|
|||||||
|
في الوقت الذي يواصل فيه المشروع الصهيوني زحفه الاستيطاني الرسمي وغير الرسمي عبر اقتطاع المزيد من الأرض الفلسطينية وتشريد أصحابها، حتى في المناطق المحسوبة على أنها أراضي الدولة الفلسطينية المفترضة، ما يضع، وقد وضع منذ زمن، ما يسمى "حل الدولتين" على سكة الفشل التام وعدم إمكانية إقامتها، في ظل القضم المتواصل لأرضها ولسيادتها ولمقوماتها كدولة مستقلة ذات سيادة. وفي المقابل يجري تهيئة الأرض ديموغرافياً لإقامة دولة الاستيطان والمستوطنين، وذلك في مهمة تاريخية سعى ولا زال المشروع الصهيوني يسعى إلى تطبيقها ألا وهي نفي الوجود الوطني الفلسطيني بكل أشكاله على أرض فلسطين، ومواصلة تخليص الأرض من وجود شعبها تاريخيا عليها، وإحلال سرديات وجود توراتي متخيل، يجري منحه سمات "الوجود التاريخي" المزعوم الذي نفته ودحضته كل الحقائق العلمية والمعطيات العملية بشكل مطلق... هكذا.. وكأن المشروع الصهيوني ما برح في بدايته، أو في بواكيره الأولى. في نفس الوقت فإن الوضع الوطني الفلسطيني والعربي، ما برح على حالة غير مسبوقة من العجز. فالمأساة؛ مأساة النكبة، يُعاد اليوم إنتاجها من جديد، احتلالاً ومصادرة للأرض وتشريداً لأصحابها ولو نحو شتات داخلي أول الأمر، بل ونحو المنافي القريبة والبعيدة؛ فلئن كانت النكبة الأولى بالجملة، فما يجري اليوم ومنذ الأمس القريب وغداً، إنما هو يأخذ طابع التشريد وإعادة التشريد، والاحتلال وإعادة تأكيد الاحتلال بالمفرق.. أو بالتقسيط، كل ذلك ضمن خطط ومخططات معلنة؛ لم تعد تخفى أو تتخفى وتتقنع تحت شعارات وذرائع مضمرة؛ والهدف الواضح والمعلن: إعادة احتلال ومصادرة ما لم يصادر من أراضي الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، وإعادة احتلال المناطق الحدودية مع الأردن، وتكريس انفصال المدن والقرى والمخيمات، وقطع تواصلها داخلياً وخارجياً عن مناطق الاحتلال الأول (فلسطين عام 1948) ومناطق الاحتلال الثاني (القدس – الضفة الغربية وفي داخل الضفة ذاتها) علاوة على وضع أسس انفصال غزة بالطبع عن باقي المناطق الفلسطينية. وفي طيات كل هذا يكمن الهدف الصهيوني المتمثل منذ البدء في نفي أي حق للفلسطيني في أرض وطنه، بل في نفي حق تواجده ووجوده كإنسان، وبالتالي نفي الهوية الوطنية الفلسطينية واعتبارها كأن لم تكن. فقد بات واضحاً أن مخططات تجديد المشروع الصهيوني لا تتضمن فقط نفي إمكانية قيام دولة فلسطينية محدودة ومحددة في إطار ما اتفق عليه في أوسلو، بل أضحى واضحاً أن المطلوب هو نفي ملكية الفلسطيني لأرضه، أو بيته أو أية أملاك هي ملك آبائه وأجداده منذ آلاف السنين. وهذا ما يجري في القدس منذ زمن، وما جرى وسوف يجري تكثيفه وفقاً لمخططات هدم القرى والاستيلاء على المزيد من الأراضي في الضفة الغربية؛ وتشريد المزيد من المواطنين الفلسطينيين ولو إلى مناطق شتات داخلي، أو الدفع بهجرات لها طابع الترانسفير الفردي أو الجماعي إلى الخارج، جراء المضايقات والضغوط الاحتلالية المتواصلة، ضد أفراد وعائلات وجماعات من هنا أو هناك أو هنالك من الأرض الفلسطينية. كل ذلك يجري في ظل مشهد فلسطيني عام يعاني من استعصاءٍ سياسيٍ متمثلٍ في ركود اتفاق المصالحة وهدنة آنية للمقاومة ووصول المفاوضات العبثية مع العدو الصهيوني إلى طريق مسدود, ما يبشر بانتفاضات قادمة تجعل الباب مفتوحاً على آفاق جديدة لمستقبل قادم للقضية الفلسطينية. إشكالية المصالحة لا يبدو أن المسار الذي تسلكه عملية المصالحة الفلسطينية يؤتي ثماره، ولا تلوح في الأفق إمكانات حقيقية لكي تستكمل المصالحة الملفات التي تعهدت بإنجازها. وباختصار فإن هذه المصالحة كانت "ملغّمة" بمعوقات، يمكن أن تتفجر في وجهها عندما تتقدم ولو خطوة واحدة بشكل جاد. وكانت إسرائيل الحاضر الغائب دائماً. ففي الملفات الرئيسية للمصالحة، كانت هناك ثلاثة ملفات هي تشكيل الحكومة الفلسطينية، وإجراء الانتخابات، وإعادة ترتيب الأجهزة الأمنية لا يمكن أن تتم دون الموافقة الإسرائيلية، خصوصاً في مناطق الضفة الغربية. وبهذه الطريقة يمكن لـ"إسرائيل" أن تُفشل أو تُعطِّل عملية المصالحة، إذ لم تَتم الأمور وفق رغبتها أو وجدتها مخالفة أو متضاربة مع مصالحها. لم تتشكل حتى الآن الحكومة الفلسطينية التي تُعبر عن الوحدة الوطنية والشراكة بين الفصائل الفلسطينية، لأن هذه الحكومة إذا أرادت أن تعمل في الضفة الغربية فيجب أن لا يكون عليها أو على بعض وزرائها فيتو إسرائيلي، وإذا أرادت أن تعمل في قطاع غزة فيجب عليها أن تحصل على موافقة الفصيلين الرئيسيين حماس وفتح معاً. وإذا تمسكت "إسرائيل" بشروطها، فعلى أطراف المصالحة أن تستجيب، وإلا فلن تكون هناك حكومة تستطيع العمل على الأرض، ببساطة لأن هناك شيئاً اسمه الاحتلال الإسرائيلي، بوجهه القبيح والشرس، وبأدواته الغليظة في القتل والقمع والحصار والتدمير والمصادرة والاعتقال ومنع حركة الأفراد وتعطيل المؤسسات.. إلخ. قد نحتاج بضعة أشهر أخرى لنصل إلى "معادلة سحرية" جديدة نظهر فيها وكأننا حققنا إنجازاً وطنياً بتشكيل حكومة توافق وطني، ولكننا في الحقيقة لا نكون قد أرغمنا الطرف الإسرائيلي على شروطنا، بقدر ما أبدت بعض الأطراف "مرونة" استجابت فيها للخطوط الحمر الإسرائيلية. كذلك فإنه لا يمكن إجراء انتخابات حرة نزيهة شفافة في أجواء صحية في كلّ مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس، دون موافقة أو على الأقل سكوت إسرائيلي؟! فالاحتلال الذي يملك مداخل السلطة ومخارجها، ويحتل أرضها وسماءها، ويملك تدمير بناها التحتية ومصانعها ومدارسها ومؤسساتها الاقتصادية، ويستطيع التحكم بحركة المال، كما يستطيع تعطيل عمل المجلس التشريعي واعتقال الوزراء، ومنع أجهزتهم من العمل، ومنع إداراتهم من التنفيذ. هل يسمح هذا الاحتلال لأي اتجاه مقاوم يسعى لطرد الاحتلال لتغيير معادلة الصراع؟. بعد ذلك تبرز إشكالية إعادة ترتيب الأجهزة الأمنية، فهل يمكن في أجواء الاحتلال الإسرائيلي والسكون الفلسطيني، أن تتم هيكلة هذه المؤسسة الأمنية بناء على اتفاق المصالحة، بحيث يُعاد تعريف دورها، وبحيث يتم إبعاد العناصر التي تقف عائقاً في وجه أية مصالحة وطنية حقيقية، وبحيث تفتح بشكل حقيقي أمام أبناء الشعب الفلسطيني، بناءً على إخلاصهم ووطنيتهم وكفاءتهم، وليس وفق اعتبارات الانتماء لفصيل فلسطيني مُعيَّن، أو اعتبارات "السلامة الأمنية" من أنه بعيد كل البعد عن قوى المقاومة وتياراتها. وإذا كان ثمة إصرار على أن تبقى الأجهزة الأمنية مستجيبة لشروط ومعايير الاحتلال، وقائمة عملياً بوظائف تتعارض مع جوهر مشروع المصالحة، فستكون النتيجة أن يقوم الاحتلال وهذه الأجهزة بإفشال المصالحة وإفراغها من محتواها. وعلى أطراف المصالحة عندئذ ألا يستغرقوا كثيراً في أحلام المصالحة. إذا كان التوافق على تسمية رئيس وزراء الحكومة الانتقالية محددة المهام احتاج لنحو سنة، وقد نحتاج سنة أخرى لاستكمال الحكومة، وربما سنة ثالثة بانتظار الانتخابات وتهيئة الأجواء والحصول على الموافقة الإسرائيلية والأمريكية، ثم قد نحتاج إلى سنتين رابعة وخامسة لنجد أننا غير قادرين على إدارة مشروع وطني تحت الاحتلال ووفق شروط أوسلو، وأننا عدنا من حيث بدأنا لنكتشف مرة أخرى أننا بحاجة إلى مسار آخر بعيداً عن الإملاءات الإسرائيلية والمحددات الأمريكية، فلماذا لا نعترف منذ الآن بأن المسار الحالي خاطئ، ولا يؤدي إلى نتيجة حقيقية جادة؟ ولماذا لا نبحث عن مسار آخر أقدر على الإنجاز، حتى وإن كانت أثمانه الأُولى عالية، ما دام مساراً يستحق الاستثمار فيه؟. البعض يقول بأن المسار الأفضل في مثل هذه الأوضاع هو البدء بملف منظمة التحرير الفلسطينية، فإذا كان ثمة جدية حقيقية لعلاج المأزق الفلسطيني، فإن الأولى هو البدء بترتيب البيت الفلسطيني نفسه، والاتفاق على برنامجه الوطني، وتحديد أولوياته الوطنية. وعند ذلك يكون موضوع حكومة السلطة وانتخاباتها هو أحد تجليات وتطبيقات البرنامج الوطني، وتكون السلطة الفلسطينية نفسها هي إحدى أدوات تطبيق هذا البرنامج. إن مزيّة التركيز على مسار المنظمة أولاً هي أن المنظمة تمثل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبالتالي فإن عملها وأداءها ليسا مرهونين بمتطلبات الاحتلال ولا واقعين تحت رحمته. ويمكن لها أن تعيد بناء نفسها وأن تفعّل مؤسساتها، وأن يعمل ممثلوها دون أن يكونوا عرضة للتعطيل والإفشال والاعتقال، كما في حالة السلطة تحت الاحتلال. إن حرية صناعة القرار، وصدوره في إطار مؤسسي جامع هو أكثر ما يحتاجه الشعب الفلسطيني، وهو أهم من مجرد تشكيل حكومة تحت الاحتلال، وإجراء انتخابات تحت الاحتلال، وإدارة حياة الناس تحت الاحتلال، لأن القاسم المشترك في ذلك هو الاحتلال وسقف أوسلو، أما في منظمة التحرير الفلسطينية، بعد إعادة بنائها وتفعيلها، فالقاسم المشترك هو إنهاء الاحتلال والتخلص منه، وهو برنامج لا تملك آليات إنجاحه كافة مهارات سلطة حكم ذاتي أنتجها اتفاق أوسلو. الحراك العربي هل تراجع اهتمام العالم بالقضية الفلسطينية؟ وهل بات المواطن العربي أسير همومه المحلية فقط؟ وما تداعيات ما سمي بربيع الثورات العربية على القضية الفلسطينية؟ وهل يمثل ذلك فرصة أمام الفلسطينيين لإيجاد وسائل جديدة للدفاع عن قضيتهم؟ وإذا كان المجتمع الدولي ساند طموحات شعوب الدول العربية التي مر بها ربيع الثورات العربية أليس من الأولى الوقوف إلى جانب طموحات الفلسطينيين؟. إن كل من يتابع الأحداث التي تشهدها المنطقة كان يتصور أن يكون المشهد الفلسطيني أكثر ديناميكية من ذي قبل بحكم الحراك العربي الذي انبثق مع بداية ما سمي ربيع الثورات الشعبية ضد حكوماتها، ولكن الذي حصل أن واقعاً غير متوقع جاء مع هذا الحراك، فثورات العرب كانت ضعيفة التوظيف والاستثمار لشعار فلسطين في ساحاتها نسبياً، بل إن الحركة الأسيرة الفلسطينية وإضرابها التاريخي الذي يعد سياسياً بامتياز جاء كمحاولة جدية لإخراج المشهد الفلسطيني من جموده فضلاً عن كونه أحد التعبيرات الإنسانية عن حالة الأسرى داخل السجون الإسرائيلية فقد وقع هو الآخر تحت ظرفية الحالة العربية المشغولة بأولوياتها، ولم نشهد التفاعل اللائق مع معركتهم الأسطورية. وفي هذا السياق قالت جريدة ''نيويرك تايمز'' الأمريكية إنه بعد أربعة عشر شهراً من بدء الانتفاضات العربية أو ما يُعرف بـ''الربيع العربي'' باتت القيادة الفلسطينية تشعر بـ''اليتم''. وأشارت الجريدة في تقرير لمراسلها في رام الله، نشرته يوم 3/9/2012، إلى انهيار محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتراجع الدعم الخارجي للفلسطينيين. وقال التقرير ''إن السلطة الفلسطينية انتحت جانبا ومرتبكة وقلقة من احتمالية عودة أعضائها إلى العنف''. ونقل التقرير عن رئيس الحكومة لدى السلطة الفلسطينية سلام فياض قوله ''إن التحدي الأكبر الذي نواجهه بجانب الاحتلال هو تهميش القضية الفلسطينية، الذي هو نتاج الربيع العربي؛ حيث أصبح الناس مشغولين بشؤونهم الداخلية، كما أن الولايات المتحدة على أعتاب انتخابات الرئاسة ولديها الأزمة الاقتصادية، وأوربا لديها ما يقلقها.. لهذا بقينا على الجانب''. ولفتت الجريدة في تقريرها إلى أنه على مدى عقود بقي الفلسطينيون محور سياسات الشرق الأوسط، وكان صراعهم مع الاحتلال الإسرائيلي يجسد الحرية الأكيدة للأمة العربية منذ حركة الاستقلال عن القوى الاستعمارية، وأشارت أيضاً إلى تأكيد الرئيس الأمريكي باراك أوباما في بداية توليه منصبه أن دولة للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية مفتاح لإحراز تقدم في المنطقة. ودللت الجريدة على انحسار الاهتمام بالقضية الفلسطينية بهيمنة ملفات أخرى في المنطقة، على المحادثات التي يجريها الزعماء الإسرائيليون خلال زياراتهم لواشنطن. إن ذلك كله قد عكس طابعاً اجتماعياً سياسياً محلياً لهذه الثورات، وهي ثورات الشعوب التي عاشت عمرها تنبض على إيقاع الساعة الفلسطينية، فكانت هذه الثورات وفي هذه النقطة تحديداً موضعاً لرمي سهام الخصوم إليها، إلا أن هذا الواقع لا يعكس أي حقيقة جديدة من موقف الشعوب العربية من قضية فلسطين، إذ أن بروز الهمّ الداخلي أولاً لا يعتبر منقصة في سياق الحراك الثوري لأي شعب، وهذا ما بدأت به ثورات عالمية كثيرة إذ بدأت ثورات اجتماعية لتنتهي كمركب سياسي لا يستطيع العيش بمعزل عن قضاياه التاريخية. إلا أننا لا ننسى بأن الفلسطينيين على العموم دائماً ما يعيشون هاجس أي تغيير مرتقب عربياً، فالمشهد العربي التقليدي الذي تميز بوتيرة بطيئة ورديئة لإحداث أي تغيير واضح في معالمه حمل في أكثر من محطة تغييرية كوارث على الفلسطينيين اللاجئين فيه، والذاكرة الجمعية الفلسطينية لا تزال تستحضر أزمة الخليج عام 1991م وما نتج عنها من تشريد لآلاف الفلسطينيين من منطقة الخليج، وكذا الأمر في العراق الذي لا يزال الفلسطيني يجني أشواك التغيير فيه حتى هذه اللحظة، وليس آخر هذه الذكريات ما جرى للفلسطينيين في نهر البارد في لبنان، كل هذه الذاكرة تبقى حاضرة في الوعي الفلسطيني مع غياب واضح للمؤسسات السياسية الفلسطينية عن وعي أو لا وعي عن متابعة أي احتمالات متوقعة على حياة اللاجئين في ظل الربيع العربي. وقد دأبت كثير من الكتابات والتحليلات الفلسطينية خصوصاً على تصوير الربيع العربي على أنه خير مطلق للقضية الفلسطينية كما تحدثت كتابات أخرى عن المحاذير التي يمكن حدوثها خصوصاً مع استحقاقات المراحل الانتقالية التي تكون التغيرات الجذرية أهم طابع لها، فالمراحل الانتقالية مرشحة دوماً لكثير من الأخذ والرد في كل مكونات المجتمع الذي يتهيأ للتغير، واللاجئ الفلسطيني كحلقة ضعيفة في المجتمعات العربية ربما يكون مرشحاً بقوة لدفع أثمان الانتقال من حيز الثورة إلى حيز الدولة، وهنا وبالعودة إلى نقاش تأثيرات الربيع العربي على القضية الفلسطينية، سنجد أن مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية بخلاف الفلسطينيين في الداخل هم المكون الفلسطيني الوحيد الذي يشترك مع الشارع العربي في الحاجة إلى حدوث تغيير اجتماعي على واقعه بعد حرمانه من العمل وحرية التنقل والتضييق عليه من كل الجوانب. وفي ظل ما يعيشه هؤلاء اللاجئون في بعض البلدان العربية فإن التغيير يجب أن يكون مطلب مجتمع اللاجئين نفسه، ولا بد للاجئين أن يخوضوا ربيعهم تحت عنوان المطالب الاجتماعية السياسية المحلية ليكونوا قادرين على إيجاد الربيع الأكبر المتمثل في تحقيق مطلبهم السياسي المتمثل بحق العودة، بعد تمكينهم من حق الحياة الكريمة وتنظيم أنفسهم لخوض معركة المصير النهائية باتجاه التحرير الكامل لكل فلسطين التاريخية. إلا أن الحالة الفلسطينية أيضاً عاشت على معادلة الداخل والخارج منذ زمن طويل، والوقت مناسب كماً ونوعاً لكي يستعيد الخارج دوره من خلال الانتفاض على واقعه في الدول العربية مستفيداً من مسألتين أولها حالة التحفيز التي خلقتها ثورات الربيع العربي، وثانيها حالة الجمود السياسي الفلسطيني في الداخل، فضلاً عن أن اللاجئين هم المكون البشري الأهم والأكبر الذين وقعوا فريسة التهميش والتطنيش فلسطينياً طوال عمر التسوية التي تقف أما حائط سميك ومرتفع كما يعرف القاصي والداني، وهم المرشح القوي لخوض تجربة ربما تكون الأولى من نوعها فلسطينياً من حيث قيام ثورة لأسباب اجتماعية، حيث أن ربيعاً فلسطينياً سيبقى هو الحل الأمثل لكل محاذير التغيير في العالم العربي. وعلينا أن ندرك أن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع السياسي مع العدو الإسرائيلي, وعلينا واجب كأمة عربية وإسلامية أن تبقى هذه القضية هي الشغل الشاغل لنا، وأن تحرير فلسطين والقدس والأقصى من أيدي العدو الإسرائيلي هو واجب مقدس على كل أبناء الأمة العربية والإسلامية وليس على الشعب الفلسطيني وحده. إن الربيع العربي قد فرض واقعاً جديداً على الشعوب العربية في ظل اكتشاف حجم الفساد الكبير من الزعماء والقادة العرب إلى ضياع حقوق الشعوب وثرواتها ونهب أموالهم ومدخراتهم وكنزها في البنوك الأجنبية لهم وإلى أولادهم وزوجاتهم وإلى الزمر الفاسدة من الوزراء....الخ. وفي ظل هذه الثورات العربية وتغير العديد من الأنظمة السياسية في مصر وتونس وليبيا واليمن وانشغال تلك الشعوب العربية في قضاياها الداخلية وتطهير أوطانها من الزعامات الفاسدة الجاثمة على صدور شعوبها منذ أكثر من 30 سنة. فإن الواجب يتطلب منا جميعاً دعم القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في العودة. كذلك فإن البعض يرى بأن الربيع العربي قد ساهم في تغييب القضية الفلسطينية عن المسرح الدولي والسياسي وعدم إعطائها الأهمية سواء من قبل الشعب العربي أو جامعة الدول العربية أو من الإدارة الأمريكية أو من الدول الأوروبية وذلك بعدم إيجاد الحل أو الحلول لهذه القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي في الوقت المنظور. إن ما جرى في الدول العربية هو رسالة سياسية إلى أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وإلى كافة القوى الفلسطينية والمنظمات السياسية إلى الدعوة إلى التوحد وتقوية الصف الداخلي والخارجي والموقف الفلسطيني ونبذ الخلافات والترفع فوق الجراح لكي يساهم في دعم القضية الفلسطينية وتقوية موقفها أمام المجتمع الدولي ولدعم حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في العودة إلى ارض آبائه وأجداده, ولكي يساهم في تخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني في ظل ذلك الحصار الظالم والجائر على قطاع غزة وعلى أغلبية المدن الفلسطينية في الضفة الغربية. الانتفاضات القادمة إن الحديث عن انتفاضة فلسطينية ثالثة كامنة في الأفق، ليس حديثاً إعلامياً أو استهلاكياً أو تعبيراً عن أمنيات تتفاعل، بل هو حديث مدجج بالأحداث والوقائع وبعوامل التفجير المتراكمة التي تنتظر اللحظة التاريخية المناسبة. فالفلسطينيون المحبطون من كافة ملفات المفاوضات والاستيطان والفساد، يجمعون اليوم على أن عوامل التفجير للانتفاضة الثالثة قائمة قوية متفاعلة متراكمة يوماً عن يوم، ولم تكن انتفاضة الأسرى الفلسطينيين الأخيرة في معتقلات الاحتلال الصهيوني، سوى واحدة من انتفاضات عديدة تلوح في الأفق، بل إنها هيأت المناخات الفلسطينية والعربية لانتفاضة جديدة، إذا تحركت فلسطين واشتعلت غضباً، وبات المرجل الفلسطيني في أعلى درجات غليانه، والعدو المتربص يتخوف من اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة عارمة، تشعل الأرض كلها تحت أقدامهم، بينما ما تزال انتفاضة الأسرى تتفاعل في أعقاب عدم التزام العدو بنصوص الاتفاق المعقود، مما ينذر بإضراب مفتوح مكمل عن الطعام من شأنه أن يفجر الشارع الفلسطيني على امتداد مساحة فلسطين كلها. لذلك إن كان هناك بضعة عوامل وراء تفجير الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى 1987-1993، وإن كان هناك ضعفها وراء تفجير انتفاضة الأقصى 2000، فإن العوامل المحتملة اليوم لتفجير انتفاضة فلسطينية ثالثة أوسع وأكبر وأقوى، وهي أضعاف تلك العوامل مجتمعة، بل إن التصريحات والبيانات والخطابات والإجراءات وسياسات التطهير العرقي الصهيونية المنفذة على الأرض الفلسطينية، كلها تشكل دعوة واضحة وصريحة للانتفاضات. وانتقالاً إلى ما يجري على الأرض الفلسطينية، وفي ميادين المظاهرات والمسيرات والمواجهات مع قوات ومستعمري الاحتلال، فتراكم مؤشرات الانتفاضة يشي بأن فلسطين أخذت تستفيق من سباتها التاريخي العابر، فنحن نتابع هبات فلسطينية على امتداد مساحة الضفة الغربية ضد الجدران والاستيطان. ونتابع كذلك هبّات مقدسية متلاحقة في مواجهة التهويد، فالمدينة بكافة أحيائها وحاراتها وشوارعها وأزقتها، من بلدتها العتيقة إلى سلوان والبستان، إلى العيسوية، فرأس العامود وبطن الهوا، إلى مخيم شعفاط فوادي الجوز، إلى رأس العامود وجبل المكبر، لتشمل كل الأمكنة المقدسية، تشهد مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال. وحسب تطورات الأحداث الموثقة فقد وضعت قوات الاحتلال عناصرها من جنود وأفراد شرطة ووحدات خاصة ترتدي الزي المدني، في حالة تأهب قصوى في القدس التي حوّلها الاحتلال إلى ما يشبه السجن، في وقت تتصاعد جرائم الاحتلال ومستوطنيه بحق المقدسيين، التي قادت إلى ما يشبه انتفاضة شعبية لاسيما في حي سلوان المقدسي المستهدف تهويديا في إطار ما يطلق عليه الصهاينة "الحوض المقدس". إلى ذلك، لعل مظاهر الانتفاضة المستمرة في الضفة الغربية، تتمثل بتلك التظاهرات والمسيرات والصدامات المفتوحة التي تجري على امتداد جدار الضم والتهويد في الضفة، والتي يطلق عليها "النضال الشعبي" أو "الكفاح الشعبي" أو "الاحتجاجات الشعبية"، والتي يطلق عليها أيضاً "الانتفاضة الشعبية الثالثة"، فهذه الانتفاضة لم تتوقف أبدا، بل تحولت إلى تقليد وروتين لدى الفلسطينيين، ويضرب عليها أمثلة حية ملموسة تجري في بلعين ونعلين و... إلخ، والكيان الصهيوني يشن حرباً قاسية على هذه الانتفاضة التي تتوقع دوائر الاستخبارات الإسرائيلية أن تتحول إلى انتفاضة أوسع وأقوى وأشمل. ففي الأشهر الأخيرة، بات العشرات من نشطاء لجان مقاومة الجدار والاستيطان في الضفة الغربية عرضة للملاحقات والاعتقالات والإقامة الجبرية والغرامات، في مساعٍ إسرائيلية معلنة لشل هذه اللجان التي انتشرت بصورة واسعة في القرى المتضررة من بناء الجدار والاستيطان، ومثل أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية عدد من قادة المقاومة الشعبية. كما تحولت بيوت ناشطي الحركة الشعبية في قرى بلعين ونعلين والمعصرة وجيوس إلى أهداف شبه ليلية لاقتحامات جنود الاحتلال الذين ينفذون فيها مهمة متقنة من التخريب والتدمير. ما يعود بنا إلى دراسة البديهيات، التي تميز الثقافة والوعي الفلسطينيين، والتي تحدث عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش، مضيفاً: "كلما خيّل لنا أن صورة فلسطين انتقلت من مكانتها المقدسة.. إلى السياق العادي، فاجأتنا بقدرتها الفذة على إيقاظ معناها الخالد، ببعديه الروحي والزمني، من نعاس تاريخي عابر..". وفي سياق اليقظة الفلسطينية من هذا السبات العابر، يتحدث الفلسطينيون اليوم ربما عن عشر انتفاضات غضب في انتفاضة واحدة كبرى وشاملة، تعتمل فيها تراكمات غضب هائل مستمر منذ سنوات. هكذا هو المشهد الفلسطيني الراهن الماثل في فضاء الحراكات العربية، فـ"الضفة الغربية تستعيد أجواء الانتفاضة الأولى، فتشهد مدن وقرى الضفة الغربية حالة تشبه إلى حد كبير الأجواء التي سادت خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة) التي اندلعت أواخر عام 1987 وخبت جذوتها بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ويرى المراقبون أن الأجواء اليوم تساعد أكثر من أي وقت مضى على اندلاع انتفاضة شعبية جديدة، خاصة مع تزايد الاستيطان وعنف الاحتلال وتردي الوضع الاقتصادي وانسداد أفق التسوية السياسية. وتعزز التقديرات الاستخبارية والإستراتيجية الإسرائيلية من جهتها، ما يذهب إليه المراقبون بشأن احتمالية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، ويكثف البروفيسور مناحيم كلاين، المحاضر في العلوم السياسية في جامعة بار إيلان التقديرات الإسرائيلية في مقالة له بعنوان "العنوان مكتوب على الجدار" فيقول: "في ظل الثورات في العالم العربي وانسداد الأفق أمام الفلسطينيين، وإدراكهم أن الخلاص لن يكون عن طريق الولايات المتحدة، فإن مسألة اندلاع انتفاضة لا ينقصها إلا شرارة لإشعالها". وحسب التقديرات والمعطيات العسكرية الأمنية الإسرائيلية فإن "انتفاضة الحجارة الفلسطينية قد تعود مرة أخرى"، مشيرة إلى "تصاعد العمليات الفلسطينية خلال المسيرات والمظاهرات ورشق الحجارة وإلقاء الزجاجات الحارقة"، ما يعزز المعادلة الصراعية الطبيعية في ظل الاحتلال، فطالما تتواصل سياسة "البلدوزرات" والاستيطان في الضفة الغربية، فـ"إن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة قادمة". بل ربما نذهب أبعد من ذلك بالتأكيد على أن الاحتلال وإن كان في ذروة مشاريعه الاستيطانية، إلا أنه تجاوزها عمليا إلى ما هو أخطر، إلى مرحلة التزييف والتزوير الشامل للتاريخ والتراث والحقوق، بل إلى مرحلة النفي والإلغاء للآخر، مما يضع الفلسطينيين والعرب شاؤوا أم أبوا في صراع وجود وبقاء ومستقبل. هكذا هو المشهد الفلسطيني المتبلور اليوم، إذ في الوقت الذي تؤكد فيه مصادر فلسطينية رسمية "أن لا عودة لانتفاضة جديدة"، و"أن السلطة لن تسمح بانتفاضة ثالثة"، فإن المعطيات على الأرض الفلسطينية تنبئ بغير ذلك. فالشعب الفلسطيني الذي انطلقت مسيرته النضالية الكفاحية ضد الانتداب والمشروع الصهيوني معاً، قبل نحو قرن من الزمن، والشعب الذي فجر تلك الانتفاضة الكبرى الأولى عام 1987، وألحقها بالانتفاضة الكبرى الثانية 2000، احتجاجاً على الأوضاع المأساوية وعلى المفاوضات العقيمة، وعلى الاستيطان وجرائم الاحتلال، وعلى اختطاف وتهويد المدينة المقدسة، يبدو أنه في ذروة الغليان، وهذه المرة ليس فقط ضد الاحتلال، وإنما ضد الفساد المستشري حتى النخاع، وضد حالة الانقسام النكبوي الذي يدمر المشروع الوطني التحرري الفلسطيني يوماً بعد يوم. والأهم من كل ذلك أن الشعب الفلسطيني قد ضاق ذرعاً من الأفق السياسي المغلق تماماً، وعيل صبراً من عملية المفاوضات مع العدو الصهيوني الفاشلة. لذلك بات الفلسطينيون يجمعون إلى حد كبير، على أن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة آتية، وعلى أن "الوحدة الوطنية الفلسطينية"، و"وحدة الخنادق والبنادق" في مواجهة حروب الاستيطان والجدران على امتداد مساحة الأرض الفلسطينية المحتلة، هي المخرج من المأزق وهي البديل الملح، وهي الحاجة الوطنية العاجلة لحماية المشروع الوطني الفلسطيني التحرري من جهة، ولقيادة الانتفاضات ومشروع المقاومة حتى زوال الاحتلال بكل جيوشه ومستعمريه وإداراته العسكرية والمدنية عن كل الأراضي الفلسطينية المحتلة. |
||||||