أبدية بعد الموت، حيث ينال الإنسان الجزاء على الأعمال التي مارسها في الدنيا، والإيمان ببعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى لهداية الناس لما فيه كمالهم النهائي، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وهذا مصداق قول الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(10). لقد أمر الإسلام بمواجهة البغي والظلم والتعدي بغير حق، ومع ذلك لم ينسى الأمر بالإصلاح حتى في هذه الظروف الحساسة والدقيقة، التي تكون فيها الأعصاب مشدودة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(11). فإن تعدَّت طائفة من المؤمنين على طائفة أخرى، فقاتِلوا الطائفة المعتدية، حتى ترجع إلى ما أمر الله به، وتنقاد للحاكم العادل، فإن رجعت الطائفة المعتدية إلى أمر الله، فأصلحوا بينهما، لكن لا إصلاحاً بوضع السلاح وترك القتال فحسب، بل إصلاحاً متلبساً بالعدل، بإجراء أحكام الله فيما تعدَّت به المتعدِّية من دمٍ، أو عرضٍ، أو مالٍ، أو أي حق آخر ضيَّعَته، فقد أمر الله بالعدل دائماً، وفي جميع الأمور، وهو يحب العادلين لعدالتهم(12). والإصلاح قد لا يتم إلا بمواجهة الظلم والظالمين، الذين لا يستمعون إلى قول الحق، ولا يسمعون له، وبذلك يكون الإصلاح من خلال مواجهة هؤلاء المفسدين في الأرض، والمجرمين بحق الإنسان والمجتمع، ومن خلال مقابلة الإساءة بالإساءة. وهناك آيات مطلقة وصريحة بأن الفعل السيئ يصبح مقبولاً إن أتى في سياق المقابلة بالمثل، والاقتصاص من الجاني، ولم يزد عن حدِّه، قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾(13)، فقتل الإنسان بغير حق جريمة كبرى، ولكن قاتل الإنسان بغير حق يجب معاقبته وتنفيذ حكومة الإعدام فيه. ومع ذلك تُشير الآية أيضاً إلى أن الصبر على الأذى، والعفو عن إساءة الآخرين، وإصلاح ذات البين، هو الأحوط والأفضل، ولاسيما في حال كان الطرف المعتدي من النادمين على فعلته السيئة، وحاضر للتعويض عن الضرر الذي سببه للآخرين ما أمكن، وهذا ما يدل على قيم الإسلام السامية. وكذلك فعل الإمام الحسين بن علي(ع)، محاوراً أعداءه في كربلاء قبل بدء الحرب بينهم، كارهاً البدء بقتالهم، قائلاً لمسلم بن عوسجة: "لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم"(14). ولا يخفى علينا قول الإمام الحسين بن علي(ع) في وصيته لأخيه محمد ابن الحنفية، حيث بيَّن الهدف من قيامه بنهضته المباركة، وهو إصلاح الأمة بعد أن تحقق انحرافها عن قيم الإسلام وأهدافه، التي أتى بها النبي محمد(ص) في رسالته الإلهية الخاتمة، قائلاً: "وأني لم أخرج أشِراً ولا بطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب عليه السلام، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين"(15). 2- العزة والإباء: إن عزيمة الإنسان ورفعته تحول دون أن يقبل بالذُّلِّ والهوان، فالحياة وقفة عزٍّ، وهكذا حاول الأعداء أن يفعلوا مع الإمام الحسين(ع) حتى يثنوه عن مسيرته، حاولوا أن يذلّوه عندما حاصروه وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، وقطعوا عنهم الماء، وكان الفارق كبيراً بين المعسكرين سواء على مستوى العَدد، أو العُدَّة، ولكن الإمام الحسين(ع)، ردَّ عليهم قائلاً: "ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السِّلَّة والذِّلَّة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلَّة العدد وخذلان الناصر". وكلمات الإمام الحسين(ع)، لا تزال تصدح في آفاق النفس الإنسانية، والعالم الحرّ، فالحسين(ع) رأى القتل في العزِّ حياة، والعيش في الذُّلِّ قتلاً، قائلاً: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد .. موتٌ في عزٍّ خيرٌ من حياةٍ في ذلٍّ. وأنشأ(ع) في يوم قتله: الموت خير من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار، والله ما هذا وهذا جاري"(16). وهو بذلك يجسِّد موقف جده رسول الله(ص)، الذي شكَّل مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾(17). فصحيح أن الله تعالى يأمرنا بالرحمة مع المؤمنين، ولكن المؤمن عزيز، وعليه أن يحافظ على عِزَّته، وذلك يعني أن لا نرضى بذل إنسان لأخيه، فكيف إذا كان فعل الإذلال صادر عن المنافقين والكافرين؟!. ولا بد لنا من التوقف هنا مع نموذج وأمثولة من أحرار العالم، وهو الحرُّ بن يزيد الرياحي، الذي كان تحت إمرته ألف فارس يمنع بهم عودة الإمام الحسين(ع) وأهله إلى المدينة، بعد أن استجاب الإمام الحسين(ع) لدعوة أهل الكوفة، الذين استقدموه إلى العراق لمبايعته. فقد خيَّر الحرُّ نفسه بين موقف العزَّة والبطولة، ونصرة الحق، والفوز بالجنة، مستشهداً بين يدي الإمام الحسين(ع)، وبين موقف الذُّلِّ النفسي، ونصرة الباطل، والبقاء في معسكر يزيد، وتحصيل المكاسب الدنيوية. فكان قراره حرّاً عزيزاً نابعاً من قناعته الذاتية، بعيداً عن الإغراءات المادية، وعن الإرهاب العسكري. الخاتمة كربلاء هي معركة قيم، إنها معركة الشجاعة والبطولة في مقابل الجبن، والشجاعة غير التهور، بل هي الشجاعة العاقلة، الهادفة، التي تعرف من أين تنطلق وإلى أين ستصل وكيف ستصل، وهي تعني عدم الخوف من الأعداء، وعدم الخوف من الحرب، ومن مواجهة الباطل، والفساد. إنها معركة التضحية بأغلى ما نملك في مقابل الأنانية المطلقة، التي لا تسعى سوى إلى المصلحة الشخصية، ولا تعير أي اهتمام للمصلحة العامة، ورد في القرآن الكريم: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(18). وقد خرج الإمام الحسين(ع) مع كل ما يملك من مال، ومع أهل بيته، وأصحابه، وضحى بكل ذلك في سبيل الله تعالى، وفي سبيل إعلاء كلمة الحق. إنها معركة الوفاء والصدق في مقابل الغش والغدر، وقد رأينا كيف أن أهل الكوفة كتبوا إلى الإمام الحسين(ع) يبايعونه، ثم ارتدوا وانقلبوا عليه، وسفكوا دمه. إنها معركة السلام وتجنب الحرب وسفك الدماء في مقابل طلبها، فقد خاطبهم الإمام الحسين(ع) مراراً كي يكفوا عن محاربته، ويتركوه وشأنه فيذهب هو وأهل بيته وأصحابه إلى مكان آخر غير الكوفة، ولكنهم لم يقبلوا بذلك. إنها معركة الرحمة في مقابل القسوة والوحشية، فقد رأينا كيف أن الإمام الحسين(ع) سمح لجيش يزيد بناء لطلبهم، وقبل بدء الحرب، أن يشربوا الماء، وقد علَّق بعضهم على ذلك أن هذا التصرف يشبه تصرف الأنبياء. ولكن جيش يزيد لم يسمح للحسين(ع)، ولا لأخيه العباس(ع)، أن يأتوا بالماء للنساء والأطفال، وقد رأينا كيف ذبحوا الطفل الرضيع عندما طلب له الإمام الحسين(ع) الماء. إنها معركة طلب الإصلاح في مقابل طلب الإفساد، فالإسلام يعلمنا أن الأصل هو عدم قبول الواقع كما هو، بل لا بد من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل وطلب التحسين والتطوير دائماً. وهذا يمثل صيانة للنفس والمجتمع في كل حال، وفي كل حين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين باحث في الشريعة والقانون الدولي، من لبنان(*). هوامش (1) سورة الروم، الآية: 30. (2) عبده، محمد، نهج البلاغة، ط5، بيروت، دار البلاغة، 1412هـ-1992م، ص: 79-80. (3) سورة الحديد، الآية: 25. (4) سورة النساء، الآية: 59. (5) أخرجه الترمذي في صحيحه، ط2، تحقيق وتصحيح : عبد الرحمن محمد عثمان، بيروت - لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1403 - 1983م، ج 5، ص: 299-300. وقال عنه: هذا حديث حسن غريب صحيح. (6) الطبري، محمد بن أبي القاسم، بشارة المصطفى، ط1، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، قم - إيران، مؤسسة النشر الإسلامي، 1420ه، ص: 195. (7) للحديث مصادر عديدة سنية وشيعية، فقد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، بيروت- لبنان، دار صادر، ج4، ص: 172. ومن مصادر الحديث الشيعية: الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط1، إيران – قم، دار الحديث للطباعة والنشر، 1416هـ، ج1، ص: 158. (8) محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (المعروف بالشيخ المفيد)، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ط2، بيروت، دار المفيد، 1414هـ - 1993م، ص: 96-98. (9) سورة الأنفال، الآية: 53. (10) سورة آل عمران، الآية: 64. (11) سورة الحجرات، الآية: 9. (12) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم-إيران، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، ج18، ص: 314-315. وهو كتاب علمي، فني، فلسفي، أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث، يفسِّر القرآن بالقرآن. (13) سورة الشورى، الآية: 40. (14) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ط2، بيروت - لبنان، مؤسسة الوفاء، 1403ه-1983م، ج 45، ص: 5. (15) المرجع نفسه، ج 44، ص: 329. (16) ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، النجف - العراق، مطبعة الحيدرية، 1956م، ج3، ص: 224. (17) المنافقون: الآية 8. (18) سورة آل عمران، الآية: 92. |
||||||