الإسلام كرسالة إنسانية
مقاربة في المشروع الثقافي الإسلامي ج1

السنة الحادية عشر ـ العدد132 ـ ( محرم ـ صفر 1434  هـ ) كانون أول ـ 2012 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

سلك الإسلام - كدين سماوي إلهي، صاحب رؤية ومشروع تغييري حضاري وإنساني كبير على صعيد الفرد والمجتمع ككل- طريقين أساسيين للعمل والتغيير والدعوة، الأول، طريق التواصل والاحتكاك – وربما الاشتباك الحضاري السلمي– مع باقي القوى والمراكز الحضارية والمذاهب والأفكار المتوازية معه، أو المناقضة له، وذلك بما فيها من تفاعل وفوائد عملية مادية وفكرية.. والثاني، طريق التحدي والثبات، وعدم الانسحاب من ساحة المواجهة والدفاع، أو الحوار والمنافسة الحضارية.

وقد جاء كل  ذلك في سياق دعوة إنسانية ورؤية كونية وحياتية وسطية معتدلة قوامها ومفادها كثير من الآيات الكريمة، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات: من الآية 13)، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾(البقرة: من الآية143)..

وفي هذا المجال، تشكل (قضية انفتاح الفكر الإسلامي على الحياة والعصر، وتواصله معهما) ضرورة ذاتية وموضوعية في آن معاً، باعتبار أنّ هناك وجوداً كثيفاً وغنياً لمجموعة كبيرة من المعطيات والمضامين الفكرية الذاتية الخاصة بالدين الإسلامي نفسه، لا يمكنها النمو والتصاعد والتراكم الكمي والكيفي – في حركتها الموضوعية الخارجية – من دون تفاعلها المتوازن والمثمر مع الآخر، وانفتاحها المدروس عليه، من موقع ذاتية الانتماء وأصالة البنية، وعمومية المعنى والهدف والقصد، وليس من موقع موضوعية التحدي والاستجابة فحسب (بقطع النظر عن طبيعة وماهية هذا الآخر).. وذلك بكل ما يعنيه هذا الانفتاح والتواصل والاحتكاك (النقدي لا التماثلي) من اصطدام المشروع الثقافي والحضاري الإسلامي بمشكلات فكرية وعملية جديدة، وقضايا عصرية راهنة وأخرى مستقبلية، تتمثل أساساً في كيفية إيجاد مساحة مشتركة للتفاهم، وسبل التخاطب مع ثقافة الآخر المختلفة، خاصة وأن هذا الآخر – الأقوى والأرسخ في كثير من ميادين الحياة والواقع - بات يفرض نفسه في أيامنا الحاضرة على العالم والواقع الكوني كله بما فيه واقعنا نحن كمسلمين أتباع رسالة إنسانية خاتمة تقوم على مرجعية الدين والنص ومحورية "الله والرسول والأئمة العظام(ع)" (إشكالية ثبات النص وتغير الحياة)، ما يشكل ضغطاً فكرياً وسلوكياً على قنوات حياة وسبل عيش الفرد المسلم في خضم واقع متنوع ومتعدد ومتناقض بين ما يؤمن من أفكار والتزامات ومنظومات اعتقادية من جهة وبين ما يتحرك في ضوئه من قيم مجتمعية وحياتية مغايرة من جهة أخرى.. خاصة في ظل محاولات ناجحة لذلك الآخر لبناء منظومة قيم وأخلاقيات تعامل حياتية وسلوكية جديدة تقوم على الفردانية والذاتية والحرية اللامحدودة، بلا مرجعية سوى مرجعية الفرد في نوازعه ونزعاته المتنوعة والمتعددة التي قد تصل لحدود اللاعقلانية، والتي قد تتضارب إلى حد التناقض في التطبيق العملي مع قيم وسياقات حضارية لأفراد ومجتمعات وحضارات أخرى، مما قد يشعل الفتن والحروب والمنازعات الصغرى والكبرى..

ولعل من أبرز تلك التحديات والأولويات التي تواجه الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية والفرد المسلم هي تحدي توطين المعرفة وإنتاجها ذاتياً، أو ما يطلق عليه بـ"فلسفة العلوم" ومحاولة إيجاد علاقة معرفية وفلسفية منتجة بين الثقافة الإسلامية السائدة ومجمل النتاجات والمنتجات والمكتسبات والاختراعات والمكتشفات والتطورات العلمية التي تمكن الإنسان من الوصول إليها، ومحاولة تبيئتها محلياً.. أي إيجاد بيئة وفضاء ثقافي وأرضية معرفية إسلامية منتجة للعلم والمعرفة العلمية الخصبة والثرية، ليس فقط من زاوية القدرة على تحقيق الاستجابة النوعية الفاعلة على مجمل التطورات العلمية الحاصلة باستمرار في صميم وجود وحركة المجتمع الإنساني.. بل بالأصل امتلاك المعايير والنظم البنيوية المؤسسة لحالة الإنتاج العلمي نظرياً وعملياً، والمولدة والصانعة للعلوم ذاتها، لا أن تكتفي تلك الثقافة فقط وحتى الآن بلعب دور المتلقي والمنفعل والمستجيب قسراً وغصباً لتلك التطورات العلمية الهائلة في عمق المعرفة العلمية الإنسانية على مستوى العلم النظري والعلم العملي فكراً وتجربةً وإنتاجاً.

وتأتي الثورات العلمية والمعلوماتية والتكنولوجية الحديثة (مجتمعات الثورة المعلوماتية) المتسارعة التي باتت تحدث خلال فترات زمنية أقصر بكثير مما كانت عليه في السابق حيث كان المقياس الزمني السابق هو أنه كانت تحدث ثورات علمية من قوانين ومخترعات ومكتشفات كل حوالي خمسين أو مائة عام، أما حالياً فقد بتنا نتحدث عن مقياس زمني ثوري علمياً لا يتعدى العشر سنوات قد تحدث خلاله تطورات مذهلة تقنياً تعادل ما كان يحدث خلال قرون عديدة من حيث الفاعلية والإنتاجية والمنفعة العامة.

وهكذا فقد ركزت وعممت المركزية الغربية من خلال تلك الثورات العلمية الفائقة ذاتها الثقافية والحضارية على مستوى العالم، وعلى حساب باقي ثقافاته، وخصوصاً ثقافتنا وذاتنا الحضارية الإسلامية، على رأس قائمة التحديات المصيرية التي تحيط بحضاراتنا التي توقف إنتاجها العلمي عن التوليد الذاتي منذ قرون عديدة، في ظل تنامي وتصاعد الحركية العلمية للغرب الحديث على كل المستويات والأصعدة.

وقد لعب هذا التأخر والتراجع (ومن ثم التخلف) العلمي والمعرفي العربي والإسلامي عن الركب العلمي المعرفي الغربي –كنتيجة طبيعية لحالة الترهل الثقافي والكساد العلمي الإسلامي منذ أكثر من ألف ومائتي عام، وهيمنة العقل الفقهي وترسبات وتراكمات الشروح التقديسية البعيدة عن روح الحرية.. بعد أن كان للحضارة العربية الإسلامية تأثير حيوي في تطور أوروبا العصور الوسطى - دوراً كبيراً في تشتيت قوانا الحضارية، وتهميشها، وجعلها عديمة الفاعلية والجدوى في العمق والامتداد والتأثير.. خصوصاً مع تضخّم الجانب النظري على حساب ضآلة وضحالة الجانب العملي، أي مع ضخامة التأويل والشرح النظري وشرح الشرح على هوامش وحواشي الكتب القديمة بلا فوائد كبيرة تذكر، ما ساهم في توقف النمو النوعي والإنتاج العملي.

هذا التحدّي الأكبر، تحدّي بناء الذات الحضارية الفاعلة، يتطلب إعادة بناء معرفية جديدة وعصرية للمشروع الثقافي الإسلامي الخاص بهذه الحضارة الشاهدة، بحيث يكون قادراً على استيعاب الواقع الموضوعي الجديد المرتبط بعنصري الزمان والمكان، وإبداع القواعد النصية الخاصة به، خصوصاً وأن هناك تأثيرات عملية سلبية لا بد أن تنجم عن تلك الثورات المعرفية والعلمية الهائلة اللامحدودة، فيما يتعلق بآليات التنميط الثقافي والحضاري القسري التي يستخدمها الآخر في عمله الدائم على فرض نموذجه الحضاري على الثقافات الحية الأخرى.

من هنا نحن نعتقد أن التحديات الأساسية الحاضرة التي تواجه ثقافتنا وفكرنا الإسلامي المعاصر (على مستوى دوره النوعي الكبير المتمثل في عمله الدائم على قضايا بناء الذات المسلمة، ومعالم الرسالة السماوية الشاهدة على الناس والرسالات، بما يؤدي إلى إحقاق الحق والعدل، ودفع الباطل والظلم عن البشرية جمعاء) تنحصر في ما ذكرناه آنفاً وهو تأسيس فلسفة للعلوم منتجة عملياً وليس فقط نظرياً، في ظل تنوع وتعاظم ثورات البشر العلمية والتقنية والمعلوماتية..

ولذلك فإنه من الضروري جداً بالنسبة لفكرنا الإسلامي الراهن – الذي يشكل القاعدة الأساسية للمشروع السياسي والاجتماعي– الوعي بهذه الوقائع الجديدة، ودراستها، وتحليلها، واتخاذ المواقف الفعالة بشأنها، ذاتاً وموضوعاً، على اعتبار أن هناك ظروفاً مستجدة مختلفة تحكم تلك الوقائع، وتؤثر في صياغة المشهد الثقافي الإسلامي المستقبلي على مستوى ضرورة نقد الفكر الإسلامي، وتقييمه، وطرح رؤى وأفكار جديدة ترتب أولوياته وخطوط عمله في المدى الزمني القريب والبعيد.. بحيث ذلك يؤدي إلى إعادة التأسيس الجديد لنهضة الأمة الإسلامية القائمة على قيم الدين الإسلامي المشكل لقلب هذا المشروع الثقافي الإسلامي المنطلق في حركيته الثقافية والحضارية المتجددة دائماً بتجدد الأيام والدهور.

من هنا المنطلق – وبالنظر إلى ضرورة التأسيس العملي لحضور الثقافة الإسلامية الأصيلة بشكل فاعل ومؤثر في ساحة الحياة الإنسانية – فإننا نجد أنفسنا ملزمين بدراسة تلك التحديات المعرفية والعلمية، وخصوصاً الثقافية منها باعتبارها تشكل المرجع الأساسي النظري والعملي الذي يقدم للإنسان والأمة معايير القيم، وأنظمة التفكير، ومنظومات المعنى، وعناوين الوجود والامتداد التي توضح لها الدروب، وتنير لها المسالك والطرق المتعددة. وكل أمة تفتقد للأساس الثقافي في حضارتها فإنها لن تستطيع بلورة شخصية كيانية مستقلة لذاتها، كما وأنها ستلغي إمكانيات نهوضها وارتقائها في سلم الحضارة الإنسانية..الأمر الذي سيخرجها – من دون أدنى شك – من دائرة الفعل والتأثير في حركة الزمان والحياة، وبالتالي ستخسر مستقبلها، وتضيع طاقاتها وقواها المادية والمعنوية.

ولو أننا عدنا إلى واقع الحضارات البشرية السابقة، وتتبعنا بدقة أساليب تطورها الحضاري فكرياً وروحياً، فإننا سنجد أن الحضارات المتألقة – التي حققت قفزات لنفسها قفزات متقدمة واسعة في مسيرتها الحضارية التاريخية- هي تلك الحضارات التي كانت تعتز بشخصيتها الروحية والثقافية وجذورها التاريخية، وأصالتها الواضحة، وتفخر بهويتها الحضارية المستقلة. أي أن وعيها بشخصيتها وثقافتها –كأمة كيانية- كان شرطاً أساسياً لازماً لتقدمها وتطورها.

وهنا نسأل: ما هي السبل وطرق العمل الكفيلة بإخراج المشهد الثقافي الإسلامي المعاصر – على مستوى الفلسفة العلمية - من حالة الاحتكاك والتلقي السلبي لكل ما في العصر من نتاجات تقنية وثورات تقنية معرفية وصناعية ومعلوماتية، إلى حالة الفعل والتأثير الإيجابي والمشاركة والمساهمة في صنع العلم والتقنية وإنتاجها؟!.

لا ريب في أن الأحوال والطبائع والأوضاع العامة الراهنة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية لا تبشر بالخير، بل إنها للأسف تبعث على التشاؤم، وتدعو إلى الريبة والقلق الشديد، وتنذر، ربما، بعواقب وخيمة وغير حميدة في المستقبل القريب أو البعيد.. وللأسف فإنه يمكن لأي متابع دقيق وحيادي أن يصل إلى نفس هذه النتيجة المأساوية الخطيرة والمحبطة بعد أن يقف بهدوء وتأمل على حالة اليأس والقنوط والإحباط العامة التي أصابت وطبعت ولا تزال تطبع واقع هذه الأمة السياسي والثقافي والاجتماعي وو.... الخ.. فالحصيلة العامة لمسيرة الأحداث والتطورات التي وصلت إليها مجتمعاتنا تنطوي على مظاهر ونتائج سلبية مخيبة للآمال، ومحطمة للنفوس، وتشكل – في الوقت نفسه– صدمة نفسية عنيفة لكل أصحاب الطموحات والمشاريع النهضوية العربية والإسلامية.. حيث الحضارة العربية والإسلامية التي كان لها حضور عالمي في سالف الزمان توقفت واستبعدت نفسها (أو استبعدتها ظروف وأسباب ذاتية وموضوعية) عن ساحة القرار والتأثير الدولي، بدلاً من أن تكون منتمية إلى حضارات صانعة وفاعلة ومنتجة - هي بذاتها - للفكر والعلم والتقنية، لا أن تبقى أو تكون مجرد حضارة - كما هي الآن - هامشية ليس لها من الحضارة إلا اسمها ورسمها، تعيش على موائد وفتات الحضارات الأخرى، على مستوى إنتاج العلم والمعرفة العلمية الحديثة، وتنمية الموارد والأسواق الدولية، واستثمار موارد الطبيعة وثرواتها الباطنية الهائلة التي تذهب هدراً على طريق شراء منتجات حضارة الآخرين وليس بناء مقومات وأسس قانون صناعة الحضارة داخلياً.

ولعل السمة الأبرز للحال الراهنة في العالم الإسلامي تتمثل أكثر في مأزق التنمية الثقافية للفرد والمجتمع المسلم، بمعناها الواسع والشامل الذي انعكس على واقع وحياة الأمة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من خلال ما نشاهده من الفشل الكامل في بناء وإنجاز مشروع سياسي تعددي تتحكم به مؤسسات وآليات عمل عصرية تحظى بالشرعية الأمتية (نسبة إلى الأمة) الصحيحة، وتعبر أفضل تعبير عن الإرادة الحرة لجماهير الأمة.. ولو أننا بدأنا نشهد أخيراً من خلال ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي" بداية الطريق الصحيح في هذا المجال السياسي الواسع مع ما قد يخالط هذا المسار من تعقيدات، وما قد يشوبه من سلبيات فكرية وعملية خاطئة قد تتبناها بعض الاتجاهات والقوى الفكرية والسياسية ذات الخط العلماني والديني المتشدد فكراً ومنهجاً وسبيلاً.

إنّ تلمسنا للطريق الصحيح الواضح - الذي يجب أن نتحرك عليه لنصل إلى غاياتنا وتطلعاتنا المستقبلية في استكمال مشوار تحرير الذات من الاستكبار، وتصفية مظاهر الفقر ومواقع الخلل والتخلف المركّب فيها بجميع مظاهره وأشكاله، وإقامة مجتمعات مدنية حرة تنشد التحديث والتطوير المتوازن، وتتناغم مع اتجاهات العصر، وإبداعاته، ومبتكراته العلمية والمعرفية- لا بدَّ أن ينطلق أولاً من خلال تحديد وإبراز ما هو رئيسي وجوهري من تحديات وقضايا نابعة من الحاجات الحقيقية لمشروع التنمية الثقافية (ومن ثم الاقتصادية والسياسية، و..الخ) التي هي حجر الأساس أو قاعدة النهوض ومعمار التطور الحضاري الشامل.

ولا يمكن حدوث أية تنمية ثقافية ومعرفية حقيقية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، طالما أن جوهر التفكير والسلوك العملي محصور في الماضي التليد ومتركز حول الذات ونابع أصلاً من وجود هذه الهوية الدينية الأحادية الباقية كما هي في طهوريتها الباكرة من دون مس أو أدنى تقبل لنقد أو تفكيك أو مراجعة جدية بهدف البناء والتطوير والمتابعة والإضافة النوعية، مع أنه وبنص القرآن الكريم هناك توجه لمراجعة هذه الهوية الثابتة وعدم الركون إليها، بل وعدم مسؤوليتنا نحن أبناء هذا العصر عنها وعن توجهات وأفعال ومكتسبات أصحابها الأوائل، يقول تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة:134).

إذاً، كلنا له هويته الذاتية الخاصة، وهويته الجمعية العامة المكتسبة، وهي تشكل الهوية الثقافية الحضارية لأي مجتمع من المجتمعات، باعتبارها الإطار النفسي والفكري العام الذي يعبّر عن وجوده الاجتماعي، وحراكه العملي.. إنها نتيجة طبيعية للتفاعل الحاصل بين مجموعة من العوامل الفكرية والمعرفية التي تحكم سلوك أفراد المجتمع، توجه حركتهم، وتحدد لهم مساراتهم المتعددة في الحياة.

وعلى ضوء ذلك يمكن أن نعتبر الهوية الحضارية تعبير عن الناس، عن إرادتهم، ووعيهم، و طبائعهم وأمزجتهم، وتصوراتهم عن الكون والوجود الحياة، في سياق تحديدها لطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة فيما بينهم، ومعايير السلوك ووسائل المشروعية، ونظام القيم واجب الإتباع. أو علاقتهم ببيئتهم، أو بعالم ما  فوق الطبيعة. والمجتمعات الإسلامية تمتلك هوية حضارية خاصة تتميز بها عن غيرها من المجتمعات غير الإسلامية من خلال وجود نوعين من العناصر:

النوع الأول: العناصر الثابتة، وقد أوجدها انتماء المجتمعات إلى الدائرة الحضارية والتاريخية الإسلامية. وهي تشتمل على انتماء المسلمين إلى دائرة الإسلام، واتباعهم للقرآن الكريم، والنبي الكريم محمد(ص).

النوع الثاني: العناصر المتحركة (المتغيرة) التي تتشكل نتيجة لما تكتسبه المجتمعات الإسلامية من خصائص ومزايا ثقافية بفعل عوامل ذاتية وموضوعية من داخل هذه المجتمعات، أو خارجها، يساهم تفاعلها مع بعضها البعض – بكل ما يحتويه الواقع من عناصر ومعطيات متغيرة ومتحولة – ومع العناصر الثابتة في إنضاج وتكوين الجانب المتغير(النسبي) من الهوية الثقافية للمسلمين. وطالما أن الأمر كذلك، يمكن أن نقول بوجود جانبين للثقافة الإسلامية، جانب خاص يمثل أداة الهوية الذاتية، والتأكيد الذاتي والموضوعي على عناصر الثبات، وجانب عام تشترك فيه الثقافة مع الآخر في سياق حركة المتغيرات. وتتمثل خصوصيات هذه المجتمعات في الظواهر التالية:

- مجموعة المعايير والقيم الناجمة عن التصور أو المفهوم الإسلامي للحياة والكون والوجود والإنسان.

- اللغة والثقافة الخاصة بها، وما تفرزه من أنماط فكرية ومعرفية.

- مجموعة العادات والتقاليد والأنماط السلوكية المعبرة عن التوجه الثقافي لهذه المجتمعات.

- أنماط التربية والتنشئة الاجتماعية داخل الأسرة، وفي المجتمع.

- أشكال خاصة من الاجتماع التربوي والديني والسياسي.

- مجموعة من السلوكيات والتوجهات والدوافع والحوافز.

وهنا نسأل: هل تمتلك هذه الهوية الثقافية الوسائل والإمكانيات الخاصة التي تؤهلها للقيام بالتفاعل والانفتاح على باقي الثقافات من موقع الندية والتكافؤ والحوار، وليس من موقع الصراع والاستلاب؟!. هذا ما سيكون مدار حديثنا في الجزء الثاني من هذا البحث.. فإلى اللقاء..

كاتب ومفكر سوري(*)

ملاحظة: ما هو وارد في هذه المقالة لا يعبّر بالضرورة عن رأي المجلة

اعلى الصفحة