تركيا وخيار الحرب ضد سوريا

 

السنة الحادية عشر ـ العدد 131 ـ (ذو الحجة 1433 هـ - محرم  1434هـ ) تشرين ثاني ـ نوفمبر ـ 2012 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

جاء تفويض البرلمان التركي للجيش بشن عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية إذا أقتضى الأمر بمثابة الانتقال إلى مرحلة الحرب المباشرة ضد سوريا بعد أن انتهجت تركيا خلال مراحل الأزمة السورية أسلوب الحرب الناعمة من خلال دعم المعارضة السورية المسلحة والسياسية وحشد المواقف الإقليمية والدولية لإسقاط النظام السوري.

ومع هذا التفويض الذي جاء عقب قصف تركي لمنطقة تل أبيض السورية رداً على مقتل خمسة أتراك بقذيفة سورية، تحولت الحدود الطويلة بين البلدين والتي تقارب 900 كيلو متر إلى أهم منطقة ساخنة يمكن أن تنطلق منها شرارة الحرب المؤجلة ضد النظام السوري.

رسائل التصعيد التركي

لقد كان القصف التركي للعديد من المواقع السورية الحدودية خلال الفترة الماضية وحشد المزيد من القوات العسكرية والأسلحة في المنطقة الحدودية أشبه برسالة سياسية تركية حاسمة، مفادها أن أنقرة انتقلت في تعاطيها مع الأزمة السورية إلى مرحلة جديدة في إطار ما سماه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بتغير قواعد اللعبة، وقد تعزز هذا الخيار في ظل قناعة حكومة حزب العدالة والتنمية بأن هذه الأزمة باتت تشكل خطراً على الأمن القومي التركي في ظل تطور العامل الكردي داخل تركيا وعلى حدودها الجنوبية داخل سورية وكذلك لاستفادة المعارضة التركية من تداعيات الأزمة السورية لجهة فضح سياسة أردوغان وتورط حكومته على الأرض في الأزمة السورية، وعليه يمكن القول إن القصف التركي لا يتعلق بالرد على سقوط قذيفة أو قذائف سورية وقعت  داخل الأراضي التركية بقدر ما يتعلق بسياسة أنقرة تجاه النظام السوري، فالمطلوب حسب الموقف التركي من الآن فصاعدا هو أفعال على أرض الواقع خصوصاً بعد الضوء الأخضر الذي حصل الجيش التركي عليه من البرلمان داخل الأراضي السورية، وعليه فان سيناريو الاشتباك أو الصدام المباشر بين الجانبين وتحوله إلى حرب بات واردا بقوة، وهو سيناريو يقوم على حصول اشتباك مباشر بين الجيشين التركي والسوري في المنطقة الحدودية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل باتت الحرب على الأبواب ؟ في الواقع، على الرغم من أن قسماً كبيراً من المحللين الأتراك يرون أن تركيا ليست بصدد الدخول في حرب ضد سوريا، وأن الخطوة التركية كانت من باب الردع وليس الهجوم، وان قرار الحرب هو في الأساس قرار أمريكي وليس تركي، فإن ثمة قناعة واسعة بأن تصعيد وتيرة القصف العسكري التركي داخل الأراضي السورية للمرة الأولى يحمل معه سيناريو المواجهة العسكرية وأن هذا الخيار بات يشق طريقه على أرض الواقع بعد تفويض البرلمان والدعم الأطلسي المحدود للموقف التركي، وأن جميع تحركات تركيا على الحدود هي في إطار الاستعداد لنقل المواجهة إلى حيز التنفيذ حيث يقول أردوغان إن قواعد اللعبة تغيرت، ولطالما أن سياسة تركيا تجاه الأزمة السورية تنطلق من حقيقة أنه لا تراجع عن خيار إسقاط النظام السوري بعد أن بلغت العلاقات بينهما مرحلة القطيعة واللاعودة، وعليه فإن القصف التركي جاء في إطار هذه المعطيات الجديدة والتي تحمل معها سيناريو المواجهة والحرب.

ويرى هؤلاء أنه على الرغم من المخاوف التركية المحلية والإقليمية من تداعيات مثل هذه الحرب على تركيا إلا أن خيار الحرب والمواجهة بين الجانبين بدأ يفرض نفسه على الأرض بعد أن بلغ التوتر على الحدود بينهما نقطة الذروة ودخل كل طرف في حرب حقيقية ضد الأخر على أرض الواقع ، فالقصف الناري المتبادل سواء بطريق الخطأ أو عن سابق إصرار وتصميم، سببه وصول العلاقة بينهما إلى مرحلة الانفجار، فتركيا التي احتضنت المجلس الوطني والجيش الحر تحولت أراضيها إلى ممر عملي لهذا الجيش وأسلحته بهدف واحد هو إسقاط النظام السوري ، أي أن تركيا باتت في موقع رأس الحربة ضد النظام السوري مع ملاحظة أن الرأس موجود في تركيا والحربة في الأراضي التركية، فيما لا يخفى على أحد أن النظام السوري والذي بات يرى في حكومة رجب طيب أردوغان العدو الأول له يسعى إلى الاستفادة من ورقة حزب العمال الكردستاني في الحرب المستعرة بين الجانبين كما يسعى إلى الاستفادة من تعاظم دور المعارضة التركية الرافضة لسياسة أردوغان حيث نظمت هذه المعارضة تظاهرات عديدة ضد الحرب التركية المحتملة على سوريا وسط استطلاعات رأي تشير إلى رفض بين 60% إلى 80% من الأتراك يرفضون مثل هذه الحرب والتورط في المستنقع السوري.

في الحديث عن خيار الحرب التركية ضد سوريا، ينبغي التوقف عند مسألتين أساسيتين.

الأولى: أن حكومة أردوغان بنت سياستها تجاه سوريا ومنطقة الشرق الأوسط عموماً انطلاقاً من معادلة إسقاط النظام السوري، وعليه بعيداً عن القصف الناري على جانبي الحدود، فإن جميع التحركات العسكرية التركية بما في ذلك دعم الجيش الحر تصبو إلى تحقيق هذا الهدف، لأن بقاء النظام السوري سيؤدي إلى إفلاس سياسة أردوغان التي قطعت جميع مراكبها مع هذا النظام، كما سيؤدي إلى تداعيات كبيرة في الداخل التركي وعلى مصداقية سياسة حزب العدالة والتنمية الخارج للتو من مؤتمره الرابع والذي توج أردوغان سلطاناً عثمانياً جديداً.

2- إن أردوغان الذي يحس بخيبة الأمل من الموقف الأمريكي والغربي عموما إزاء الأزمة السورية بات يتحرك نحو سياسة حافة الهاوية لجر هذه الدول والحلف الأطلسي إلى الحرب من أجل إسقاط النظام السوري، وهو في تحركه هذا يدرك أن لا قرار دولياً بهذا الخصوص قبل الانتخابات الأمريكية التي عطلت السياسة الخارجية الأمريكية عمليا، ولكنه يعتقد أن الموقف الأمريكي بعد الانتخابات لن يبقى على حاله، وعليه فان تسخين الأجواء وتهيئة الظروف لا بد منهما حسب أردوغان تحسباً لهذا لخيار الحرب، أي أن الوقت المتبقي إلى حين انتهاء الانتخابات الأمريكية واستلام الرئيس الجديد مفتاح البيت الأبيض هو  بالنسبة لأردوغان الوقت المتبقي لإعداد سيناريو الحرب وتهيئة الداخل التركي وحشد المواقف الإقليمية والدولية لطالما يرى أن لا مستقبل لسياسته في ظل بقاء النظام السوري.

وعليه، فإن من يقرأ مؤشرات السياسة التركية إزاء الأزمة السورية في الأيام الأخيرة لا بد أن يرى السعي التركي الحثيث لخلق واقع جديد على الأرض يدفع نحو الخيار العسكري أو الأقل يهيئ الظروف له في المرحلة المقبلة، فالتصعيد اليومي أصبح السمة الأساسية لسياسة حكومة ، وهنا ينبغي التوقف عند المعطيات والخطوات التالية:

1- تفويض البرلمان التركي للجيش القيام بعمليات عسكرية داخل الأراضي السورية على غرار ما كانت تقوم به القوات التركية في إقليم كردستان العراق من اجتياح وقصف بري وجوي ضد مواقع حزب العمال الكردستاني.

2- إرسال المزيد من القوات والأسلحة إلى المناطق الحدودية وإجراء مناورات عسكرية وتسخين الأجواء الحدودية على شكل الاستعداد للحرب.

3- عودة أردوغان وأوغلو وغيرهم من قادة حزب العدالة والتنمية إلى لغة التهديد والأوامر في إطار مقولة إن قواعد اللعبة تغيرت بعد فترة من توقف اللهجة النارية التركية إزاء النظام السوري.

4- معادلة الرد الفوري على أي قذيفة تطلق على الأراضي التركية من الجانب السوري بغض النظر عن هوية مطلقها، علماً بأن تركيا لم ترد عمليا على حادثة إسقاط الدفاعات الجوية السورية للطائرة التركية التي أسقطت في مياه البحر المتوسط في حزيران/يونيو الماضي.

5- زيادة وتيرة الدعم التركي للجيش السوري الحر وغيره من المجموعات المسلحة (الجهادية) من أجل تمكينه من السيطرة على المناطق الحدودية الشمالية وصولاً إلى مدينة حلب وريفها، حيث تشهد هذه المناطق اشتباكات عنيفة بعد أن حال القصف الجوي للجيش السوري دون مثل هذه السيطرة، واللافت أن هذا الدعم يتزامن مع إعادة هيكلة الجيش الحر كي تتناسب مع مهام المرحلة والحديث عن انتقال قيادة هذا الجيش إلى الداخل السوري.

6- بموازاة التصعيد العسكري التركي ثمة تصعيد سياسي متزامن، وقد تجلى ذلك في الطرح العلني لوزير الخارجية التركي أحمد أوغلو بأن يسلم الرئيس بشار الأسد مهامه إلى نائبه فاروق الشرع بوصفه الرجل المناسب للمرحلة المقبلة علماً أن الشرع هو جزء تاريخي وأساسي من هذا النظام.

7- دخول السلطات التركية فيما يمكن تسميته بحرب الطائرات المدنية، فمن حادثة إجبار طائرة ركاب سورية قادمة من موسكو على الهبوط في الأراضي التركية وتفتيشها بحجة وجود معلومات عن حملها أسلحة مروراً بإنزال الطائرة الأرمينية التي كانت تحمل مساعدات غذائية وصولاً إلى إغلاق تركيا أجواءها أمام الطائرات المدنية السورية، كلها مؤشرات على أنها ستواصل مسيرة التصعيد ضد النظام السوري. والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا، إلى أين سيمضي التصعيد التركي الجاري؟ وهل تركيا فعلاً بصدد شن الحرب ضد سوريا؟.

في أهداف التصعيد التركي

في الواقع، ينبغي القول إن التصعيد التركي الجاري له علاقة بمجمل سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية تجاه الأزمة السورية وما وصلت إليه هذه السياسة من مأزق حقيقي في الداخل والخارج على شكل امتحان لتطلعاتها المستقبلية، فحزب العدالة والتنمية كما ظهر في مؤتمره الرابع الذي عقد قبل أيام ربط  تحقيق تطلعاته التاريخية تجاه المنطقة العربية ومجمل الشرق الأوسط على أساس إسقاط النظام السوري، وأمام صمود الأخير بدأت تداعيات الأزمة السورية تؤثر على الداخل التركي انقساماً واقتصاداً وأمناً، وعليه فإن حكومة أردوغان باتت ترى أنه لا بد من الانتقال إلى مرحلة جديدة من التصعيد على الأرض وجر النظام إلى معارك واشتباكات حدودية بغية إرهاقه ودفعه إلى الانهيار مقابل كسب المعارضة السورية المسلحة المزيد من التقدم سواء في المناطق الحدودية وصولاً إلى إقامة منطقة أمنية عازلة وفرض حظر جوي على الأراضي السورية. وعليه يمكن القول إن التصعيد التركي على الأرض له مجموعة من الأهداف، لعل أهمها:

1- الجهوزية العسكرية للتعامل مع أي طارئ على الحدود، والتدخل العسكري في ضوء التفويض الذي حصل عليه الجيش من البرلمان، بما يشكل كل ذلك دعماً خلفياً للجيش الحر لتصعيد عملياته العسكرية بغية إقامة منطقة أمنية عازلة تصبح مقر قيادة الجيش الحر وإدارته في الداخل بغية السيطرة على المدن الكبرى ولاسيما مدينة حلب المجاورة لتركيا والتي تشكل سوقا تجارية ضخمة للاقتصاد التركي.

2– التعامل الفوري مع أي واقع كردي ينشأ على الحدود وداخل الأراضي السورية في الشمال حيث تخشى تركيا من نشوء إقليم كردي في شمال سوريا على غرار ما جرى في شمال العراق حيث العقدة التركية التاريخية من القضية الكردية والخشية من رفع أكراد تركيا مستوى مطالبهم القومية في تركيا انطلاقاً من ما جرى في كردستان العراق وسوريا.

3- انتهاج سياسة حافة الهاوية مع الأزمة السورية والعمل على جر الحلف الأطلسي إلى المواجهة  العسكرية المنشودة تركيا والانتقال إلى خطوة عسكرية كبيرة سواء عبر التدخل العسكري المباشر أو القصف الجوي إذا توافرت الشروط والمناخات.

4- اعتقاد أنقرة أن التصعيد الجاري وتسخين الأجواء والقصف المتبادل.. كل ذلك سيكون بمثابة مقدمات مهيِّئة لموقف أمريكي حاسم تجاه النظام السوري بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية.

دون شك، التصعيد التركي انتقل إلى مرحلة جديدة، مرحلة تحمل معها ملامح المواجهة العسكرية. 

تخبط السياسة التركية

أدى مجمل سلوك تركيا إزاء الأزمة السورية وانخراطها وتورطها في مجريات الأحداث بعد احتضانها ودعمها المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وتلويحها الدائم بإجراءات عسكرية تراوحت بين إقامة منطقة أمنية عازلة داخل الأراضي السورية والتهديد بعمليات عسكرية بعد تفويض البرلمان للجيش.. مجمل هذا السلوك أدى إلى انقسامات سياسية واجتماعية وطائفية داخل تركيا باتت تتهددها بالدخول في أزمة شاملة. ولعل من أهم معالم هذا الانقسام:

1- تجذر اللغة الطائفية بين حكومة حزب العدالة والتنمية والمعارضة بزعامة حزب الشعب الجمهوري، فبعد اللهجة الطائفية لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وكبار قادته، اتخذ الصراع بين الحكومة والمعارضة شكلاً طائفياً، فأردوغان لا يتوانى عن وصف زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليجدار أوغلو بالطائفي (العلوي) فيما لا يتوانى الأخير عن وصف أردوغان بـ(باديشاه) والسلطان العثماني الجديد المتطلع إلى الباب العالي، فضلاً عن وصفه بالكذاب والعميل الصغير للإمبريالية والصهيونية.

2- وبفعل العامل السابق قسمت الأزمة السورية المجتمع في تركيا بين كردي - علوي يشغل المنطقة الجنوبية من لواء اسكندورن مروراً بالمناطق الجنوبية – الشرقية وصولا إلى البحر الأسود بحكم التركيبة الاجتماعية والقومية والطائفية مقابل منطقة الشمال والغرب السنية، على شكل صراع اجتماعي طائفي بدأ كل طرف يتخندق فيه سياسيا، ولعل ما يذكي هذا الصراع هو جملة المظالم التي يعاني منها الأكراد والعلويون بفعل سياسة الإقصاء التركية الرسمية المتبعة منذ عقود وتعاظمت على المستوى الاجتماعي في عهد أردوغان.

3 – إن مجمل القوى السياسية في تركيا ولاسيما اليسارية والديمقراطية والكردية منها باتت منزعجة جداً من سياسة أردوغان التي عادت من جديد إلى ربط تركيا استراتيجياً بالغرب والتحول إلى رأس حربة في التصعيد الجاري ضد سوريا، وقد أعلنت هذه القوى رفضها الشديد لأي حرب تركية على سورية بعد تفويض البرلمان للجيش، وخرجت في تظاهرات مناهضة للحرب منددة بسياسة أردوغان الذي يريد توريط تركيا في حروب خارجية انطلاقا من سياسته العثمانية.

4- زيادة حدة الانقسام القومي التركي – الكردي على وقع ازدياد حدة المواجهات بين مقاتلي حزب العمال الكردستاني والجيش التركي الذي صعد من عملياته العسكرية في المناطق الكردية، حيث يرى أكراد تركيا زيف الخطاب التركي الرسمي الذي ركب موجة (ثورات الربيع العربي) ويطالب بالحرية للشعوب والتحرر من الحكام في الوقت الذي ينكر النظام التركي الحقوق القومية للأكراد ولا يعترف بهم كشعب مختلف له هويته السياسية والثقافية المختلفة.

5- الخشية من أن تؤدي الأزمة السورية إلى تداعيات اقتصادية خطيرة على تركيا في ظل النجاحات الاقتصادية التي حققتها حكومة حزب العدالة والتنمية خلال العقد الماضي، فقد تراجع حجم التبادل التجاري بين البلدين من ملياري ونصف المليار دولار إلى الصفر وباتت الصناعات التركية التحويلية التي غزت الأسواق السورية والعربية عبر الأراضي السورية إلى الصفر، وقد أدى فشل حكومة أردوغان في تأمين البديل التجاري إلى نقمة عارمة في الأوساط الاقتصادية والتجارية وسط خوف من إفلاس أصحاب الشركات والمعامل التركية ولاسيما في المناطق الجنوبية المحاذية لسورية، وقد أدى مجمل هذا الوضع إلى تفاقم المعارضة الشعبية لسياسة أردوغان وتورطه في الأزمة السورية.

في الواقع، من الواضح أن سبب هذه الانقسامات العميقة في المجتمع التركي هو ذهاب أردوغان إلى سياسة حافة الهاوية مع سوريا، ووصول الأمور إلى نقطة خطرة قد تفجر حرب إقليمية في المنطقة، وأردوغان في سياسته هذه حول تركيا من الدولة الإقليمية الجارة والمؤثرة إلى دولة تعاني من قضايا الأمن القومي والوطني بعد أن جعلها ممراً للمنظمات الإرهابية، وحدودها إلى مناطق توتر على شكل تخبط في كل شيء.

وسط هذه الانقسامات والخشية من التداعيات ثمة من يرى أن أردوغان قد يلجأ إلى المزيد من التصعيد ضد سوريا وإشعال حرب معها بغية شد الرأي العام الداخلي إليه وعدم السماح للمعارضة من الاستفادة من النقمة الشعبية المتفاقمة ضد سياسة حزب العدالة والتنمية. وعليه من المتوقع أن تشهد تركيا في المرحلة المقبلة جدلاً سياسياً كبيراً من النوع الجاري حالياً بين قادة حزب العدالة والتنمية وقادة المعارضة التركية والكردية، فلا يمر يوم إلا ويوجه أردوغان جملة من الألفاظ النابية لكليجيدار أوغلو فيما لا يتوانى الأخير عن وصف أردوغان بأبشع الصفات، من الغباء وصولا إلى العمالة والكذاب.

في الحقيقة، ثمة خلفيات سياسية تقف وراء مجمل السلوك التركي إزاء الوضع السوري، اختصرها في الأسباب الثلاثة التالية:

1- إن تركيا حزب العدالة والتنمية تريد كسر أو تغيير البوابة السورية من أجل ان تكون الجيوسياسة العربية مفتوحة أمام سياستها المضمرة (العثمانية الجديدة) بكل ما تحملها هذه السياسة من أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية ومذهبية وأمنية، فكسر هذه الحلقة المصنفة في (الهلال الشيعي) يعني فتح (كريدور) أمام السياسة التركية العثمانية عبر سورية تجاه الأردن وعمق الخليج العربي ومصر.. وهو ما يعني إقامة (هلال سني) محل (هلال شيعي) عبر دعم تركيا لحركات الإسلام السياسي وتحديداً حركات الأخوان المسلمين في العالم العربي.

2– إن عامل التنافس والصراع بين تركيا وإيران على المنطقة العربية قوي جداً سواء في الخليج أو الشرق الأوسط، وفي ظل هذا التنافس فان دول الخليج العربي التي لها خلافات ومشكلات وحساسيات تاريخية مع إيران ترى أن دعم الدور التركي يعد شكلاً من إشكال محاربة الدور الإيراني والاشتباك معه إقليميا، ومع صعود الحركات الإسلامية ولاسيما الأخوان المسلمين في الشارع العربي وتحديداً في البلدان التي تشهد ثورات واحتجاجات (مصر وتونس وليبيا والأردن واليمن) فإن حجم المطالبة العربية بدور تركي بدأ يأخذ طابع الاستنجاد بدولة إقليمية وهو ما تحاول تركيا استغلاله ولاسيما في الملعب السوري، فضلاً عن تقديم نموذج حزب العدالة والتنمية للحكم.

3- إن تركيا وبعد سنوات من الحديث عن نظرية صفر المشكلات والعمق الاستراتيجي والعودة إلى بنيانها الحضاري حسمت خيارها لصالح الانضمام إلى البلوك الغربي كما تحدث وزير الخارجية أحمد داود أوغلو مراراً، وما الموافقة على نشر الدرع الصاروخية على أراضيها إلا تأكيد على هذا الخيار، وفي الأساس بجب أن لا ننسى أن تركيا عضو مهم في الحلف الأطلسي ولها علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، وهي هنا تنطلق من نظرية المشاركة في الحدث واقتسام المغانم بدلاً من البقاء في مقاعد المتفرجين والانكفاء على الداخل.

اعتبارات تركية عند قرار الحرب

في الواقع، عند الحديث عن حرب تركية ـ سورية يقفز إلى سدة المشهد السياسي التركي جملة من الاعتبارات والعوامل، لعل أهمها:

1- أن تركيا تخشى من أن يؤثر اندلاع حرب نظامية بين البلدين على مسار الأزمة السورية والمطالبة بإسقاط النظام من الداخل خاصة بعد أن بلغت المواجهة بين النظام والجيش الحر وباقي المجموعات المسلحة فضلا عن  المعارضة السياسية في الخارج ولاسيما المجلس الوطني السوري مرحلة متقدمة.

2- أن أي اجتياح تركي للأراضي السورية سيحول تركيا إلى دولة احتلال لأرض دولة عربية وربما يذكر كثيرين بعودة الدولة العثمانية، وهو ما سيؤثر سلباً على صورة تركيا في العالم العربي لدى قطاعات سياسية وشعبية واسعة، فضلاً عن وجود معارضة شعبية تركية رافضة للحرب ضد سوريا.

3– أن أي حرب تركية قد تدفع بالنظام السوري إلى دعم حزب العمال الكردستاني بأسلحة نوعية ولاسيما الصواريخ المتطورة والمضادة للطائرات، وهو ما قد يفجر الداخل التركي ويجعل منه ساحة معارك كبيرة في ظل القدرات اللوجستية لحزب العمال وقدرته على التحرك والانتشار في المناطق الحدودية مع كل من سوريا والعراق وإيران وأرمينيا.

4- ثمة قناعة لدى الحكومة التركية بأن النظام السوري ينشد من تصعيده على الحدود مع تركيا تحويل مسار الأزمة السورية من أزمة داخلية إلى أزمة خارجية بامتياز بهدف تصدير أزمته الداخلية.

5- أن خيار الحرب من قبل تركيا لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار عامل حلفاء سورية، أي إيران وروسيا والعراق وحزب الله، فتركيا تدرك أن هذه الأطراف لن تقف مكتوفة الأيدي ولاسيما إيران التي تقول إن أمن النظام السوري من أمنها، وروسيا التي ترفض أي إجراء عسكري أو قرار دولي بهذا الخصوص، كما أن القرار معني بهذا الأمر مباشرة.

6- أن تركيا تدرك أن أي حرب ضد النظام السوري لا يمكن دون قرار أمريكي يجعل من جيوش الحلف الأطلسي الأداة الأساسية لهذه الحرب، ولاسيما أن سوريا دولة تمتلك قدرات عسكرية متطورة قوية، حيث الصواريخ القادرة على الوصول إلى العمق التركي إذا ما نشبت الحرب  بين الجانبين، وبالتالي فإن أي حرب منفردة ستكون بمثابة مغامرة قد تجلب تداعيات كارثية على الداخل التركي في وقت تحرص فيه تركيا على إتباع سياسة الحرب الذكية وليست المواجهة المباشرة.

في الواقع، في ثنايا التصعيد التركي بعد تفويض البرلمان الذي حمل صيغة إذا اقتضت الضرورة والحديث عن أن سياسة تركيا هي في إطار الدفاع والردع وليست المواجهة والحرب، ما يشبه النية بعدم الدخول في حرب نظامية خاصة وان الاعتبارات السابقة أعلاها هي اعتبارات حقيقية لا بد من أخذها محمل الجد تركيا، لكن ما سبق لا يعني التقليل من خيار الحرب والمواجهة بين الجانبين بعد أن بلغ التوتر على الحدود بينهما نقطة الذروة ودخل كل طرف في حرب حقيقية ضد الأخر على أرضه.

وعليه يمكن القول إنه بين سعي أردوغان إلى إسقاط النظام السوري واستعداد الأخير للمواجهة حتى النهاية، تبدو المواجهة بينهما باتت حتمية، ما لم تحصل تطورات دراماتيكية في الداخل السوري أو تتفق الدول الكبرى على مخرج سياسي للأزمة السورية. فالثابت أن المنطق التركي التصعيدي ربما يضع الجميع أمام معادلة خطرة، تتلخص في عدم فهم السياسة بإبعادها الكلية في الشرق الأوسط وتحديداً في الحالة السورية، ما أريده قوله هنا، هو أن السياسة التركية التي لم تفهم أن صفر المشكلات لا يتحقق بفتح صفحة جديدة دون حل مشكلات مزمنة في التاريخ والجغرافية فإن مسألة إسقاط النظام السوري لا يكون إلا بإسقاط منظومة علاقات إقليمية كاملة تضم إيران وسوريا وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي بل والعراق بعد رحيل القوات الأمريكية، ولعل الاستمرار في هذه السياسة يضع خيار المواجهة أمام الجميع مع الإقرار مسبقاً بأن المستفيد منها لن يكون سوى الأطراف الخارجية التي تريد إعادة تشكيل المنطقة من جديد تحت مسميات الربيع والثورة.

كاتب وباحث متابع للشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة