استراتيجيا تطبيقية: تحديات استخدام القوة في شرق أوسط متقلب
القسم الثاني

السنة الحادية عشر ـ العدد 131 ـ (ذو الحجة 1433 هـ - محرم  1434هـ ) تشرين ثاني ـ نوفمبر ـ 2012 م)

بقلم: ترجمة وإعداد: حسن سليمان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

مجلة جيش وإستراتيجية التابعة لمجلس أبحاث الأمن القومي - رون طيرا

 

المحيط الإستراتيجي لمنتصف العام 2012 مختلف نوعياً عنه قبل عدة سنوات. ففي هذا المحيط إسرائيل قد تضطر إلى استخدام قوة عسكرية تختلف مواصفاتها عن تلك التي كانت في الماضي ـ من حيث غايتها، ضروراتها، ومجالها العسكري ـ السياسي الملزم. هدف هذا المقال هو بحث بعض المميزات الخاصة لاستخدام القوة في هذا المحيط الجديد.

القسم الأول من المقال في العدد 130 تناول تحديات استخدام القوة فيما يتعلق بالقضايا الأمنية الأكثر مصيرية اليوم. القسم الثاني من المقال في هذا العدد سوف يتناول التحديات المرتبطة باستخدام القوة في بقية ساحات الاحتكاك الرئيسية لإسرائيل، من بينها غزة ولبنان.

استخدام القوة في ساحات الاحتكاك الرئيسية

الدول المتأرجحة

ثلاث دول أساسية - تركيا، مصر والأردن - كانت شريكة لإسرائيل وساهمت مساهمة كبيرة في حرية عملها الإستراتيجي. في هذه الدول الثلاث تحصل تغييرات مهمة، وبسبب أهميتها الكبيرة بالنسبة لإسرائيل يجب مناقشتها قبل مناقشة خصوم إسرائيل.

الجيش التركي (العلماني أو على الأقل كان علمانيا) كان لاعبا أساسيا في السياسة التركية، وعلى مدى سنوات عديدة رأى بإسرائيل شريكا في المواجهات ضد الإتحاد العربي، روسيا/الإتحاد السوفيتي، سوريا، العراق وإيران وفي الحرب ضد المنظمات شبه الدولة. هذه الوجهة تجسدت بتنسيق عسكري واستخباري وطيد، لاسيما بداية تسعينيات القرن العشرين. كذلك فإن الدعم السياسي من جانب قوة إقليمية إسلامية قد وفّر لإسرائيل حرية عمل ناجعة.

ولكن في انتخابات العام 2002 نضجت ثورة في السياسة التركية، وبدأت عملية إقصاء تدريجية للجيش عن مراكز القوة في الدولة ضمن جعله أقل علمانيةً. رجب طيب أردوغان، رئيس الحكومة التركية أحدث تغييرا في سياسة تركيا حيال الولايات المتحدة، أوروبا وإسرائيل. حرب لبنان الثانية أظهرت إشارات احتكاك بين إسرائيل وتركيا، عملية الرصاص المسكوب منحت أردوغان فرصة لخلق أزمة، والأسطول الذي اتجه الى غزة من قِبل منظمة IHH التركية قاد إلى حفرة عميقة. نقطة احتكاك إضافية، لا تحظى بما يكفي من الانتباه، هي حقول الغاز في شرقي البحر المتوسط. حقول الغاز هذه تم توزيعها باتفاق بين إسرائيل وقبرص اليونانية التي لا تعترف بها تركيا. تركيا ولبنان لا يعترفان باتفاقية توزيع حقول الغاز.

تركيا ليست عدوا لإسرائيل ولا يتم التعامل معها على هذا الأساس. لكن للسياسة المتبلورة في تركيا عدة انعكاسات. أولا، في هذه المرحلة، تركيا ليس شريكا لإسرائيل في توازن القوى الإقليمي. بل على العكس، هي تطمح إلى تضييق خطوات إسرائيل، وترغب بخلق أزمات معها. ثانيا، تركيا تعمّق تغلغلها السياسي والدبلوماسي إلى العالم العربي راغبةً بتنصيب نفسها كراعٍِ إقليمي. وثالثاً، تركيا تعزز تواجدها المادي في الساحة، بما في ذلك التواجد العسكري. هذه التطورات تعزز احتمال الاحتكاك بين الدولتين، وتتحول إلى جزء من مظلة الاعتبارات السياسية، الإستراتيجية والعملانية لإسرائيل.

من الصعب تقدير الظروف التي يُحتمل أن يتدهور فيها الاحتكاك بين تركيا وإسرائيل والى أي مدى يمكن أن يصل. على إسرائيل التطلع إلى تجنّب حالة تدهور مع دولة عضو بالنيتو. ولكن هناك ظروف قد تعزز خطر التدهور. في حال خرج الجيش لمعركة واسعة في غزة، في لبنان أو على ساحة حدودية أخرى، تركيا قد تحاول السعي إلى زعامة إقليمية، وذلك عبر تقديم دعم لحلفاء عرب. تقليص حرية عمل إسرائيل قد تحصل عبر وسائل سياسية، لكن لا يمكن استثناء احتمال تواجد مادي معين في الساحة. كذلك، على سبيل المثال فقط، قد تسارع تركيا إلى تقديم مساعدة إنسانية لساحة القتال، وربما يتم نقل المساعدة بمواكبة عسكرية. حصار جوي أو بحري، في حال فرضه، قد يتحول الى نقطة احتكاك بين إسرائيل وتركيا، ويجب إجراء دراسة جيدة لئلا تتفوق تعقيدات الحصار على إيجابياته. فمجرد التواجد المادي لتركيا على الساحة قد يخلق أزمات عملية غير بسيطة.

مصر هي الدولة العربية الأهم، وحتى توقيع اتفاقية السلام معها شكّل الجيش المصري التحدي الرئيسي في كل الحروب الإسرائيلية. في العقود الأولى التي تلت اتفاقية السلام بين الدولتين كان هناك واقع استراتيجي مزدوج. من جهة، إسرائيل استفادت من حرية عمل أفضل مع معرفتها بأن الحدود مع مصر هي حدود سلام. حتى في أزمات مثل حرب لبنان الأولى والانتفاضة الأولى، كانت إسرائيل متحررة من خشية فتح جبهة إضافية في الجنوب. ومن جهة أخرى، في تلك اللحظة بقيت مصر خصما سياسيا، وعملت ضد إسرائيل في مواضيع مختلفة مثل ميثاق حظر انتشار سلاح نووي الـ(NPT)، محاولات تحويل التفوق من الإتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة، وبالطبع في القضايا السياسية الإقليمية وفي منتديات دبلوماسية دولية. في عالم المصطلحات المصرية، هي عملت على "إعادة إسرائيل إلى أبعادها الطبيعية".

ولكن، في العقد الأول من القرن الـ 21 أصبحت مصر تدريجياً شريكاً استراتيجياً لإسرائيل ضد إيران وأتباعها في العالم العربي. خط الاحتكاك الإسرائيلي- العربي الأول تغير ليصبح خط الاحتكاك بين إسرائيل والسُّنة ضد الشيعة (وأتباعهم، بعضهم من السنة). هذا التحول في سياسة مصر وسّع حرية إسرائيل وقواها استراتيجياً. وقد تجسد الأمر بشكل واضح في الدعم الثنائي، الإقليمي والدولي الذي منحته مصر لإسرائيل خلال حرب لبنان الثانية وعملية الرصاص المسكوب.

في شباط 2011 طرأ تحول إضافي - هذه المرة سلبياً - عندما تم إقصاء الرئيس المصري حسني مبارك، وسلكت مصر المسار الذي يعزز قوة الحركات الإسلامية على حساب المؤسسة العسكرية القديمة. والسؤال إلى أين بقيت وجهة مصر مفتوحة، وبالتأكيد لا ينبغي التعامل مع مصر كعدو. مع ذلك ثمة عدة انعكاسات للتطورات الداخلية في مصر.

أولاً، كلما قوي موقف الحركات الإسلامية، يتزعزع موقف مصر كحليف ثابت لإسرائيل ضد أعداء مشتركين، وممنوع افتراض أن مصر في المستقبل سوف تدعم عمليات عسكرية إسرائيلية وفقا لما كانت تفعله في السنوات الأخيرة.

ثانياً، خروج إسرائيل لتنفيذ عملية عسكرية واسعة (مثلا في غزة) قد يُعتبر عاملا مثيرا للغضب في السياسة المصرية الداخلية وقد يعزز موقف التيارات المعارضة للسلام مع إسرائيل.

ينبغي ذكر، أن حماس لديها علاقات تاريخية وشخصية عميقة مع الإخوان المسلمين في مصر، وهما بنسبة كبيرة حركتان متآخيتان. وفي الواقع، على ضوء إقصاء مبارك والأزمة التي تسود علاقات حماس-إيران في ما يتعلق بدعم الرئيس السوري بشار الأسد، تظهر وجهة تعمل حماس بموجبها على إضعاف علاقتها بإيران واستبدالها بعلاقة مع الإخوان المسلمين في مصر. والمعركة التي كانت تتموقع فيها إسرائيل ومبارك مقابل إيران وحماس قد تُستبدل بمحور يضم حماس والإخوان المسلمين في مصر ضد إسرائيل. كذلك يجدر ذكر أن موقف الشارع المصري مختلف عن الماضي، وحتى في حال تسليم صناع القرارات في مصر بخطوات عسكرية معينة تقوم بها إسرائيل، فإن الرأي العام المصري قد يعارضها. وهذه الأمور تخلق علاقة مباشرة بين استخدام قوة عسكرية من قِبل إسرائيل - خصوصاً ضد حماس - وبين الديناميكية الداخلية المصرية والعلاقات الإسرائيلية-المصرية. وهذا الأمر يضيّق بالطبع حرية العمل الإسرائيلية.

بين إسرائيل والمملكة الأردنية ثمة علاقات تعايش منذ سنوات. العائلة الهاشمية تعاني من نقاط ضعف عميقة، لأنها تسيطر على غالبية فلسطينية. إضافة الى ذلك، فإن الأردن موجود عند مفترق طرق بين قوى أقوى منه - سوريا، مصر والعراق. وبسبب نقاط الضعف هذه فقد أمّنت إسرائيل للعائلة الهاشمية مظلة دفاعية عبر تحديدها بأن أي تهديد للمملكة الأردنية يشكل ذريعة حرب بالنسبة لإسرائيل. وقد اجتازت هذه الأمور الاختبار بنجاح عدة مرات، لاسيما في العام 1970. على الوجه الثاني للعملة، إسرائيل تجد بالعائلة الهاشمية شريكاً في مجالات مهمة. الأول - أصبحت المملكة الهاشمية منطقة منزوعة السلاح فعليا مقابل قوات معادية، وبشكل عام مُنع تنفيذ أي عمل معاد على أراضيها وعلى طول الحدود مع إسرائيل. العمق الإستراتيجي لإسرائيل يمتد وفقا لمفاهيم معينة حتى شرقي الأردن. المجال الثاني - نتجت شراكة إسرائيلية-هاشمية، في الحقيقة محدودة ومرهونة - بإنهاء الطموحات القومية لدى الفلسطينيين وبتوجيههم الى مسارات تقلص التهديد حيال إسرائيل والمملكة الهاشمية.

في الواقع الأردن أضعف من أن يغلق أراضيه بشكل نهائي أمام نشاطات إرهابية وقوات موجهة ضد إسرائيل، وبسبب ضعفه أيضاً اضطر إلى المشاركة في الائتلافات العربية ضد إسرائيل، لكن في معظم الوقت ومعظم المواضيع كان يؤدي دوره بالعمل التعايشي. ومن المناسب الإشارة إلى التحذير الذي أمنه الملك الأردني حسين لإسرائيل بشأن نية العرب فتح حرب يوم الغفران. واتفاقية السلام التي تم توقيعها بين إسرائيل والأردن في العام 1994 لم تكن سوى إعلان رمزي عن واقع إستراتيجي كان قائماً أصلاً على مدى عقود.

ولكن، اليوم تواجه العائلة الهاشمية تهديدات معقدة تنعكس من عدة اتجاهات، ومستقبلها يشوبه الضباب.

التهديد الأول: الغليان الداخلي في الأردن وصل إلى مرحلة أصبح يُسمع فيه علناً تحدي شرعية الملك.

التهديد الثاني: حتى القبائل البدوية، التي شكلت الركيزة الأساسية للعائلة المالكة، تشارك في الغليان ضد الملك.

التهديد الثالث: انسحاب الولايات المتحدة من العراق أخلت مكاناً لتأثير إيراني في بلاد ما بين النهرين، وإيران تصل إلى الدلتا الخلفية للأردن. ربما كانت مسألة وقت فقط ريثما تبدأ إيران التدخل في الأردن.

التهديد الرابع: خسرت العائلة الهاشمية الدعم الذي كان يؤمنه لها مبارك، وثمة شك حول ما إذا كان الإخوان المسلمون في مصر سيدعمونه ضد ثورة إسلامية.

التهديد الخامس: في حال تفكك سوريا أو تغيرها، لا يمكن معرفة ما سيكون عليه حجم التأثير  على الأردن.

تحديات ونقاط ضعف العائلة الهاشمية الأردنية لها دلالتان رئيسيتان فيما يتعلق باستخدام إسرائيل لقوة عسكرية.

الأولى: وضع تدير فيها إسرائيل عملية عسكرية واسعة على ساحة ما بينما يمارس السفير الإسرائيلي مهامه في عمان والملك يراقب ما يحصل دون أن يفعل شيئا، قد يشكل تحدياً داخلياً أردنياً غير بسيط بالنسبة للعائلة الهاشمية.

الثانية: في حال إسقاط العائلة الهاشمية لسبب ما، فإن إسرائيل سوف تخسر مُلكا مهما ساهم بشكل كبير في أمنها وقوتها الإستراتيجية. الحدود الأطول لإسرائيل قد تتغير طبيعتها. من هنا، حتى في ما يتعلق بالمملكة الهاشمية حرية عمل إسرائيل آخذة بالتقلص.

معركة عسكرية واسعة بحضور الدول المتأرجحة

مجال الربح الإستراتيجي - السياسي من معركة واسعة في إحدى ساحات المواجهة الأولى مقيد. وكنماذج على ذلك هناك جنوب لبنان وغزة.

يتمتع التشكيل الصاروخي لدى حزب الله بوفرة قوية، فهو منتشر إلى عمق لا سابقة له، ووفقاً لأخبار ترد في الإعلام، هو مُستوعب وسط السكان المدنيين في ما يقارب 160 مجالاً مدنياً. حسم حزب الله، بمفهوم سلب قدرته على العمل ضد إسرائيل عبر سلاح منحني المسار، لا يتم بوقت وبثمن منطقيين. أضف إلى ذلك، أن أية معركة عسكرية سوف تصعّب حل المشاكل الأساسية السياسية في لبنان: كونه نسيجاً طائفياً يفتقر لتماسك سياسي، وحكومة مركزية ضعيفة تجد صعوبة في فرض سلطتها على أراضيها. يمكن ضرب حزب الله، إلحاق أضرار به والتأثير على أدائه لفترة معينة، لكن يصعب تخيل معركة عسكرية تُنتج واقعاً سياسياً مغايراً في لبنان يكون لمصلحة إسرائيل. عند تخطيطها لمعركة في لبنان، يمكن لإسرائيل محاولة الاختيار بين معركة موسعة يدفع فيها الطرفان أثمانا باهظة وبين معركة محدودة تكون فيها الأثمان محدودة من الطرفين، لكن النتيجة السياسية المثلى ستكون على ما يبدو مشابهة للوضع القائم ومحدودة في جميع الحالات.

وخلافاً لحزب الله، يمكن سلب حماس قدرة عملها الصاروخية ضد إسرائيل، لكن الأمر بمرتبط بالسيطرة على قطاع غزة وتطهيره. في حال قام الجيش باحتلال القطاع، فستُثار مشكلة مفادها، ما العمل مع غزة من الآن فصاعداً؟. والأهم من ذلك، أنه يصعب حل المشاكل الأساسية لغزة عبر معركة عسكرية: "تجمع سكاني فلسطيني مكتظ، يعاني من وضع دون المستوى الإنساني، المدني والاقتصادي، ثقافته راديكالية، وكل ذلك على مقربة جغرافياً من وسط إسرائيل". الإنجاز العسكري في غزة ربما أفضل من الإنجاز المتوقع في لبنان، لكن حتى في هذه المسألة يصعب صياغة "وضع نهائي" سياسي يجسد واقعا مستقرا ومتواصلا أفضل لإسرائيل.

الإنجازات السياسية-الإستراتيجية المتواضعة التي يمكن تحقيقها في معركة عسكرية واسعة في غزة أو في لبنان، يجب بحثها وفقا لاحتمال التعقيد في العلاقات السياسية - الإستراتيجية مع الدول المتأرجحة (تركيا، مصر والأردن). لو أن الإنجاز المتوقع مقابل العدو كان مهما، لربما كان جديراً بدفع ثمن يتمثل بتدهور العلاقات مع الدول المتأرجحة. ولكن علينا أن ندرس جيداً ما إذا كان ثمة داعٍ للمخاطرة بزعزعة العلاقات مع الدول المتأرجحة، وربما التسبب باضطرابات داخلية فيها، فقط من أجل تحقيق إنجاز محدود ومؤقت مقابل العدو.

التغيرات في العالم العربي تؤمّن أيضاً علاقة جديدة إزاء تحدي الضرر المحيط (أي، مس بالمدنيين عن غير قصد). هذه لم تعد قضية إعلامية، قضائية أو متعلقة بعلاقات إسرائيل مع منظمات دولية. وارتفاع أهمية الرأي العام في اعتبارات صناع القرارات العرب يعني إمكانية ممارسة ضغوط فعالة عليهم أثناء التسبب بضرر بالمحيط.

في الواقع المتكون ثمة دلالة أيضا لشرعية ما من جانب الشارع العربي - وهذا سقف عال جدا، بحيث أن استخدام القوة العسكرية من قِبل إسرائيل سوف تجد صعوبة في مواجهته، إن كان الأمر ممكناً عموماً.

إحدى المشاكل الرئيسية هي بالطبع أن إسرائيل ليست الجهة الوحيدة التي تقرر بشأن إدارة مواجهة عنيفة أو تجنبها، حتى خصومها يتخذون قرارات بالموضوع، كلما تقلصت حرية عمل إسرائيل، تتسع، على الأقل ظاهرياً، حرية عمل أعدائها. فتقدير حرية عمل حزب الله في المحيط المتقلب هي مسألة معقدة، لأنه مرتبط أيضاً بموقف إيران واعتباراتها، بالتطورات الداخلية في سوريا، بالعلاقات الطائفية في لبنان، بعمل محكمة العدل الدولية بقضية مقتل رفيق الحريري وغير ذلك. مع ذلك، فإن هذا النسيج المعقد لمصالح حزب الله قد يُنتج لديه، في ظروف معينة، حافزاً لتصعيد مقصود مع إسرائيل.

حتى تحليل حرية عمل حماس ليس بسيطاً، والمنظمة تواجه ضغوطات مختلفة. ولكن، في تقدير وجهات العمل المحتملة لدى حماس يجب الأخذ بالاعتبار تغير الواقع، بما في ذلك ارتفاع وزن  الحركات الإسلامية في مصر، ضعف محور القدس-القاهرة، الأزمة في علاقات حماس-إيران وزعزعة السيطرة المصرية في سيناء. حماس، أو على الأقل تيارات داخلها، تقيم حالياً علاقات (إلى حد ما منافسة) مع طهران، القاهرة وأنقرة. وللقرابة المتعززة بين الإخوان المسلمين في مصر وحماس ثمة جانبان: من جهة، منظومة الضغوطات التي فُرضت على القيادة المصرية قد تشكل عاملاً لكبح حماس (وهذا هو ظاهر الأمور في الشهور الأخيرة). حتى تعزز المميزات السياسية لحماس-غزة يشكل عاملاً كابحاً.

من جهة أخرى، التقارب بين حماس ومصر قد يخلق لدى حماس شعورا بتوسيع حرية العمل ضد إسرائيل. ففي مرحلة ما قد ترغب حماس في تحدي ما تبقى من علاقات إسرائيل - مصر عبر جر إسرائيل إلى عملية عسكرية واسعة في غزة. وخلافاً لأدائها في الشهور الأخيرة، فهي قد تستخدم تشكيلها الصاروخي بحجم وبشكل لن يتركا للحكومة الإسرائيلية خياراً إلا الخروج لعملية واسعة في قطاع غزة. وفي حالة كهذه يجب فهم المصيدة السياسية التي تنصبها حماس، والسعي إلى تجنبها قدر المستطاع.

المفهوم أن من جهة، الثمار السياسية - الإستراتيجية المحتملة التي ستنتج عن عملية في غزة أو في لبنان قد تكون قليلة، وأن من جهة أخرى، الثمن واحتمال التعقيد في مجال العلاقات مع الدول المتأرجحة كبيران، من شأنه إيصال المخطط العسكري الإسرائيلي إلى عدة نتائج.

النتيجة الأولى: في الظروف القائمة حاليا يجب قدر الإمكان تجنب الخروج إلى معارك موسعة قد تؤدي إلى ضرر كبير في المحيط. عند حصول حادثة عنيفة أو دراسة خاطئة. يجب التطلع إلى استخدام قوة بشكل يتيح الخروج سريعا من دائرة العنف، ويمنع تصعيدا غير مرغوب به.

النتيجة الثانية: في الحالة التي يختار فيها العدو التصعيد عمدا، وتصبح المعركة الموسعة حتمية، يجب توسيع مداها ودراسة التأثير السياسي-الإستراتيجي للخطة العسكرية على المنطقة بكاملها، بما في ذلك الرأي العام في الدول المتأرجحة.

ظاهرياً، هذه هي بالضبط الظروف التي كان يجب أن يبحث فيها الجيش خططا لوضع دفاعي أساسي. والمشكلة هي أنه على ضوء نموذج الحرب الحالية لحزب الله وحماس ثمة ضرورة لتوضيح مسألة ماهية الوضع الدفاعي الأساسي في هذا المجال.

عندما ينفذ عدو هجوماً بنيران منحنية المسار من عمق أراضيه باتجاه الأراضي الإسرائيلية وهو في وضعية دفاع أرضي (مفهوم يُطلق عليه دفاع هجومي)، ليس واضحاً أي مضمون تنفيذي خاص يمكن مزجه بدفاع عسكري.

ظاهرياً، من أجل التأثير على تشكيلات العدو النارية ثمة حاجة للوصول إليها بالنيران أو عبر المناورة، لكن هذه التشكيلات موجودة في عمق العدو وفي منطقة سكنية مدنية. ولذلك، يجب دراسة ما إذا كانت هذه هي الطريقة الممكنة الوحيدة لاستخدام القوة سواء في حالات دفاع استراتيجي أو في حالات هجوم استراتيجي (إن أمكن عموما التمييز بينهما في هذه الظروف)، أم أن ثمة طرقاً أكثر فعاليةً لاستخدام القوة.

المخطط العسكري يجب أن يبحث عن طرق عمل تحدد حرية العمل الإستراتيجية للعدو على مواصلة القتال، وتقنعه بإنهاء دائرة العنف الحالية، أيضا دون التغلب على العدو. يجب دراسة ما إذا كان من الممكن العمل في مجالات وفي ظروف تتيح تقليل الاحتكاك بالسكان المدنيين لدى العدو، تجنب احتلال دائم لمناطق، والحفاظ على شرعية استخدام القوة. وبسبب الترابط الدائم بين ساحات القتال يجب أيضا بحث ما إذا كان الصواب الالتزام بساحة معركة معينة أم أن الأهم هو الحفاظ على قدرة الانتقال السريع بين الساحات. المخطط العسكري يجب أن يضيف إلى مظلة اعتباراته (كاعتبار غير استثنائي) شرعية العمليات الحية والمناورات بنظر الرأي العام في مصر، الأردن وتركيا. الحصول على الشرعية ليس محصوراً بفترة القتال، ويجب العمل على ذلك بشكل مكثف قبل استخدام القوة وبعده.

في حرب الأيام الستة تواجهت الأطراف المتعادية في صراع متناظر، ويد إسرائيل كانت هي العليا. منذ العام 1967 تتميز الصراعات العنيفة التي تواجهها إسرائيل، بسعي أعدائها إلى تقييد قدرتها على تطبيق قدراتها العسكرية. وقد حصل الأمر بطرق متعددة: استخدام منظمات شبه دولة، استيعاب المقاتلين وسط المدنيين وطمس الحدود بين المدني والعسكري، طمس الحدود بين حرب وتهدئة، وخلق أوضاع مرحلية تُستنزف فيها إسرائيل لكنها لا تخرج إلى معارك واسعة. ربما ستتاح المرحلة المقبلة من عملية تقييد حرية عمل إسرائيل العسكرية نتيجة استغلال الدول المتأرجحة من قِبل أعداء إسرائيل، وذلك بمستويين. في المستوى السياسي-استراتيجي اعتبارات إسرائيل سوف تشمل علاقاتها مع الدول المتأرجحة، ولذلك فهي سوف تضبط نفسها أكثر من السابق.

وفي الطبقة التكتيكية والمادية - يمكن أن يحاول أعداء إسرائيل أن ينتجوا لأنفسهم مستويات حرية جديدة عبر عملية من أراضي دول متأرجحة، وبالقرب من ممتلكاتها، بما فيها العسكرية.

خلاصة: من ساحة معركة معزولة إلى ساحة حرب متعددة اللاعبين

في العقود الأخيرة عملت قوات جذب قوية جرت مختلف اللاعبين إلى تكتلات إستراتيجية متينة، وطمست الخلافات فيما بينهم. قوات جذب كهذه عملت، على سبيل المثال، في الصراع التكتلي للحرب الباردة وبدءاً منذ العام 1991 عملت بين المعسكر الموالي لأمريكا وذاك المعادي لها. ولكن بسبب ضعف السيطرة الأمريكية وتغييرات إضافية حصلت على الساحة ضعف قوات الجذب، ازدادت حدة تضارب المصالح بين مختلف الدول، وأصبح نسيج العلاقات بين اللاعبين معقداً. ولذلك فإن، في الواقع المتكون، الانقسام الواضح بين عدو وحليف يتبدل بإجراءات أثيرها على لاعبين هم من جهة ليسوا أعداءً، ومن جهة أخرى غير منسجمين معنا، لكنهم يعملون في ساحة المعركة وذوو صلة بالديناميكية الإستراتيجية. وهذه الظاهرة تتطلب تنسيقا عسكريا - سياسيا أقوى مما كان عليه الوضع في الماضي.

هذا الوضع يتعلق بالتحدي النووي الإيراني، حيث أن التأثير الأهم لاستخدام القوة ليست على العدو بل على الحليف - الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الوقت ذاته الأمر متعلق بساحات المواجهة الحدودية. فمنذ ثمانينيات القرن العشرين اعتادت إسرائيل على إدارة حروب كانت تقتصر على ساحة معركة واحدة ومنعزلة، ومعظم الأزمات التي خبرتها كانت ثنائية الجانب. يبدو أن هذا الواقع لم يعد قائماً، ونحن نواجه نسيج علاقات معقداً بعضها سيتم إنتاجه وصياغته فقط نتيجة للحرب.  

اعلى الصفحة