|
|||||||
|
كشفت (ثورات الربيع العربي) عن حقيقة السياسة التركية وتطلعاتها الإقليمية الدفينة في السعي إلى إعادة إنتاج الإمبراطورية العثمانية من جديد، لكن من الواضح أن هذه التطلعات لم تكن بحجم الإمكانات الحضارية والاقتصادية والسياسية بل كانت أشبه بنوع من الرهان على الدور الوظيفي لتركيا في الإستراتيجية الغربية وعضويتها في الحلف الأطلسي، وعليه سرعان ما انهارت هذه السياسة الطموحة في الشرق الأوسط. فتركيا التي كانت قبل سنتين تنهض بسرعة كبيرة في الداخل والخارج تبدو اليوم أمام أزمات داخلية كبيرة وعلاقات سلبية مع دول الجوار الجغرافي، سمتها السلبية والفتور والتوتر بدلاً من نظرية صفر المشكلات التي أطلقها وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، وفي العمق فان تركيا تشعر بخيبة أمل كبيرة لما آلت إليها سياستها الخارجية ولاسيما تجاه الشرق الأوسط على وقع تطورات الأزمة السورية. التأزم التركي في الأزمة السورية شكلت العلاقات السورية – التركية خلال الفترة الماضية محوراً أساسياً في سياسة احمد داوود أوغلو وترويجه للشراكة من أجل إقامة نظام إقليمي في الشرق الأوسط خاصة بعد أن توسعت هذه الشراكة لتضم لبنان والأردن والعراق من خلال إقامة مجالس عليا للعلاقات مع هذه البلدان وإلغاء تأشيرات الدخول بينها وإقامة مناطق للتجارة الحرة والتخطيط لبناء شبكة من الطرق وخطوط إمداد النفط والغاز والطاقة الكهربائية، لكن مجمل سلوك حكومة رجب طيب أردوغان إزاء الأزمة السورية وانخراطها في دعم المعارضة السورية السياسية والعسكرية، بل والتلويح الدائم بإقامة منطقة أمنية عازلة داخل الأراضي السورية والتهديد بعمل عسكري ضد النظام السوري للتخلص منه. مجمل هذا السلوك والذي كان على شكل انقلاب على السياسة التركية السابقة أدى إلى تداعيات داخلية وخارجية باتت تهدد تركيا بالدخول في أزمة بنيوية شاملة. فعلى المستوى الداخلي، يمكن ملاحظة جملة من الانقسامات الخطيرة على شكل انقسامات سياسية وطائفية واجتماعية وقومية وإثنية، لعل من أهم معالمها: 1- تجذر اللغة الطائفية بين حكومة حزب العدالة والتنمية والمعارضة ولاسيما حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كليجدار أوغلو حيث لا يترك أردوغان مناسبة إلا ويشير إلى طائفة أوغلو (العلوية) فيما لا يتوانى الأخير عن وصف أردوغان بـ(باديشاه) والسلطان العثماني الجديد المتطلع إلى الباب العالي، فضلاً عن وصفه بالكذاب والعميل الصغير للإمبريالية والصهيونية. 2- إن التورط التركي في الأزمة السورية وفرض عقوبات اقتصادية على سورية، والرد السوري باتخاذ سلسلة إجراءات اقتصادية ولاسيما إلغاء اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، كل ذلك أدى إلى تداعيات اقتصادية كبيرة على تركيا ولاسيما على اقتصاد المناطق الحدودية مع سورية، حيث تراجع حجم التجارة إلى صفر مع هذه المناطق بعد ان كانت سورية تشكل رئة اقتصادية لها، وعليه برزت طبقة اقتصادية متضررة من السياسة التركية تجاه الأزمة السورية، لاسيما أن الحدود بين البلدين هي الأطول، إذ تبلغ قرابة 900 كيلومتر، فضلاً عن أن سورية تشكل معبراً حيوياً استراتيجياً للتجارة التركية إلى دول الخليج والأردن ومصر، وعليه فإن خسارة كل ذلك أدت إلى بروز طبقة اقتصادية واجتماعية متضررة انتقلت إلى موقع المعارضة لسياسة أردوغان بحكم تضررها وفقدان الأمل بالبديل. 3– إن مجمل القوى السياسية في تركيا ولاسيما اليسارية والديمقراطية وكذلك الحركة الكردية فضلا عن بعض القوى الإسلامية باتت منزعجة جدا من سياسة أردوغان التي عادت من جديد إلى الدور الوظيفي للسياسة الغربية تجاه المنطقة من جهة، ومن جهة ثانية خلقت لتركيا مخاطر حقيقية باتت تهدد كيانها وقد كانت الرسالة التي وجهها كليجدار أوغلو (يوم الثلاثاء 28 آب/أغسطس الماضي) إلى أردوغان حاسمة لجهة التحذير من المخاطر التي ستلحق بتركيا وضرورة إتباع سياسة السلام بدلاً من الحرب مع الجوار الجغرافي. وعلى المستوى الخارجي، لا يخفى على المراقب أن السياسة التركية تجاه الأزمة السورية نسفت كل النظريات التركية التي طرحها أحمد داود أوغلو مثل صفر المشكلات والعمق الاستراتيجي... وأدت إلى توتر كبير في علاقات تركيا مع العراق وإيران وروسيا.. وباتت الدبلوماسية التركية في أزمة مصداقية كبيرة تجاه هذه الدول في الوقت الذي كانت علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع هذه الدول تشكل أملاً كبيراً لتعزيز دورها الإقليمي وتطوير قدراتها الاقتصادية في المرحلة المقبلة. اليوم ومع وصول السياسة التركية إلى مستوى الأزمة والخوف من تداعيات شاملة تفجر الداخل التركي، هناك من يرى أن تركيا باتت ملزمة بإحداث تحول في سياستها تجاه الأزمة السورية من خلال البحث عن حل سياسي ولو من خلال المشاركة في المبادرات الإقليمية التي تطرح مؤخرا كالمبادرة الإيرانية ومن قبل العراقية ولاحقا المصرية مع الإشارة إلى اختلاف مضمون هذه المبادرات، في حين يرى قسم ثان أن تركيا أردوغان وأوغلو وغل... ليست في هذا الصدد بعد أن ربط هؤلاء أحلامهم وتطلعاتهم الإمبراطورية بمستقبل الأزمة السورية وبعد أن راهن هؤلاء أن الغرب سيتدخل عسكريا في سوريا من أجل تغيير النظام فيه والإتيان بنظام جديد موال لتركيا، عماده حركة الإخوان المسلمين السورية على غرار ما جرى في ليبيا ومن قبل مصر وتونس مع اختلاف طريقة التغيير في البلدان المذكورة. خيبة تركيا من الموقف الأمريكي تشعر تركيا ولاسيما وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو بخيبة أمل كبيرة من الموقف الأمريكي إزاء الأزمة السورية ولاسيما بعد موقف واشنطن في مجلس الأمن الدولي بشأن الطلب الذي تقدمت به أنقرة رسمياً لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية للاجئين السوريين وتأمين الحماية والمساعدات اللازمة لهم بإشراف دولي نهاية شهر آب الماضي. وقد كانت الصدمة التركية كبيرة إذ لم تحضر وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون اجتماعات مجلس الأمن بعد أن كانت زارت قبل ذلك بأيام أنقرة وأعلنت من هناك عن حلول موعد النظر في إقامة منطقة آمنة، بل إن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند استبقت الاجتماع بالإعلان عن أن بلادها تفضل دعم تركيا ومساعدتها واستيعابها للاجئين السوريين بدلا من الاقتراح بإقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، وقد دفع مجمل الموقف الأمريكي هذا بالوزير أوغلو إلى حالة من الإحباط الشديد عندما قال في كلمته بالمجلس إنه (من الواضح أنني كنت مخطئا في تقديراتي) معرباً عن أسفه (لإهدار فرصة تاريخية) حسب قوله. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو هل الرهان التركي على الموقف الأمريكي بخصوص الأزمة السورية كان مجرد سوء تقدير أم أنه اختلاف في الأولويات والاستراتيجيات؟. في الواقع، تبدو تركيا التي قطعت علاقاتها مع النظام السوري واحتضنت المعارضة السورية السياسية والعسكرية ودعمتها بالمال والسلاح في محنة خيارات بخصوص الأزمة السورية، فهي في طلبها إقامة منطقة عازلة انطلقت من قاعدة الجوار الجغرافي مع سوريا على أساس أنها قادرة على تطبيق النموذج الكوسوفي داخل الأراضي السورية، أي التحرك من خارج مجلس الأمن الدولي، فيما الإدارة الأمريكية في غير هذا الوارد، وقد كان كلام رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي الجنرال مارتن ديمبسي واضحا، عندما أعلن من لندن عشية اجتماع مجلس الأمن: (إن المقارنة المتكررة للحالة السورية مع ليبيا حيث تم فرض حظر طيران بموجب قرار من منظمة الأمم المتحدة هي في أحسن الأحوال مصدر للتسلية)، ومعروف أن إقامة منطقة آمنة تتطلب قرارا من الحلف الأطلسي بالتدخل العسكري وحمايتها بالوسائل العسكرية اللازمة فيما يعرف الجميع أن هذا مثل هذا القرار غير متوفر، إذ أن قرار الحلف الأطلسي في النهاية هو قرار أمريكي، والإدارة الأمريكية ليست لديها أولوية في هذه المرحلة سوى الانتخابات الرئاسية التي اشتدت فيها المنافسة بين الديمقراطيين والجمهوريين خاصة بعد انتخاب ميت رومني مرشحا للجمهوريين، وبارك أوباما غير مستعد لاتخاذ أي قرار قد يؤثر على حظوظه في ولاية رئاسية ثانية، فيما الدعم الفرنسي ـ البريطاني ليس له قيمة عملية في معادلة إصدار قرار دولي بهذا الخصوص. وعليه فإن المسعى التركي الذي يراهن على الغرب يبدو وكأنه نوع من سوء تقدير للموقف الأمريكي الذي ينطلق في حيثيته للأزمة السورية من حسابات مختلفة عن تلك التركية. دون شك، واشنطن تريد إسقاط النظام السوري لكن وفقا لحساباتها الخاصة، فهي تفكر بمرحلة ما بعد نظام الأسد فيما تبدو تركيا في عجلة من أمرها لإسقاط النظام، واشنطن تخشى من وصول الجماعات الإسلامية المتشددة للسلطة في بلد مجاور للكيان الإسرائيلي فيما تركيا تدعم هذه الجماعات ولاسيما حركة الأخوان المسلمين والجيش الحر، واشنطن والأطلسي لهما حساباتهما الخاصة من قدرات النظام السوري وأسلحته فيما حكومة حزب العدالة والتنمية باتت تخشى من تداعيات داخلية إذا طالت الأزمة أكثر أو نجح النظام في القضاء على المعارضة، واشنطن ليست لديها مشكلة في ان يقضي النظام على الجماعات الجهادية المسلحة وفي الوقت نفسه ان تقضي هذه الجماعات على قوة النظام، فيما تركيا تخشى من بقاء النظام وانتقال الأزمة إلى الداخل التركي لأسباب عرقية وطائفية وسياسية، واشنطن لا تبدو مستعجلة لطالما ان كل ما يجري على الأرض السورية يحقق أهدافها فيما أنقرة تعيش أصعب اللحظات والخيارات بسبب تداعياتها هذه الأزمة التي أفقدت السياسة التركية مصداقيتها، واشنطن ليست لديها مشكلة في الكباش الحاصل مع روسيا والصين في مجلس الأمن وخارجه مع إيران ومجموعة دول بريكس فيما الدبلوماسية التركية في الشرق الأوسط تخسر رصيدها وتحس أنها باتت في ورطة، خاصة بعد ان انتهت نظرية صفر المشكلات إلى عمق المشكلات ، والعمق الاستراتيجي إلى العودة للتبعية للغرب من جديد. في الواقع، ما جرى في مجلس الأمن الدولي شكل ضربة قوية للمسعى التركي بإقامة منطقة آمنة ولمجمل السياسة التركية إزاء الأزمة السورية، ويبدو أن الرسالة وصلت إلى رجب طيب أردوغان عندما أعلن أكثر من مرة عقب اجتماع مجلس الأمن أن لا منطقة عازلة دون قرار دولي، ولعل أردوغان عندما أعلن ذلك كان يفكر بعمق بالتداعيات والمخاوف والردود، فمن جهة تدرك تركيا أن أي إجراء فردي أو خارج الإجماع الدولي تجاه سوريا سيجابه بردود فعل قوية من روسيا والعراق وإيران التي تقول إن أمن سوريا من أمنها، ومن جهة ثانية فإن النظام السوري الذي يعيش معركة حياة أو موت لن يقف مكتوف الأيدي بما يعني احتمال تفجر حرب إقليمية في المنطقة ستطال الداخل التركي نفسه، خصوصاً وأن القنبلة الكردية بدأت تشتعل فيه بقوة ، فضلاً عن زيادة حدة الانقسام في الداخل التركي على خلفية تعاظم رفض المعارضة التركية الرسمية والشعبية (العلويين) والكردية (حزب العمال الكردستاني) لموقف حكومة حزب العدالة والتنمية من الأزمة السورية، فضلاً عن ما خلفته هذه الأزمة من تداعيات اقتصادية ومعيشية ولاسيما في المناطق التركية الحدودية مع سوريا حيث تراجع مستوى حركة التجارة إلى الصفر كما قلنا بعد أن أنعشت الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة. في الواقع، تشعر تركيا بخيبة أمل عميقة من الموقف الأمريكي إزاء الأزمة السورية، وهي في خيبتها هذه تبدو في محنة خيارات وأزمة سياسية ومخاوف حقيقية من انتقال الأزمة إلى داخلها، فيما للإدارة الأمريكية حسابات مختلفة تماماً وهي لا تفكر هذه الأيام سوى بمعركة الانتخابات وفي جميع الأحوال لا تتمنى أن تتحول الساحة السورية إلى منطقة زاخرة بالتنظيمات الجهادية والقاعدة وغيرها، وعليه فإن بقاء الوضع على ما هو يناسبها أكثر، ليبقى السؤال هل سيخفت صوت أردوغان بعد اليوم؟ سؤال ينبثق من مرارة الخيبة التركية إزاء الموقف الأمريكي وإستراتيجيته من الأزمة السورية. زيادة التوتر مع العراق بموازاة تفاقم الأزمة في العلاقات التركية ـ السورية تشهد العلاقات التركية مع العراق مرحلة غير مسبوقة من التوتر على خلفية السياسة التي يتبعها أردوغان ومحاولاته التدخل في الشؤون الداخلية العراقية، وقد دفع السلوك التركي هذا برئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى وصف أردوغان بـ(كـأنه يدير العراق) في معرض تعليقه على ارتفاع حدة التوتر بين بلاده وتركيا على خلفية تصريحات أردوغان عقب ما عرف بأزمة طارق الهاشمي وتكراره لهذه التصريحات بعد الحكم القضائي الذي أصدره القضاء العراقي ضد المالكي بالإعدام وإعلان أردوغان رفضه تسليم المالكي ومن ثم تحذيره من حرب طائفية في العراق وهو ما دفع بالمالكي إلى تحذير مماثل عندما أكد ان مثل هذه الحرب لن تسلم منها تركيا. تصريحات وتحذيرات متبادلة أدت بالجانبين إلى استدعاء السفراء أكثر من مرة على شكل أزمة تهدد بالمزيد من التوتر خاصة في ظل الرؤية التركية التي باتت تنظر إلى الوضع في المنطقة وتحديداً في الدول العربية المجاورة لتركيا على انه شأن تركي داخلي كما تحدث أردوغان مراراً، وهي رؤية تكشف حقيقة البعد الأيديولوجي لسياسة حزب العدالة والتنمية والتي باتت تعرف بالعثمانية الجديدة. دون شك، التوتر الجاري بين تركيا والعراق ليس له علاقة بالسلم الأهلي في العراق أو بمراعاة تطبيق الدستور كما تقول تركيا وإنما باصطدام السياسات والمواقف من التطورات الجارية في المنطقة وتحديداً الأزمة السورية وما أفرزته هذه الأزمة من اصطفافات محلية وإقليمية ودولية. لقد فوجئت تركيا بموقف حكومة المالكي من الأزمة السورية ، فعندما انخرطت حكومة أردوغان في فرض العقوبات على سوريا والتي ردت بعقوبات مماثلة توقعت أنقرة بأن يكون العراق البديل التجاري أو المعبر للتجارة التركية إلى دول الخليج والأردن ومصر، ولكنها فوجئت بالموقف العراقي الذي لم يكتف برفض مثل هذا الأمر فقط ، بل منعت الطائرات التركية من استخدام المطارات العراقية وهو موقف أثار جنون أردوغان من جهة، ومن جهة ثانية وضعته في أزمة مع الأوساط الاقتصادية والتجارية التركية التي باتت تجد صعوبة كبيرة في تصريف منتجاتها بعد فقدانها الأسواق السورية وكذلك فقدان (الجسر السوري) إلى دول الخليج والأردن، خاصة وأن الدراسات كشفت أن الخيار الباقي أي عبر السويس في مصر سيكون مكلفا جدا، مما يعني أن على أردوغان أن يحضر نفسه لأزمة كبيرة مع الأوساط الاقتصادية التركية بسبب تداعيات فرض العقوبات على سورية، ولعل هذا ما دفع البعض إلى وصف هذه العقوبات بأن تركيا تعاقب نفسها، في وقفة قصيرة مع الخلافات التركية - العراقية لابد من الإشارة إلى القضايا التالية: 1- إتباع تركيا سياسة وضع مكون عراقي في مواجهة مكون أخر ، السنة في مواجهة الشيعة ، الأكراد في مواجهة العرب، التركمان في مواجهة الأكراد، وقد كانت للزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو إلى مدينة كركوك العراقية دون علم الحكومة العراقية المركزية تأثير بالغ السلبية على العلاقات بين الجانبين، حيث شكلت هذه الزيارة سابقة خطيرة في العلاقات بين البلدين بعد أن تجاهلت تركيا الأعراف الدبلوماسية بهذا الخصوص. 2- محاولة بناء علاقة خاصة مع إقليم كردستان من خلال تنفيذ سلسلة من المشاريع الاقتصادية وإقامة خطوط مستقلة للنفط والغاز مع الإقليم دون موافقة الحكومة المركزية وربط الإقليم اقتصاديا مع تركيا، وأردوغان في كل هذا يستغل الخلافات بين أربيل وبغداد على خلفية القضايا المتنازعة عليها بين الجانبين. 3- حضور البعد الطائفي في سياسة أردوغان تجاه العراق، إذ مع (ثورات الربيع العربي) يحرص أردوغان على الظهور بالمظهر الطائفي لحسابات تتعلق بالإسلام السياسي وتسويق النموذج التركي في المنطقة، وفي الحالة العراقية كان لافتا استقباله حصرا لمجموعة من القيادات الحزبية العراقية التي تنحو هذا المنحى السياسي وانتهاجه خطابا سياسيا يصب في هذا الاتجاه بعد أن كان يحرص على القول أن أنقرة تقف على مسافة واحدة من الجميع. 4- الأزمة السورية التي أظهرت بوضوح حجم الخلاف التركي – العراقي بشأنها، فسياسة تركيا من خلال التورط في هذه الأزمة عسكريا وسياسيا وأمنيا أدت إلى تعقيد هذه الأزمة وصعوبة إيجاد حل سياسي لها في حين السياسة العراقية تقوم على عدم التورط واستبعاد التدخل العسكري وضرورة إتاحة المجال للخيار السياسي من أجل حل هذه الأزمة سلمياً. عودة التوتر إلى العلاقات التركية – الإيرانية بعد سنوات من التحسن في العلاقات التركية الإيرانية بدأت هذه العلاقات تشهد حالة من التوتر على شكل غياب كامل للثقة بعد أن تخلت الدبلوماسية التركية عن الانفتاح والمبادرات الإيجابية تجاه الدول المنطقة إلى طرف مباشر منخرط في مشكلاتها لصالح أهداف محددة أمريكياً تجاه منطقة الشرق الأوسط. دون شك، التوتر في العلاقة التركية – الإيرانية لا يعود إلى الملف النووي الإيراني وحده بل لجملة من الأسباب تتعلق بالسياسة التركية نفسها والتي وضعت تركيا في موقع المواجهة مع العديد من دول المنطقة ولاسيما سورية وإيران والعراق وروسيا، بما تحمل هذه المواجهة من اصطفاف خطر لن يكون المستفيد منه سوى الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي بعد أن صنفت تركيا نفسها من جديد في البلوك الغربي. في جردة بسيطة للسياسة التركية خلال الفترة الماضية يمكن التوقف عند أبرز مظاهر التحول أو الانقلاب في هذه السياسة، ولعل أهمها: 1- ظهور تركيا على شكل رأس حربة في الأزمة السورية ومحاولة التحرك كلاعب إقليمي خطر يتمسك بالأوراق ويلوح بالتهديد العسكري وينتهج الحرب الاقتصادية ويجلب الضغوط السياسية والعسكرية. 2- موافقة أردوغان على نشر الدرع الصاروخي الأطلسي على الأراضي التركية حتى دون موافقة البرلمان التركي، وهو قرار استراتيجي خطير نظراً لأنه موجه بالدرجة الأولى ضد دول المنطقة ولاسيما إيران وروسيا. 3– سياسة التدخل في الشؤون العراقية الداخلية والظهور بمظهر المدافع عن مكون عراقي في مواجهة مكون أخر وهو ما أدى إلى المزيد من الاصطفاف السياسي الطائفي ليس في العراق وحده بل في مجمل المنطقة. 4- انخراط تركيا في تنفيذ العقوبات الاقتصادية ضد إيران بعد القرار الذي صدر بأمر من أردوغان مباشرة في تخفيض استيراد النفط من إيران بنسبة 20%، وهو ما أثار الانزعاج الشديد لدى الإيرانيين. 5- تخلي تركيا عن انتهاج أسلوب المبادرات الإيجابية إزاء الملف النووي الإيراني، وتحولها إلى طرف مباشر في هذا الملف من خلال الضغط وإيصال الرسائل الأمريكية للقيادة الإيرانية والإلحاح على القبول بالإملاءات الأمريكية والتحذير من التداعيات في حال لم يتم القبول بمضمون هذه الرسائل. 5- التحرك على المستوى الإقليمي من باب التحالف مع دول الخليج والعلاقة مع الولايات المتحدة، ومعروف أن الهدف الأكبر من هذا التحرك هو إيران التي برزت في السنوات الأخيرة كقوة إقليمية صاعدة، فضلا عن حضور البعد الطائفي في التحرك التركي هذا والذي يؤجج الصراعات الاجتماعية والطائفية في عموم المنطقة. في الواقع، ما ينطبق على التوتر في العلاقات التركية مع كل من سوريا والعراق وإيران ينطبق أيضاً على العلاقة مع روسيا الدولة الكبرى والجارة التاريخية التي تتحسس من أداور تركيا في السياسة الدولية والصراعات الجارية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان والقفقاس منذ أيام الحرب الباردة وانضمام تركيا مبكراً إلى الحلف الأطلسي عام 1952، فهذه الجغرافية الشاسعة والمفعمة بالمصالح والصراعات والنفط والغاز وخطوط إمداد الطاقة وبالتالي تحديد مستقبل الاقتصاد العالمي، هي جغرافية احتكاك وتماس بين روسيا وسياسات الغرب التي صنفت تركيا نفسها في هذه السياسات بحثاً عن دور إقليمي منشود، وهو ما يزيد من التوتر في العلاقات التركية الروسية على الرغم من حجم المصالح الهائلة بين الجانبين حيث تحتل روسيا الدولة الأولى في سلم تبادل التجاري التركي مع دول العالم. وعليه، فإن الانقلاب التركي على سياسة صَفر المشكلات والتورط في الأزمة السورية والتوتر مع العراق وإيران، كل ذلك جذر من سياسة الحذر الروسية إزاء دور تركيا الوظيفي في المنظومة الغربية، في المقابل فان تركيا تحسب ألف حساب للبعد الروسي وقدرة هذا البعد على إفشال سياسات تركيا بل وتفجير تركيا من الداخل، وعليه فان تركيا وعلى الرغم من التصعيد الكبير ضد سوريا والذي وصل في لحظات كثيرة إلى حد التهديد العسكري كثيراً ما كانت تتراجع لأسباب تتعلق بحساباتها من التداعيات التي سترتب على الأمن التركي الداخلي على خلفية النظر إلى البعدين الروسي والإيراني. دون شك، مجمل السياسة التركية إزاء منطقة الشرق الأوسط والتي تنطلق من الدوافع والتطلعات وليست من حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية كما يقول أردوغان وضعت تركيا في حالة توتر وصدام مع هذه الدول، وإذا ما استمرت السياسة التركية على هذا النحو فأنها مقبلة على أزمات شديدة خصوصاً وأن علاقاتها مع باقي الدول ظلت في دائرة السلبية، فآمالها بعلاقة جيدة مع اليونان تبخرت بسبب الأزمة الاقتصادية اليونانية، ومع الكيان الإسرائيلي ظلت تراوح مكانها في ظل رفض الحكومة الإسرائيلية الاعتذار لأنقرة عن ما جرى لأسطول الحرية وقتل تسعة ناشطين أتراك كانوا على متن سفن أسطول الحرية التي كانت متجهة لقطاع غزة، كما أن حدودها مع أرمينيا ظلت مغلقة بعد أن تجمدت مسيرة المصالحة بينهما، فضلاً عن أن علاقاتها بأذربيجان فقدت الكثير من بريقها (الأخوي) وكل هذا التوتر والسلبية بدأ ينعكس على الداخل التركي على شكل أزمات قابلة لأن تشتعل في أي وقت. حقيقة من الواضح، أن تركيا تتخبط على كل جبهات الشرق الأوسط على شكل مشاكل خطيرة، وأحمد داود أوغلو لم يعد نجماً سياسياً أو (كيسنجر تركيا) كما كان يقال، بل باتت الأصابع تتجه إليه كسبب في الفشل التركي والشعور بالخيبة وانهيار السياسة التركية في الشرق الأوسط. كاتب وباحث بالشؤون التركية(*) |
||||||