تركيا واللعب بنار أكراد سوريا

السنة الحادية عشر ـ العدد132 ـ ( محرم ـ صفر 1434  هـ ) كانون أول ـ 2012 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

منذ بدء الأزمة السورية قبل نحو 21 شهرا، اتجهت الأنظار إلى المكون الكردي في سوريا، بوصفه يشكل مكونا قوميا مختلفا عن القومية العربية، ونظراً لعلاقته المتوترة مع النظام ولاسيما بعد أحداث عام 2004 في مدينة القامشلي، فضلاً عن أنهم (الأكراد) يشغلون منطقة جغرافية حساسة تشمل معظم مناطق الشمال السوري مع تركيا وصولا إلى العراق شرقا على نهر دجلة مع إقليم كردستان العراق.

لكن الذي حصل خالف توقعات المراقبين، فالأكراد لم يدخلوا في صدام دموي مع النظام كما حصل في العديد من المناطق السورية الأخرى، بل على العكس من ذلك، ثمة من يتحدث عن تجدد التحالف بين النظام السوري وحزب العمال الكردستاني ولاسيما فرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يسيطر على المناطق الكردية السورية، ولعل ما ساهم في تكوين هذا التحالف بين الجانبين هو السياسة التركية تجاه الأزمة السورية، بعد أن احتضنت أنقرة المعارضة السورية السياسية (المجلس الوطني السوري) والمسلحة (الجيش الحر وباقي المجموعات المسلحة) التي اتخذت من الأراضي التركية مقراً وممراً لها للتوغل إلى الداخل السوري وتنفيذ عمليات مسلحة.

يقدر عدد أكراد سورية بأكثر من مليوني نسمة، يشغلون بشكل أساسي المناطق الشمالية والشرقية من البلاد، إضافة إلى وجود أعداد كبيرة منهم في المدن الكبرى ولاسيما دمشق وحلب، وتعد مناطقهم هذه من أغنى المناطق الزراعية في البلاد، فضلاً عن أنها تحتوي على معظم إنتاج سوريا من الغاز والنفط، ومن الناحية الجغرافية تجاور هذه المناطق تركيا من الشمال، والعراق من أقصى الشرق على شكل لسان ممتد تجاه إيران، وفي المحصلة تشكل هذه الجغرافية منطقة إستراتيجية حساسة في غاية الأهمية، خاصة وان أكراد سوريا يتواصلون مع أبناء جلدتهم في باقي أجزاء كردستان في العراق وتركيا، بل إن عدة آلاف منهم انخرطوا في صفوف حزب العمال الكردستاني انطلاقاً من قناعتهم بوحدة القضية الكردية والآمل بإقامة دولة كردستان في المنطقة ولو بعد حين.

أكراد سوريا بين الآمال والنار

في الوعي القومي الكردي السوري برزت سنة 1957 كمحطة فاصلة عندما أسس الأكراد أول حزب قومي لهم باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني تعبيراً عن وجودهم القومي ورداً على الإيديولوجية القومية العروبية في عهد الوحدة مع مصر، وما اتخذته هذه الإيديولوجية من تشدد قومي قامت على إنكار الهويات القومية للشعوب والأقليات الأخرى، حيث طبقت بحق الأكراد سلسلة من الإجراءات الاستثنائية من تعريب لأسماء القرى والبلدات الكردية كما فعل صدام حسين مع أكراد العراق، واستهداف ثقافي وسياسي ولغوي وأمني للمكون الكردي، وصلت إلى حد تجريد عشرات آلاف منهم من الجنسية السورية وبالتالي من حقوق المواطنة بغية طمس معالم الهوية القومية الكردية وضرب هذا المكون وتشتيته وتجريده من عناصر قوته وديمومته. قبل تفجر الأحداث في سوريا كانت مطالب الحركة الكردية تتلخص في إطارين:

الأول: مطالب عامة تتعلق بالحرية والديمقراطية والتعددية على مستوى البلاد.

الثاني: المطالبة بحقوق ثقافية وسياسية تتعلق بخصوصية الهوية القومية للأكراد.

الآن وبعد مرور أكثر من عشرين شهراً على بدء الاحتجاجات في سوريا، تطور قوس المطالب الكردية بشكل كبير واتخذ تدريجيا شكل المطالبة بحق تقرير المصير، فظهرت مطالبات من نوع الدعوة إلى الفدرالية والحكم الذاتي والاعتراف الدستوري بالأكراد كقومية ثانية في البلاد على اعتبار أن العرب هم القومية الأولى، وإلغاء كلمة العربية من اسم الجمهورية العربية السورية لتصبح الجمهورية السورية. وقد أثارت هذه المطالب وغيرها جدلاً كبيراً في الشارعين الكردي والعربي معاً. بين من يرى أن هذا الطرح القومي ليس له علاقة بالحراك السياسي والانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة في البلاد، وبين رؤية الشارع الكردي الذي يغلي بالشعارات القومية ويرى أن سوريا المستقبل لا يمكن أن تكون دون تحقيق المطالب الكردية المذكورة.

التطور الأبرز في سياق كل ما جرى، هو سيطرة الأكراد خلال الفترة الماضية على العديد من المناطق الكردية وإقامة بنية إدارية وأمنية في معظم المدن، كعفرين وكوباني (عين عرب) وديريك (المالكية) وترب سبي (القحطانية) وعامودة .. وغيرها من المدن والبلدات الكردية التي باتت الإعلام الكردية ترفرف فوقها، وسط سيطرة واضحة لعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المعروف بـ (ب ي د) وهو فصيل يتبع عملياً لحزب العمال الكردستاني.

لعل سيطرة القوى الكردية على هذه المناطق، أثارت مخاوف تركية دفينة، دفعت برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى اتهام النظام السوري بتسليم هذه المناطق إلى حزب العمال الكردستاني والتهديد باجتياحها، ويشكل هذا الأمر إلى جانب وجود مكون علوي على طرفي الحدود في منطقة لواء اسكندرون يعارض سياسة أردوغان تجاه النظام السوري، كابوسا للحكومة التركية حيث الخشية من تداعيات كبيرة تنسحب على تركيا اجتماعيا وأمنيا وسياسيا واقتصاديا خاصة إذا نجح النظام السوري في تفجير هذه العوامل في وجه حكومة أردوغان بعد أن انقلبت على النظام السوري وقطعت العلاقات معه وانخرطت بقوة إلى جانب دول الخليج وتحديدا قطر والسعودية فضلاً عن جامعة الدول العربية لإسقاطه. وحقيقة، فإن أردوغان يبدو في سياسته الكردية السورية أمام محنة كبيرة، فهو بات يجد نفسه أمام إقليم كردستان سوريا في الشمال بعد أن كان أمام إقليم كردستان العراق قبل أن تتحسن العلاقات بين الجانبين في ظل الاستقطاب السني – الشيعي الحاصل في العراق والتوتر في علاقة تركيا بحكومة نوري المالكي، وفي العمق يخشى أردوغان من تتحول عفرين أو القامشلي إلى جبال قنديل جديدة بما يعني تصاعد قدرة الحزب الكردستاني الذي يشكل عقبة إقليمية في وجه سياسة أردوغان الإقليمية وتطلعه إلى توظيف العامل الكردي في المعادلات الإقليمية. وإذا كان من الصعب تخيل التدخل العسكري التركي في المناطق الكردية السورية بحجة ملاحقة العناصر الكردية المسلحة (لأن من شأن ذلك خلط أوراق الأزمة السورية وربما رد النظام السوري بالمثل أي ضرب الجيش السوري الحر داخل تركيا) فإنه بدا من الواضح أن أردوغان يركز على إقليم كردستان العراق وتحديداً رئيس الإقليم مسعود البرزاني لممارسة المزيد من الضغط على أكراد سوريا، سواء لمنعهم من التحول إلى ورقة حليفة للنظام السوري أو دفعهم إلى الانخراط  أكثر ضد هذا النظام والتعاون مع الجيش الحر في المناطق الكردية التي بقيت هادئة نسيباً. وانطلاقاً، من هذا الاستقطاب الحاصل على الورقة الكردية، ثمة خشية كبيرة بين أكراد سوريا من حصول فتنة في صفوفهم على شكل تفجير حرب داخلية حيث تسعى تركيا سواء بشكل مباشر أو غير مباشر إلى وضع الفصائل التي تختلف مع حزب الاتحاد الديمقراطي في مواجهة معه، خصوصاً وأن الأخير يحتكر ساحة أكراد سوريا بعد أن شكل مؤسسات سياسية وأمنية وإدارية وخدمية وتشريعية باتت تدير المناطق الكردية.

دون شك، مع التطورات التي تشهدها الساحة السورية يتطلع أكراد سوريا إلى تحقيق آمالهم بعد أن حلموا بذلك طويلاً، لكن الثابت أن نار الأزمة السورية أكبر من ذلك بكثير، واقتراب النار من البيت الكردي يضعه أمام كل الاحتمالات، وهو ما يتطلب بنظر المراقبين  المزيد من الحكمة والتروي من قبل القوى والأحزاب الكردية السورية والتي تجاوزت عددها 16 حزباً ومنظمة وحركة

الأكراد والجيش الحر

منذ بدء الجيش الحر عملياته العسكرية ضد النظام السوري، ثمة مخاوف متبادلة بينه وبين الأكراد. هذه الخشية المتبادلة، لها أسباب كثيرة، تتجاوز المعادلة السورية الداخلية، الأكراد يعتقدون أن الجيش الحر الذي اتخذ من تركيا قاعدة له وتلقى من الأخيرة السلاح والتدريب والدعم اللوجستي والاستخباراتي... يعتقدون أن هذا الجيش له أجندة بفعل التأثير التركي، من بينها إقصاء المكوِّن الكردي في سوريا المستقبل لصالح بعد أيديولوجي له علاقة بالسياسة الإقليمية لتركيا وخوف الأخيرة من القضية الكردية ككل في المنطقة. في المقابل يعتقد الجيش الحر أن ثمة تحالفاً بين النظام السوري وبعض الأحزاب الكردية وتحديداً حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعد الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني العدو اللدود لتركيا.

من الواضح، أن هذه الخشية المتبادلة تحولت في الفترة الأخيرة إلى حالة من الصدام والاشتباك على الأرض، فصباح يوم الخميس الماضي في الثامن من شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وفجأة ودون مقدمات، هاجم عشرات المسلحين تحت اسم كتيبة (غرباء الشام) التي شكلها محمود غول آسي المعروف بـ(أبو القعقاع - قتل في حلب قبل نحو ثلاث سنوات عقب إطلاق النار عليه من قبل احد أنصاره الذين انشق عنه) هاجموا بلدة رأس العين شمالي شرقي سورية وأسمها بالكردي (سريه كانيه) وهي بلدة تاريخية كانت عاصمة للميتانيين (واشو كاني)، غالبية سكانها من الأكراد والباقي خليط من الآشوريين والكلدان والعرب وجاجان.. الخ.

الغريب أن الهجوم جاء من داخل الأراضي التركية، إذ هاجم  مئات المسلحين البلدة وهي تبعد قرابة مائتي متر فقط عن الحدود التركية، وهو ما أثار العديد من الأسئلة والتساؤلات عن الهجوم وخلفياته، منها: لماذا الهجوم على هذه البلدة التي كانت تعيش في أمن وسلام تحت حماية اللجان الشعبية الكردية؟ وبالأساس لماذا الهجوم على منطقة هي خارج نطاق العمليات العسكرية بين النظام والمعارضة المسلحة وليس فيها جيش نظامي وجل ما فيها مقر  أمني فيه أعداد محدودة من العناصر؟ ولماذا قدمت العناصر المسلحة من داخل الأراضي التركية وماذا كانت تفعل هناك من قبل؟ وكيف نفهم تجهيز السلطات التركية لمخيمات على الجانب الحدودي المقابل لنفس المنطقة منذ فترة؟ ولماذا قامت وسائل الإعلام التركية بتغطية مكثفة للحدث وكانت موجودة مسبقا عند الحدود؟ وكيف نفهم تشجيع الإعلام التركي لأهالي البلدة على النزوح منها إلى درجة انه خلال يوم واحد نزح أكثر من ثمانية آلاف شخص؟ وكيف نفهم صمت بعض الأطراف الكردية السورية والعراقية على ما جرى وسط حملة إعلامية ضخمة على أنصار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي؟ ولماذا الإصرار على عسكرة المناطق الشمالية الشرقية التي تتواجد فيها أغلبية كردية بعد أن ظلت هذه المناطق هادئة نسيباً؟ وكيف نفهم الأخبار التي تتحدث عن تجمع لمئات المسلحين على الجانب التركي من الحدود لمهاجمة باقي المدن والبلدات الكردية كالقامشلي وعامودة وديريك وغيرها؟ والأهم من يقف وراء كل ما جرى ويمكن أن يجري في هذه المناطق حيث المخاوف من حرب أهلية مدمرة للجميع وسط  موجة نزوح غير مسبوقة إلى كردستان العراق؟.

قبل الهجوم على رأس العين بنحو أسبوع، تعرض حي الأشرفية في حلب ذو الغالبية الكردية إلى هجوم من قبل المجموعات المسلحة، وقتها خرج نائب قائد جيش الحر العقيد مالك الكردي إلى الإعلام، ليقول أن ما حصل كان خطأ من قبل كتائب مسلحة للجيش الحر، متعهدا بعدم تكرار ما حصل، بعد يومين من هجوم الأشرفية تعرضت قرية قسطل جندو القريبة من عفرين وهي قرية سكانها من الايزيدين الكرد إلى هجوم مماثل في تكرار لمشهد الأشرفية، وبعدها تكرر الأمر في رأس العين وربما غداً في بلدة أو مدينة أخرى، والسؤال من جديد، من يقف وراء كل ذلك؟ وماذا تريد هذه الجهة؟ ولماذا الإصرار على زج الأكراد بهذه الطريقة في محرقة الأزمة السورية بعد أن أعلنوا مراراً أنهم مع الطابع السلمي للحراك الجاري من أجل التغيير السلمي المنشود؟.

يعتقد الأكراد أن الذي يقف وراء إصرار كتائب من الجيش الحر على الدخول إلى المناطق بهذا الشكل، هو تركيا التي تريد من وراء ذلك تحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها:

1- إيجاد حرب كردية – كردية، مستفيدة من الخلافات والانقسامات الحاصلة بين الأحزاب الكردية، والبعض لا يستبعد تورط أطراف كردية في الموضوع، بل هناك من يتحدث عن خطة تركية مع بعض القيادات الكردية السورية والعراقية للتخلص من نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي على اعتبار أنه متحالف مع النظام السوري ويعمل لصالح أجندته حسب ما تقول أنقرة.

2- إيجاد حرب قومية بين الأكراد والعرب في هذه المنطقة التي تعيش في ظل نسيج اجتماعي وتاريخي موغل في القدم، وربما بين المجموعات الإسلامية والمسيحيين الذين لهم وجود تاريخي في هذه المنطقة، لصالح أيديولوجية سياسية محددة، وهي أيديولوجية ليست خافية على أحد، في ظل العلاقة العضوية بين حزب العدالة والتنمية التركي وجماعة الأخوان المسلمين في سوريا، حيث الصعود الأخواني في المنطقة بعد ما جرى في تونس ومصر وليبيا وما يجري في الأردن ومعظم دول منطقة العالم العربي.

3- بناء مجموعات عسكرية مسلحة تعمل لصالح تركيا في هذه المنطقة، تقوم بمهام الاستخبارات والقضاء على المجموعات المناوئة للأجندة التركية ولاسيما قادة ورموز حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، منعا لتحول المنطقة إلى (جبال قنديل أخرى) في شمال سوريا على غرار شمال العراق، خصوصاً بعد الحديث عن سيطرة مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي على المناطق الكردية السورية في الفترة الأخيرة. ولعل مثل هذا الأمر في صلب الأجندة التركية إذا ما عملنا صعوبة التدخل العسكري التركي المباشر الذي سيظهر تركيا بمنظر الدولة الاستعمارية الغازية وما سيترتب على ذلك من تداعيات وخلط للأوراق.

4– عدم السماح بإنشاء أي حالة كردية في هذه المنطقة، على غرار إقليم كردستان العراق، في إطار الحسابات التركية التاريخية إزاء القضية الأكراد، والإحساس بأن الربيع العربي خلق فرصة تاريخية للأكراد للتفكير بإقامة دولة كردستان المستقلة بعد أن حرمتهم  التاريخ والجغرافية والاتفاقيات الدولية من ذلك خلال القرن الماضي، فالفوبيا الكردية تلاحق السياسة التركية أينما كانت.

5- تهيئة المنطقة الحدودية الشمالية – الشرقية من سورية لإقامة منطقة عازلة، وربما لوجود عسكري تركي بحجة حماية تركيا من (الإرهاب الكردي) بعد أن تعذّر إقامة مثل هذه المنطقة في مناطق محافظتي إدلب وحلب، إذ ثمة قناعة تركية بأن الجيش الحر لا يمكن أن يحقق انجازات على الأرض دون إقامة مثل هذه المنطقة نظراً لقدرة الطيران السوري على تدمير معاقل الجيش الحر حتى لو حقق تقدماً مؤقتاً في هذه المنطقة أو تلك ما لم يتم إقامة منطقة حظر جوي.

في الواقع، التدخل المسلح للجيش الحر برعاية تركية في المناطق الكردية السورية، قد يدفع الأمور باتجاهين:

الأول: إن ما حصل قد يدفع بالأطراف الكردية إلى الوحدة وتناسي خلافاتها، خصوصاً وأن الأحزاب والحركات الكردية السورية باتت في أزمة مصداقية أمام الشعب الكردي بعد سيطرة الجيش الحر بسهولة على العديد من البلدات الكردية ولاسيما رأس العين ونزوح أهلها إلى الداخل التركي.

الثاني: احتمال تحول المناطق الكردية إلى مناطق مواجهات بين الأطراف العديدة المتقاتلة، على شكل حرب أهلية وطائفية وعرقية مدمرة، لن يكون فيها رابح.

وعليه، يمكن القول إن العلاقة بين الأكراد والجيش الحر، دخلت مرحلة خطرة، مرحلة فيها الكثير من الأسئلة والتساؤلات، والأهم إلى أين ستتجه هذه العلاقة في الأيام المقبلة في ظل الأجندة التركية التي تستهدف إقصاء المكون الكردي من المشهد السياسي السوري من جهة، ومن جهة ثانية تجيير واقع المنطقة الكردية لصالح الجيش الحر ومن خلف حركة الأخوان المسلمين في إطار السعي إلى إسقاط النظام السوري بالقوة.

أردوغان وأكراد سورية

لا يتوقف أردوغان عن تهديد النظام السوري والحديث عن قرب نهايته، ولعل أخر فصول سياسته هذه هو إحداث ما يشبه انقلاب في المناطق الكردية السورية والتهديد باجتياحها بحجة وجود خطر كردي على الأمن القومي التركي من هذه المناطق، مع ملاحظة انه يفضل تحقيق كل ذلك عبر الجيش الحر بعد ان أعد له مئات المسلحين في الداخل التركي المحاذي للمناطق الكردية السورية واجتياح هذه المناطق بشكل مباغت وسط أسئلة كثيرة عن الجهات المتورطة في هذه اللعبة القذرة والتي ثمنها المزيد من الدماء والأرواح وتهجير الناس من بيوتهم في منطقة عرفت تاريخيا بالتمازج الاجتماعي والاختلاط السكاني بين مختلف الانتماءات العرقية والدينية والطائفية.

في الواقع، منذ بداية الأزمة السورية مارست الحكومة التركية سياسة مدروسة مسبقا بشأن كيفية ترتيب المشهد السوري المستقبلي، وهي سياسة تقوم على الآتيان بقوى محددة إلى السلطة في حال تم إسقاط النظام السوري كما يخطط  له في تركيا ودول الخليج والمحافل الغربية، ولا يخفى على أحد أن القوى التي تريد تركيا إيصالها إلى السلطة هي حركة الأخوان المسلمين انطلاقاً من اعتبارات أيديولوجية وسياسية تشكل أس السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية تجاه الدول العربية والإسلامية. وانطلاقاً من هذا البعد سعت حكومة أردوغان إلى أبعاد المكون الكردي عن التشكيلات السياسية التي يتم تأسيسها تحضيرا للمرحلة المقبلة. ولعل في الوقائع التالية ما يؤكد صحة هذا الأمر.

1- في نيسان/ابريل العام الماضي عندما اجتمعت أحزاب كردية سورية في القامشلي لترتيب بيتها الداخلي في ظل التطورات التي تشهدها سوريا سارع أردوغان إلى التحذير من خطر تعرض سوريا إلى التقسيم  بغية تأليب القيادة السورية على الأكراد بعد أن شرعت هذه القيادة في منح الأكراد الجنسية السورية، وبدأت مرحلة جديدة من التعاطي السياسي مع الأكراد ومطالبهم.

2- عندما تم الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني في اسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، كانت أولى نشاطات هذا المجلس إصدار بيان  يدين فيه عمليات حزب العمال الكردستاني ضد الجيش التركي الذي لم يوقف هجماته العسكرية ضد أكراد تركيا منذ أكثر من ثلاثة عقود، سواء في الداخل التركي أو في إقليم كردستان العراق.

3- عندما تأسست هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي المعارضة في سوريا برئاسة حسن عبد العظيم تحدثت الأنباء عن تلقي الأخير اتصالاً هاتفياً من السفير التركي وفتها في دمشق يطلب فيه منه أبعاد المكون الكردي والمتمثل في حزب الاتحاد الديمقراطي من الهيئة مقابل دعم تركيا للهيئة.

4- خلال عقد العديد من مؤتمرات المعارضة السورية في تركيا عانى المكون الكردي المشارك في هذه المؤتمرات من سياسة تقوم على الإقصاء والتهميش وإصرار على عدم ذكر حقوقه في الوثائق والعهود، وهي ما دفعت بالوفود الكردية إلى الانسحاب من جميع هذه المؤتمرات.

5- ممارسة المزيد من الضغط على أكراد العراق وتحديداً على رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني لممارسة سياسة تجاه أكراد سوريا بهدف تفجير حرب بين الأطراف الكردية السورية ومحاولة غلبة المجلس الوطني الكردي على المجموعات الكردية المنضوية في إطار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المناوئ للسياسة التركية تجاه المنطقة، ومن البديهي القول هنا، إن هذا الأمر يتطلب من الأطراف الكردية السورية المزيد من الحكمة والوعي لعدم الانجرار إلى المخططات التركية المعروفة تجاه الاكراد وأينما كانوا.

6- التهديدات التركية الأخيرة بالتدخل في المناطق الشمالية من سورية بحجة سيطرة الأكراد عليها ليست سوى حجة تعبر عن سياسة تركية مسبقة تقوم على إقامة منطقة أمنية في الشمال السوري بحجة وجود تهديد كردي،وهذه سياسة خطرة لأن من شأن ذلك تقديم المبرر لسورية للقيام بعمليات ضد الجيش الحر في الدخل التركي في إطار الرد بالمثل، خاصة وان سورية باتت تمارس سياسة حاسمة تجاه تركيا عقب تورط حكومة أردوغان في الوضع الداخلي السوري ، ولعل الفشل التركي والمخاوف من التداعيات دفع بأنقرة إلى استخدام الجيش الحر والمجموعات المسلحة لتنفيذ الأجندة التركية ضد المكون الكردي السوري.

في الوقع، لا يمكن فهم سياسة أردوغان تجاه أكراد سوريا ومطالبهم وحرصهم على الطابع السلمي للحراك في مناطقهم خصة بعد أن أبدى النظام السوري سياسة مرنة وذكية في هذه المناطق ألا هي إطار السياسة التركية الممنهجة ضد الأكراد وحقوقهم، ولاسيما في تركيا حيث يبلغ عددهم هناك  قرابة 20 مليون نسمة، وهؤلاء يتطلعون إلى ربيع تركي ينطلق شرارته من ديار بكر التي شهد فيها حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة هزائم  سياسية كبيرة، بدءا من الانتخابات المحلية التي جرت في 2008 وصولاً إلى الانتخابات البرلمانية في عام 2010 حيث الغليان الكردي القومي على وقع انضمام العديد من الفعاليات السياسية والاجتماعية والبرلمانية لحركة الإضراب عن الطعام من قبل نحو ألف سجين رأي في السجون التركية في سبع ولايات بالمناطق الجنوبية الشرقية من البلاد.

إن سياسة أردوغان تجاه أكراد سوريا لا تكذب حقيقة نظرية صفر المشكلات التي طرحها وزير الخارجية احمد داود أوغلو وعدم التدخل في شؤون دول الجوار الجغرافي فحسب، بل تؤكد عكس ذلك تماما وتفتح المنطقة أمام نزاعات متداخلة من شأنها تدمير النسيج الاجتماعي التاريخي لشعوب المنطقة ككل، لصالح الطموحات التركية الإقليمية الجامحة، حيث تنبثق هذه الطموحات من عوامل التاريخ والجغرافية على شكل تطلعات عثمانية لن تجلب للمنطقة سوى المزيد من الصدام والتوتر والصراعات في حين لن يكون المستفيد منها سوى الغرب وحليفتها إسرائيل التي تتطلع إلى السيطرة والهيمنة على المنطقة.

كاتب وباحث بالشؤون التركية والكردية(*) 

اعلى الصفحة