|
|||||||
|
شكّل موضوع الوحدة والشهادة لدى الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي (1951ـ 1995)، الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ركنين أساسيين في الفكر والممارسة. وقد يتساءل كثيرون عن سبب اختيار مفردتين لدراستهما قد تشكلان أساساً متيناً ليس فقط في خطاب وإنما أيضاً أساساً لفكر وممارسة عمادها الإخلاص وعُمدتها الدم. فالوحدة كمنطلق وعنوان والشهادة كدرب خلاص هما من أهم ركائز الخطاب والممارسة لدى الشهيد د. فتحي الشقاقي. ويدلل على هذا ما قاله الأمين العام لحركة الجهاد د. رمضان عبد الله شلح: "كان الإيمان العميق والصبر الجميل هما زاده وزوادته في مواجهة سيل الأعداء الذين ينهمرون عليه من كل صوب، ويطلعون من تحت الجلد، فيستعذب العذاب، ويقبل التحدي والمنافسة، بحسن النية، وصدق الكلمة، وقداسة المسؤولية، وشجاعة الموقف، وعلو الهمّة، ويطاردنا بلا هوادة، شعاره: قليل من العناد والصبر ينفلق الصخر، والذي ينتظرنا ليس هو الموت إنه الحياة أو النصر". هذا الكلام صدّقه إبداع الشهيد فتحي الشقاقي في تأسيسه مع إخوانه لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين"كحركة إسلامية فلسطينية مقاتلة تبلورت تنظيمياً في مطلع الثمانينات داخل فلسطين المحتلة، بعد أن كانت حواراً فكرياً وسياسياً امتد منذ منتصف السبعينيات في أوساط بعض الطلبة الفلسطينيين الدارسين وقتها في مصر، وقد شمل هذا الحوار مسائل منهجية تتعلق بفهم الإسلام والعالم والواقع وكيفية رؤية وفهم التاريخ بشكل عام والتاريخ الإسلامي بشكل خاص". ويأتي بعث الجهاد الإسلامي ضمن الفهم المنهجي للإسلام كعقيدة وأصول دين وفقه وشريعة استناداً إلى القرآن والسنة كمنطلق. كما كان اهتمام الجهاد المبكر بالتاريخ سبيلاً لرؤية العالم علي حقيقته مما سهل استيعاب ووعي أداة التغيير وصولاً إلى إدراك خصوصية فلسطين في الإشكال الإسلامي المعاصر واعتبارها بالتالي "القضية المركزية للحركة الإسلامية والأمة الإسلامية" وقد استند هذا الاعتبار كما تطرحه الجهاد إلى أبعاد ثلاثة هي البعد القرآني (أوضح ما يكون في سورة الإسراء)، والبعدين التاريخي والواقعي. وقد كان هدف الحركة بعد هذا الصراع حل الإشكالية التي كانت قائمة وقتها حيث "وطنيون بلا إسلام وإسلاميون بلا فلسطين" فرفعت شعارات: الإسلام والجهاد وفلسطين؛ الإسلام كمنطلق والجهاد كوسيلة وفلسطين كهدف للتحرير"(1). الوحدة والقضايا الكبرى لم يستطع الأعداء إقصاء الإسلام عن الحياة إلا عندما ضربوا وحدة الأمة، وكرسوا اتفاقية التجزئة والتقسيم "سايكس ـ بيكو"، وعملوا على حماية هذه التجزئة بإقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين كراع للتجزئة والتقسيم، وكعامل أساسي في إفشال مشروع النهضة والوحدة لهذه الأمة. ويظل الإسلام الناظم الأساسي الذي يجمع الأمة، فهو الذي وحدها في الماضي وقادر على توحيدها في الحاضر والمستقبل. ويتحدد التعامل مع الاختلاف والتنازع برد ذلك إلى الاحتكام إلى القرآن والسنة، ولذلك فإن الآيات لا يوجد فيها إلغاء الاختلاف بل إلى التعامل معه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(النساء:59) وقوله: ﴿ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾(الشورى: من الآية10). وقد جاء الرسول(ص) فوحّد أمة كانت متفرقة ومتصارعة، وتحكمها العصبيات القاتلة، فسما بها حتى صنعت حضارة قوية متماسكة، أذهلت العالم كله. وهنا يُطرح السؤال وبقوة ما الذي جعل القبائل المتناحرة، والعقول المتحجرة تتخلى عن هذه السلبيات وتعلو عنها في مشروع يلتزم بـ"لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" ألم يكن الوازع الديني، والاندفاع المبصر للغاية يدفعان نحو تحقيق أمور لو انتظرت أي أمة قروناً ما حققت بعضاً منها. وفي هذا السياق يأتي تمثُّل الأمة لأهدافها الكبرى فعندما تربط بين أهدافها الكبرى ومخزونها العقدي وتراثها، وفهمها لواقعها فإنها تستطيع دفع نفسها والعالم نحو تقدم يخدم البشرية على هدي من رسالة الإسلام العظيمة. ومن هنا فإن أكثر القضايا التي تُجمع عليها الأمة، ويمكن أن تكون العامل الأكبر لوحدتها، والأكثر قدرة على الحشد في سبيلها هي القضية الفلسطينية وذلك لاعتبارات عديدة منها: ـ العامل العقدي: ففلسطين في التكوين العقدي للمسلمين هي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، إليها أسرى الرسول (ص)ومنها عرج إلى السماوات العلا. قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(الإسراء: 1). بالإضافة إلى أن الصراع بين تمام الحق المتمثل في المسلمين، وتمام الباطل المتمثل في اليهود لا يمكن أن يحسم إلا على أرض فلسطين، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً)(الإسراء: من الآية 7) وقوله(ص): "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود". (صحيح البخاري ومسلم). ـ العامل الواقعي: ويتمثل بكون "إسرائيل" تمثل ذروة المنهج المضاد للإسلام، والمحارب له في الوقت نفسه والتي تشكل خطراً يومياً ومباشراً على الأمة العربية والإسلامية من طنجة إلى جاكرتا، ومن استانبول إلى لاجوس ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ويقول الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي ـ رحمه الله ـ: "إن إسرائيل وجدت لتمارس وظيفة مستمرة دائبة هي ضرب "النفسية العربية ـ المسلمة" وتحويل المعركة الحقيقية إلى ميادين وهمية تستنفد الجهد والطاقة، وقيام دولة "إسرائيل" أهم وأخطر وأعنف أشكال الحرب الشاملة.. إذ بقيامها واستمرار وجودها في القلب من الوطن الإسلامي تكون الهجمة الغربية قد نفذت أهم وأخطر مهماتها، فنحن هنا لا نواجه مجرد تحدٍ عسكري أو مجردٍ تحد فكري، وإنما نواجه مشروعاً استيطانياً عدوانياً في مكان مهم وحساس من الوطن الإسلامي، يعطي للصراع كل أبعاده التاريخية والحضارية والعقدية والفكرية، إضافة إلى الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية. ومع "إسرائيل" لم تعد ثقافة الأمة فقط هي المهددة بل وجودها برمته". ومن هنا، ومن هذه المنطلقات تعتبر فلسطين هي الجامع المشترك الأكبر للأمة كي تنهض، وتتحرر، وتتقدم في مشروع نهضوي يعيد للأمة تواصلها الحضاري المبنى على أساس الحرية والتقدم والخير للإنسانية جمعاء. مما تقدم يتضح أن الأمة الإسلامية مأمورة بالوحدة التي تجعلها قوية، ويتضح أيضاً أن التنوع والاختلاف ضمن الوحدة هو إثراء للأمة وليس ضعفاً لها، وعلى هذا فإن الوحدة تبقى واجباً إلهياً على الأمة الالتزام به، ومطلباً بحاجة لقرار سياسي شجاع لتطبيقه، لأن الأمة تمتلك بشكل واقعي كل أسباب هذه الوحدة، ولكن تبقى السياسة القائمة على أساس المنفعة والمصلحة فقط تفعل فعلها في تخريب أي تقدم يُحرز.(مشاركتي في الكتاب هي المصدر 2) وأكد الشهيد الشقاقي أن فلسطين هي القاسم المشترك الأعظم عروبياً وإسلامياً وديمقراطياً... واعتبر أن حقوق الإنسان، التنمية، التعددية، عناوين يجب أن تحظى بعناية ورعاية وجهد الحركة الإسلامية، واعتبار أن المتحد العروبي الإسلامي هو الصيغة الجامعة للعرب المسلمين والعرب غير المسلمين، وهو الصيغة الحافظة لحقوق الجميع وحرياتهم بما في ذلك المواطنة للجميع(3). وكتب د. محمد مورو: "كان الدكتور فتحي الشقاقي يحلم بحركة إسلامية معاصرة، تتجاوز فكرياً وحركياً كل الأخطاء السابقة، حركة ترى نفسها مجرد حلقة من حلقات الكفاح الإسلامي سبقتها حلقات وتتبعها حلقات، حلقة تكون طليعة للأمة وخميرة للنهضة وليست بديلاً عن الأمة، حركة تجعل التنظيم أداة وليس غاية، حركة تنطلق من اعتبار القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة الإسلامية، حركة تنفتح على الجميع انطلاقاً من ثوابتها فلا تعزل نفسها ولا تنفصم عن جذورها الفكرية والعقائدية في الوقت نفسه". وأوضح الشهيد الشقاقي أنه في الوقت الذي يجب أن ينتهي التناقض الوهم بين العروبة والإسلام فإن القوى القومية والوطنية مطالبة بالاعتراف بدور الإسلام التاريخي والمعاصر والمستقبلي كعقيدة ونمط حياة لمعظم جماهير امتنا وأن قوة الإسلام هي القوة الرئيسية التي ما زالت واقفة ومرشحة لمواصلة الصراع مع الغرب ومشروعه في الهيمنة والسيطرة وأن هذه القوة هي المرشحة لقيادة تحالف المستضعفين والمظلومين في العالم اجمع خلال العقود القادمة من أجل عالم أكثر عدالة(4). واعتبر الشهيد الشقاقي انتفاضة 1987، بأنها شكلت مخرجاً للمشروع الوطني ككل ومدخلاً لصياغة وعي سياسي جديد، إذ كانت الانتفاضة مناسبة ملزمة للتيارات الثلاثة (الإسلامي والقومي والديمقراطي) لتعيد النظر في مواقفها المسبقة وصورتها عن الآخرين، وفرضت طبيعة لمعركة الشعبية المفتوحة مع العدو، والتداخل الميداني بين الجميع، فرضت عليهم إقامة تحالفات وعلاقات بعيدة عن منهجية التكفير والاستثناء والنفي، واكتشفت الأطراف المختلفة أن نقاط التقاء تجمعها مع بعضها وأن الإسلامي المناضل أقرب إلى اليساري أو القومي من اليساري والقومي الذي يذهب نحو التسوية والاتفاق مع العدو(5). كما تطرق الشهيد الشقاقي إلى (الخلاف السني الشيعي) ووصفه في دراسة له بأنه: (.. ضجة مفتعلة ومؤسفة)(6). متطرقاً إلى رائد الحركة الإسلامية المعاصرة الإمام الشهيد حسن البنا الذي عايش فكرة التقريب بين الشيعة والسنة فكان من المساهمين في أعمال (جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية) التي ظن البعض أنها مستحيلة، وظن البنا وثلة من رجال الإسلام ومشايخه العظام أنها ممكنة واتفقوا أن يلتقي المسلمون جميعاً (سنيهم وشيعيهم) حول العقائد والأصول المتفق عليها وان يعذر بعضهم بعضاً فيما وراء ذلك من أمور لا تكون شرطاً من شروط الإيمان ولا ركنا من أركان الدين ولا إنكاراً لما هو معلوم من الدين بالضرورة...(7). ويتحدث الشهيد فتحي الشقاقي عن وحدة العالم العربي والإسلامي وكأنه يتنبأ أن هذا الأمر مهدد فلسطينياً وعربياً فيقول "علينا واجب تعبئة الجماهير الفلسطينية و إعدادها إعداداً جهادياً شاملاً لتأهيلها للقيام بواجبها في مواجهة المحتل، ويجب استنهاض وحشد جماهير الأمة العربية والإسلامية وحثها على القيام بدورها التاريخي في مواجهة العدو الصهيوني ونعمل لأجل توحيد الجهود عربياً وإسلامياً باتجاه فلسطين وفي الوقت نفسه ندعو إلى الإسلام بعقيدته وشريعته وآدابه وإحياء رسالته الحضارية للأمة والإنسانية ونعمل لأجل ظهوره وانتصاره ووحدة الأمة وتجاوز واقع التجزئة والتفسّخ وندرك مدى الترابط والجدل المتنامي بين مواجهة الصهيونية والاستعمار وبين نهضة الأمة، ولا يمكن أن تحقق مشروعاً نهضوياً إن لم تكن مسألة تحرير فلسطين في نواة هذا المشروع وساحة معركته الأساسية". ويعد الشهيد فتحي الشقاقي أحد أبرز رموز التيار المستنير داخل الحركة الإسلامية لما يتمتع به من ثقافة موسوعية، واستيعاب عقلاني لمشكلات الحركات الإسلامية وقضاياها في العالم العربي والإسلامي. كما يعتبر مجدد الحركة الإسلامية الفلسطينية وباعثها في اتجاه الاهتمام بالعمل الوطني الفلسطيني، وإعادة تواصلها مع القضية الفلسطينية عبر القتال المسلح، فدخلت بذلك طرفاً رئيسياً ضمن قوى الإجماع الوطني الفلسطيني بعد طول غياب(8). وعلى الرغم من حرص الجهاد الشديد على التوافق داخل الساحة الفلسطينية، إلا أنها حافظت على موقفها الرافض للمشاركة بالانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الفلسطينية. وكان موقفها متميزاً ومعتمداً على رصيد الرفض للمشاركة في أي مؤسسة تحت قبة أوسلو. ويقول الشهيد الشقاقي في وصيته الأخيرة إلى الأمة: (إنني لا أجد بديلاً عن الجهاد والكفاح المسلح لتحرير القدس والأقصى.. وكل فلسطين.. إن التخبط السياسي أمام الحركات الإسلامية بشأن المشاركة أو عدم المشاركة في اللعبة السياسية مع الكيان الصهيوني أو مع ما يسمى بسلطة الحكم الذاتي.. لا مستقبل له.. ولا بد من الجهاد والكفاح حتى آخر العمر وحتى تحرير فلسطين من نجس الأعداء). وقال:(على الحركات الإسلامية التي تنتهج العنف المسلح أن تضع على رأس أولوياتها العدو الصهيوني.. وألا ترحمه في أي مكان.. وأن تطارده.. فهنا ستتجمع حولها كل القوى ولن يعاديها إلا الخائن.. أو العميل). وهنا لا بد من التذكير بالتحذير من التشرذم وضرورة الوحدة يقول الشهيد الشقاقي: ".. لم تعد اللحظة التاريخية تحتمل هذا الانهيار وهذا التشرذم وهذا الغياب، لقد قضى محمد(ص) ثلاثة وعشرين عاماً حتى انتصر على قريش فماذا أعددنا اليوم وأمامنا مليون قريش..!!". إن وحدة الحركة الإسلامية مطلب في غاية الأهمية ليس كتكتيك مرحلة بل كقضية إستراتيجية.. إذ لا جدوى من الحديث عن فعالية النشاط الإسلامي بدونها فهي تعني وحدة الإرادة الإسلامية ووحدة الوعي الإسلامي ومن ثم وحدة الفعل والفعل الإيجابي على طريق الانتصار، وبها وحدها يصبح هذا الانهيار إحدى صور التحول التاريخي نحو ميلاد جديد ونحو أزمنة جديدة ينحسر فيها الزبد ويتنامى فيها المد الإسلامي الذي كان ماكثاً في الأرض". الشهادة أما خطاب الشهيد فتحي الشقاقي عن الشهادة والشهداء فيتّسم بالصدق والربط بين الديني والوطني، والإصرار على خوض المعارك حتى النهاية الطبيعية للصراع بالانتصار على إسرائيل ومن يساندها. فالشهداء بهذا المنطق يصطدمون بقدر جبروت العدو ليحققوا توازن الأمل للأمة حين ينقطع الرجاء، ويواجهون الموت بأجساد عارية لينتقلوا بالآخرين إلى ضِفّة الحياة الكريمة، فهم بهذا المعنى يكرهون الحياة القصيرة والمحدودة والممزوجة بالقهر والظلم، ويطمحون إلى الحياة الجميلة والمستمرة، محلّقين بذلك فوق المادة ومتجاوزين العالم المحدود... والشهداء في غياب أجسادهم عنا لا يخسرون، بل نحن الذين نستنزف بحزن قاتل يزيد من بشاعة هذه الحياة ومرارتها، أما هم فإنهم يلتقطون الفرح الموصول بالزمن اللامتناهي... وتمتد أيامهم في عمر يزيد ويزيد ليعانق الخلود الأبدي في وحدة تصيّرهما معاً: عشقاً وفرحاً طليقاً... يقول الشهيد الشقاقي عن الشهداء: "الشهداء لا يموتون، إنهم أحياءٌ يهبون لأمتهم مزيداً من الحياة والقوة. قد يلغي القتل أجسادهم الظاهرة ولكنه يستحضر معنى وجودهم مكثفاً خالصاً من نوازع الجسد وثقله، متحرراً من قيوده، ويطلقُ أرواحهم خفاقةً حيةً، مؤثرةً بحجم المعاني التي قتلوا لأجلها وهم يدافعون عنها وحتى ينتصر دمهم على السيف، سيف بني إسرائيل وحلفائهم وأتباعهم". ويضيف: "الشهداء يعيدون تشكيل الحياة بزخم وإبداع أعظم، ويهبوننا حياة أكثر عنفواناً وتمرّداً، فدمهم شريان الحياة لشجرة المقاومة وشجرة الحرية...". ومن الأمثلة الواقعية التي يشهد بها للدكتور الشقاقي، هي جدية الجهاد الإسلامي في غرس مفاهيمها، ومنظومتها الفكرية لدى قطاعاتها، مما لا يدع مجالاً للشك حول أهمية هذه الفكرة التي تحاول غرسها في عالم لا يرى إلا بمنظار صهيوني واحد مع ادعائه رعاية حقوق الإنسان والعدالة... والتدليل على ذلك من خلال نص واحد فقط، اعتقد أنه كاف لذلك، من خلال وصية الشهيد خالد شحادة منفذ عملية حولون والتي قال فيها: "هذا هو قدرنا... قدرنا أن نقوم بواجبنا المقدس، وهذا القدر الرباني الذي نحياه لا يعني إلا استمرار تواصلنا الحضاري الذي انقطع منذ عدة قرون، واستمرار جهادنا نحو وجه الله... وقدرنا أن نكون أهل وأبناء هذا الوطن المنكوب الذي تمكن فيه العدو الصهيوني وأعوانه من اغتصاب كل شيء، فإذا ما تأملنا حولنا ماذا نجد؟ إنسانيتنا مداسة، حريتنا مصادرة، إرادتنا مسلوبة، ولا نملك من أمرنا شيئاً بالله عليكم ما الذي يجبرنا على هذه الحياة، وما الذي بقي لنا حتى نحرص عليه". يتساءل الشهيد الشقاقي: "ماذا يعني أن نستشهد؟ ماذا يعني أن نستشهد في هذا الوقت؟ أن نستشهد في هذا المكان؟ الوقت هو الزمن الأمريكي الصارخ، بالهيمنة والظلم والنهب، والممتد إلى أربعة جهات الكون صلفاً وغروراً واستكباراً. المكان هو حدود فلسطين باتجاه بيت المقدس حيث تمطي بيوت إسرائيل حلفاء الزمن الأمريكي وامتداده علواً... وفساداً". وعلى الرغم من حالة الانقسام الحاد الذي برزت في الساحة الفلسطينية بعد الدخول بعملية التسوية، إلا أن المقاومة أكدت عبر رسائل ممهورة بالدم أن الوحدة والمقاومة هما بداية طريق الانتصار على العدو الإسرائيلي... فقد قال الشهيد الشقاقي، كلمات سطع معها الأمل مع دم الشهداء عبر السيف وسطوع شمس النهار: "ملعون من يساوم، ملعون من يتراجع، ملعون من يقول لكيانهم المسخ: نعم، فالصف الأول يستشهد، والصف الثاني يستشهد، والصف العاشر يستشهد، نحن شعب الشهادة، ولو على حجر ذبحنا لن ننكسر، ولن نستسلم، ولن نساوم". فبحسب الشهيد الشقاقي: "وحدهم الشهداء قادرون على وقف المهزلة، وإعادة النجوم إلى مداراتها وحركة التاريخ إلى اتجاهها الصحيح، ووحده الدم سيهزم السيف". ويوضح: "إن الحرب مع العدو الصهيوني مستمرة وإن باب الجهاد مفتوح ونعمة الشهادة باقية وإن معاناة الجهاد أكرم عند الله وفي الدنيا من معاناة الاستسلام وهوانه ومذلته". ويقول: "لقد كشف عملنا الجهادي ارتباك العدو وضعفه وإصابته بالهستيريا، وبات واضحاً أنه قابل للانكسار، فإذا كانت فئة قليلة استطاعت أن تسبب كل هذا الرعب والهلع للعدو، بتصديها له في فلسطين وفي جنوب لبنان، فكيف سيكون عليه الوضع عندما تقف الأمة بكل طاقاتها في مواجهته؟". مؤكداً أن "الاحتلال هو السبب وهو الهدف وطالما استمر فجهادنا قائم ومستمر". وكان يرى أن القدس تقف في مواجهة تمام الباطل، يقول: "في هذا العالم، في هذا الزمان تختصر فلسطين الكون... جغرافيا ومعنى، وتختصر القدس فلسطين... إذ يعني أن يدوم الصراعُ حتى حل مشكلة الموازين المختلة، وأن يدوم الصراع حتى يكبر الخير ويشتد عوده، حتى يكتمل ويتم في مواجهة تمام الباطل. إذ يعني ألا تكون أورشليم... بل بيت المقدس الذي تُهدى إليه الأرواح ولا تُهدى روحه لغيره كما قال المصطفى (ص).. مسرى محمد عبر المكان المحدود ومعراجه عبر الزمان المطلق بالقدرة واللطف... عبر المعنى الموعود بإساءة وجه بني إسرائيل ودخول المسجد الأقصى وتتبير المشروع الصهيوني القائم على الإفساد وغلبة الشر وطغيان المادة"(9). خطاب متميز يتميز خطاب الشهيد الشقاقي بصدق العبارة المستندة إلى فكر يجمع الديني مع الوطني. كما يتميز بالوضوح والسلاسة، وإيصال المعنى بجمل قصيرة وهادفة. ومن خلال كلماته وخطبه يتضح مدى الانسجام مع الذات وهذا ما يؤكده استشهاده لاحقاً؛ إذ كان يتحدث عن الشهادة والشهداء بحسرة الفراق وتمنّي اللحاق بركبهم متوثباً للحاق بالشهداء شهيداً، يتلفّع عزيمة المجاهد بالصبر وبخيار النصر أو الشهادة طريقاً وحيداً نحو وجه الله الكريم. وبعد استشهاد السيد عباس الموسوي (26/10/1952 - 16/2/1992)، أمين عام حزب الله السابق، قال الشهيد الشقاقي قولته المشهورة: "إن حزباً يستشهد أمينه العام لا يمكن أن ينكسر". وفي الذكرى الأولى لاستشهاد السيد عباس الموسوي ألقى الشهيد الشقاقي كلمة جاء فيها: "في ذكرى شهيد فلسطين نؤكد على تمسكنا بفلسطين من بحرها لنهرها، نؤكد رفض شعبنا القاطع لمفاوضات الذل والعار ونقول للجميع إن بديلنا هو الصمود والثبات واستمرار خط الجهاد والنضال...، رحل السيد الذي قالوا له لا تذهب جنوباً.. لا تذهب إلى جبشيت كما قالوا لجده العظيم أبي عبد الله الحسين لا تذهب شمالاً.. لا تذهب إلى كربلاء ولكنه ذهب ليهبنا بموته الحياة وليزرع في صحرائنا الأمل، فبوركت أيها الفدائي العظيم، بوركت ذكراك، بورك حزب يستشهد أمينه العام، إنه حزب لا يموت، إنه حزب ينتصر، ألا إن حزب الله هم الغالبون"(10). وبعد استشهاد الشقاقي قال السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله: "إن حركة يستشهد أمينها العام لا يمكن أن تنكسر"(11). وفي الختام، أبا إبراهيم: لم تعد فلسطين ومضة حلم كما أراد البعض وتمنى؟ والتراب أمسى والدم يرويه. وأفق الأمل بات يزداد أن النصر تصنعه سواعد المقاومين القابضين على جمر القضية، الحارسين للقدس والمقدسات، المنافحين عن كرامة فلسطين كل فلسطين.. لم يسكت بركان الغضب العارم، ولم يُخمدوا صوته الصادح بالحق مع دوي نداء الفجر، بل عند ندى الصباح يُجدّد القسم للوطن والشهداء.. فتحي الشقاقي دوي الانفجار آتٍ، فالدم ـ كما قلت ـ عنوان المرحلة، وفلسطين تبقى القضية المركزية بها نعرف أولوياتنا، وعلى صخر جبالها نقهر الأعداء. وأختم بقوله: (إنني أرى بعقلي وبروحي.. وطني وقد تحرر.. ففلسطين ستعود إلينا وسنعود إليها.. إن فلسطين غالية وتستحق منا البذل.. إنها أرض الرسالات.. إنها وطني المقدس إنني أراه عائداً وأنا إليه عائد.. مهما طال السفر والغربة). المصادر 1- من تعريف موجود على مواقع انترنت حركة الجهاد الإسلامي. 2- الوحدة الإسلامية والقضايا الكبرى هيثم أبو الغزلان، ضمن كتاب "معوقات تجارب الوحدة الإسلامية"، صادر عن مؤسسة الفكر المعاصر، ص 71 وما بعدها. 3- كلمة الشهيد فتحي الشقاقي في المؤتمر القومي الإسلامي (12-10-1994). 4- المصدر السابق نفسه. 5- الأعمال الكاملة للشهيد فتحي الشقاقي، مجلد 1، ص 422. 6- الأعمال الكاملة للشهيد فتحي الشقاقي، مجلد 1، ص 273. 7- المصدر السابق نفسه. 8- مركز يافا للدراسات والأبحاث (www.yafacenter.com). 9- من كلمة للشهيد فتحي الشقاقي ألقاها بمناسبة يوم القدس العالمي – دمشق – (10/3/1994). 10- من كلمة للشهيد الشقاقي في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي (14/2/1993). 11- فتحي الشقاقي شهيداً، مركز يافا للدراسات والأبحاث، ط 1، ص 42 . |
||||||