قمة "5+ 5" في مالطا ومأزق الشراكة المتوسطية

السنة الحادية عشر ـ العدد 131 ـ (ذو الحجة 1433 هـ - محرم  1434هـ ) تشرين ثاني ـ نوفمبر ـ 2012 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

منذ أن شدد إعلان برشلونة في العام 1995، على ضرورة جعل منطقة البحر المتوسط فضاء مشتركاً من السلام والاستقرار والازدهار، تغيرت الكثير من الأمور في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بسبب تداعيات ربيع الثورات العربية، إذ سقطت أنظمة عربية عديدة، وتغيرت حكومات، وشهدت منطقة اليورو أزمة اقتصادية ومالية حادة.

لكن المعوقات الأساسية التي  شكلت في السابق سداً منيعاً في وجه تفعيل الشراكة الأوروبية - المغاربية ظلت على ما هي عليه: عدم التكافؤ بين طرفي الشراكة، أو بين ضفتي المتوسط، وهيمنة  ملفي الأمن و الهجرة السرية. ولهذا أعتبر البعد الأمني للشراكة الأوروبية – المتوسطية مسألة حيوية لا يجوز أن يساء تقديرها. 

قمة المجموعة "5 + 5": التغييرات المغاربية "لا تشكل خطراً على أوروبا"

اجتمع قادة دول وحكومات خمس دول أوروبية وأخرى من المغرب العربي، يومي  الجمعة والسبت  5 و 6 أكتوبر 2012 في مالطا لإعطاء زخم جديد للحوار بين مجموعة 5+5 في قمة هي الأولى منذ تسع سنوات وطغت عليها الثورات العربية. وتطرقت  القمة 5+5 ، التي تضم خمسة بلدان من اتحاد المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب وليبيا وموريتانيا) وخمسة بلدان من الاتحاد الأوروبي (فرنسا وايطاليا واسبانيا والبرتغال ومالطا)، إلى مختلف المواضيع على غرار الملف الأمني والدفاع والتعاون الاقتصادي وكذا إلى تقييم مجالات التعاون الأخرى مثل التربية والبيئة والطاقة.

ويهدف الحوار 5+5 بوصفه مبادرة تخص الأمن المتوسطي إلى إقامة تعاون أوثق بين الأعضاء الخمسة في الاتحاد الأوروبي وبلدان اتحاد المغرب العربي الخمس من خلال الحوار السياسي و تشجيع التسيير الأمثل للموارد بغية تعزيز الاستقلالية الإقليمية وتحقيق التنمية. وتعتبر قمة مالطا التي عقدت لأول مرة منذ تسع سنوات لهذا المنتدى الذي أطلق في روما عام 1990، فضاءً للحوار السياسي غير الرسمي تهدف إلى " إعادة بعث وترقية" المناقشات بين الدول العشر خصوصاً حول القضية "الحاسمة" المتمثلة في الهجرة السرية. وهى أول قمة كذلك لقادة 5+5 منذ سقوط نظامي الرئيس التونسي زين العابدين بن على الذي فر إلى السعودية مطلع 2011 والزعيم الليبي معمر القذافي الذي قتل بعد أن قبض عليه ثوار في سرت في 20 أكتوبر 2011.

في جلسة افتتاح القمة في العاصمة فاليتا، قال الرئيس التونسي المنصف المرزوقي: "للمرة الأولى في تاريخنا، نتقاسم قيم الديمقراطية". وأكد أن التغييرات الجارية في الضفة الجنوبية للمتوسط "لا تشكل خطراً على أوروبا"، داعياً إلى "عدم الخوف من السلفيين"، ومؤكداً أن "الشعب لن يقبل أبداً أنظمة إسلامية غير ديمقراطية، إننا نريد الديمقراطية الإسلامية وليس حكم الفرد".

وأضاف الرئيس التونسي أن "أوروبا مصيرنا" وأن البلدان الأوروبية "ستجد العديد من الفرص في منطقتنا"، و"إننا في حاجة كبيرة جداً لبنى تحتية ستكون محفزة للاقتصاد الأوروبي"، مذكّراً بمشروع ربط أنظمة إنتاج طاقة شمسية بين تونس وشبكات أوروبية.وتأمل تونس في استضافة قمة اتحاد المغرب العربي بحلول نهاية السنة، كما قال المرزوقي لأنه "لا بد من بناء منطقة المغرب العربي".

أما رئيس وزراء مالطا لورانس غونزي، فقد قال في افتتاح أعمال القمة إن "المتوسط ليس حدوداً تفصلنا وإنما جسر يجمعنا جميعاً". وأضاف أن "الأحداث في شمال أفريقيا تاريخية ولها عواقب على كل الدول الأخرى"، داعياً إلى "وقف العنف" وإرساء "الديموقراطية" في المغرب العربي، وكذلك إلى "الازدهار والسلام". ويرى نفس المسؤول أن "الحوار يفسح لنا المجال نحو تعاون وثيق أكثر فأكثر". وأضاف قائلاً "يجب علينا أن نستعمل بشكل ملموس وعقلاني كل الموارد المتوفرة في البلدان الواقعة جنوب المتوسط والاستجابة لمتطلبات شعوب المنطقة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الديمقراطية".

و في ختام القمة، أكد قادة الدول العشر المطلة على المتوسط (خمسة زائد خمسة) في مالطا، على ضرورة التصدي "للأسباب العميقة" للهجرة غير الشرعية والتعاون "الفعال" في ذلك. وأضاف قادة ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا (جنوب المتوسط) والبرتغال وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا ومالطا (شمال المتوسط) في بيانهم أن السيطرة على مشكلة الهجرة السرية "تتطلب تحركاً يتم التشاور بشأنه للتصدي للأسباب العميقة للهجرة مع إرساء تضامن فعال وسريع وملموس" . وأعلن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي إثر اختتام القمة قرار المنتدى تشكيل "قوة عمل مشترك لتجميع الطاقات" للتصدي للهجرة السرية من بلدان جنوب المتوسط إلى بلدان شماله التي وصفها بأنها "أولوية ملحة قصوى".

عودة إلى موضوع الأمن

في ظل تموجات ربيع الثورات العربية، و تداعياتها الكبيرة في منطقة البحر المتوسط، عاد الكلام ليتعزّز عن موضوع الشراكة الأوروبية- المغاربية، حيث سعت أوروبا حينها إلى إعادة تفعيل دورها في المنطقة في وقت كانت أمريكا تجهد في الاستحواذ على هذا الدور بالكامل. ومن المنظور الأوروبي يشكل الأمن هاجساً حقيقياً، يتطلب معالجته.

ولهذه الغاية، أصبحت هناك مصلحة مشتركة سياسية وأمنية بين البلدان المغاربية وبلدان الإتحاد الأوروبي لجهة تحقيق الأمن، مع التأكيد على ضرورة الاستقرار الداخلي والخارجي للبلدان المغاربية. فالتهديدات تغيرت بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، وتلاشي التضاد شرق – غرب الذي كان سائداً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي كان البحر المتوسط أحد بؤره من خلال تكديس الأسلحة الهجومية وأسلحة الدمار الشامل.  وعلى الرغم من أن هذا بات حالياً جزءاً من الماضي، فإن منطقة المتوسط لا تزال تشهد انبعاث التفتت والتناقض الأشد حدة في عصرنا الراهن، والهجرات الإنجيلية، والعصبيات الدينية، والتناقضات السياسية الإثنية، والكيانات الجيوبوليتيكية الجديدة الهشة(1).

لقد تمثل تجسد مفهوم الأمن لدى الدول المغاربية ودول الإتحاد الأوروبي في التعاون المشترك من أجل مقاومة التحدي الإسلامي الأصولي، الذي ينتهج خطا سياسياً قائما على الإسلام، يعبر عن الرغبة في الاستقلال الذاتي عن الإمبريالية الأجنبية التي تعتبر نيراً للعدوان الثقافي والاستغلال المادي، ويدعو إلـى إعلان" الثورة ضد الدولة التسلطية" في المغرب العربي, التي تهيمن عليها نخبة فاسدة ومفسدة، وأصبحت أداة للتلاعب، ويؤكد في دعوته على الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية على المستوى الفردي والجماعي.

إن هذه الحركات الإسلامية ذات الطابع الاحتجاجي التي تعبر عن بعض المظالم والمطامح في المجتمع المدني المغاربي الوليد، الذي يعتبر على نطاق واسع من مستلزمات الحياة الديمقراطية التي لا غنى عنها، والذي تم افتراسه من قبل الدولة التسلطية المغاربية في عقد التسعينيات من القرن الماضي، أصبحت تمارس السلطة في كل من تونس والمغرب، و ليبيا، في ضوء الربيع العربي.

وفي الوقت الذي يعترف إعلان برشلونة بحق كل دولة (من المشاركين في مؤتمر برشلونة) في اختيار وتنمية نظم سياسية، واجتماعية/ثقافية، واقتصادية، وقانونية خاصة بها، نجده يطالب بمقاومة "الإرهاب الأصولي"، ويقدم كل أشكال الدعم الأمنية والعسكرية والمالية لبلدان جنوب وشرق المتوسط بهدف مواجهة خطر "الحركات الأصولية الإسلامية" على اعتبار أن "الإسلاميين" ليسوا ديمقراطيين على الإطلاق، من وجهة نظره، وأن آراءهم "الراديكالية والثورية" ليست ديمقراطية، كما هي تماماً آراء نظائرهم من المحافظين الدينيين والسياسيين الذين يشاركونهم في البنية الثقافية ذاتها.

لقد شكل هذا الخطاب السياسي والأيديولوجي من جانب البلدان الأوروبية، والذي ساد طيلة المرحلة الماضية، جدار برلين جديداً بين أوروبا والبلدان المغاربية، إذ كيف يمكن في آن واحد الاعتراف بحق الأمم في اختيار القيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخاصة بها، وفي الوقت عينه يطالب إعلان برشلونة دول جنوب المتوسط بإتباع مجموع القيم الإنسانية والاجتماعية المأخوذة عن التجربة الغربية الحديثة والمدمجة والاتفاقيات والمعاهدات الدولية باعتبارها قيماً عالمية؟.

وتتباين الثقافات السياسية وأساليب الحكم والقيم من أقاصي منطقة المغرب العربي إلى أقاصي المشرق والشرق الأدنى المطل على حوض البحر المتوسط. والسؤال هنا لا يتعلق باختلاف النظم بل أولاً باستعدادها لرفع الثقافة الديمقراطية الغربية لمرتبة المثل الأعلى المنشود, وثانياً قدرتها على تطبيق هذه الأنماط الغربية بشكل فعلي. وحتى إن سلمنا بأن مبدأ الديمقراطية على الطريقة الأوروبية مقبول من جميع الشركاء في جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط، يبقى حتى الدول ذات السيادة في تقرير الحاجة إلى تعجيل عملية التحول الديمقراطي، أو إلى إبطائها، أو تقييدها أو حتى تجميدها(2).

إذا كانت دول شمال حوض المتوسط قد أخذت بمبدأ الديمقراطية في ثقافتها السياسية منذ زمن بعيد، فإن دول جنوب المتوسط، تشكل استثناءً في ذلك، لجهة افتقارها عموماً إلى خبرة سابقة في ممارسة الديمقراطية، كما أن أغلبها ليس فيه إلا القليل من إمكانية الانتقال حتى إلى نسبة الديمقراطية. وإذا كان الطرف الأساسي في مسيرة يحتمل أن تكون ديمقراطية، هو الدولة أكثر منه المجتمع المدني المهزوم بطبيعته في دول جنوب المتوسط، أو الأمة، أو الطبقة، أو السوق، فان الدولة العربية في جنوب المتوسط، التي استحوذت على التراث البيروقراطي الفرنسي أو البريطاني، أو تراث الاتحاد السوفيتي السابق، هي دولة تسيطر عليها صورة الدولة التسلطية.

فعملية الانتقال إلى الديمقراطية في ظل ربيع الثورات العربية  تتطلب وجود مجتمع مدني قادر على إثبات وجوده  ومساومة الدولة، بما في ذلك وجود نقابات العمال التي تتمتع بشيء من الاستقلالية، لكن أنظمة الحكم الجديدة والقديمة في جنوب المتوسط لا تزال تتهيب أو في الأقل ترتاب من مجتمع مدني فعال وقوى أكثر مما ينبغي. ولذا فإن الديمقراطية الوليدة في كل من تونس وليبيا والمغرب، هي للدفاع عن النفس والمحافظة على وجود الحركات الإسلامية في السلطة، أكثر منها للتحرك الفعلي نحو الديمقراطية.

إن الشراكة الأوروبية – المتوسطية تضع المسألة الأمنية في سلم أولوياتها، بما يعني ذلك محاربة الحركات الإسلامية الأصولية، وما تسميه بالإرهاب، أي إدانة عمليات المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، وفلسطين المحتلة، وتعتبر الانفجار الديموغرافي والهيكل السكاني، والهجرة فيما يتعلق بالعلاقات مع المغرب العربي أهم مصادر الخوف الأوروبي. ومن هذا المنطلق، فإن أوروبا تضع الشراكة السياسية والأمنية قبل الشراكة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

كما أن الشراكة الأمنية تندرج في سياق تحقيق " مفهوم الأمن الغربي الشامل " الذي تتصدره الولايات المتحدة الأمريكية، لأن الشراكة الأمنية الغربية سابقة على الشراكة المتوسطية ومتقدمة عليها، بكل ما يعنيه ذلك من اختراق لنظام الأمن القومي العربي، ومن إلغاء له(3).

وعملت الدول الأوروبية على تعزيز التعاون الأمني بين الدول المتوسطية، فتقدمت فرنسا ومالطا بمشروع ميثاق أمني أوروبي متوسطي، رفضته الدول العربية، لذا تم تغيير اسمه، وأصبح يشار إليه بمشروع الميثاق الأوروبي – المتوسطي. ويكمن جوهر هذا المشروع في طرح فكرة "قواعد السلوك" ينبغي بموجبها على كل الدول الأعضاء في الشراكة أن تلتزم بها في نهاية المطاف.

وإذا كان من المفترض أن تشتمل هذه القواعد على التزام كل الدول المشاركة في الشراكة في حل النزاعات سلمياً، ورفض اللجوء إلـى استخدام العنف، وانتهاج خيار الحوار عند اندلاع الأزمات، إلا أن هذه القواعد عينها، لم تكن تشتمل على تعريف ملموس أوضح لمفهوم "الاكتفاء الذاتي الأمني" الذي كان قد تم الاتفاق عليه بشكل عام في إعلان برشلونة، أي أنه كان يفترض أن توضع قواعد لمستوى التسلح الذي يعد كافياً وغير هجومي.

وهكذا، فإن المفهوم الأوروبي للأمن يقوم على مسألة التعاون الأمني والإبقاء على ذلك الاختلال الجذري في التوازن الإستراتيجي بين الدول العربية والكيان الصهيوني، الذي يرفض رفضاً قاطعاً مناقشة احتكاره لأسلحة الدمار الشامل, وخصوصاً منها النووية، فضلاً عن احتلاله للأراضي العربية، والعمل على تهويد كامل فلسطين، والقدس. وهذا ما جعل بعض الدول العربية, ترفض المفهوم الأوروبي للأمن، ما دام هذا المفهوم يخدم مصلحة الصهاينة، وما دامت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها "إسرائيل" تعملان على تصفية الصراع العربي – الصهيوني، وبالتالي تصفية قضية فلسطين، الأمر الذي يتناقض جذرياً مع عملية بناء الثقة على الصعيد الإقليمي، خصوصاً وأن نهاية الحرب الباردة أفسحت في المجال  للولايات المتحدة الأمريكية لكي تفرض هيمنة القطب الأوحد على العالم، وعلى منطقة الشرق الوسط من خلال مشروع الشرق أوسطية الذي يتصدر ريادته الكيان الصهيوني لربط هذه المنطقة من العالم بشبكة مصالح أمريكا.

من هنا بات الإتحاد الأوروبي الذي يركز على المسألة الأمنية باعتبارها مسألة حيوية في التعاون الإقليمي، يربط  بينها وبين عملية السلام الجارية التي انطلقت منذ مؤتمر مدريد عام 1991، لجهة تحقيق سلام عادل وشامل بين العرب و"الإسرائيليين". ويذهب بعض المحللين إلـى أن مبادرة الإتحاد الأوروبي إزاء منطقة المتوسط، والتي عرفت باسم الشراكة الأوروبية – المتوسطية، تندرج ضمن سياق حرص الدول الأوروبية على خدمة مصالحها من خلال العودة إلـى منطقة الشرق الوسط بعد أن اخترقتها المصالح الأمريكية.  لذلك عرض على دول ضفة المتوسط الجنوبية مشروعاً يطمح في أن يجعل من أوروبا طرفاً أساسياً في هذه المنطقة الجنوبية للغرب.  فقد طرحت شراكة أوروبية – متوسطية تم التعبير عنها باقتراح نظام إقليمي متوسطي يوفر للمنطقة مظلة أمنية واقتصادية ويعزز موقعها سياسياً وإستراتيجياً(4).

إذا كانت الشرق أوسطية هي المحور الرئيسي من علمية السلام في المفهوم الأمريكي – الصهيوني، حيث يشكل الكيان الصهيوني مركزها، لجهة سعيه إلـى الاندماج في النسيج الاقتصادي والاجتماعية والسياسي للأمة العربية، فإن الإتحاد الأوروبي هو محور المتوسطية، التي تعتبر خطوة متقدمة في السياسة المتوسطية الجديدة لأوروبا تكرس هوية متوسطية لبعض العرب، وأخرى شرق أوسطية، ولن يكون ذلك إلا على حساب الهوية القومية العربية الإسلامية للعرب.

في الواقع المشروع المتوسطي يتقاطع في نقاط أساسية مع المشروع الشرق أوسطي، إن لم نقل بأن المشروعين كليهما يتكاملان. وإذا كانت علمية السلام التي انطلقت منذ مؤتمر مدريد بمبادرة أمريكية قد جاءت إثر الهزيمة العربية في حرب الخليج الثانية، وانهيار النظام الإقليمي العربي، وخضوع الوطن العربي لإملاءات واشنطن حيث أصبح تأثير الضغط الأمريكي مؤثراً في صناعة القرار السياسي في معظم الدول العربية، فإن دور الإتحاد الأوروبي تمثل في تقديم المساعدات المالية والتقنية للكيان الفلسطيني الهزيل في الضفة الغربية، الذي نشأ عن اتفاقيات أوسلو، وتعزيز عملية السلام من خلال المحافظة على بعض الزخم السياسي في الاتصالات العربية الصهيونية في الأوقات التي كانت المفاوضات الفعلية متوقفة فيها.

في المحصلة النهائية نصل إلـى الاستنتاج التالي: إن الشراكة الأوروبية – المتوسطية مثلها في ذلك مثل مشروع الشرق أوسطية، تعمل على إدماج الكيان الصهيوني في هذه المنطقة العربية. ويعتبر المشروعان أنهما يرتكزان على قوتين اقتصاديتين هما الكيان الصهيوني وتركيا، اللذان لهما اقتصاد حجمه متقارب، ويمثلان فكي كماشة بالنسبة لسورية والعراق ثم إيران ولبنان، ولديهما طموحات إقليمية اقتصادية كبرى، ويشكلان قاعدتين إستراتيجيتين تخدمان مخططات الإمبريالية الأمريكية في المنطقة، المتمثلة في الحفاظ على المصالح الأمريكية ومصالح أصدقائها باحتواء الدول المناوئة لسياستها ,خاصة العراق وإيران، وفرض الاستسلام على العرب، وضمان استمرار الأوضاع القائمة باستمرار التفوق الصهيوني وفك الروابط الدفاعية العربية، وربط الدول العربية ببلدان أخرى، ورفض أي دور عربي متكامل لأمن المنطقة، وفصل المشرق العربي عن المغرب العربي.

نقد مفهوم الشراكة الاجتماعية والثقافية والشؤون الإنسانية

تقوم الشراكة الاجتماعية والثقافية على أسس تنمية قطاعات الصحة واحترام الحقوق الاجتماعية الأساسية والعمل على وقف الهجرة السرية نحو أوروبا. إن ما يهم دول الإتحاد الأوروبي هو تحرير التجارة وحركة الرساميل والخدمات، ولكنها تعارض تحرير حركة تنقل الأشخاص، ناهيك  عن حريتهم الكاملة في التنقل في دول أوروبا – المتوسط.  فالشراكة الأوروبية – المتوسطية في هذا المجال هي شراكة غير متكافئة، لأنها تميز تمييزاً صارماً بين حرية تبادل السلع والرساميل وحرية انتقال الأشخاص، فتزيل الحواجز أمام الأولى وتضعها أمام الثانية خوفاً من المهاجرين.

وفي الوقت الذي تتحدث الشراكة عن "تحقيق تفاهم أفضل على الأصعدة الثقافية والحضارية"، فإنها في الواقع تفضل التعامل مع النخب الفرنكوفونية المندمجة كلياً في الشبكات الثقافية الغربية، ولا تعطي للهوية الثقافية العربية الإسلامية في علاقاتها مع دول جنوب المتوسط أهمية كبرى. ولأن السياسة الأوروبية المعتمدة في مجال الهجرة ومنح التأشيرات، هي سياسة انتهازية وتمييزية، لأنها لا تفسح في المجال للسكان القاطنين في جنوب المتوسط، قليلي التعليم، والذين لا يمتلكون إمكانيات مالية كبيرة، لزيارة أوروبا والتعرف على معا لمها، بينما يحصل عكس ذلك حين يكون التعامل مع أوروبا الشرقية.

فالشراكة لم تشجع إلـى حد الآن إلـى إبرام الاتفاقيات بين الجامعات الأوروبية والجامعات العربية جنوبي المتوسط، وتقوية الروابط بينهما، حيث أن هذه المزاوجة بين الجامعات سوف تسمح بتوسيع هذه الروابط على صعيد السكان الذين يعيشون في حالة من الإقصاء، ويجهلون كلياً مفهوم الشراكة الأوروبية – المتوسطية.

وما زال يسيطر على الفكر الثقافي الأوروبي نزعة المركزية الأوروبية، فانبثاق ظاهرة الإسلام السياسي، باعتباره تياراً ثقافياً منبعثاً من المجتمعات العربية – المتوسطية يدافع من أجل استعادة الهوية العربية الإسلامية للمنطقة، مع كل ما يترتب على ذلك من تبعات ونتائج وانعكاسات على الصعيد الاجتماعي والسياسي، تم التعامل معه من جانب الإتحاد الأوروبي على أنه ظاهرة " إرهابية " من دون أن يبذل جهداً من أجل التعرف على الاختلافات الثقافية والحضارية بين المجتمعات العربية المسلمة جنوب المتوسط، والمجتمعات الأوروبية. وقد عملت وسائل الإعلام في معظم الدول الأوروبية على شن حملة مسعورة على الإسلام، وتقديمه " كعدو شامل " جديد للغرب، وتشبيهه بالعنف والظلامية اللذين يغذيان كره الأجانب في أوروبا، ويخلقان ظروف الاصطدام بين أوروبا مع شعوب جنوب المتوسط والجاليات المسلمة المقيمة في البلدان الأوروبية.

فالشراكة لم تبلور أطروحة فكرية ثقافية تقر بأن البحر الأبيض المتوسط هو منطقة حوار الحضارات، لكن نظرة الاستعلاء المتمثلة في المركزية الغربية، ما زالت تقر بأنه لا توجد إلا حضارة عالمية واحدة، هي حضارة الرأسمالية. وهذه النظرة تتناقض جذرياً مع النظرة التي تقر بأن المتوسط منطقة حوار الحضارات والديانات والتسامح والتفاهم والتعددية.  فالعقل والمنطق يقران بوجود اختلافات تاريخية واجتماعية وثقافية وسياسية بين العالم الأوروبي والعالم العربي - الإسلامي، بين الضفة الشمالية للمتوسط والضفة الجنوبية له. والحال هذه، فإن المطلوب هو تغليب حوار الحضارات والديانات لا المواجهة. وفضلاً عن ذلك لا يجوز أن تستمر نظرة المركزية الثقافية الغربية مسيطرة في بلدان الإتحاد الأوروبي التي تنظر للعالم على أنه منساق في تبني القيم الثقافية والحضارية الغربية، لأن العالم متعدد الثقافات والحضارات، لا يمكن أن يكون تحت أي احتكار ثقافي وحضاري أو إصرار أحادي: Monologue.

وهناك أيضاً مشكلة الهجرة، التي لم تبلور الشراكة سياسة مشتركة إزاء معالجتها، بل اكتفى الإتحاد الأوروبي بإرغام إسبانيا وإيطاليا بالقيام بدور الشرطي في مواجهة الهجرة غير الشرعية. ويقول لنا الباحث في مؤسسة كومياس الإسبانية/الرباط, السيد بدروكاناليس بأنه: "إذا لم يكن لدى أوروبا موقف مشترك تجاه الهجرة، فذلك لأن هذه المشكلة ليست ذات طابع اقتصادي فقط، وليست ناتجة عن الحاجة للبحث عن العمل.

هناك أسباب أخرى وعوامل أخرى أكثر عمقاً ذات طابع اجتماعي وثقافي والانجذاب نحو عالم يعتقد أنه يمكن أن يتنفس فيه بصورة أفضل ويمكن العيش فيه بلا خوف والهروب من الفاقة والفقر والبؤس اليومي أو يمكن تحقيق النجاح فيه والعودة إلـى الوطن مرفوع الرأس. فالصور المؤلمة والمحزنة للناس المعتقلين والموقوفين في الجيكيراس أو لامبيدوزا وهي دائماً ذات الصور وجوه لشباب رجال ونساء مكبوتين ومحبطين قرروا أن يبلغوا أو يحصلوا على فرصة جديدة فيلقون أنفسهم في البحر(5).

وما زالت دول الإتحاد الأوروبي تغيب المعالجة الجذرية عبر الشراكة للأسباب الحقيقية التي قادت إلـى انعدام الأمن، وتدفق الهجرة غير المنضبطة، والبطالة، وعدم كفاية التعليم والتأهيل ومستويات المعيشة المتدنية، وتطور الإيديولوجيات المبنية على التعصب، واللاتسامح، والعنف، والإرهاب. ألم يكن حرياً من الشراكة الأوروبية – المتوسطية أن تعطي البعد الاجتماعي والثقافي للتنمية والعلاقات بين ضفتي المتوسط الاهتمام الذي يستحقه؟.

هوامش

1- عزوز كردون – الأمن والاستقرار في المتوسط – مجلة شؤون الأوسط – العدد 82- بيروت - نيسان /أبريل 1999(ص 17).

2- الشاذلي العياري: إعلان برشلونة: "إعلان برشلونة- تحليل نقدي على ضوء اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية"، بحث منشور في مجلة بحوث اقتصادية عربية - شهر أيار/مايو 1996(ص 21).

3- محمد صالح المسفر – الاتحاد الأوروبي وأبعاد مشاريعه المتوسطية – بحث منشور في كتاب : العلاقات العربية – الأوروبية حاضرها ومستقبلها – مركز الدراسات العربي – الأوروبي، باريس، الطبعة الأولى 1997(ص 141) .

4- محمد صالح المسفر – مرجع سابق(ص 126).

5- بدرو كاناليس – العلاقة بين إتحاد دول المغرب العربي و الإتحاد الأوروبي – بحث منشور في كتاب العلاقات العربية – الأوروبية –  الصادر عن مركز الدراسات- العربي، باريس، الطبعة الأولى 1997(ص 433).

اعلى الصفحة