شبهات حول منطق القوة في الإسلام
قراءة تحليلية نقدية في التفسير الاستشراقي

السنة الحادية عشر ـ العدد 131 ـ (ذو الحجة 1433 هـ - محرم  1434هـ ) تشرين ثاني ـ نوفمبر ـ 2012 م)

بقلم: الدكتور الشيخ علي ناصر(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إنَّ ما يميِّز الإنسان عن غيره من المخلوقات أنه قوة عاقلة، وهذا ما ينبغي أن يكون، إلا أن الواقع يشير إلى أن البشرية كانت ولا زالت تعيش أنواع الحروب المختلفة، وذلك بسبب الكذب والافتراء والاتهامات المفبركة، والأطماع اللامتناهية، وتجاوز الحدود، والتعدي على الأبرياء، والإساءة إلى المقدسات، بعيداً عن الحوار الصادق والبناء، وقريباً من شريعة الغاب، حيث يقهر القوي الضعيف.

وضمن سياسة ممنهجة، وطويلة الأمد، لا يزال الغرب يشن هجومه على الإسلام والمسلمين، تارةً على القرآن الكريم، وأخرى على النبي العظيم بل الأعظم، وثالثة على سلوك بعض المسلمين، بل على شرذمة قليلة ممن فهموا الإسلام خطأ، أو كانوا منافقين يتظاهرون بالإسلام ويضمرون العمالة لأعدائه، ليتم تعميم هذه الصورة المشوهة على سائر المسلمين تمهيداً لإسقاطهم وهزيمتهم من الداخل.

وفي ظل العمل على توهين المقدسات الدينية، والهجمة الشرسة على الرسول الأكرم (ص)، ومن خلال استعمال وسيلة الإعلام، تارةً بواسطة رسوم كاريكاتورية تنشر في مجلة، وتارة أخرى من خلال حرق القرآن الكريم، وثالثة من خلال فيلم مسيء يظهر النبي(ص) على أنه متعطش للدماء، وزير نساء، ومحب للسلطة والتسلط، بعيداً عن قيم الرحمة، والعدالة، والإنسانية، والعالمية، وفي توقيت مريب، يهدف إلى خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط، وزرع الفتن بين المسلمين من جهة، وبينهم وبين المسيحيين من جهة أخرى، حتى تستنزف طاقاتهم، وتخور قواهم، ويعيشون حالة إحباط ويأس، ويسهل عليهم الاستسلام لأعداء الأمة.

ولا بد لنا في هذا المبحث من الإطلالة على عالم الاستشراق، ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حضارته، وأديانه، وآدابه، ولغاته، وثقافته. ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة، وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة، معبِّراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما.

أولاً- مواقف الأنبياء أمام الطغاة:

لو استقرأنا مواقف الأنبياء أمام طغاة أقوامهم، فلن نجد واحداً منهم ابتدأ دعوته بالمجابهة والتحدي، إلا بعد أن يُحاور الآخر بشجاعة وهدوء ورباطة جأش، وييأس من جدوى الاستمرار فيها، ويصرُّ الكافرون على كفرهم، وحربهم لرسالة الله إلى البشرية، ولعلَّنا من خلال مراجعة تاريخ الأنبياء وأساليبهم في الدعوة إلى الله تعالى، نجد أنها تمر بمرحلتين:

1- مرحلة الدعوة باللسان والبيان، كي يغيِّر المشركون مواقفهم العدائية تجاه الرسالة والرسول، مرغِّباً لهم بالمغفرة والفوز العظيم، ومخوِّفاً من عذاب أليم أصاب من سبقهم من أمم.

2- مرحلة المعاملة بالمثل ومواجهة التحدي بالتحدي، ليس بهدف الانتقام أو التشفي، وإنما بهدف تخليص البشرية مما تعانيه من شقاء، ومنع الفتنة، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾(1). وهذا منطق الفطرة الإنسانية، والقوانين الوضعية، إذ إن العقل والشرع والقانون يحكم بمعاقبة المجرم، والمعتدي على أنفس الناس، وأعراضهم، وأموالهم، دون وجه حق. وبذلك يتبيَّن لنا فلسفة الإسلام في الحرب، فهي بالنسبة إليه وسيلة لا محيص عنها لوضع حدٍّ لتعدي الجبابرة، الذين يقفون بين الناس وبين إشراق النور الذي أضاء ما حوله، عابراً حدود الزمان والمكان، فهو نور هداية البشرية في كل عصر ومِصر. وليست غاية الحرب في الإسلام القتل للقتل(2).

إن القارئ بعمق وإنصاف للسيرة النبوية الشريفة يجد أن الأصل في الإسلام هو عدم الاعتداء على الآخرين، وعدم ممارسة العنف إلا بمقدار الضرورة، وما يُرجى به الفتح. ولكن العالم الذي نعيش فيه اليوم عالم لا يفهم إلا بالقوة، عالم لا يحكمه القانون الدولي، عالم لا يعطى فيه الضعيف حقه، ولا يُحاسب فيه القوي، عالم تُرتكب فيه المجازر على مرأى من الناس ومن كل المنظمات الدولية، ومع ذلك لا يُحاكم الظالم، ولا يُعَوَّض على الضعيف. في مثل هذا العالم يحكم العقل بامتلاك كل وسائل القوة لكي تحافظ أمتنا العربية والإسلامية على وجودها.

ثانياً -الرد على شبهات بعض المستشرقين:

الاستشراق تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم. وفي هذا الإطار فإننا سنطل على شبهة من شبهات المستشرقين، والمثقفين الغربيين، حيث يذهب بعض المستشرقين إلى اتهام الإسلام بأنه قام على القهر والغلبة، وانتشر بواسطة السيف، وأن غزوات المسلمين لم يكن الغرض منها إلا السلب والاستيلاء. وفي ذلك بعد عن جوهر الإسلام وحقيقته، وعدم إنصاف الواقع التاريخي، وعدم فهم لآيات القرآن وعلومه، ولأحاديث الرسول وآل بيته الأبرار الميامين.

وينشر بعض المستشرقين، كالدكتور إسرائيل ولفنسون، شبهات حول الإسلام، تنطلق كالسهم الخفي فتزرع الشك في عقول الناس، قائلاً: "كان النبي (ص) في أول الأمر يرجو أن يدخل اليهود في الإسلام بطريق المجادلة والمناقشة، فلما لم تنجح معهم هذه الطريقة صبر عليهم حتى يوم بدر، حيث صارت الظروف ملائمة للدخول معهم في حرب دموية.. وكان المهاجرون ينتظرون بفارغ الصبر نتيجة مقاومة اليهود في يثرب لأن حالهم كانت سيئة جداً، إذ لم يكن لهم مال، ولا مزارع، ولا منازل"(3).

ويصوِّر ولفنسون أن هدف النبي (ص) من الحرب هو إكراه اليهود على إتباع الإسلام، أو قتلهم، ونهب ثرواتهم. وهذا افتراء لأن النبي (ص) ومنذ وصوله إلى يثرب، التي أصبحت تسمى بعد هجرته إليها بالمدينة المنورة، دعا اليهود إلى الإسلام فآمن منهم عدد قليل، وبقي الآخرون على دينهم، فعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم(4)، وفق ما يسمى بدستور المدينة، أو الصحيفة(5). واتفق الطرفان على أن يعيشوا مع بعضهم بسلام، في وطن واحد آمن، يكون الجميع فيه مواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات، ويحتفظون بأموالهم، وديارهم، ويمارسون حياتهم وعملهم بشكل طبيعي، شرط أن لا يتعاملوا مع كفار قريش، ولا يتآمروا معهم على المسلمين. لكن اليهود، ولاسيما بنو قريظة، نقضوا هذا العهد والميثاق في أحلك الظروف، وخانوا الأمانة، وطعنوا المسلمين في الظهر(6).

وخير شاهد على نظرة الغرب المشوَّهة إلى الإسلام، وعلى ظهور الحق على الباطل، ما كتبته راهبة كاثوليكية رومانية: "لقد نسجوا.. صورة مشوهة عن الإسلام، وكان هذا يعكس مخاوفهم الدفينة منه. لقد شجب العلماء الغربيون دين الإسلام.. ونبيه محمداً، بدعوى أنه المدعي الأكبر الذي أسس ديناً عنفياً استخدم السيف كي يفتح العالم. وهكذا فقد أصبح دين محمد.. بُعْبُعاً للناس في أوروبا تستخدمه الأمهات في إخافة أطفالهن عندما لا يمتثلون لأوامرهن. كما صُوِّر في المسرحيات الصامتة على أنه عدو الحضارة الغربية الذي حارب قديسنا الشجاع جورج. أصبحت هذه الصورة غير الصحيحة عن لإسلام إحدى المثل المتوارثة في أوروبا، وهي ما تزال تؤثر على مفاهيمنا عن العالم الإسلامي.. معظم الغربيين لا يعرفون ما يكفي عن التراث الإسلامي.. لذا فإنه لحكم غير دقيق وجائر أن نضع الإسلام في مجال غير مقدس.. فالإسلام في حقيقة الأمر يشارك اليهودية والمسيحية في كثير من المُثُل والرؤى"(7).

وللمزيد من التوضيح فإن وجود كثير من غير المسلمين في البلاد الإسلامية، من دون أن يتعرضوا لأي اضطهاد في عقيدتهم من قِبَل الحكم الإسلامي، يدل على أن الإكراه على الدخول في الإسلام لم يكن هدفاً للتشريع الإسلامي. كما أن هناك أكثرية إسلامية في مناطق عديدة من العالم لم يدخلها الفتح الإسلامي، انطلقت فيها الدعوة بكل هدوء وبساطة، لتدعو الناس إلى دين الفطرة بعيداً عن الحواجز العدوانية، ما يوحي بأن الدعوة بالحكمة، والموعظة الحسنة، والقناعة الذاتية بأحكام الإسلام ومفاهيمه، لا بالقوة الفاتحة، هي التي ساهمت في انتشار الإسلام.

ولعلَّ ما حدث في صدر الإسلام في فترة السلم الذي تلا صلح الحديبية بين قريش والمسلمين، وكانت فترة السلم سنتين، خير دليل على أن انتشار الإسلام لم يكن بالإكراه، بل بالحوار والمنطق، والإيمان بالعقل، والاطمئنان بالقلب، إذ يقول المؤرخون إن من دخل الإسلام في هاتين السنتين أكثر ممن دخلوه في المدة التي تقرب من عشرين عاماً، إذ إن القوم قد اصطلحوا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فما فُتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾(8). فلما كانت الهدنة، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث، فلم يُكَلَّم أحدٌ في الإسلام، يعقل شيئاً، إلا دخل فيه، ولقد دخل تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، فما فُتِح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، والدليل عليه أن رسول الله (ص) خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف(9).

أضف إلى ذلك فتح مكة، فهو خير شاهد تاريخي على رحمة الإسلام. لقد كفر أهل مكة بالنبي(ص)، وبدين الله الجديد والخاتَم، وأصروا على عبادة الأصنام، وعذبوا النبي(ص) ومن آمن معه لسنوات طويلة، وحاربوا الإسلام والمسلمين بكل ما أوتوا من قوة، وخاضوا معارك ضارية معهم، وتشهد على ذلك بدر، وأحد، والأحزاب، بغية كسر شوكة المسلمين، والقضاء عليهم جميعاً، ومحو رسالة الإسلام من كتب، وعقول، وقلوب الناس أجمعين. إلا أنهم فشلوا وخاب منطقهم أمام حكمة النبي(ص)، وانهزموا أمام رهبة المسلمين وشجاعتهم، وانطفأ نورهم أمام وهج الإسلام المحمدي الأصيل. ومع ذلك لم يثأر النبي(ص) منهم عندما أظهره الله عليهم، ولم يهتك لهم حرمة، ولم يذبح أبناءهم، ولم يستحي نساءهم، بل رحمهم، وعهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من يقاتلهم، وأنَّ من دخل دار أبي سفيان(10) فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. إلا أن النبي(ص) قد عهد في نفر سماهم، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، لعظيم ما ارتكبوه من الكفر والعدوان(11).

ثالثاً -تحقيق أسباب العزة والكرامة:

إن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وهو يأمر المؤمنين بعدم اليأس والخوف، وبتحقيق أسباب العزة والكرامة بشكل دائم، فقد ورد في القرآن الكريم أمره تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾(12). إن الدين والعقل يأمران بالدفاع عن النفس على المستوى الفردي، وبالدفاع عن الوجود على المستوى الاجتماعي، ومواجهة الظالم المعتدي والمتوحش. فمن كثرت أجناده هابه أعداؤه وحساده، ومن كثر جيشه قل خوفه وطاب عيشه، فإذا ما أخذ المسلمون بأسباب القوة، وأعدوا واستعدوا، واتخذوا الردع لهم غطاء، فسيكفيهم الله شر أعدائهم الذين سيهابونهم، فيتحقق لهم حينئذ في أعين عدوهم مفاد قوله تعالى:﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾(13)، وقوله تعالى: ﴿وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾(14).

أما إذا وهن جنود المسلمين، وضعفوا، واستكانوا، تجرَّأ الكفار عليهم، وتخللوا ديار الإسلام، وانقطع السلك، وتبتَّر النظام. فإذا أهمل المسلمون الردع والاستعداد بالقوة فسينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾(15). فلا بد من التزام الحذر، وإظهار القوة والجلد عند تغيير الأحوال بالخوف، وإظهار الرغبة في الأبطال والعدو، وحبّ الخروج إلى الجهاد، كي نوحِّد صفوفنا، ونرفع من معنويات جنودنا، ونهزم العدو نفسياً، فيسهل علينا تحقيق الظفر عليه بأقل الخسائر البشرية، والمعنوية، والمادية، والزمنية.

ويجد العلامة فضل الله أن الإسلام يدعو إلى امتلاك أسباب القوة باعتبارها قيمة كبيرة من القيم الحياتية التي يطلبها الإنسان لذاتها، ووسيلة عملية لمواجهة التحديات وصنع الحياة، وتثبيت القيم الحقة فيها، بما فيها من فكر، وسلاح، ومواقف، ووسيلة لمواجهة الذين يريدون أن يحولوا بين رسالة الإسلام وبين الناس، ووسيلة لحماية رسالة الإسلام من العدوان، وحماية أتباعها من الاضطهاد والنفي والتعذيب والفتنة عن دينهم، فيكون الجهاد بذلك تشريعاً واقعياً عادلاً، لا يبتعد عن طبيعة الحياة في حسابات الخير والشر، ولا يختلف حاله في ذلك عن حالة السياسات الدفاعية، والوقائية، والهجومية، التي تخطط لها كل الدول، والتي تتجاوز حدودها الجغرافية(16)، وأن تحقيق واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يحتاج إلى وجود القوة التي تقف في وجه الطغيان، فالله تعالى ألزم المسلمين كافةً بملاحقة عملية الانحراف الديني المتمثل بتمرد الفرد على إرادة الله في عباداته ومعاملاته، والانحراف الاجتماعي المتمثل في سلوك الفرد والمجتمع الذي يبتعد عن خط المصلحة العامة، والانحراف السياسي المتمثل في أوضاع الحكم الظالم ضد الضعفاء، والتمييز بين الخاصة والعامة، ما يُحَوِّل عملية الحكم إلى طغيان وعدوان على البلاد والعباد، باسم المحافظة على قوة الحكم والنظام، والانحراف الاقتصادي الذي يتمثل في سياسة الاحتكار، والاستغلال، والغش، والربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وسرقة الموارد الطبيعية، والرشوة، ومنع حقوق الجماعات المستضعفة(17).

لذلك لا نستطيع إلغاء دور القوة، كعامل جذب طبيعي في أية دعوة إلى دين جديد، فالناس بطبيعتهم ينجذبون إلى القوة بكل أنواعها، سواء منها الفكرية، أو السياسية، أو الاقتصادية، أو العسكرية، أو التكنولوجية. ولعلَّ عام الوفود خير شاهد تاريخي آخر على ذلك، إذ قاتلت ثقيف الرسول(ص)، وقتلت زعيمها عروة بن مسعود الثقفي، الذي أسلم على يدي رسول الله(ص)، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، رجاء أن لا يخالفوه، لمنزلته فيهم، إذ كان فيهم مُحَبَّباً مُطاعاً، فلما أظهر لهم دينه الجديد، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً، ثم إنهم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، فبايعوا وأسلموا في شهر رمضان سنة تسع للهجرة(18)، التي سميت "سنة الوفود".

والواقع أنه حينما جاءت قبيلة ثقيف، التي تسكن في بلدٍ كبيرٍ، مشهورٍ، كثير الأعناب، والنخيل، يقع شرق مكة، ويسمى الطائف، وطلبوا منه أن يعطيهم فرصة لعبادة أصنامهم، وأن لا يفرض عليهم الصلاة، وأن لا يكسروا صنمهم - (اللات) الذي كانوا يعبدونه في الجاهلية- بيدهم، قَبِلَ رسول الله (ص) بهذا الأخير، ورفض الأولين. كما أنهم طلبوا منه أن يسمح لهم بالزنا، وشرب الخمر، والربا، فرفض ذلك، ولم يأخذ بعين الاعتبار أن هذه قبيلة تريد أن تُسلم، فيتقوى بها الإسلام، ويضعف بذلك جانب أعدائه(19).

أما قريش فكانت إمام العرب وهاديهم، وأهل البيت والحرم، وهي التي نصبت لحرب رسول الله(ص) وخلافه، فلما افتتح رسول الله (ص) مكة، ودانت له قريش، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، وبايعت، عرف العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله (ص)، ولا عداوته، فضربت إليه وفود العرب من كل وجه، ودخلوا في دين الله أفواجاً، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(20).

الخاتمة:

من هذا المنطلق فإن إعداد القوة ليس بالضرورة أن يكون بهدف التسلح، فامتلاك تكنولوجيا الصناعة النووية السلمية، بداعي تحقيق الأغراض العلمية، والصناعية، يفك ارتهان الدولة الإسلامية لبعض الدول المستكبرة، لأن الاستقلال السياسي لأي دولة في العالم مرهون بقوة نموها الاقتصادي، وقدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي، ولاسيما أن السائد في عالمنا المعاصر هو استخدام القوة في الروابط الدولية، ونقض حقوق الإنسان، والحقوق الدولية. وخير دليل على ذلك ما يحصل لإيران من حصار اقتصادي مطبق، تقوم به الولايات المتحدة وحلفاؤها، بهدف إخضاع إيران، وجعلها تستسلم لسياساتهم، وهي الجمهورية الإسلامية الوحيدة في العالم، التي رفعت شعار "لا شرقية، ولا غربية"، والتي مارست شعاراتها حول السيادة والاستقلال الحقيقيين على أرض الواقع، ودفعت ثمن عزتها وكرامتها غالياً، وهي لا تزال تأخذ بأسباب القوة، آخذة بمنطق القرآن، الذي يدعو إلى السعي لامتلاك كل ما يجعل من الدولة الإسلامية قوية، ومن الأمة الإسلامية عزيزة، وهذا ما يجعل العدو يحسب ألف حساب قبل أن يعتدي على بلاد المسلمين، وكرامتهم، ومقدساتهم، ولاسيما النبي الأعظم محمد بن عبد الله(ص)، حيث قال تعالى:﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ..﴾(21).

باحث في الشريعة والقانون الدولي، من لبنان(*).  

هوامش

(1) سورة البقرة، الآية: 193.

(2) شمس الدين، محمد جعفر، الحرب في الإسلام- أهداف وتكتيك واستراتيجيا ومفاعيل من خلال سورة الأنفال، ط1، بيروت-لبنان، دار الهادي، 1428هـ-2007م، ص: 126-130.

(3) ولفنسون، إسرائيل، تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ط1، الجيزة-مصر، دار قطر الندى، 1415هـ-1995م، ص: 169.

(4) ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن أيوب الحميري، السيرة النبوية، ط1، بيروت-لبنان، مؤسسة المعارف، 1425هـ-2004م، ص: 254-255.

(5) ناصر، علي، الصحيفة أو دستور المدينة- التأسيس للعلاقة مع الآخر، مجلة المنهاج، العدد 53، بيروت-لبنان، مركز الغدير،1430هـ-2009م، ص: 166-192.

(6) ناصر، علي، العنف الديني في سياسة الجهاد، الاجتهاد والتجديد- مجلة فصلية متخصصة بقضايا الاجتهاد والفقه الإسلامي، العددان التاسع والعاشر، بيروت-لبنان، مؤسسة دلتا، 1430هـ-2009م، ص: 173-205.

(7) آرمسترونغ، كارين، الإسلام في مرآة الغرب- محاولة جديدة في فهم الإسلام، ترجمة: محمد الجورا، ط2، دمشق-سوريا، دار الحصاد، 2002م، ص: 14-17.

(8) سورة الفتح، الآية: 27.

(9) ابن هشام، السيرة النبوية، مرجع سابق، ص: 552-555.

(10) هو صخر بن حرب، بن أمية، بن عبد شمس، بن عبد مناف الأموي، والد معاوية، كان من زعماء كفار قريش، ورأس حربة في مواجهة الإسلام، ولم يُسلم حتى اللحظات الأخيرة قُبيل فتح مكة، أي ليلة الفتح، توفي سنة 31ه. راجع: الطوسي، الخلاف، الطبعة الجديدة، قم-إيران، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1414ه، ص: 327. 

(11) ابن هشام، السيرة النبوية، مرجع سابق، ص: 592-607.

(12) سورة محمد، الآية: 35.

(13) سورة الكهف، الآية: 18.

(14) سورة الأحزاب، الآية: 25.

(15) سورة الروم، الآية: 28.

(16) فضل الله، محمد حسين، الإسلام ومنطق القوة، ط4، بيروت- لبنان، دار الملاك، 1423هـ-2003م، ص: 234-236.

(17) المرجع نفسه، ص: 70.

(18) ابن هشام، السيرة النبوية، مرجع سابق، ص: 672.

(19) مرتضى، جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص)، ط4، بيروت- لبنان، دار الهادي، 1415ه-1995م، ج3، ص: 113-114.

(20) سورة النصر، الآيات: 1-3.

(21) سورة الأنفال، الآية: 60. 

اعلى الصفحة