تأمّلات في ملامح السياسة الإسلاميّة..

السنة الحادية عشر ـ العدد132 ـ ( محرم ـ صفر 1434  هـ ) كانون أول ـ 2012 م)

بقلم: جعفر محمد حسين فضل الله

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

كيف يتعاطى الإسلاميّون مع السياسة؟ هل يتعاطونَ معها كما يتعاطى معها الآخرون، ضمن ما يسمّى بفنّ الممكن، أو اللفّ والدوران؟.. أم أنّ عليهم أن يحتكموا إلى منظومة القيم التي تمثّل دينهم الذي يدينون الله به؟.. وإذا كانت منظومة القيم ستحكم مقاربتهم السياسيّة للواقع؛ ألا يوقعهم ذلك بشيء من المثاليّة التي تجعلهم مقيّدين بها، بما يمكّن الآخرين من موقع شيطنتهم، إلزامَهم بقيمهم من موقع إيمانهم، فيخسرون، ويتحوّلون إلى مجموعةٍ خارج الزمن؟.

ولعلّنا هنا نرصد بداية الإشكاليّة التي فرضت على الدين أن يخرج من دائرة السياسة؛ لأنّ السياسة تلوّن وتلوّث، والدين لا بدّ أن يبقى ناصعاً نقيّاً بعيداً عن الدنس!.

وإذا عُدنا إلى الأسئلة الآنفة الذكر، فهل هناك قواعد تجعلهم يمارسون السياسة بنوعٍ من المرونة؟ وهل يُباحُ لهم ذلك؟ وعلى أيّ أساس؟ وماذا يتحتّم عليهم تجاه بيان الموقف الإسلاميّ؟.

ونحن إذ نطرح هذه الأسئلة، فلا لنجيب عليها هنا في هذه المقالة المختصرة، بل لنحاول التفكير بصوتٍ مقروءٍ، لعلّنا نعيد فتح الباب في زمنٍ تكاد الأمور تختلط فيها على القادة في حركتهم السياسيّة، فضلاً عن القاعدة الشعبيّة التي تغيب في متاهات التطبيقات الملتبسة.

ويزداد هذا الأمر إلحاحاً على أثر صعود الإسلاميّين إلى مواقع الحكم؛ لأنّ المطلوب من هؤلاء أن يقدّموا النموذج الإسلامي الشرعي في كلّ كلماتهم ومواقفهم وقراراتهم وخياراتهم، خصوصاً في ظلّ تعقيدات السياسة الداخليّة مع الأوضاع الإقليمية والدوليّة؛ الأمر الذي قد يدفع بالإسلاميّين لاتخاذ مواقف أو قرارات لا تنسجم ـ مبدئيّاً ـ مع القاعدة الشرعية في أذهان الناس على الأقلّ..

وممّا لا شكّ فيه أنّ إبقاء الجماهير في حالة تأرجح بين المبادئ التي استقتها في تربيتها الدينية على شلك مُثُل عليا، وبين الواقع الذي يُشاهدون انحراف الرموز المسؤولة عن تطبيق تلك المثل عنها، لا شكّ في أنّ هذا قد يجعل القاعدة تكفر بالتجربة الإسلاميّة برمّتها، لتذهب إلى حصر الدين في دائرة العبادة وبعض أطر العلاقات الاجتماعيّة، وذلك لأنّ السياسة ـ بنظرهم ـ هي ملازمة للدنس، ولا تناسب بينها حينئذٍ وبين الدين الذي يمثّل عمق الطهارة الروحيّة والفكريّة والعمليّة.

المُسلم شأنُه العدلُ والعادلون

مسألة إقامة العدل من المسائل الثابتة لدى كلّ الاتجاهات السياسيّة، سواء كانت دينية أو غيرها، ونستطيع بوضوح أن نرى أنّ هذا المبدأ ثابتٌ إنسانيّ، تتفاضل بادّعاء تطبيقه الشعوب والمجتمعات والدول؛ حتّى أن الظالمين يدّعون العدلَ وهم يبطشون ويسفكون الدماء، وإن كان العدلُ لديهم هو مزاجهم أو ما تسوّل به أنفسهم.

في كلّ الأحوال، أكّد القرآن الكريم قيادة الدين، في قواعده ومرتكزاته وأحكامه الثابتة، للسياسة، وذلك قولُه تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّناتِ وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناسُ بالقسط) . وبغضّ النظر عن تحديد قضايا هذا العدل بما يُخرج المفهوم عن عموميّته وادّعائه، فإنّ المُسلمين إذ يختارون قياداتهم لا يُمكنهم ـ بوحي التزامهم الإسلاميّ الشرعيّ ـ أنّ يقبلوا ظالماً حاكماً عليهم، أو قائداً لهم، فيعطوه الشرعيّة الإسلاميّة.

وينبغي علينا هنا أن نتأمّل في قضيّة، وهي أنّ الشخصيّة لا تتجزّأ؛ فالعادل هو الذي لديه الملكة للثبات على العدل في الخاصّ والعامّ، مع الله تعالى ومع الناس؛ فلا يُمكن لمن لا يتحلّى بهذه الملكة في حياته الخاصّة، مع أهله وأولاده وأقربائه والمحيطين به، أن يعيش العدل في المواقع القياديّة، في السياسة أو المجتمع؛ غاية الأمر أنّ حركته العلنيّة تفرض عليه أن يظهر بمظهر العادل، وقد تضغط عليه أحياناً لكي لا يجور ولا يظلم، ولكنّ الأمر مرهونٌ بهذه الظروف، وليس بملكته وعناصر شخصيّته.

وأظنُّ أنّ علينا أن نولي عناية بدراسة الأشخاص من ناحية التزامهم بالتكاليف الشرعيّة في حياتهم الخاصّة، قبل أن نولّيهم علينا في الحياة العامّة؛ فإنّه وإن كان بعضُ الظالمين قد يؤدّون طقوس الصلاة والصيام والحجّ وجمدوا عند شكليّاتها دون مضامينها، فإنّ تارك الصلاة والعبادات يفقد العدالة، ويدخل في دائرة الفسق، وبالتالي فكيف يُمكن لنا كمُسلمين أن نقبل أميراً علينا تاركاً للصلاة، أو للزكاة أو للصيام أو يتحرّك في ذلك رياءً وسمعةً، أو إذا صلّى لم تنعكس صلاتُه على حياتهم؟!.

العصبيّة المذهبيّة تبرّر مماشاة الظلم

أعتقد أنّ إحدى أكبر شرور الفتن المذهبيّة والطائفيّة أنّها تُفقد أتباع المذاهب والطوائف المعايير الأساسيّة لالتزامهم الديني، ويتحوّل الانتماء للمذهب أو للطائفة المعيار الأوّل والأخير للقيمة الحقيقيّة المرتكزة إلى ما بيّنه القرآن والسنّة، من الالتزام بما فرض الله في أمر العبادة، والأخلاق، والعدالة في النفس والأهل والأقربين، وما إلى ذلك.

لقد أصبحت جماهير الناس تُدافع عن أصحاب المواقع والمناصب، وهي تعلمُ أنّها اتّخذت الناس مطيّة للوصول إليها، وبعد ذلك كفّت عن خدمة الناس، بكلّ ما تعنيه الخدمة من تفانٍ في سبيل الصالح العام، ومن نكرانٍ للذات.

ولعلّنا اليوم بحاجةٍ إلى استعادة أحاديث كثيرةً، فضلاً عن الآيات الكريمة، وهي تذمُّ حُبَّ الرئاسة، والسعي للمنصب السياسيّ حُبّاً بالكُرسيّ، وقد روينا عن السلف الصالح مواقف رائعة في الزهد بالمواقع، والترفّع عن الانغماس في حبّ السلطة، ومن روائع ذلك ما ورد عن الإمام عليّ (ع) حين وجده ابنُ عبّاس يخصفُ نعلَه، فقال له عليّ: ما قيمة هذا النعل؟ فقال ابن عبّاس: لا قيمة لها، فقال عليّ (ع): والله لهي أحبُّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً".

وبذلك نستطيع أن نحدّد قاعدةً مفادُها: كلّما كان الدافع للموقع والكرسيّ والمنصب فيه شيء من الذات، فالإنسان بذلك يغامر بدينه؛ لأنّ ضعفه أمام ذاته التي هي "أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربّي"، ستضعه أمام خيارات صعبةٍ عندما يدور الأمر بين الذات وبين المصلحة العامّة للناس، وعندما يدور الأمر بين الموقف المبدئيّ وبين المجاملة في الحقّ والمصانعة في العدل بما يخدم فيه المُسلم قائداً بالجور، عاملاً بالظُلم. فالمسلم يدخُل إلى الحكم وقد استثمر كلّ تربيته لنفسه في أن لا يملك عليه الموقع أيّ شيء، فلا تنتفخ شخصيّته لتصفيق الناس له، ولا يزيده خفق النعال وراءه رفعة، وهو الذي اكتفى بالحقّ حتّ لم يزده تفرّق الناس عنه وحشةً.

إنّ أولويّة مصلحة الناس تجعل الداخل إلى الحكم، والمتبوّئ للمنصب، في شغلٍ شاغلٍ في كيفيّة تركيز القواعد التي تضمن قواعد العدل والحقّ في حياة الناس، حاضرهم ومستقبلهم، بمعزل عن وجوده؛ بل إنّ من الخيانة أن يختصر المسلم المجتمع والدولة والناس في شخصه، فهو الحاضر والمستقبل، وهو الميزان العادل، والناطق بالحقّ، وبذلك يُسيّر كلّ أجهزة الدولة لخدمة بقائه في الحكم والسلطة.

من خلال ذلك نؤسّس للمعايير التي ينبغي على أساسها قياس السياسة التي تنسجم مع قيمنا الإسلاميّة والإنسانيّة، ونزنُ فيها الأشخاص والمرشّحين، لنُعذر إلى الله في مواقفنا في تأييد هذا أو رفضه.

التعاون الاستراتيجي على البرّ

كثيرة هي الآيات التي نتلوها في كتاب الله ونقتصر في تطبيقها على جانبٍ فرديّ هنا، أو بُعدٍ شكليّ هناك، ومنها قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾(المائدة: من الآية 2)، فأين المُسلمون من تعاون دولهم حقيقةً لا عنواناً وشكلاً؟!.

إنّ ما نشهده من صرف الدول الإسلاميّة جهوداً ضخمةً في سبيل خلقِ عدوّ للمسلمين من بني جلدتهم، حتّى لتُسخَّر في ذلك أجهزة إعلامٍ ومخابرات وساسة وما إلى ذلك، في الوقت ذاته الذي يتمّ فيه تسطيح القواعد الشعبيّة لكي تُصبح أكثر تقبّلاً لما يُعرض عليها من هنا وهناك.

العالم الإسلامي اليوم أُدخل في خضمّ صراع قوميّ، عربي فارسي، وقد ضُخّمت فيه المخاوف العربيّة من إيران التي أريد لها أن تُصبح العدوّ الأوّل للعرب والمُسلمين، ولا سيّما عندما تدخل في البين المسألة المذهبيّة، لتكون إيران عنواناً لطرف مذهبيّ في مقابل عامّة الدول الإسلاميّة والعربيّة التي تتحرّك في مذهبٍ آخر. ومن ضمن الدعاية الإعلاميّة مسألة التبشير المذهبي، الذي يستدعي شحذ الأسلحة الإعلاميّة والدعائيّة لتأكيد العداوة من موقع الاعتداء على الالتزام الديني المذهبي، وهنا تأخذ العداوة شكلاً من أشكال القداسة، تبعاً للمقدّس المذهبي الذي يتحرّك في نفوس المنتمين.

نحن لا نمانع أن تكون ثمّة هواجس من هنا وهناك، ولكنّنا نقول إنّ هناك فرقاً بين أن يبقى الإنسان أسير الهواجس، يستغرق فيها بما يؤدّي إلى تضخيمها، وبين أن يتحرّك ليعالج الهواجس بالخطّة العمليّة التي تضع الحدود أمام تحقّقها لو كانت حقيقيّة.

إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ يُريد من المُسلمين أن يتعاونوا فيما بينهم، في سبيل أن يحقّقوا معنى الأمّة واقعاً، وفي مجال تبادل الخبرات و الطاقات، وهي مسؤوليّة يُحاسبون عليها، وليست خياراً يُمكن أن يأخذوا به أو يتركوه... فما نجده من واقع السياسة اليوم من احتباس كلّ مجتمع ودولة في داخل الحدود الجغرافيّة، وعدم إيجاد قاعدة للتعاون الحقيقي بما يسدّ العجز، ويكمّل النقص، من قبل بعض الدول لبعضٍ، لا ينسجم مع الأمر الإلهي بالتعاون.

ناهيك عن عناوين مثل الصدقة والإحسان وما إلى ذلك، ممّا نرى أنّ من أهمّ منطبقاته اليوم هو علاقة الدول الإسلاميّة الغنيّة بالدول الإسلاميّة الفقيرة، في الوقت الذي نرى فيه الدول الإسلامية تُقرض بعضها بعضاً بالفوائد الربويّة، وتتعامل فيما بينها من موقع استغلال الحاجات لأجل تحقيق المصلحة هنا وهناك.

ولعلّنا نستطيع أن نُطلق هنا قاعدة إسلاميّة في العمل السياسي، وهي أنّ حركة السياسة في الدول الإٍسلاميّة الغنيّة أو القويّة لا ينبغي أن تتحرّك بمنطق التسلّط ولا الاستغلال، بل بمنطق التعاون لما فيه تحقيق الاكتفاء لبلدٍ أو لجماعةٍ تنخرط في الإستراتيجية الإسلاميّة العامّة، حتّى لو اختلفت في التكتيك أو أساليب الحركة انطلاقاً من خصوصيّة كلّ تجربة إسلاميّة في نطاقها الجغرافيّ أو موقعها من قضايا الأمّة الكُبرى.

هذا الهامش، ينبغي على السياسة الإسلاميّة أن تلعب عليه، ضمن منطق توزّع الأدوار؛ لأنّ صهر جميع الدول والحركات الإسلاميّة في شكلٍ واحدٍ، وأسلوب فريدٍ، يُمكن أن يضيّق مساحة المناورة في ظلّ ظروفٍ تضغط على الجميع.

إنّ توزّع الأدوار، ضمن الإستراتيجية العامّة، واحتفاظ كلّ تجربة إسلاميّة بخصوصيّتها، يُمكن أن يشكّل عنصر غنىً للتجربة الإسلاميّة الكُبرى، انطلاقاً من أنّ ذلك يؤمّن البدائل الحركيّة للصورة السياسية العامّة لحالات وقوع الأخطاء من هذه التجربة أو تلك، ولاسيّما أنّ المسألة لا تقتصر على الحركة السياسيّة المجرّدة، بل على الحركة الفكريّة والثقافيّة التي يُمكن أن تتحرّك بما يُشبه المواكبة النظريّة للتجربة السياسية العمليّة، ممّا ينفتح على آفاق متنوّعة من الاجتهادات التي لا يؤمّنها صهر التجارب في تجربة واحدة بما لها من الخصوصيّات.

من الواضح أنّ الدول لا تمثّل جمعيّات خيريّة، ولكنّنا قد نستطيع القول إنّ الدول الإٍسلاميّة ينبغي أن تتحرّك بمنطق المصلحة الإسلاميّة العليا، التي قد تفرض عليها أن تمارس نوعاً من العمل الخيري تجاه الدول أو الجهات التي تحتاج إلى الدعم، عندما يكون الأمر مرتبطاً بتحقيق الإستراتيجية الإسلاميّة العامّة.

مفهوم الأمّة

كنّا أشرنا في ما سبق إلى مفهوم الأمّة الإسلاميّة، ولعلّ ثمّة عناية بهذا المصطلح في القرآن، وكذلك في السنّة الشريفة، التي أكّدت على وحدة المسلمين، انطلاقاً من رابطة الإيمان التي تعلو على رابطة الدم، فكيف برابطة الجغرافيا.

ربّما يكون في قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(الحجرات: من الآية10) أبلغ تأكيد على منطق الأمّة الواحدة، وكذلك في قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾(المؤمنون:52).. ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(الأنبياء:92).

إنّ هذا التأسيس لمفهوم الأمّة لا يُريد أن يحقّق للمُسلمين انفتاحاً سياسيّاً أو اجتماعيّاً فحسب، بل انصهاراً في مشروعٍ كبيرٍ يسعى نحو أهدافٍ واحدة. وبهذا المعنى يغيب منطق التقوقع والانكفاء ضمن حدود الجغرافيا المصطنعة عن حركة السياسة الإسلاميّة؛ لأنّ الانكفاء خلف الجغرافيا يعني تغييب معنى الأمّة من الواقع. من الطبيعي أنّ الظروف الموضوعية لا تمكّن المسلمين من تجاوزها، كما أنّ المسار الذي دخلت فيه الأمّة منذ عقود بل أكثر، هو مسار الضعف والتشتّت، بما قد يحتاج إلى مراحل قبل الوصول إلى تحقيق معنى الأمّة من الناحية العمليّة.

إلا أنّ ذلك لا يمنع من أن يكون للأمّة وجود في التنشئة الإسلاميّة، بحيث يتحرّك المُسلمون ضمن خصوصيّاتهم الجغرافيّة، التي تشكّل الآن الأمر الواقع، بمنطق الأمّة، أعني بمنطق أنّهم يشكّلون حلقة من ضمن حلقاتٍ متنوّعة، سواء قامت تلك الحلقات بدورها في الآنِ أو لم تقم.

إنّ التنشئة الإسلاميّة بطبيعتها تهدف إلى إعداد المُسلم العالميّ، الذي لا يتحرّك ضمن مسار ضيّق، بل يتّسع طموحه باتّساع العالم بل الكون؛ لأنّ المُسلم يرصد الزمن الحاليّ كما يرصد الأزمنة الآتية، ضمن حركة الرسالات؛ وهو ما نرصده في أنّ الآية الثانية والثالثة جاءتا في سياق الحديث عن الرسل، بما يوحي بأنّ الرسالات حركة ضاربة في التاريخ ممتدّة نحو آفاق المستقبل.

وقد يكون من مستتبعات حضور عنوان الأمّة لدى الحركات والدول الإسلاميّة هو اعتبار أيّ حركة للعزّة والقوّة تمثّل عنواناً لعزّة الأمّة وقوّتها، وأيّ انتصارات تتحقّق في أيّ موقع تمثّل انتصارات للمواقع الأخرى يُمكن المراكمة عليها وأخذها في الاعتبار في صوغ أيّ موقف أو مشروع تجاه حركة الصراع الذي يواجه الأمّة أو يواجه بعض أجزائها... مع أنّ الواقع يشي بخلاف ذلك، بحيث فقد الإسلاميّون في هذا الموقع أو ذلك زمام المبادرة انطلاقاً من انعدام هذا النوع من التفكير والاعتبار.

التكتيك لا يأكل الإستراتيجية

نحن لا نريد أن نقع أو نوقع السياسة الإسلاميّة في المثاليّة، ولا سيّما أنّ المبادئ المتحرّكة لا بدّ أن تقع في سياق تثبيت المبادئ الثابتة؛ فإنّه ليس صحيحاً أن يفضح المُسلم أسرار بلاده إذا ما وقع في أسر العدوّ مثلاً باسم أنّه يُريد أن يكون صادقاً؛ بل عليه أن يكذب حفاظاً على الدماء والأعراض في بلده...

لا نريد الخوض كثيراً في مفردات هذا القاعدة التي تظهر على أرض الواقع في تزاحم الأهمّ والمهمّ، بقدر ما نريد التأكيد على مسألة، وهي أنّ الواقع السياسي الدولي والإقليمي قد يضغط على الإسلاميّين في اتّجاه أخذ مواقف أو قرارات معيّنة حفاظاً على أمور أهمّ ترتبط بمصلحة الإسلام والمسلمين العليا، ولكنّ ذلك لا ينبغي أن يتحوّل إلى قاعدة، فضلاً عن الاستسهال في تحديد طبيعة الواقع الحقيقية في هذا المجال؛ لأنّ التكتيك لا بد أن يخدم الإستراتيجية، وهذا ما يتطلّب وجد خطّة تضع التكتيك موضعه في تجاوز العقبات الموضعيّة، لا أن ينطلق الإسلاميّون في الحكم بلا خطّة تجاه الضغوط والتحدّيات، فيقعون في شرَك ما يفرضه عليهم الواقع، بما يبقيهم في حالة استثنائيّة دائمة أشبه بقوانين الطوارئ التي كانت في الأنظمة البائدة، وبذلك يفقدون العنوان الإسلامي الحقيقي لحركتهم، فضلاً عن أنّ ذلك قد يؤدّي إلى ضرب العنوان الإسلامي من واقع الناس.

قد تكون أمام الإسلاميّين مشكلة استلامهم السلطة في ظلّ أنظمة لم يعيدوا تشكيلها بالكامل، وربّما لم يكن لديهم هذا النوع من الخطط، فضلاً عن غياب مشاريع ناجزة في هذا المجال، كلّ ذلك قد يفرض عليهم السير في خطوات قد تصطدم بالمبادئ الأساسيّة، بما قد يرون أنفسهم معذورين فيه في حركة التكتيك... ولكنّ ذلك لا بدّ أن يسير ضمن الخطّة الإسلاميّة الواضحة المعالم، بحيث يُمكن أن يُشار إلى هذا الموقف أو ذاك ضمن خريطة الطريق التي ينبغي أن تحقّق الأهداف الكُبرى في نهاية المطاف، لا أن تكون المواقف جزءاً من التكتيك في ظل غياب الإستراتيجية الواضحة، بما يساهم في ضياع الأهداف والمشروع شيئاً فشيئاً.

ختاماً، تبقى هذه تأمّلات محدودة أردنا من خلالها إثارة بعض النقاط كنماذج، تاركين المجال مفتوحاً للتفكير النظري في قضايا باتت ملحّة في زمن صعود الإسلاميّين وتراكم التحدّيات وتسارع عجلة الوقائع؛ والله من وراء القصد. 

اعلى الصفحة