|
|||||||
|
منذ زمن بعيد، قامت العلاقة بين أوروبا والعالم الإسلامي على أساس الجهل كل منهما بالآخر، واتسم الموقف الأوروبي ومن ثم الغربي إزاء المسلمين بالعدائية على قاعدة التخيل والوهم لا على أساس المعرفة والإطلاع، إلى أن كانت الحروب الصليبية فانطلقت الدعاية الهستيرية ضد المسلمين لتبرير الحرب عليهم. وبنتيجة الاحتكاك المباشر، في الحروب الصليبية بين الأوروبيين والمسلمين تشكلت لدى المسلمين صورة سلبية عن الأوروبيين. وجاء حكم الدولة العثمانية في القرن الخامس عشر لتمتد سيطرتها إلى مدينة القسطنطينية عام 1453 م. وتحولها إلى عاصمة للمسلمين آنذاك، وهكذا صارت النظرة الأوروبية للمسلمين أكثر عدائية بل وتتشكل باستمرار في الآداب والفنون على أساس الفوقية والتعالي والازدراء لغيرهم من المسلمين. وقد أنتجت الثقافة الأوروبية والغربية عموماً ثقافة معادية للإسلام والمسلمين (لا على أساس معرفته وتبيّن مبادئه وأفكاره). وتوالت عبر الأجيال وراثة الصورة السلبية المتخيلة والمتوهمة للدين الحنيف وأتباعه، ليشكل ذلك مادة تحشيد مستمر ضد بلاد المسلمين لاستعمارهم والسيطرة على مقدراتهم. الأنا ... والآخر "الأنا ... والآخر"، مصطلحان متقابلان، متضادان أنتجتهما الثقافة الغربية. "فالأنا" تعبر عن المركزية والعالم أطراف. "الأنا" هي التفوق والتميز والحضارة.. و"الأخر" هو التخلف والبربرية والإرهاب والدونية. الآخر هو تفصيل ثانوي، غريب غير طبيعي.. "الأنا" هي "أنا" الغرب، هي الغرب ذاته، عالياً، متفوقاً، متميزاً، راقياً.. و"الأخر" هو بالنسبة لأنا الغرب، هو كل الشعوب الأخرى غير الغرب والتي تصبح موضوعاً للاستعمار والاستغلال والتحقير. ومن الصور العنصرية الإستعلائية الغربية في التراث الثقافي الغربي، ما قاله الكاتب الشهير مونتسيكيو عن الزنوج "حاشا لله ذي الحكمة البالغة أن يكون قد أودع روحاً أو على الأخص روحاً طيبة في جسد حالك السواد". كاتب آخر هو "رنيان" قال: جنس واحد يلد السادة والأبطال وهو الجنس الأوروبي فإذا تدلت بهذا الجنس لمستوى الحظائر التي يعمل بها الزنوج والصينيون فإنه يثور ويغضب. والواقع إن نظرة الغرب إلى الشرق المسلم والعربي بشكل خاص لها جذور تاريخية وثقافية عميقة في الغرب. ولعل أبرز ما يلاحظ تاريخياً هو تصوير التاريخ على أنه صراع بين الغرب الديناميكي والمبدع، وبين الشرق الاستبدادي والمتخلف. ومن الممكن رصد ظاهرة التحامل على الشرق، وثقافته وأديانه منذ العصور الوسطى، إلى أنشودة رولان الفرنسية وصولاً إلى عصر النهضة وحتى الأيام الحاضرة. منذ العصور الوسطى، ما بين القرن العاشر، والقرن الثالث عشر، تركت الحرب الصليبية طابعها وروحها الدينية على الفنون والأدب التمثيلي، فظهرت التمثيليات المنقولة عن الكتاب المقدس، والمؤلفة بمعرفة رجال الدين. وكانت العروض تقدم مع القدّاس أيام الآحاد وفي الأعياد الدينية، فمثلاً وبعد انتصار الحملة الصليبية الأولى، ظهرت أسطورة مفادها أن أميراً عربياً أودع كنزاً نفيساً لدى محراب القديس نقولا، وعندما عاد لتفقده وجده قد سرق، "فلم يتمالك نفسه وكاد أن يصفع التمثال، فإذا به يتحرك(التمثال) ثم يهبط من المحراب وينطلق في أثر اللصوص"، الذين هرولوا وراء القداس إلى الكنيسة وردوا الكنز إلى موضعه". فإذا العربي مأخوذ بهذه المعجزة وقد غلبه السرور فيلقي بنفسه عند قدمي القديس الذي دعاه إلى النصرانية وعبادة الإله الحق على دين المسيح، ففعل على الفور. هذا ما يظهر حلم الكنيسة بتحويل المسلمين عن دينهم، ويصف المسلم وهو في أعلى هرم السلطة ساذجاً يسلم القيادة لغيره بسهولة. وتأتي أنشودة رولان لتمجد نصراً أوروبياً على المسلمين وتبالغ في بطولات الفتى الفرنسي رولان، وهذه الملحمة تدل أصدق دلالة على الروح التي سادت أوروبا إزاء المسلمين في العصور الوسطى. فالأنشودة الملحمة الفرنسية تتغنى بالبطولات الخارقة لـ "رولان" ابن أخ شارلمان إمبراطور فرنسا، وهي بطولات تجسدت في موقعة "رونسيفو" عام 778م. التي دارت رحاها مؤخراً بين مؤخرة جيش شارلمان العائد من اسبانيا بعد فشله في الاستيلاء على مدينة سرقسطة الإسلامية، وبين مجموعة من المسلمين كمنوا لمؤخرة الجيش في القمم الصخرية لجبال "البيرينيه" واستطاعوا التغلب عليها وعلى قائدها رولان الذي رفض أن ينفخ في بوق الاستغاثة، وآثر أن يتولى بنفسه قتال المسلمين. وقد أباد منهم المئات قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة مصحوبة بنفخة ضعيفة من بوق الاستغاثة نبهت " شارلمان" فعاد مسرعاً لكي يثأر لأبن أخيه ويقضي على من بقي من جيوش المسلمين، فيفتح مدائنهم ويخترق حصونهم. وقد علق مؤرخ الأدب الفرنسي إدموند أوب على الملحمة سنة 1923 فاعتبر أن الشعوب الثلاثة التي حملت على التوالي شعلة الحضارة وسلَّمها كل منها لمن يليه: هي الهند التي قدمت شخصية " راما " في ملحمتها الشهيرة المسماة "المهابهاراتا". والإغريق الذين قدموا شخصية "أخيل" الذي تغنى هوميروس ببطولاته في الألياذة، وقدمت فرنسا كنموذج مثالي للفارس المسيحي "رولان" الذي يجسد حب الله وحب الوطن. والملاحظ أن أنشودة "رولان" حولّت موقعة "رونسوفو" إلى حملة صليبية قبل الأوان، وجعلت شارلمان الإمبراطور أباً للمسيحية بتصديه للمسلمين وبنائه الكنيسة "سان ماري لاتيني" في بيت المقدس. فجعلت منه الأنشودة شيخاً خاض الكثير من المواقع وانتصر في كثير من الحروب وحولت شخصية "رولان" إلى فارس مسيحي يقاتل أعداء الله الملحدين(لأن الأنشودة اعتمدت المبالغة والتضخيم والأسطورة). وقد وضعت الأنشودة (الملحمة) في أبياتها الأولى المسلمين بأنهم كفار يعبدون محمداً ولا يحبون الله. وهكذا نجد أن الغرب في موقفه من الإسلام ونبيه، إنما يمتلك جذوراً وتاريخاً يغذيان هذا الموقف، ويشكلان قوام النظرة المزدرية للإسلام والمسلمين (الآخر)، وقد اتخذ الأدب وسيلة لتخليد هذه النظرة منذ ما قبل الحروب الصليبية(موقعة رونسوفو بين رولان والمسلمين) وصولاً إلى عصر النهضة الأولى وإلى عصرنا الحاضر. والأسوأ من ذلك أن النظرة المزدرية للإسلام والمسلمين، كانت (ولا تزال) في منتهى الخيالية والتوهم والبُعد عن الموضوعية والمعرفة الواضحة بالدين الحنيف وأتباعه. والهدف من بث هذه الأفكار المضللة والمتحاملة على الإسلام ونبيه هو الغرس في وعي الأجيال الغربية مفاهيم وصوراً عن النبي (ص) بأنه ساحر وخداع وشهواني وأنه معادٍ للمسيح وأنه نبي مزيف، وتصوير الإسلام على أنه هرطقة. وقد وصف نعوم تشومسكي في كتابه "إعاقة الديمقراطية" نهج الحضارة الغربية إزاء الآخر (ومنه المسلم) بأنه إزالة الآخر، وأنه (حسب تشومسكي) طاعون مستمر. أما الكوميديا الإلهية التي كتبها "دانتي" وهو من أعظم شعراء إيطاليا فقد وصفت طبقات الجحيم والمطهر والفردوس في رحلة خيالية ذهنية قام بها بقيادة فيرجيليوس وحبيبته بياتريس. ويلاحظ في الكوميديا الإلهية أن دانتي أفرد للفيلسوف ابن رشد وابن سينا مكاناً في ميناء الجحيم (اللمبو حسب الكوميديا الإلهية) وهي مقر عظماء العالم القديم الذين ماتوا ولم ينالوا التعميد المسيحي. وجمع دانتي في الجحيم كل الخيرين من غير المسيحيين، فقد وضع النبي محمد(ص) لأنه السبب (حسب زعم دانتي) في انقسام العالم، ومن ثم وضع الإمام علي(ع) في الخندق التاسع من الحلقة الثامنة في الجحيم حيث مثيرو الصدامات والانقسامات الدينية والسياسية. ويرسم دانتي صورة للنبي الأكرم(ص) تجسد تركيباً سلالياً متصلباً من الشرور مع مَنْ يسميهم ناشري الفضيحة والفتنة وعقابهم المصير الأبدي، عقاب يثير الاشمئزاز. وفي عصر النهضة نجد أن الإسلام حاضراً في اهتمامات أعلام القرن الثامن عشر أمثال فولتير في مسرحيته "ما هو ميت" الذي تحدث فيها عن الرسول محمد (ص) معتمداً على مؤلفات لم يمحص فيها ولم يدقق في معلوماتها، مثل كتاب "حياة محمد" للكونت دي بولينفلي، و"سيرة محمد" لجان غرينيه. وقد صور فولتير النبي(ص) نموذجاً للتعصب والطغيان الديني، حيث يستغل مشاعر الناس لتحقيق غاياته الشريرة، ويقول فولتير إلى أحد أصدقائه: " إنني أصور محمداً متعصباً عنيفاً يجسد خطر التعصب". وقد راحت هذه الطريقة لدى فولتير تصبح مصطلحاً هو "الفولتيرانية" أي السخرية والازدراء من الأديان والزندقة والاستهتار بالديانات. إن رأي الغرب في الآخر (سواء مسلماً كان أو غير مسلم المهم أنه غير أوروبي أو أمريكي) يتواصل من جيل إلى جيل حاملاً المعاني والقيم المتخيلة ذاتها التي يتوارثها المثقفون والسياسيون الغربيون. ويورد نعوم تشومسكي في كتابه" الغزو مستمر" مقتطفات عن أوروبيين وأمريكيين في مواقع القرار والمسؤولية والتأثير. فمثلاً يقول هوغو غرمبتوس وهو قاضٍِ ودبلوماسي هولندي ومؤسس القانون الدولي: "إن أكثر الحروب عدالة هي الحرب ضد البهائم المتوحشة، ثم الحرب ضد الناس الذين هم على شاكلتها". ويقول جورج واشنطن الرئيس الأمريكي المعروف: "إن التوسع لمستوطناتنا سيجعل المتوحشين يتراجعون تدريجياً وكذلك الذئاب، فكلاهما طرائد للصيد مع أنهم مختلفون شكلاً ". جذور... ونهج إن جذور المشكلة تكمن في ثقافة الغرب القائمة على التمركز والأنا، مقابل الآخر ومنه الشرق بشكل خاص. وتشهد الثقافة الغربية ثنائيات عجيبة تندرج تحت عناوين الغرب ويرتبط به (حسب المنظرين الغربيين) الحيوية والتفوق والتمدن والديناميكية والأنا.. والشرق ترتبط به معاني الخمول والاستبداد والكفر والتوحش والآخر. وهذا كله يندرج في سياق السعي إلى إقصاء ثقافة الآخر وإحلال ثقافة الغرب مكانها، ولعل هذا من أهم الأهداف التي تسعى إليها دول الغرب من خلال السعي لتعليم لغاتها للشعوب الأخرى. ومسألة الأنا أي التمركز والذاتية مسألة في الثقافة الغربية ذات دلالة خطيرة وعميقة، إذ أنها نمط من التفكير المترفع الذي ينغلق على الذات ويحصر نفسه في منهج معين، ينحبس فيه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته. ومشكلة النظرة إلى الآخر تكمن في المنهج الغربي القائم على التخيل والأوهام لا على المعلومات والوقائع. فمثلاً الصورة المتخيلة عن الشرق العربي الإسلامي قوامها السحر، والخرافة، وألف ليلة وليلة، وعلاء الدين والفانوس السحري، وقصص شهرزاد وأغانيها... إلخ.. فيما سعى الاستشراق في بعض وجوهه ورجاله إلى ترتيب شؤون الشرق العربي والمسلم وفق نظم عقلية خاصة بالغرب تسعى لإيجاد مكانة في منظومة التمركز. وهو ما ساعد على ممارسة انتقائية مشبوهة وطمس كل ما يتناقض مع الخطاب الإيديولوجي الإقصائي الغربي. بالمقابل تسعى الآلية الثقافية الغربية إلى إظهار رفعة القيم الذاتية وتخريب قيم الآخر بتضخيم سلبياته ونواقصه عمداً وتغذية المخيال الجماعي عند الأمم بذلك. ولقد بات لدى الغرب إيديولوجية قائمة بذاتها تسعى إلى اختراق الآخر وإنقاذه من وحشيته وخموله وإلحاقه بعالم الحق(الغرب)!!.. كما يظهر ذلك في السعي إلى إظهار أن ثقافة الغرب لها أسباب ومقدمات يجب أن يأخذ بها الشرق المتخلف للحاق بالغرب، ومنها إقصاء الدين ورموزه وقيمه ومعانيه من الحياة المدنية وهو انتزاع للشرق من أهم مواقع قوته وتميزه وتحضُّره، أي الإسلام. إن الفوقية والتمركز والسعي إلى إقصاء ثقافة الآخر والسخرية من جنسه أو لونه أو دينه، لا ينبغي أن تدفع المسلمين إلى سلوك مماثل تجاه الثقافات والأديان والشعوب الأخرى. لا ينبغي ولا يصح الوقوع في فخ التمركز وإلغاء الآخر أو استتباعه، كما لا يكون بالمطابقة والتماثل مع الغرب ومسايرته بالتفكير مثله والشعور والعيش كما يعيش.. وإنما بممارسة الاختلاف من موقع الحوار والتواصل وإظهار القدوة الحسنة التي تنتج في حياة المسلم سلوكاً وحركة في الحياة، راقية مثمرة، ومشاركة في صنع الحضارة الإنسانية. ثم إن أي كلام عن حوار الحضارات لا يمكن أن يتم أو يتحقق في هذه الأجواء الثقافية والسياسية الموبؤة بأمراض الاستكبار والتعالي الغربي على الحضارات الأخرى، وفي ظل نظريات التفوّق الإثني التي تطلقها الثقافة الغربية لتبرير تقدمها واستعلائها على الحضارات الأخرى (نظرية الطبائع ومزايا الأجناس البشرية). فالحوار في هذه الظروف هو استلاب للغرب وتمثُّلٌ به، وتقليدٌ ومحاكاةٌ له، وهذا ما يريده الغرب في كل مشاريعه "التنموية" و"الثقافية" لبلاد المسلمين. وللعلم، فإنه ليس من شعار بّراق مغري تطلقه الثقافة الغربية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير، إلا عناوين لمشاريع سياسية استتباعية، فهي ليست حضارة متسامحة إزاء الحضارات الأخرى، بل تؤكد في الفعل والواقع وبشكل يومي، وفي كل مكان وزمان أنها الحضارة القائدة وذات النوعية العليا والمتفوقة.. فأي حوار يكون معها؟. أما صدام الحضارات فالواقع، هو ليس إلا صدام المستكبرين مع المستضعفين، أما الحضارات المتخلفة والمتنوعة فهي ذات جذر إنساني وإلهي يتشارك الشعوب في إنتاجها على قاعدة الإيمان بإله واحد، وإنسان واحد أكرمه الله تعالى أياً يكن لونه وعرقه وموطنه، وأي كلام عن حوار أو صدام لا بد أن يستبعد جشع وحقد المتوارين خلف الشعارات والمصطلحات الرنانة في المعسكر الاستكباري الغربي... أما أمتنا، أمة المسلمين فصلاحها... له حديث يطول. |
||||||