السنة الخامسة عشر ـ العدد 175  ـ (رمضان ـ شوال  1437 هـ ) ـ (تموز 2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

ما أسعدَك!!!

هيَ المرآةُ، مَن تحملُ سِرَّكَ عندما تقفُ أمامَها كما أنتَ، خالياً مِن كلِّ ما هو ثانويٌّ سوى ذاتِكَ، ومع هذا، تُحبُّكَ جدًّا هذهِ المرآةُ. اُنظرْ، ها أنتَ تقفُ أمامَها وعلى مرمى مِن نفسِكَ؛ معجَباً بما توفّرَ لديكَ بقصدٍ أو بغيرِهِ، قَنوعٌ وماكرٌ، ترى ماضيكَ لتضحكَ عليه، كَونهُ يسافرُ إلى ما الوراء بلا سببٍ مُقْنِعٍ، تملُّ منِ السخرية فتبكي عليه. تكتشفُ مِن ملامحِكَ الجديدةِ أنّكَ ككلِّ الرّجالِ؛ تُزاولُ عملَكَ بما أوتيتَ مِن شُحناتِ الشّمسِ السّالبةِ، فتبدو كغيركَ.. ويُقال عنكَ إنّكَ رائعٌ أيّها المثاليُّ الحديث، وإنّكَ كالنّملةِ مجتهدٌ، تحملُ المغزى إلى المعنى، وتطمعُ في التّواضُعِ مِن حيثُ لا تأتي الصِّفاتْ.

أيْ أنّكَ تستظلُّ بحبّةِ القمح الّتي على ظهرِكَ، كي تُجيزَ لنفسِكَ المشيَ معَ العمّالِ، في مظاهرةِ الأوّلِ مِن أيّار، بلا فارقٍ طبقيٍّ، أو حَقودٍ، يتربّص بكَ خلفَ رصيفِ غلطةٍ ساذجة. اُنظرْ في المرآةِ.. لا تعجبْ أكثرَ مِن لزومِكَ فيما ترى مِن عباءةِ الجسدِ.

صحيحٌ أنّكَ ذو عينَيْنِ بنِّيتين كجذوع الأرز في وطنك، تعزّزانِ فيكَ الثّقةَ، لكنّكَ على غيرِ عِلمٍ بأنَّ ما يولدُ معك ليسَ مِن فضلِكَ، بل هي هبةُ الملامحِ من اللهِ لأهلِ الجنوب لا أكثر.

حدّقْ أعلى مِن حالةِ الفرحِ المشبوهِ، علّكَ تَصعدُ إلى سفحِ السُّموِّ الواقعيِّ، أعلى؛ بمعنى أن تُطلَّ إلى أسفلٍ ضائعٍ في نواحي الصّراحةِ؛ تكتشفُ الطّمأنينةَ في ذاكَ المستقبلِ الحاضرِ، وإن كانَ غائباً عن الماضي البهيميِّ؛ مستقبلٌ يَضمنُهُ لكَ الضمان الاجتماعيُّ الّذي بفضلِهِ سيتأخّرُ المشيبُ عن رأسِكَ قدْرَ شعرةٍ، ويَضمنُ أشياءَ أغلى، كالمعنويّات!... ما أسعدَك!

تظنُّ نفسَكَ مسروراً، وأنَّ البلوغَ سيتخلّفُ عن موعدِهِ اللّئيمِ معَك، هكذا تظنُّ نفسَكَ قد نجوْتَ مِنَ القلقِ الطّبيعيِّ بشأنِ الشّيخوخةِ التي تطرقُ بابَ السّنين خائفةً، عليكَ من نفْسِها.

أعرفُ أنّكَ تسكنُ في مكانٍ حميمٍ، وأنّكَ تستطيعُ في كلِّ صباحٍ كهذا، أنْ تنظرَ إلى مشهدِ الغروبِ الّذي يُزيّنُ صورةَ أخيكَ المفقودِ فجأةً والمُعلَّقةِ على رفِّ الذّكرياتِ، لكنّكَ لا ترى دُودةَ الخوفِ تنخرُ الحائطَ المهزوز.

لا أُنكرُ أنّكَ محظوظٌ، اُنظرْ أيُّها المغرورُ في الشّبعِ؛ هل تكتفي بكوْنِكَ مُثقّفاً؛ تتيحُ لنفسِكَ أن تكونَ ذا موقفٍ شجاعٍ في كلِّ شيءٍ، كالسّياسةِ المحلّيّةِ، سدى؟..

أعرفُ بأنّكَ تنفشُ ريشَكَ على كلِّ فضاءٍ مُتاحٍ، وأنّكَ نفسُهُ الّذي كتَبَ نثراً عن ملاكك الذي انتظرته عمراً والذي تأخّر عن ولادته في فلك روحكَ لأسبابٍ سماويّةٍ وإيديولوجيّةٍ، كالوعيِ الجماعيِّ على قارعةِ منظمات المجتمع المدني الثّابتةِ ككذبةِ الأوّلِ مِن نيسان، والبَهدلة.

لديّ أمثالٌ عصريّةٌ، كهاتفِكَ النقّالِ ماركة "آي فون" مثلاً، إنّهُ يُسعفُكَ أينما ذهبتَ، ليُغطّيَ أرضَ الكوستا برافا الكئيبِة بالإرسال الخلويّ، الّذي تلتقي بواسطتِهِ بالحبيب، بلا حاجةٍ إلى لقاءِ العيون تحتَ نخلةٍ شاعريّةٍ ذبُلتْ في ديوان امرئ القيس!!.

اُنظرْ إلى نفسِكَ، لترى كم أنتَ جاهزٌ للجائزةِ في لعبةِ القدَرِ، ولتُطلَّ مِنَ النّافذةِ إلى ما توفَّرَ، فها هو شجرُ الحَور نابتٌ على ضفافِ وادي الحياةِ المجاورِ لبيتِكَ، والّذي نبَتَ خصّيصاً ليُؤكّدَ لك أنّكَ ابنُ الطّبيعةِ، بل ضيفها الّذي يقتنصُ مِن وحيِها ما يرغبُهُ مِن قصائدَ جديرةٍ بأنْ تَتفرَّعَ ترعاً، قبل الوصولِ إلى دلتا الأدب.

تمعّنْ كما تشاءُ، بثوبِكَ المُطرّزِ بالسّرورِ والتّخمةِ المرحليّيْنِ، علّك تظنّ أنّ الرّفاهيّةَ تَسكُنُ معَكَ، ولكنّكَ هنا، لا في مكانٍ خيّاليٍّ؛ في بيتِكَ المُكوّنِ مِن ثلاثةِ طوابق روحيّةٍ، تُطلُّ على سفحِ المدى المُلبّسِ بحجرِ الضاحيةِ النّادرِ، كالأنبياء والحجل.

اُنظرْ.. ها أنتَ ترى نفسَكَ مِن قريبٍ أو بعيدٍ، تحفظُ مُعلَّقةَ زُهيْرِ بن أبي سلمى عن ظهرِ قلبٍ، وتَحثُّ نفسَكَ على الشّعورِ بالكمالِ، لِما يَكفيكَ مِن طرفة بن العبد، وجان بول سارتر، والباهاماهاراتا، والشّاهنامة، وهاري بوتر، ومقدّمة ابن خلدون، وديوان آرثور رامبو، وليو تولستوي، فتغدو مُعقّداً مِن كثرةِ الوفرةِ في سيكولوجيّةِ النّقصِ الحقيقيِّ.

أرجو ألاّ تفهمَني خطأً، الآنَ تحديداً، سأُلحُّ عليكَ أن تنظرَ في المرآة بواقعيّةٍ مباشِرةٍ، علّكَ ترى هذهِ الرّاحةَ الحياتيّةَ غيرَ مدهشةٍ... عمّا قليل، وحدك مَن سيكتشفُ فقدانَ الحياةِ الّتي هيَ نزهةٌ مؤقّتةٌ، قضيتَها تائهاً عن دربِكَ الثّكلى.

تأخّرتُ يا صديقي عليك، خصوصاً، عندما شغَلَكَ كلامي وتجاعيدُ الغدِ الغامضِ، كثعلبٍ مدهوسٍ على الشّارعِ، فانحرفْتَ إلى رصيفِ الحقيقةِ سالماً.

وحدهُ القدَرُ مَن سيختتمُ سيرتَكَ الذّاتيّةَ، عندما تُرهَنُ سيّارةُ خلودِكَ، لشاحنةٍ تُداهمُكَ بلا فراملَ، أو موعدٍ مع أيّةِ جنّةٍ وعدَتْكَ بتفّاحٍ وأنهارِ عسلٍ، تملأُ طاولةَ المطبخِ ذباباً جائعاً وقناعة.

يقولُ بيتُ القصيد؛ ما أغبى مَن وَصَفَ الوردَ، ونسِيَ جمالاً طازجاً في الشّوكِ، ثلاثينَ عاماً.. وأقول لك: ما أغباني حين الخوفُ من لصِّ الحقلِ حرسْتُهُ بسياج جراد!!.

اعلى الصفحة