|
|||||||
|
مجلة جيش وإستراتيجية التابعة لمجلس أبحاث الأمن القومي - رون طيرا
المحيط الإستراتيجي لمنتصف العام 2012 مختلف نوعياً عنه قبل عدة سنوات. ففي هذا المحيط إسرائيل قد تضطر إلى استخدام قوة عسكرية تختلف مواصفاتها عن تلك التي كانت في الماضي ـ من حيث غايتها، ضروراتها، ومجالها العسكري ـ السياسي الملزم. هدف هذا المقال هو بحث بعض المميزات الخاصة لاستخدام القوة في هذا المحيط الجديد. أحد المواضيع الرئيسية التي تتطلب تفكيراً مختلفاً هي حقيقة أن في المنظومة الإستراتيجية المتعددة الجوانب المتكونة، قد ينطوي استخدام قوة عسكرية حيال عدو معين على انعكاسات سياسية وإستراتيجية مهمة على العلاقات مع أطراف ثلاثة - بعضها خصوم، بعضها حليف وبعضها "متأرجح". من المفهوم أن هذا الإكراه كان قائماً في الماضي أيضاً، لكن اليوم ازدادت أهميته: عدد الأطراف الثلاثة ذات الصلة قد ازداد، منظومة العلاقات بين اللاعبين تصبح أكثر تعقيداً وبعضها أقل توقعاً، والانعكاسات السياسية والإستراتيجية على أطراف ثلاثة تتحول أحيانا إلى اعتبار أهم من اعتبار النتيجة المباشرة الناتجة عن استخدام القوة حيال العدو. الأمور صحيحة فيما يتعلق بنوعَين من التحديات القائمة حالياً. القسم الأول في المقال سوف يتناول تحديات استخدام القوة فيما يتعلق بالقضايا الأمنية الأكثر مصيرية اليوم. البرنامج النووي الإيراني: 1- هجوم محتمل ضد إيران هو خطوة هدفها التأثير على الدول اللاعبة ذات الصلة، وليس فقط على القدرات النووية ـ المادية لإيران. لذلك، فإن النقاش المركّز بقضية الوقت الذي ستحتاجه إيران لترميم أضرار الهجوم يشير إلى عدم فهم الغاية والديناميكية الإستراتيجية. مجال النقاش يمكن بالتأكيد أن يتركز حول مسألة ما إذا سيكون تأثير الهجوم على سياسة اللاعبين ذوي الصلة فعلاً ناجعاً. 2- هدف الهجوم هو بنسبة كبيرة التأثير ـ من بين عدة أمور ـ على سياسة الحليف (أي الولايات المتحدة الأمريكية)، وليس فقط على سياسة العدو. وهذه الحقيقة يجب أن تكون اعتباراً رئيسياً يؤثر على تصميم الخطة التنفيذية. 3- على ضوء ذلك، ربما كانت المعركة السرية التي تقودها أجهزة الاستخبارات ضد البرنامج النووي مضرة بدلا من أن تكون مفيدة. حتى إن كان للمعركة السرية تأثير فوري ناجع فيما يتعلق بالقدرات النووية المادية الإيرانية، فإن تأثيرها في المجال السياسي-الإستراتيجي هو تأثير سلبي تماما، وسيتم تفصيل أسباب ذلك بشكل موسع في هذا المقال. القسم الثاني من المقال سوف يتناول التحديات المرتبطة باستخدام القوة في بقية ساحات الاحتكاك الرئيسية لإسرائيل، من بينها غزة ولبنان: 1- حالة اللا-استقرار الداخلية في مصر والأردن والتطورات الداخلية في تركيا تدفع بهذه الدول إلى حالة تأرجح بين مفهومين: الأول: السياسة المتبلورة في مصر وتركيا هي سياسة حدودية ـ ثمة شك بوجود تحالف، شك بخصومة محتملة ـ. الثاني: التطورات الداخلية في مصر والأردن قد تكون متأثرة سلبياً باستخدام إسرائيل للقوة العسكرية في ساحات مثل غزة أو لبنان. 2- عملية عسكرية واسعة في غزة، في لبنان أو ساحة حدودية أخرى قد تجبي من إسرائيل ثمناً سياسياً واستراتيجياً في مجال علاقاتها مع الدولة المتأرجحة. ومن قوة العلاقة بين مختلف الساحات يبدو أن الثمن الذي ستدفعه إسرائيل في علاقاتها مع مصر، الأردن وتركيا قد يتحول إلى اعتبار يتفوق على اعتبار النتيجة العسكرية المباشرة مقابل العدو. حتى في حال قدّر صناع القرارات في هذه الدول السُّنية أن لديهم مكسباً جراء مواجهة بين إسرائيل وجهة شيعية مثل حزب الله، فلا زالت هناك مشاكل في ناحية الشارع العربي ـ السني الذي ازداد وزنه، وفي ناحية التعقيد المحتمل نتيجة استهداف دولة لبنان وحكومته. 3- في العقود الأخيرة يعمل خصوم إسرائيل على تحديد حرية عملها وفعاليتها العسكرية بطرق متنوعة، من بينها استخدام منظمات شبه دولة، طمس الحدود بين مدني وعسكري وبين حرب وتهدئة. ربما ستنتج المرحلة المقبلة في مجال تقييد حرية العمل العسكري الإسرائيلي عن استغلال الدول المتأرجحة من قِبل خصوم إسرائيل: سواء في القطاع السياسي أو عبر إقامة نشاط معاد من أراضي تلك الدول أو بالقرب من ممتلكاتها. القسم الأول: تحدي النووي الإيراني معقولية الهجوم ضد إيران في الشهور الأخيرة عاد النقاش الشعبي حول ادعاء أن الهجوم على إيران سوف يكون ناجعا من ناحية أنه سوف يتسبب بضرر محدود فقط وقابل للترميم في البرنامج النووي. هذا التركيز على النتيجة المادية للهجوم ضيّع هدفه الحقيقي وطبيعته السياسية. ووفقا للتحديد المشهور لكلاوزوفيتش(خبير روسي في مجال النظريات العسكرية)، فإن الهدف الرئيسي لاستخدام القوة هو التأثير على سياسة إيران وليس فقط إنتاج ضرر مادي محدد. هدف سياسة إيران هو امتلاك سلاح نووي. هدف إسرائيل السياسي هو تغيير سياسة إيران. إيران مصممة على رغبتها امتلاك قدرة نووية، ولذلك فإن أي مس بقدرتها النووية - محدود أو موسع، عسكري أو سري - سوف يعرقل تطبيق سياسة إيران لمدة زمنية سيحتاجها الترميم المطلوب. من هنا، من أجل تطبيق سياستها، يجب على إسرائيل التأثير على سياسة إيران وليس فقط على قدراتها النووية (القابلة للترميم). وتوجيه ضربة للقدرة النووية ربما من شأنه كسب وقت محدود، لكن ثمة شكّ حول ما إذا كان بإمكانه بحد ذاته تغيير سياسة. ليس بمقدور إسرائيل التأثير بنفسها وبشكل مباشر على سياسة إيران، لكن يمكن للولايات المتحدة ذلك. إيران تقدم نفسها كقوة إقليمية وحتى عالمية، لكن هذا العرض يغطي على ضعف عميق في البنية التحتية، الاقتصاد والمجال العسكري. فواحد من سبعة إيرانيين لا يجيد القراءة والكتابة، الناتج القومي شبيه بناتج الأرجنتين، وعلى الأقل جزء من الوسائل القتالية التي لديها اشترتها منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. إيران تلقت ضربات قاتلة وخسرت جيلاً كاملاً في السنوات الثمانية التي استغرقتها حربها مع جيش الرئيس العراقي صدام حسين ـ الجيش الذي هزمته الولايات المتحدة خلال عدة أيام ـ. يمكن افتراض أن في أية مواجهة مباشرة للجيش الإيراني مع جيش غربي متقدم، ستكون يد الأخير هي العليا. لماذا إذن لا تنجح الولايات المتحدة في فرض إرادتها السياسية على إيران؟ ما يعمل لصالح إيران هو اللاتماثل في الجدية والتصميم التي هي والولايات المتحدة تنسبانهما للبرنامج النووي. فبالنسبة لإيران، هو هدف ذو أهمية عليا، وهي مستعدة لتخصيص مبالغ كبيرة ودفع أثمان باهظة من أجل تحقيقه، على الأقل هي تقدم نفسها هكذا. وفعلا، تنجح إيران في ردع خصومها وتقديم نفسها كدولة مستعدة لأية مواجهة - حتى إن ولو أمكن الافتراض بسبب نقاط ضعفها العميقة أنها غير مهتمة بمواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب، وثمة شك إن كانت ستصمد فيها. الولايات المتحدة لا تبدو حاسمة مثل إيران. فهي توازن بين عدد كبير من الاعتبارات، من بينها ارتفاع سعر النفط وضرر محتمل بالاقتصاد، الانتخابات في تشرين الثاني 2012، والحاجة إلى ائتلاف دولي. بالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة لا زالت تلعق جراح العراق وأفغانستان، وتتردد بالمخاطرة ودفع أثمان. وثمة عامل إضافي يعمل ضد الولايات المتحدة وهو أنها في السنوات الأخيرة ظهرت كأنها غير قادرة على اتخاذ قرار وكمرتدعة عن تعهدات إستراتيجية بسبب الطريقة التي واجهت بها عدة تحديات إقليمية (العراق، البحرين، لبنان وغيرهم). ولكن، في حال تكونت ظروف جعلت الولايات المتحدة وإيران تنسبان الأهمية والتصميم ذاتهما للموضوع النووي، فيمكن افتراض أن يد القوة العظمى الوحيدة ستكون هي العليا. إيران مهتمة بكسب الوقت من أجل دفع برنامجها النووي قدما. الولايات المتحدة تريد المراوغة من اتخاذ قرارات صعبة، أثمانها ومخاطرها عالية، أو على الأقل تأجيل النقطة التي ستضطر فيها إلى اتخاذ قرارات كهذه، ولذلك هي أيضاً تتيح للوقت بأن يمر دون التوصل إلى لحظة اختبار استعدادها لتطبيق سياستها المعلنة. وإسرائيل أيضاً مكبوحة في هذه المرحلة نتيجة الأثمان التي ستدفعها لأتباع إيران وللمجتمع الدولي في حال عملت لوحدها ضد البرنامج النووي، ولذلك، في هذه الأثناء، هي لا تسرّع وصول لحظة الحقيقة. أضف إلى ذلك، أنه من الممكن أن بعض الخطوات التي تتخذها الولايات المتحدة - الزيارات المتواصلة للمسؤولين الأمريكيين إلى إسرائيل، اللقاءات مع إيران، العقوبات وتحريك القوات في الخليج - لا تهدف إلى التأثير على إيران بل إلى جعل إسرائيل تسمح للوقت بالمرور. هكذا تتحول نقطة التعادل الأساسية للمعركة السياسية - الإستراتيجية: الأطراف الثلاثة تسمح للوقت بالمرور. لكن هناك خطورة بأن تتقاسم إيران وإدارة أوباما نقاط تعادل إستراتيجية إضافية. نقطة التعادل الأولى: ربما كانت لدى إيران والولايات المتحدة مصلحة مشتركة بخلق شعور بأن التحول إلى دولة نووية ليس أمرا فوريا وحتى الآن لم يستنزف الحوار الدبلوماسي، الذي يشكل بالنسبة لهما ذريعة لتمديد الوقت. النقطة الثانية: ربما لدى إيران والولايات المتحدة مصلحة مشتركة في خلق صورة من عدم الفائدة من عملية عسكرية بسبب بقاء البرنامج النووي وبسبب الرد المتوقع من إيران. النقطة الثالثة: - وهي الأهم - وجود خطر بأن تتطور مصلحة مشتركة بين إيران والولايات المتحدة بقفزة عينية من مرحلة "هناك المزيد من الوقت للدبلوماسية" إلى مرحلة "تأخر الوقت جداً على تنفيذ عملية عسكرية"، وذلك بدون المرور عبر المرحلة التي بموجبها فقط عملية عسكرية سوف تغير سياسة إيران. نقاط التعادل هذه لا تُحتمل بالنسبة لإسرائيل، وعليها الإسراع في خلق لحظة الحقيقة الإستراتيجية التي تضع فيها كل الأطراف أوراقها النهائية على الطاولة. والمعطى الجديد، الذي من شأنه زعزعة نقاط التعادل، هو استعداد إسرائيل إلى دفع الأثمان فوراً وتحمل المخاطر المطلوبة من أجل تطبيق سياستها. وضع جديد كهذا من المفترض أن يفرض تغييراً في المعطيات وفي حسابات أثمان وأخطار الرأسين الآخرين في المثلث. لذلك، فإن هدف عملية عسكرية إسرائيلية لن يكون تحقيق ضربة ما في ممتلكات البرنامج النووي، بل معارضة نقاط التوازن السياسية - الإستراتيجية القائمة، وخلق واقع سياسي- استراتيجي مغاير تخضع فيه رغبة إيران بامتلاك سلاح نووي لاختبار لحظة الحقيقة عندما تُلزَم الأطراف الثلاثة بالخضوع لاختبار فوري وبنسبة متساوية. من أجل التأثير على الاعتبارات السياسية لدى الأطراف ربما ليس من الضروري أن يتم توجيه المسار العسكري الإسرائيلي إلى البرنامج النووي، وهو يمكن يكون موجهاً إلى أهداف نوعية أخرى في إيران. الإنجاز المطلوب ليس المس بعدد معين من أجهزة الطرد المركزي، بل بمواصلة واستمرار عملية عسكرية ضد إيران لوقت طويل ريثما يتم تحقيق الهدف. يجب على الجيش الحفاظ على قوته خلال الهجمات، لكي تتمكن إسرائيل من أن تنقل بشكل موثوق الرسالة السياسية التي بموجبها هي أنها ببساطة لن تسلم بنقاط التعادل القديمة، وأنها ستتمكن من الاستمرار بإستراتيجية عسكرية مناسبة لفترة زمنية وكلما استدعى الأمر. ولذلك، في هذه الحالة المحددة، مبدأ حفظ وحماية القوة المهاجِمة أكثر أهمية من تركيبة أهداف الهجوم. فالهجوم على أهداف معينة، الذي يعني سحقا بارزا للقوة المهاجِمة، سوف يمس باستمرارية الإستراتيجية العسكرية المطلوبة لوقت طويل، وبذلك قد يمس بقدرة القوة العسكرية على دعم السياسة وتطبيقها. مبنى القوة والمفهوم التنفيذي يجب أن يكونا موجهين بشكل رئيسي إلى تطوير طول نفس تنفيذي. المعركة السرّية: ضررها أكثر من فائدتها وفقاً لأخبار مختلفة في الإعلام، تدير أجهزة الاستخبارات الغربية معركة سرّية لتخريب البرنامج النووي الإيراني. ووفقاً لهذه الأخبار، فإن هذه المعركة تشمل استهداف شخصيات، تخريب عتاد وهجمات سايبر. ولكن، وفقاً للمنطق الإستراتيجي الذي تم عرضه أعلاه، ربما تكون المعركة السرية مضرة أكثر منها مفيدة. بمعنى أنه، في حال قبول المنطق الذي نرغب بموجبه بتحريك نقاط التعادل السياسية - الإستراتيجية في مثلث (إيران ـ الولايات المتحدة ـ إسرائيل) وتغيير وجهة اللاعبين لتمديد الوقت والأخطار والأثمان - فإن هذا هو المعيار الذي يجب بموجبه اختبار فعالية المعركة السرّية. ولكن المعركة السرية هي مسار ينطوي على أخطار منخفضة نسبياً، ينطوي على ضبابية بما يتعلق بالمسؤولية عن العمليات وبما يتعلق بالسؤال حول ما إذا كانت أحداث معينة جاءت نتيجة عملية مقصودة أم أنها حصلت بسبب خلل أو حادث، ويمكن فيه التنكر للعملية، وأن الثمن الذي يدفعه منفذ المعركة السرية منخفض مقارنة مع الخيار العسكري المكشوف (يُقصد هنا بالطبع أثمان ومخاطر بالنسبة للدولة المرسلة، وليس أثمان ومخاطر الوحدة التنفيذية التي من المفترض أن تكون مخاطرها بالتأكيد عالية). لذلك، فإن المعركة السرية هي بنسبة ما ملاذ الجهة التي تتجنب المخاطر. الرسالة الأساسية التي ينقلها اللاعب الذي يختار المعركة السرية ـ حيث أنها خط العمل الرئيسي لديه ـ هي أنه يخشى من مواجهة عسكرية مكشوفة ومباشرة بما يرافقها من أثمان ومخاطر. هكذا تنتج ديناميكية إستراتيجية سلبية منبثقة عن الاختلاف في مجال وجهة الأطراف المتخاصمة للمخاطر. فإيران تقدم نفسها للخارج كلاعب صلب وهاو للمخاطر. إسرائيل والولايات المتحدة تختاران وسائل محدودة المخاطر، مثل المعركة السرية، السايبر، العقوبات والمفاوضات الدبلوماسية، ولذلك فهما تعتبران لاعبين مرتدعين بسبب المخاطرة وترغبان بتحديد تعرضّهما للثمن الذي ستدفعانه. عندما تصور إيران نفسها كصلبة ومستعدة لركوب المخاطر، تنسحب إسرائيل والولايات المتحدة، دون أن يُطلب من أي من الطرفين الكشف عن أوراقهما. المنتصر في كل جولة تحدده حقيقة عدم استعداد الولايات المتحدة وإسرائيل لمقارنة مستوى المخاطرة، ومن قوة الأوراق. في حقيقة الأمر، إيران ليست معنية بمواجهة عسكرية مباشرة، وعلى ما يبدو فهي سوف تخسر في حال كشف الأطراف الثلاثة عن كل أوراقهم ووضعوها جميعا على الطاولة. ولكن في الديناميكية المتكونة يمكن لإيران تبني إستراتيجية تعتمد على إظهار قوة، رغم أن ذلك ليس مدعوما بقدرات حقيقية، وعلى فرضية أن الولايات المتحدة وإسرائيل ستكونان أول من سينطوي/سينكفئ. النتيجة العامة، التي يمكن من خلالها معرفة كل شيء، هي الحالات النادرة التي يظهر فيها خصوم إيران تصميما، ترفع أوراقهم وتكشف عن مصداقية في استعدادهم لركوب المخاطر، وعندئذ تنسحب إيران. وكمثال على ذلك انطواء ايران في شهر كانون الثاني من العام 2012، بعد تهديدها بإغلاق مضيق هرمز في حال إعادة الولايات المتحدة لسفنها إلى الخليج. ولكن، كلما تقدمت المعركة السرية، وكلما حصل المزيد من الأحداث المجهولة، يتضح تدريجيا أن أداء الولايات المتحدة وإسرائيل متواصل ومحاط بمخاطرها. طبيعة هذا الأداء المتواصل يسهّل على إيران بلورة إستراتيجيتها: لاعب البوكر الذي يعرف سقف مراهنة خصمه يمكنه دائما دفعه إلى الانكفاء عبر رفع المراهنة إلى ما فوق سقف المخاطرة لدى خصمه. بتغطية من هذه الديناميكية تم اجتياز كل الخطوط الحمراء التي وضعتها إسرائيل والغرب في السنوات الأخيرة تقريباً، حيث تم تفعيل منشآت نووية وتخصيب يورانيوم بكميات كبيرة، بينما القوة الحقيقية للأطراف لم تخضع لاختبار لحظة الحقيقة. ولذلك، في اختبار النتيجة، المعركة السرية لا تنجح بتحريك نقاط التعادل في مثلث إيران - الولايات المتحدة - إسرائيل، وعلى الرغم من الضربات المادية فإن إيران لا تغير سياستها. كل ضربة سرّية للبرنامج النووي (إن حصلت حقا) تلزم إيران فقط بترميم ضرر الضربة، أو بالتكيف وتنفيذ مناورة تكتيكية ما، لكنها في نهاية الأمر تعود الى مسارها الإستراتيجي والى طموحاتها النووية. علاوة على ذلك، إن المعركة السرية تنفخ بالمستوى السياسي لدى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية شعورا مهدّئاً مفاده "نحن نفعل شيئا"، وبذلك هي تبرر للوهلة الأولى تأجيل لحظة الحقيقة وحقيقة أننا لا نحاول كسب الوقت. وأيضاً لهذا السبب، تحافظ المعركة السرية على نقطة التعادل الأساسية الموجودة بدلاً من تحديها. لذلك، من أجل تحقيق أهدافها، إسرائيل ليست قادرة على مواصلة العمل بالشكل الذي فيه أحد المبادئ الأساسية هي الحرص على إدارة أخطار منخفضة ومعيارية. على العكس، يجب على إسرائيل إيصال الأطراف الثلاثة إلى النقطة التي تكون فيها مبالغ مراهنتهم تقريباً غير محدودة، وبحيث لا ينكفئ أي لاعب بل يكون على الجميع كشف أوراقهم. يمكن لإسرائيل بلوغ ذلك في حال بادرت إلى رفع مستوى المخاطرة في اللعبة، واستمرت بذلك لفترة طويلة. الثمن والمخاطرة هما بطاقة الدخول إلى اللعبة الإستراتيجية، الاستعداد لدفع الثمن وللمخاطرة هي إستراتيجية زعزعة نقاط التعادل القائمة، والاستمرارية لمدة طويلة بظروف المخاطرة وثمن هذه الفكرة المنهجية. المعركة السرية إذن ليست الطريق لإيصال اللعبة إلى لحظة الحقيقة، بل الطريقة التي يتعلم منها الخصم أنه يجب أن لا يخشى مسارات تنطوي على مخاطر كثيرة تنحرف عن مدى الأثمان التي حسب حسابها، ولذلك، على الرغم من التخريب المادي - التكتيكي بالممتلكات، يمكن للخصم مواصلة التقدم باتجاه أهدافه بالطبقة السياسية - الإستراتيجية. استهداف إستراتيجية الخصم توسيع مجال النقاش ودراسة الحاجة إلى استهداف الإستراتيجية الإيرانية يكشفان عن اعتبارات إضافية لصالح هجوم عسكري وضد المعركة السرية. فالإستراتيجية الناجحة هي كتلك التي تضع أمام الخصم مآزق بحيث أن كل طريق يختاره الخصم يمنحنا تفوقاً. بهذه الروحية، فإن هجوما عسكرياً تنفذه إسرائيل سوف يضع أمام إيران عدة مآزق إستراتيجية: "هل يجب على إيران الرد بشكل موسع أيضاً ضد مصالح أمريكية أم أن عليها حصر ردها بإسرائيل ومحاولة عدم إشراك الولايات المتحدة؟!.. هل يجب على إيران مواصلة إتباع إستراتيجيتها الحالية والناجعة القائمة على توسيع قدراتها والبقاء على عتبة النووي، أم أن عليها الاختراق قدماً لتطوير سلاح نووي. فيما يتعلق بالمأزق الأول: في حال سترد إيران أيضاً ضد مصالح حيوية أمريكية (مثل عملية في مضيق هرمز)، فهي سوف تقرّب بنفسها لحظة حقيقة اللعبة الإستراتيجية، وفي المقابل، في حال ستحصر إيران ردها بإسرائيل، وتركز على استخدام حزب الله، فسيكون لدى إسرائيل تفوق يتمثل بأن الهدف الإستراتيجي لجولة المواجهة المقبلة مع حزب الله سيكون مناسباً. يجب على إسرائيل أن تفترض أنها عاجلاً أم آجلاً سوف تقاتل حزب الله مجدداً، ومن الأفضل أن تكون الجولة المقبلة بسبب البرنامج النووي الإيراني وليس بسبب ظروف لن تكون لإسرائيل فيها فائدة مثل أزمة داخلية - لبنانية، حسابات خاطئة أو حادث مثل حادثة الحدود على خط التبليغ 105 (ذريعة حرب لبنان الثانية). بالمناسبة، فإن هجوماً إسرائيلياً ضد إيران سوف يشكل مآزق قاسية أيضاً أمام حزب الله، لأن الحزب سوف يضطر إلى اتخاذ قرار ويتصرف كتابع لإيران، ويورط لبنان بحرب كثيرة الأضرار بسبب مسألة لا تمت بصلة للمصالح القومية اللبنانية. في جميع الأحوال، رد إيران سوف يكشف حدود قوتها، ولدى إيران اليوم قدرة ردع أكبر مما بعد أن تحاول تطبيق تهديداتها. فيما يتعلق بالمأزق الثاني: إذا كان الرد على أي هجوم بأن تقوم إيران بالتقدم لتطوير سلاح نووي، فهي ستساعد مجدداً في تطبيق الإستراتيجية الإسرائيلية بالسعي إلى لحظة الحقيقة. وإذا واصلت إيران اعتماد الإستراتيجية الحالية القائمة على توسيع البنى التحتية والبقاء على عتبة النووي، فقط مع قدرات قليلة نتيجة الهجوم - فهي سوف تعزز الذريعة الإسرائيلية حيال الولايات المتحدة الأمريكية والتي يمكن حتى الآن بموجبها إعادة عجلة البرنامج النووي الى الخلف بوسائل عنيفة. لذلك، فقط هجوم عسكري علني - وليس معركة سرية - يشكل أيضاً هجوماً على نفس الإستراتيجية الإيرانية. |
||||||