|
|||||||
|
لقد تعددت الكتابات في ملحمة كربلاء، فنهل كُتَّاب كثيرون من معينها، ووصفوا أحداثها، وحلَّلوا المواقف فيها. وسوف نتناول في هذا البحث إطلالة على مفهوم الإمامة، ومفهوم الحق، ومفهوم التربية، وقراءة في الأبعاد التربوية لإحياء الحق، علَّها تضيء لنا بصيص نور في هذا الزمن المظلم، الذي أضيء بولادات الرسل، والأنبياء، والأوصياء، والأولياء، ولاسيما خاتمهم خير خلق الله محمد بن عبد الله، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين. أولاً- مفهوم الإمامة: لا بد لنا بدايةً من الإشارة إلى أهمية فهم خط الإمامة نظرياً، إذ إن هناك تقارباً بين فلسفة النبوة وفلسفة الإمامة إلى حدٍّ كبير، فالنبي يبعثه الله سبحانه بمنهج جديد للحياة، وبعقيدة جديدة، وبمشروع جديد للعلاقات البشرية، وبرسالة إلى الإنسانية، فيبذل الجهد، ويطوي حياته في جهاد مستمر، ليؤدي مهمة الرسالة الملقاة على عاتقه قدر ما يسمح له عمره المحدود، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(1). والدعوة لا تتوقف من بعد النبي، بل يجب أن تستمر حتى يأتي نبي جديد بعقيدة جديدة تتكامل مع الأولى، وتراعي مستوى رقي المجتمع البشري، فلا بد من وصي أو إمام يحمل أعباء مواصلة المسيرة من هو أقرب إلى صاحب الرسالة في جميع أبعاد الشخصية الإنسانية، سواء منها الجانب العقلي المعرفي، أو الوجداني العاطفي، أو الحسي الحركي، فرُبَّ أهداف رسالية لا تتحقق بسنوات معدودات، ولاسيما إذا كان النبي منهمكاً بترسيخ أسس التوحيد، والدفاع عن رسالته وعن أمته بحيث يخوض الحروب المفروضة عليه، والتي لا مفرَّ له منها، فالأصل في رسالات السماء هو السلام. ولا بد لنا من فهم التشيع لأوصياء خاتم الأنبياء محمد(ص) وخلفائه من بعده، أهل بيت النبوة(ع)، وعلى رأسهم الإمام علي بن أبي طالب(ع)، وهذا الأمر ليس بمستهجن، فكل الأنبياء العظام وأصحاب الرسالات كان لهم أوصياء وخلفاء ليكملوا مسيرتهم من بعدهم، وهذه هي سُنَّة النبي محمد(ص)، وغيره من الأنبياء، والأوصياء، والحكماء، والحكَّام، وهي سُنَّة طبيعية عقلانية، وعقلائية، عمل بها الأولون والآخرون من العقلاء. كما لا بد لنا أيضاً من فهم خط الإمامة عملياً، والحكومة الإسلامية في زمن الغيبة الكبرى ومفهوم ولاية الفقيه، ولاسيما في مواجهة الواقع الراهن، الذي لا بد فيه من مواجهة التشويه المتعمَّد من قِبل رجال دين ومؤرخين كانوا على اتصال وثيق بالسلطان، رأوا أن الأئمة(ع) قادة سياسيون تقليديون يسعون لتحقيق مطالب شخصية أو عائلية أو حزبية. والواقع أن مواقف الأئمة(ع) في السلم والحرب، نبراس لنا، فتباين أساليب العمل لا يعني العمل وفق مزاجية أو مصالح أو أهواء هذا الإمام أو ذاك، فقد أخذوا بشروط الحكمة تبعاً للظروف والملابسات والفرص الموضوعية الزمانية والمكانية. إن أهدافهم مشتركة، ولكنهم اختلفوا في التعبير عنها بحسب ظروف كل منهم السياسية والأمنية والاجتماعية. ولا شك أن أبا عبد الله الحسين وأهل بيته وأصحابه(ع) سطروا بدمائهم ملحمة أسطورية لتكون منهاجاً لكل سالك على طريق العبودية لله تعالى، طريق الحرية المسؤولة، والعدالة الاجتماعية، والسياسية. ولا شك أن موقع الإمامة خطير جداً، وفيه يرتبط مصير الأمة، سواء كان الإمام نبياً أو وصياً. فالإمامة والولاية على لسان الأئمة(ع) أمر واحد، فالإمام هو ذلك الإنسان المتكفِّل بإرشاد الناس وهدايتهم من الناحية الدينية، والمتكفِّل أيضاً بإدارة أمور حياتهم من الناحية الدنيوية. فالولاية بمعنى الحكومة هي حكم إلهي، فكما أن الله أوجب الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك فقد أوجب إطاعة الناس لأشخاص محددين إما بالاسم وإما بالصفات(2). قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾(3). فالمشرِّع الوحيد هو الله تعالى، أما الأنبياء والأئمة(ع) فهم مبلِّغون لشرع الله ومبيِّنون له، وولايتهم تقع ضمن حدود إجراء القوانين الكلية وتطبيقها على الأمور الجزئية، وتنصيب المنفذين لهذه القوانين الإلهية. ولو لم يكن أمر الله بوجوب إطاعة وتنفيذ أوامر الأنبياء، والأئمة، والقادة العادلين، لوجدنا سبباً عقلياً، وعقلائياً، مقتضياً لإطاعتهم دائماً. وقد روي عن الإمام الرضا(ع) أنه قال في الجواب عن أولي الأمر، والأمر بطاعتهم: "لعلل كثيرة، منها: أنه لو لم يجعل لهم إماماً، قيِّماً، أميناً، حافظاً، مستودعاً، لدُرست الملة وذهب الدين، وغُيِّرَت السُّنَنُ والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقَّص منه الملحدون، وشبَّهوا ذلك على المسلمين، لأنَّا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم، واختلاف أهوائهم، وتشتت أنحائهم، فلو لم يجعل لهم قيِّماً حافظاً لِما جاء به الرسول(ص) لفسدوا على نحو ما بيَّنا، وغُيِّرَت الشرايع، والسُّنَن، والأحكام، والإيمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين"(4). ثانياً-مفهوم الحق: الحق من أسماء الله تعالى، أو من صفاته، فهو الموجود حقيقة، وواجب الوجود الذي لا يحتاج إلى من يوجده، فهو الموجود بذاته. والحق أيضاً هو القرآن، وهو الإسلام، وهو قول النبي(ص) وما جاء به. والحق هو العدل، والحق هو الموت، والحق هو الصدق في الحديث، والحق هو الحزم، والحق هو الحكم المطابق للواقع، وأصل الحق المطابقة والموافقة، والحق يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك يقال: فِعْلُ اللهِ كُلُّهُ حق. والحق هو الأمر المقتضى المفعول(5). والحق هو خلاف الباطل، وحقيقة الأمر. وأحققت الشيء، أي أوجبته. وتحقق عنده الخبر، أي صح. والحقيقة: خلاف المجاز، والحقيقة: الراية(6). وقد وردت آيات كثيرة جداً تتكلم عن الحق منها قوله تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ﴾(7). وعبارة "بِغَيْرِ الْحَقِّ" متعلَّقة بالظلم والكبر والبغي، مؤكَّدة له المعنى العام، فهو يوجب الإثم، وما يوجب الإثم عامّ لكلّ ذنب، فقد جرَّهم العصيان والاعتداء فيه، إلى الكفر بالآيات وقتل النبيين بلا جرم منهم إليهم ولا إلى غيرهم، كما قتلوا شعيباً وزكريا ويحيى، فإن صغار الذنوب تؤدي إلى كبارها، قال تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾(8). ولا شك أن هذا تعدٍّ على حدود الله، بل وتجرؤ على الله تعالى، الحي، والعالم، والقادر، والحاكِم، والحكَم، وخير الحاكمين، والخبير، وخير الماكرين، وذي الفضل، والرقيب، والسميع، والبصير. وبالتالي فإن الكفر بآيات الله تعالى وقتل النبيين يتنافى مع صفة الإيمان، بل ومع الفطرة الإنسانية، وهي الطبيعة والصفات غير المكتسبة التي خلق عليها المولود، فوجودها عام، أي موجودة عند كل البشر. فإذا كان مثل هؤلاء الأشخاص، الذين كانوا يحكمون الأمة الإسلامية باسم الإسلام، وهو منهم براء، يتجرؤون على الله تعالى، وعلى أنبيائه ورسله، فمن المنتظر منهم أن يتجرؤوا على ابن بنت نبيه الحسين بن علي(ع)، وأن لا يسمعوا له ولا يعقلوا منه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(9). ثالثاً- مفهوم التربية: أما على المستوى التربوي فإن التربية تعني ما يجب أن نعوِّد أنفسنا عليه فيكون سلوكاً عملياً وليس فقط نظريات، وما يجب أن نربي أبناءنا عليه أيضاً، والأجيال القادمة كذلك، إذ يُتوخى من التربية والتعليم بناء شخصية الإنسان، وبالتالي فإن من واجبنا العمل المبكِّر على إعداد جيل يعيش في مجتمع متطور متميز بأنماط سلوكية إيجابية تقليدية من جهة، وفي عصر ما بعد الحداثة المتميز بالتفجر العلمي والتكنولوجي والاتصالات الإلكترونية من جهة أخرى، وفق عملية متكاملة ورؤية شمولية، مع الأخذ بعين الاعتبار احتياجات الإنسان وميوله ورغباته، بما يساعد على بناء شخصية متماسكة ومتوازنة، متمسكة بأصالة الإسلام المحمدي ومنفتحة على الآخر، ويعمل على تقليص الفجوات بين ما هو كائن في مجتمعنا وبين ما ينبغي أن يكون. وثمة عوامل عديدة مساعدة على تطبيق وإنجاح العملية التربوية، فالضمير الإنساني المستقر في أعماق الإنسان يقوم بتأنيب الشخص متى ما انحرف وتعدى الحدود المرسومة له، والعقل يجعلنا نميِّز بين الحق والباطل، ويدفعنا للتمسك بالحق والابتعاد عن الباطل، والفطرة تجعلنا نشعر بالمسؤولية تجاه النفس وتجاه الآخرين. أضف إلى ذلك الأديان التي تقول بالحياة بعد الموت، ولاسيما الإسلام، وأنه لا بد من يوم للحساب العادل لإثابة الإنسان المؤمن الذي عمل الصالحات، ومعاقبة الإنسان الكافر الذي عمل السيئات. زد على ذلك الإشراف والرقابة الاجتماعية التي تفرض على الإنسان التحرك وبذل الجهد وأداء الوظائف على أحسن وجه. ولا شك أن للعقيدة الإسلامية أهدافاً محددة، ومقررات شاملة، ونظاماً قضائياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وتربوياً، يستفيد منه الفرد كما المجتمع، فلا بد من تربية الفرد ليتمكن من تطبيق هذه التعاليم في المجتمع. فالإسلام يعتني بتنمية عقل وفكر الإنسان كما يعتني بتنمية روحه وقلبه وعاطفته ووجدانه، بل ويطلب منه الاجتهاد في العقيدة، وأن يكون الإيمان عن وعي وقناعة، بعيداً عن موروثات العائلة والمجتمع الخاص الذي يعيش فيه، فلا بد لنا من تعليم أبنائنا الابتعاد عن البُغض والعداء ما أمكن، وأن كمال الروح غير كمال الجسد، وأنه يموت وتبقى بعده روحه، وأن منافع الناس كامنة في رعاية حقوق المجتمع، وأن الفعل الخُلُقي هو ذلك الفعل الذي لا يكون الهدف منه هو المنافع المادية والفردية فحسب، بل لا بد من الاعتقاد بالروح المجردة والعقل المجرد، وتقوية إحساس حبِّ النوع الإنساني، وتنمية حس الجمال(10). ولا بد للإنسان من وعي معنى المسؤولية وضرورتها ودائرتها، فالإنسان ظاهرة فريدة، فهو المخلوق العاقل الذي وُجدت لأجله المخلوقات الأخرى، سواء كانت كائنات حية كالحيوان والنبات، أو غير حية كالأفلاك التي تجري والجبال والبحار. ولا بد من هدفٍ لخلق الإنسان، فالله تعالى حكيم، يضع الأمور في مواضعها، ولا يفعل شيئاً عبثاً، فإذا كان قد خلق الإنسان ليفوز بسعادة الدنيا والآخرة، فلا بد لهذا الإنسان من السعي نحو كماله الفردي والاجتماعي الاختياري، فقيمة الإنسان كبرى ومنزلته عظيمة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾(11). ولا يمكن للإنسان الفرار من المسؤولية، فهو كائن عاقل ومكلَّف، ويمكنه الفصل والقضاء في الحوادث المختلفة، وإدراك الأمور، والتمييز بين الخير والشر، واتخاذ الموقف الحكيم، والعادل، ولاسيما في لحظات الغضب، والشدائد، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(12)، فلا ينبغي للإنسان أن يبيع نفسه إلا بثمن مقداره الجنة، ومراتبها العُليا، حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. رابعاً-الأبعاد التربوية لعاشوراء: بناءً على المفاهيم والآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي ذكرناها، وعلى سيرة الإمام الحسين (ع)، يمكننا أن نتلمَّس الأبعاد التربوية لإحقاق الحق والتمسك به وهي كالآتي: 1- المرجع هو الله تعالى: كلنا يقرأ سورة الإخلاص، وقوله تعالى: ﴿اللهُ الصَّمَدُ﴾(13)، أي أنه هو الذي يُقصد بالحوائج، وهو القادر على كل شيء. وها هو الحسين(ع) يوم عاشوراء، لما أصبحت الخيل تُقبل عليه، يرفع يديه إلى السماء قائلاً: "اللهم أنت ثقتي في كل كربٍ، ورجائي في كل شِدَّة، وأنت لي في كل أمرٍ نزلَ بي ثقةً وعدَّة، كم من همٍّ يَضْعُفُ فيه الفؤاد، وتَقِلُّ فيه الحيلة، ويَخْذِلُ فيه الصديق، ويَشْمَتُ فيه العدو، أنزلتُه بك، وشكوتُه إليك، رغبةً مني إليك عمن سواك، ففرَّجْتَه وكشفتَه، فأنت وليُّ كلِّ نِعمةٍ، وصاحبُ كلِّ حَسنةٍ، ومنتهى كلِّ رَغبة"(14). 2- حفظ الإسلام المحمدي الأصيل: صحيح أن الإسلام دين رحمة، ولكنه دين عدل أيضاً، فالدفاع عن النفس، والعرض، والمال، واجب، وقد أجاز الإسلام للمسلم معاملة الآخرين بالمثل، ولكن دون الاعتداء، بمعنى تجاوز الحدود، قال تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾(15). وفي هذا السياق فإن لأئمة أهل البيت(ع) أدواراً أهم من حفظ النفس المحترمة ولو كانت نفس الإمام المعصوم(ع)، فحفظ الإسلام وشرح وتوضيح رسالة النبي(ص)، أهم تكليف يُلقى على عاتق ولي أمر المسلمين، بل على عاتق جميع المسلمين، فقد ورث أهل البيت(ع) مسؤولية كبرى تقضي بالحفاظ على الإسلام نقياً. وما يدل على أننا جميعاً مكلفون بالحفاظ على الإسلام، وأن هذا التكليف من الواجبات المهمة، وأنه أهم من الصلاة والصوم، هو أن نفس هذا التكليف هو الذي يوجب سفك الدماء للإتيان به، إذ لم يكن أهم من دم الإمام الحسين(ع)، وقد سُفِك لأجل الحفاظ على الرسالة الإسلامية ومصالح الأمة العليا، والتخطيط لسلوكها، وحمايتها، وتنمية وعيها، وكشف نفاق السلطة الحاكمة، ومحاربة أئمة الكفر والنفاق، والعمل على إقامة الحكومة الإسلامية، وإعداد الجيش العقائدي الذي يعيش الأهداف الكبرى، أي إيجاد مجتمع إسلامي عادل، والسعي لصيانة مسيرته وتصحيح الانحرافات فيه. لقد عمل النبي(ص) ما أمكنه على نقل الأمة من الجاهلية إلى الإسلام، ولكن ما يأسف عليه المسلم الحقيقي هو أن الأمة أثناء وفاة النبي(ص) لم تكن واعية وحاسمة، ما أدى إلى ضياعها وانحرافها بعد وفاة النبي (ص)، ما أوصل الأمة إلى مستوى متدنٍّ من الإيمان والوعي، فأصبح الأمر بالمعروف منكراً، والأمر بالمنكر معروفاً، ما اضطر حفيد الرسول وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين(ع)، للخروج مضحياً بنفسه وعياله وأصحابه في سبيل إصلاح الأمة قائلاً: "فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك"(16). ولا بد من التنبيه إلى أن نموذج الإسلام المحمدي الأصيل الذي أفنى الإمام الحسين(ع) روحه من أجله وقدم أولاده وخيرة أصحابه من أجله، يتمثل بـ"الجمهورية الإسلامية في إيران"، و"المقاومة الإسلامية في لبنان"، التي تعمل تحت لواء حاكم إسلامي شرعي، وانأ أدعو جميع المسلمين بل جميع الأحرار في العالم إلى قراءة هذا النموذج قراءة موضوعية، وتحليلية، ومقارنته بغيره من النماذج، سواء على مستوى الحركات الإسلامية أو سائر الحركات التحررية في العالم. كما أدعو الأمة الإسلامية للتسلح بسلاح الوعي فلا يضيعوا، ولا تلتبس عليهم الأمور فيختلط عليهم العدو من الصديق. تصوروا أيها الأحبة أننا في زمن يحاول العدو دائماً أن يزرع الشك في معتقداتنا، وقيمنا، وأهدافنا، وقادتنا، وأن يثبِّط من عزائمنا. تصوروا أننا في زمن يتحالف فيه المسلمون مع أعدائهم، ويكفِّرون ويحاربون بعضهم بعضاً. تصوروا أننا في زمن ليس فيه قادة مخلصون وشرفاء، وأصحاب كفاءة، وإدارة، ويفهمون العصر الحالي، فكيف سننصر الحق حينها؟! 3- حفظ القائد: عاشوراء تُعَلِّمُنَا أن علينا أن نحفظ قائدنا العالم العادل المخلص، فالأمة التي تضيع علماءها الربانيين وقادتها العظام هي أمة الكرب والبلاء، هي أمة الفرار والهزيمة، هي أمة الذل والهوان. وقد سمعنا الحسين(ع)، عندما خرج ليلاً إلى قبر جدِّه خير خلق الله محمد بن عبد الله(ص)، يقول: "السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين ابن فاطمة فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتني في أمتك، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم خذلوني، وضيعوني، ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك. ثم قام فصف قدميه للصلاة فلم يزل راكعاً ساجداً"(17). وقد تُطرح إشكالية على مستوى نظام الحكم في الإسلام، ويرد عليه أن حلَّ مشكلة الحكومة في الفكر السياسي الإسلامي موجود في الشريعة الإسلامية على أساس فكرة الإمامة في ظل غياب النبي، وولاية الفقيه في ظل غياب الإمام المعصوم(ع)، شرط أن يكون الفقيه جامعاً للشرائط، أي العادل، والحكيم، والتقي، والورع، والبصير بشؤون العباد والبلاد، والعارف بعصره، والشجاع الذي لا يخضع للتهديدات والحرب النفسية، سواء من الخاصة أو العامة، ولا يخاف في الله لومة لائم، والقادر على القيام بالأمر وإدارة الدولة، وصيانة المسار الصحيح لأداء المؤسسات الدستورية والأجهزة الحكومية المختلفة، وذلك عن طريق الآليات التي ينصُّ عليها دستور الجمهورية الإسلامية الذي كُتِب من قِبل مجتهدين عدول، وتم تأييده من قبل الولي الفقيه، وجرى الاستفتاء الشعبي العام عليه. وحفظ الحاكم الشرعي القائد القائم بأمور المسلمين لا يختص بزمن دون آخر، وهو يتمثل في زمننا هذا بآية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي(دام ظله)، الذي يجسِّد المرجعية الرشيدة الصالحة، بما بيَّنه في سيرته العلمية والعملية، فهو سيد بأفعاله قبل نسبه(18) وكلماته وبياناته، التي أضحت منارات هدى لدروب السالكين، إنه التلميذ النجيب للإمام الخميني المؤسس الراحل، إنه رجل الاجتهاد والمُفَسِّر الرجالي العارف بالإسلام والشريعة، وقد توالت شهادات المجتهدين الأفاضل تأييداً لمرجعيته، ما يدل على اجتهاده المطلق، لأن الدستور اشترط في القائد الولي أن يحوز على هذا الشرط الأساسي. وهو رجل الجهاد في الثغور، المشارك في جبهات الحرب المفروضة، دفاعاً عن الإسلام والجمهورية الإسلامية في إيران. وهو رجل الإدارة والتنظيم الذي تدرج في المسؤولية من مجلس قيادة الثورة إلى وكيل وزارة الدفاع، وقيادة حرس الثورة، وإمام جمعة طهران، وعضوية مجلس الشورى الإسلامي، ورئاسة الجمهورية، وصولاً إلى ولاية أمر المسلمين، التي لم يطمح إليها، بل ألقيت عليه تعييناً، بل تعيُّناً، بعد أن اكتشف مجلس الخبراء أنه الأصلح والأفضل، وبعد أن وصفه الإمام الخميني (قده) بالشمس التي تسطع بالضياء، فهو المعروف بزهده وتواضعه، وحرصه على بيت المسلمين، وأنسه بالقرآن، واهتمامه باللغة العربية. الخاتمة إن فهم حقيقة أصول الدين، ولاسيما أصلي النبوة والإمامة، وفروعه، ولاسيما فرعي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجعلنا نحمل مسؤولية جسيمة في عصرنا الحاضر، وهي مسؤولية الحفاظ على الإسلام المحمدي الأصيل، وعلى الحاكم الشرعي العادل الخبير، وعلى مقومات الصمود في هذه الأمة، التي يجب أن يتحد علماؤها ومفكروها ومثقفوها لإصلاح النفس والمجتمع، ولكشف خداع أعداء الأمة، ومواجهتهم دفاعاً عن مقدسات الأمة، سواء كانوا فئة داخلية باغية، أو خارجية معتدية، كما فعل الرسول الأكرم(ص)، وأهل بيته الكرام، ولاسيما حفيده الإمام الحسين(ع). باحث في الشريعة والقانون الدولي، من لبنان(*). هوامش (1) الحديد: 25. (2) جوادي الآملي، عبد الله، ولاية الفقيه، ط1، ترجمة السيد عباس نور الدين، بيروت-لبنان، دار المداد، 1413هـ-1993م، ص: 66-67. (3)النساء: 59. (4) دليل وجوب إطاعة النبي والإمام عليهما السلام، مركز المصطفى (ص)، ص: تفسير نور الثقلين للحويزي، ج1، ص:497. (5) الزبيدي، تاج العروس، تحقيق: علي شيري، لا.ط، بيروت- لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1414هـ-1994م، ج13، ص: 79-88. (6) الجوهري، أبو العباس، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط4، بيروت- لبنان، دار العلم للملايين، 1407هـ، ج4، ص: 1460-1462. (7) القصص: 39. (8) البقرة: 61. (9) البقرة: 91. (10) مطهري، مرتضى، التربية والتعليم في الإسلام، ط5، بيروت-لبنان، دار الهادي، 1430ه-2009م، ص: 81-87. (11) الإسراء: 70. (12) الإنسان: 3. (13)الإخلاص: 2. (14) البحريني، عبد الله، العوالم، الإمام الحسين (ع)، ط1، قم-إيران، مدرسة الإمام المهدي(عج) بالحوزة العلمية، 1407ه، ص: 248. (15) البقرة: 194. (16) ابن قدامة، عبد الله، المغني، الطبعة الجديدة بالأوفست، بيروت- لبنان، دار الكتاب العربي، ج1، ص: 495. (17) أحمد بن أعثم الكوفي، الفتوح، ط1، تحقيق : علي شيري، بيروت- لبنان، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، ج5، ص: 18. من سلالة رسول الله، (18) فهو من سلالة رسول الله. |
||||||