اللوحة الرابعة: ملامح وأقلام

السنة الخامسة عشر ـ العدد 175  ـ (رمضان ـ شوال  1437 هـ ) ـ (تموز 2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


لمدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

محمد علي شمس الدين في "دم أبيض": الغموضُ في الشعر.. سيِّدُهُ

الكتاب: دمٌ أبيض.. (ستُّ محاورات في الشعر)
الكاتب: محمد علي شمس الدين – حوار: اسكندر حبش
الناشر: دار الأمير للثقافة والعلوم

 لم يجد الشاعر محمد علي شمس الدين، متّسعاً من الوقت خارج حركة عقارب الشعر... فلم يستطع أن يعلن عن دمه الأبيض، المتأرجح بين وجع الجرح ولذة الكشف عنه، إلا عبر جملة من المحاورات، عرف الممسك بدفة أسئلتها كيف يديرها ويسبر الأغوار مستقرئاً العَصيّ على القول والبوح من دون تلميح وإيماء ومواربة وما يجد في القصيدة ملاذاَ للتستر والتواري في تلافيفه...

هذا ما يعلنه الشاعر، حين يسأله المحاور (اسكندر حبش) منذ البداية، وعبر المحاورة الأخيرة زمنيّاً، والأولى عبر ترتيبها في الكتاب.. إذ يرى أنّ المحاورة، التي تحمل دلالة التعددية في الرؤية، والتي تسهم في التدخل من أجل التعديل بين حين وآخر، هي ما يفضّله الكاتب لإطلاق نصّ شبيه بسيرة شعرية ذاتية.. وفي هذا يكرّس فكرة التصارع الرياضي بين العديد من المتناقضات، شكّلت مشواره الحياتي فكريّاً وإبداعيّاً وبحثيّاً، مسرحاً أو ميداناً للتّقاطب والتّوازي والتّقاطع بينها.

في هذا الكتاب "دم أبيض"، يضعنا المتحاوران أمام مرآة تعكس لجّة الشعر لدى (شمس الدين)، حيث انبثاق القصيدة من قاع ثقافيّ فيه خلطة وجبلة من الفلسفة والتّاريخ والعلم.. وبهذا يعلن عن عمارة الشّعر وهندستها القائمة على مداميك ثابتة عدّة، لكنها قابلة للتغير والتحوّل إذا تغيرت معطيات وجودها وظروفها.. تلك العمارة التي تشكّل الكلمات لبناتها الأساسية، والتي تعمل على عرض الحاضر والاتكاء على ما يمكن أن يكون، بالإضافة إلى قدرتها على استعادة الزمان المنتهي، معترفاً أنّ مرض الشاعر وأعصابه لا يعرفان الشفاء إلا عبر الكلمات... كلّ هذا يجعل الشعر بحثاً عن عمق الجروح الموغلة في الغيب، ما يجعل تعريفه صعباً مستحيلاً.

يعلن الشاعر والباحث عن مواقف حياتيّة عدة انعكست في الشعر، وعالجها بطريقة إبداعية عبر طرحه العديد من الرؤى، كيف لا وهو الواقف في منتصف الميزان، بين القديم والمعاصر، بين الطقسي الحاضر دائماً، والوثني والإلهي.

شعره كحياته، خليط من أنسجة نبوية وإبليسية. إنه المتلذّذ في إقامته وسط مدينة الحيرة، يتمرّد على المألوف من داخله، فيتدجج بعروض الخليل من دون أن يصل إلى مرحلة التبعيّة، ليصبح هذا المكتسب العلمي طوع يديه الشعريتين، يلغيه أو يثبته، ويستطيع أن يكسره إذا ما كان في الأمر ضرورة. هذه النظرة ربما استقاها من روافد عديدة ألمح إلى بعضها، حين رأى أنّ الدين نفسه خليط من أمور سابقة أخرجها الدين بروح إسلامية كالكعبة والحجر الأسود وغيرهما من مظاهر ما قبل الإسلام فقد قدّمها الدين الجديد مغسولة بروح جديدة.. وهذا ما يؤكّد رؤيته في توالد الأشياء بعضها من بعضها الآخر، وهذا يطبّق على القصيدة المتناسلة والمتوالدة كتناسل الحياة. إنها غريزة لا تشبع إلا من ذاتها، فالقصيدة تقتات من القصيدة وتبقى فاتحة فاهاً جائعاً من الصعب إشباعه.

وهذا ينسحب على اللغة أيضاً، إذ يرى أنّ الحداثة العربية، العبارة عن كتلة من الإبداع لم تدرس بما فيه الكفاية بعد، لن تجعله خارجاً على اللغة بقدر ما هو متمرد في اللغة وبها.. معلناً عن رؤية شعرية وعلمية في آن، وهي أنّ الغموض في الشعر سيّده كما هو سيّد الكائنات. الغموض الذي يجعل المتلقي إيجابيّاً مشاركاً الكاتب في إعادة ولادة نصّه، إذ ينبغي أن تكون كلّ قراءة ميلاداً جديداً للنص.. وهذا يتوقّف على مدى التوفيق بين الفنيّة والطّرح الفكريّ والثقافيّ، إذ يشترط توفير مخزون ثقافي لدى الكاتب، لكنّه مخزون يجب أن يكون متوارياً خلف القصيدة، عبر الانزياحات والتلميح المستفزّ والمحرّض للقارئ والمؤوّل على تعبئة الفراغات والبياضات لانجاز النص وتحقّقه، لأنّ تدفّق الثقافة والطرح الفكري دفعة واحدة يجعل القصيدة تنوء تحت وزر المعرفة لأنّ جمال المعارف في كمونها.

كل هذا يجعلنا أمام نصوص شعريّة، شكّلت بحثاً حياتيّاً لمّا ينتهِ بعدُ.. نصوص لا تلتفت إلى المعاني الشعرية المستباحة والمعروضة في الطرق والبرامج ونشرات الأخبار.. إنما هي نصوص لا يرويها سوى المضمون الشعري الذي يعدّ تعبيراً عن مواقف حياتية بطريقة فنيّة قريبة من الصورة لدى الفلاسفة.. إنّه المضمون المعادل للبرهان في المنطق.. وهذا يجعل الشاعر (شمس الدين)، يقف فوق ركام ما كتب باحثاً عن قصيدة القصائد، كما البجعة التي ينتهي مشوار تحليق جناحيها بتغريدة.. وهذا لا يكفيه عمر واحد كما يشير الشاعر في إحدى المحاورات..

كلّ هذا يجعله مزيجاً من أسباب تفجير النبع الشعري، عبر التفاف الفقراء حوله، لكنّه لا يكتب لغة الشعراء المقهورين والعاشقين والمصلوبين على أخشاب مواقفهم، بل يعيد كتابة أحوال هؤلاء الذين ينبعثون من موتهم وقهرهم وصلبهم.

اعلى الصفحة