هل الشرق الأوسط أمام سايكس بيكو جديد

السنة الخامسة عشر ـ العدد 174  ـ (شعبان ـ رمضان  1437 هـ ) ـ (حزيران 2016 م)

بقلم: محمود إسماعيل

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

انطوى قرن كامل من الزمن، ولا يزال الشرق الأوسط برمته يعيش تداعيات اتفاق سايكس بيكو المشؤوم، ذلك الاتفاق الخريطة الذي رسمته فرنسا وبريطانيا في ١٦ أيار ١٩١٦، بعد استعمار طويل لدول المنطقة والذي تقاسمت على أساسه الحصص والنفوذ، حيث قسمت الدول والشعوب العربية بحدود فصلت بينهم.

يقول المؤرخ العالمي بول شانيولو "إن فلسطين هي أكبر المتضررين من الاتفاق المذكور الذي فرض تقسيمات تعسفية وأقام دولا بلا شعوب"، فمن هو المستفيد الأول من هذا الاتفاق ومتى تنتهي صلاحية العمل به؟.

من العراق إلى لبنان، مروراً بسوريا والأردن، وصولاً إلى فلسطين، تمتد سطور ذلك الاتفاق المشؤوم ولم تُمْحَ بعد، ربما لأن الحبر الذي خط به يتجدد بين وقت وآخر في خلايا غدة سرطانية سميت "إسرائيل".

على الرغم من عصر "الويكيليكس"، سيبقى كشف الحكومة البلشفية في موسكو لهذا الاتفاق الذي كانت روسيا قبل انسحابها منه أهم شريكة إستراتيجية لاقتسام الدولة العثمانية، سيبقى أهم تسريب في تاريخ المنطقة، وربما في التاريخ الدبلوماسي العالمي. لكن الفاجعة الأهم هي أن بدء انهيار اتفاق سايكس بيكو عام ٢٠١١ كان قراراً غربياً، إذ إن ما جرى في سوريا كان محاولة لتجزئة المجزأ أصلاً.

كيف أبرم اتفاق سايكس بيكو ؟

في نهاية عام ١٩١٥، وخلال الحرب العالمية الأولى، تباحثت فرنسا وبريطانيا من أجل تقاسم المناطق العربية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية. في الوقت نفسه، وبهدف إقامة جبهة جديدة ضد الدولة العثمانية المتحالفة مع ألمانيا، أجرى المفوض السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون مع الشريف حسين فوعده باستقلال العرب. وكانت القوتان الاستعماريتان الكبيرتان حاضرتين في المنطقة، فرنسا بنفوذها الاقتصادي والثقافي في المشرق، وبريطانيا في مصر التي احتلتها عام ١٨٨٢، وقد اختارتا دبلوماسيين هما الفرنسي فرنسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس لإجراء مفاوضات حول ترتيبات سرية أصبحت تحمل اسميهما.

قال سايكس إنه يريد أن يرسم خطا يبدأ بـ"ألف ـ عكا" وينتهي بـ"كاف ـ كركوك"، وهذا الخط الأسود يقسم الشرق الأوسط في منتصفه على خرائط الاتفاق، دون أي اعتبار للتوزيع القبلي والعشائري والانتماءات الدينية، بحيث تصبح سوريا للفرنسيين في الشمال، وشبه الجزيرة العربية للبريطانيين في الجنوب، وكل المنطقة مقسمة إلى خمسة قطاعات.

ينص الاتفاق على أن فرنسا وبريطانيا مستعدتان للاعتراف بدولة عربية مستقلة أو كونفدرالية لدولة عربية في منطقتي النفوذ "ألف أي الداخل السوري مع دمشق وحلب وكذلك الموصل"، و"باء بين خط سايكس بيكو وخط العقبة الكويت". وقد لونت مناطق الوصاية المباشرة بالأزرق في الشمال على أن تكون من حصة فرنسا "أي لبنان وكيليكيا"، واللون الأحمر في الجنوب من حصة بريطانيا "أي الكويت وجنوب بلاد الرافدين" مع جيب في حيفا لإقامة مشروع للسكة الحديدية يبدأ في بغداد، ولونت بالبني منطقة تم تدويلها هي فلسطين.

يقول المؤرخ الفرنسي هنري لوران "إن المعطيات تغيرت في سنة ١٩١٧ مع الثورة الروسية ودخول الولايات المتحدة الحرب"، فقد أرادت بريطانيا نقد الاتفاق، فحركت حجارتها على الرقعة التي أهملتها القيادة الفرنسية وحصلت على تعاطف قادة الثورة العربية ثم الحركة الصهيونية، مع إطلاقها الوعد بإقامة وطن لليهود في فلسطين في إعلان آرثر بلفور المشؤوم في ٢ تشرين ثاني عام ١٩١٧.

في شهر نيسان عام ١٩٢٠، أقر مؤتمر سان ريمو الانتداب الذي يفترض أن يعد للاستقلال، فعهد لبريطانيا بانتداب فلسطين والضفة الشرقية لنهر الأردن والعراق، وانتدب فرنسا على سوريا ولبنان. وفي عام ١٩٢١، تخلت فرنسا عن كيليكيا، ثم في عام ١٩٣٩ عن لواء الإسكندرون السوري لتركيا. وفي عام ١٩٢٢، وبعد سحق الثورات في فلسطين وسوريا والعراق، صادقت عصبة الأمم على وضع هذه المناطق تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني.

اليوم، يجري تنفيذ مؤامرة استعمارية بأدوات محلية رجعية تكفيرية لوضع سايكس بيكو جديد من أجل تقسيم المقسم إلى دويلات متنازعة متناثرة ومفتتة داخلياً، بحيث تتوزع مواردها ومواقعها وامتيازاتها وأمنها ومصالحها بين القوى الاستعمارية الجديدة وعلى طريقة سايكس بيكو القديمة.

من سايكس بيكو إلى داعش بوكو

في هذه الذكرى، يبدو أن الوضع العربي يعيد إنتاج نفسه من جديد. وإذا كان التاريخ قد عودنا أن يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة وأخرى على شكل ملهاة، فإنه في الحالة العربية لا يعيد التاريخ نفسه إلا على نحو مأساة تكشف حجم التدهور الذي لازم العرب وقادهم نحو التشتت والتقسيم وتجزئة المجزأ، قبل أن يذبحهم على حراب الأسلحة الفتاكة.

بعد مائة عام على إنشاء الدولة العربية الوطنية بحدود سايكس بيكو، ها هي اليوم تتعرض للتآكل والانهيار على نحو بدأت معه مقترحات الحكم الذاتي أو الفيدرالي تشق طريقها بلا مواربة في سياق تقسيمي ما برح يتكرس على أرض الواقع بطريقة أو بأخرى منذ الغزو الأمريكي للعراق، قبل أن يصبح بعد زلزال ما سمي بالربيع العربي جزءاً من سيناريوهات المشهدين السوري والليبي.

اليوم، تبدو المنطقة العربية برمتها موضوعة على مشرحة التقسيم المتجدد، فمنه ما قيل عن الشرق الأوسط الجديد، ومنه ما تطرحه "داعش" و"بوكو حرام" وغيرهما، وذلك في محاولات لكتابة جغرافيا جديدة. إن ما فعله "داعش" ومعه "بوكو حرام" تجاوز، في الحقيقة، سايكس بيكو بكثير، فمثل هذه التنظيمات الإرهابية لم تطل جرائمها البشر والآثار فقط، بل إنها أشعلت نيران الفتن المذهبية والطائفية والعرقية، بهدف تغيير الخريطة الجيو/سياسية للمنطقة بأسرها، كما ألغت حدود بلاد الشام وأقامت حدوداً دموية جديدة للمنطقة.

التاريخ يعيد نفسه في شكل مأساة، ولكن هل من تغيير؟ التغيير الوحيد هو في الأدوات وفي الجغرافيا التي تحولت إلى جغرافيات، وفي العناوين والتسميات، فبالأمس سايكس بيكو واليوم داعش بوكو.

إذا كانت خريطة الشرق الأوسط الحالية هي نتاج اتفاق تقاسم النفوذ الشهير في ١٦ أيار ١٩١٦ بين مارك سايكس وكيل وزارة الخارجية البريطانية والدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو، فإن ما يحدث الآن، في الواقع، هو إعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة تتجاوز اتفاقية سايكس بيكو لتعيد تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ. ويبقى العرب كالعادة هم الخاسرون، على الرغم من أنهم هذه المرة شركاء أساسيون في إعادة تقسيم المنطقة.

مائة عام على سايكس بيكو.. مائة عام والقتل مستمر

ما كنا لنتذكر اتفاق سايكس بيكو، ذلك الاتفاق البريطاني الفرنسي الذي أنتج دويلات عربية متفرّقة، وأسّس لحدود الدم بين الأخوة والأشقاء، ليتحوّل اليوم وبعد مائة عام إلى وثيقة تزعج صانعيها فأنتجوا وثيقتهم واتفاقاتهم التالية القاضية بتقسيم المقسّم وزيادة الفرقة بين الأشقاء تحت عنوان كبير اسمه الصراع المذهبي والعرقي، والذي ما كان ليكون موجوداً أصلاً لولا تلك الدول التي تسعى للحفاظ على مصالحها لمائة عام أخرى.

لن أغرق في التاريخ، فالحاضر أشدّ إيلاماً من الماضي ولكن اليوم هناك علامة فارقة علينا أن نقف عندها ونطرح عشرات الأسئلة.. منذ مائة عام قسّمت كل من بريطانيا وفرنسا التركة العثمانية، ولكنها أتت بجيوشها لتثبيت التقسيم ولم تدخل تلك الدول الاستعمارية إلى بلادنا بسهولة، ولم تجد يوماً واحداً فيه استقرار وكانت التكاليف عليها كبيرة، وخسرت الجيوش الفرنسية والبريطانية الكثير في منطقتنا وخرجت مجبرة وحصلنا على الاستقلال، لكن اليوم نفس المشروع ينفذ بجنود من المنطقة ومال عربي وخيانة معلنة لم يعد أصحابها يخجلون منها إنما أصبحت حالة مستمرة تجد التبرير عند أصحابها من مثقفين ورجال مال وسياسة.

فهذا ما يسمّى رئيس ائتلاف الدوحة الخائن يلقي محاضرة عن " حق " تركيا في إنشاء منطقة آمنة على الأراضي السورية، ويعترف باتفاقية سورية تركية حول هذا الأمر، في المقابل لا يعترف هو ومن معه باتفاقات سورية روسية أو سورية إيرانية حول الدفاع المشترك، ومن قبله أعطى الكيان الصهيوني الغاصب الضوء الأخضر بما قيل إنه "حقه" في حماية الحدود الشمالية لاحتلاله، وفق تعبير الجماعات الإرهابية، وقدّم الشكر للدولة الصهيونية على تقديمها المساعدة للإرهابيين، ولم يكتف الخونة ببيع ما لا يملكون، بل قالوا إنهم يمثلون الشعب السوري في ذلك وهم أكثر الناس علماً أنهم لا يمثلون إلا من يدفع لهم المال ويسكنهم الفنادق ويعطيهم تذاكر السفر، أما الجماعات الإرهابية العاملة تحت مظلة المشروع التقسيمي الجديد فهي لا تبخل على أسيادها بشيء، ولا تنكر مجازرها بحق المدنيين العزل ولا تكتفي بالقتل، إنما تأخذ أبشع الصور لتعبّر عن مدى حقدها وبنفس الوقت تقدّم وثائق لأسيادها بأنها تنفذ الأوامر دون أي تردّد، فما قامت به تلك الجماعات منذ وقت قريب في قرية الزارة لا يمكن أن يكون فعلاً إنسانياً أو ثورياً أو دينياً، لتعيد هذه الجماعات بأفعالها إلى الأذهان مجازر قطعان المستوطنين في فلسطين المحتلة ولبنان، وتذكرنا بمجازر فرنسا في الجزائر، وإيطاليا في ليبيا، وبريطانيا في مصر والعراق، كما الولايات المتحدة الأمريكية راعية حقوق الإنسان، وكما مجازر العثمانيين بحق الأرمن والسريان وغيرهم، فالصورة واحدة للهمجية، والمدرسة نفسها، لكن الفرق أنّ بعض المجرمين هم من أبناء جلدتنا هذه المرة ويعملون لصالح أعداء وطننا.

إنه قرن من الزمن أنتج ما أنتجه من آلام وأوجاع، وسرق المستعمرون خيرات بلادنا، وقبل أن يطردوا استطاعوا تأسيس مدارس للقتل خلفهم و تعمل وفق أوامرهم وتسوق لنفسها باسم الدين، والدين منها براء.

واليوم نعيش مرحلة المخاض الصعب في القضية السورية حيث يقف العالم بأسره ضدّ شعب رفض الذلّ والهوان وقرّر أن يلتزم خط المقاومة والحرية والدفاع عن الأرض، عالم يرى كلّ هذه الجرائم ويلتزم الصمت وإذا ما قرّر الكلام فكلامه أشدّ ألماً من الجريمة نفسها، عالم يدافع عن "جبهة النصرة" الإرهابية وجميع الحركات التي تعمل وفق أجندات القتل والترويع والترهيب، ولا يكتفي هذا العالم بالدفاع عن الإرهاب إنما يُسهّل تمويله بالسلاح والمال من خلال دول عربية تمّت صناعتها لخدمة الاستعمار. ذلك الاستعمار الذي يعلن عن مشروعه من خلال الصحف ومراكز الأبحاث، ويؤكد أصحاب المشروع أنهم ماضون في عملية تقسيم المنطقة، ويؤكدون ذلك من خلال تلاعبهم بعملية المفاوضات، ولن ننسى عبارة عرابة المشروع كونداليزا رايس عندما قيل لها أنّ هذا المشروع سيخلف الكثير من القتلى فكانت إجابتها لا يهمّ نخفف عن سلة الغذاء العالمي!.

فكيف يمكننا أن نتحدّث اليوم عن تسويات سياسية وبأيّ حبر سنوقع تلك الاتفاقيات؟

وإذا كنا اليوم نجد التفاوض ضرورياً لوقف شلال الدماء، فهذا لا يعني أننا مجبرون على نسيان دماء الشهداء من المدنيين والعسكريين ورجال المقاومة الذين عطّروا أرض سوريا بدمائهم، وأتوا من الجنوب المحرّر إلى دمشق طلباً للشهادة من أجل أجيال قادمة يجب أن تعيش بكرامة وحرية.

قد يكون إحياء ذكرى اتفاق سايكس  بيكو مؤلماً، ولكننا بعد مائة عام على هذا الاتفاق ما زلنا نقاوم وما زلنا مؤمنين بأننا أصحاب الأرض، وأنّ حق تقرير المصير هو ملك لنا. مائة عام في التاريخ رقم عابر، إذا ما حققت الشعوب النتائج المرجوة من نضالها وصمودها، مائة عام قد نكون خسرنا فيها الكثير ولكننا لم نستسلم بعد ولن نستسلم، فحقنا بالعيش نحن من يضمنه لا المواثيق والقرارات الدولية.

قرن من الزمن على اتفاقية سايكس بيكو

الحاضر العربي أشدّ إيلاماً من الماضي، فاتفاقية سايكس بيكو التي قسّمت تركة الدولة العثمانية من البلدان العربية بين بريطانيا وفرنسا، قسّمتها على أساس جغرافي، تولّد عنه كيانات اجتماعية، خضعت للاحتلال العسكري المباشر، ولكن تلك الكيانات في حالة المدّ القومي العربي استطاعت أن تنتزع استقلالها من براثن المحتلين انتزاعاً، ودفع المحتلّ ثمن احتلاله خسائر بشرية ومادية، تلك الكيانات التي أوجدها الاستعمار، أسّست لحدود الدم بين الأخوة والأشقاء، واليوم يُعَاد إنتاج المشروع نفسه، ولكن على أساس تقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت وتجزئة الجغرافيا العربية وإعادة تركيبها على أسس مذهبية وطائفية، والشيء المؤلم حقاً أنّ مدارس القتل باسم الدين، والدين منها براء، هي التي أسّس لها المستعمرون بعد خروجهم، من أجل ضمان استمرار الحفاظ على مصالحهم لربّما لمائة عام مقبلة، هي الآن التي تقوم بتنفيذ مشروع التقسيم بجنود ومرتزقة من المنطقة وأموال عربية تضخّ على الجماعات الإرهابية والتكفيرية بالمليارات، والبيئة الحاضنة لتلك الجماعات لم تعُد تخجل أو تتحرّج من علاقتها في تلك المشاريع، بل هي أصبحت تنسج وتوثّق علاقاتها وتحالفاتها العلنية مع القوى المنفّذة للمشروع.

البعض منا يعتقد أنه عندما جرى التقسيم في سايكس  بيكو في السادس عشر من أيار عام ١٩١٦، فقط لاعتبارات جغرافية وسياسية من أجل منع توحّد الأمة. هذا المعطى صحيح، ولكن ما هو أهمّ منع أيّ حالة نهوض قومي وعربي، ولذلك يجري التركيز اليوم على الحلقة السورية، فاختراقها وإعادة إنتاج بنية الدولة السورية وهويتها وموقفها، يعني نجاح مخططات التقسيم، وإقامة كيانات اجتماعية هشّة مرتبطة بأحلاف أمنية مع دولة الاحتلال، ومنصّب عليها "مخاتير" سمّوهم قياصرة وأباطرة وملوكاً ورؤساء وأمراء فاقدة إرادتها وقرارها السياسي ومرتبطة اقتصادياً وتُقاد من المركز الرأسمالي العالمي، وكذلك هذا يسمح بأن تكون "إسرائيل" دولة يهودية، ارتباطاً بنشوء مثل هذه الكيانات الهشّة.

ثمة رابط قوي بين اتفاقية سايكس بيكو وبين وعد بلفور، فوعد بلفور كان الترجمة العملية لاتفاق سايكس بيكو، حيث أوجد الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وهذا الكيان حدّد له دور ووظيفة ككلب حراسة متقدّمة لأمريكا والقوى الاستعمارية في المنطقة، ضرب أيّ حالة نهوض قومي وعربي في المنطقة، وضمان استمرار عملية التقسيم، وحتى يستمرّ الكيان الصهيوني في هذا الدور المنوط به في حراسة التقسيم، وعدم تهديد وجوده وبقائه، فلا بدّ من عملية تقسيم للمقسّم، وبالأساس في سوريا والعراق ومصر، سوريا والعراق على وجه التخصيص، ومن هنا ندرك ما يجري من حرب كونية على سوريا، فهي مفتاح العرب للوحدة والنهوض، وأيّ وحدة أو نهوض يهدّد وجود هذا الكيان ولذلك المطلوب تقسيم المقسّم، حتى لا يستطيع أيّ كيان عربي هش محاربة "إسرائيل".

واقع عربي مرير

دخلنا العام الجديد منذ خمسة أشهر وعالمنا العربي بحالة يرثى لها، وشبح الموت يخيم على كل مفاصل الحياة فيه. فلسطين ما زالت تقبع تحت أبشع احتلال عرفه التاريخ الحديث، وليبيا تحتضر وهي تنتظر حرباً جديدة قيل لنا إن الأمريكيين سيقودونها على السواحل الليبية لمحاربة تنظيم "داعش" هذا العام. السودان مقسّم ولبنان في حالة موت سريري بطيء ينتظر الفرج، أما سوريا ومعها العراق، فكلاهما ممزق يعاني من حرب شرسة لم تعرف النهاية بعد، حصدت آلاف الأرواح منذ احتلال بغداد عام ٢٠٠٣ وبدء الصراع في سوريا عام ٢٠١١.

في هذه الأيام تحلّ الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو التي قسمت مشرقنا العربي دويلات، ظهر منها لبنان الكبير وفلسطين، ثم إمارة شرق الأردن، والدولة السورية التي عاشت داخل تلك الحدود المزيفة منذ ذلك اليوم حتى العام ٢٠١١. هل تعلّمنا الدرس بعد مرور كل هذه السنين الطويلة؟ الجواب قطعاً "لا"، والدليل هو خريطة العالم العربي اليوم. سايكس بيكو نجحت لأننا سمحنا لها أن تنجح. رضينا بحدود تلك الاتفاقية وبمساحاتها المقزمة، وقبلنا بزعامات تلك الدويلات، وها نحن اليوم ندافع عن تركة مارك سايكس وجورج بيكو وكأنها منزلة من عند الله.

منذ عامين احتفل الأوروبيون بمرور قرن كامل من الزمن على اندلاع الحرب العالمية الأولى. أوروبا تعلّمت درساً قاسياً من تلك الحرب التي كلفتها سبعة عشر مليون قتيل ومن الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها أكثر من ستين مليون شخص. كانت الحملة الأوروبية للذكرى المئوية بعنوان "لن تُعاد"، ورفع هذا الشعار في كل المدارس والجامعات والمكاتب والمطارات ومحطات القطار. أما في عالمنا العربي، وبعد مرور قرن كامل من الزمن على الحرب العظمى، فلم يختلف الكثير على أهلنا من جيل إلى جيل. إذ هم اليوم تماماً كما كان أجدادهم منذ قرن: يدفنون موتاهم ببؤس، يحاربون حروب الآخرين على أرضهم، ويموتون لتحيا مطامع الدول العظمى.

الأوروبيون رفعوا الصوت عالياً وقالوا: "لن تعاد". أما نحن فقد عدناها ألف مرة ومرة. وحدنا نتحمل المسؤولية عما جرى لبلادنا وما سوف يجرى في السنوات المقبلة.

سايكس بيكو وتداعياته على العالم العربي

لم تخرج مقولة الوحدة، بمستوياتها المختلفة، عن كونها إشكالية أرّخت بثقلها على مختلف مناحي الدولة العربية المعاصرة. بقيت هذه الإشكالية - منذ ما قبل الحقبة الاستعمارية في العالم العربي حتى اللحظة الراهنة - محل تقاطع بين مختلف المحددات التي يتوقف عليها النهوض الحضاري في المنطقة العربية، بدءاً من المسألة السياسية، مروراً بالاقتصاد، من دون أن يتوقف الأمر عند الحدود الجغرافية والخلفيات الثقافية والدينية.

ومع مرور مائة عام على سايكس بيكو، خرجت المنطقة العربية من حال التجاذب بين الوحدة والتفتيت لصالح الأخير على خلفية انعدام فرص الوحدة، وانجرار مريع نحو التجزئة بشتى أشكالها. وفيما اختار الغرب الذهاب نحو المزيد من التقارب بهدف بلوغ الوحدة كمؤشر على تجاوز الخلافات ـ بعد حربين كونيتين بين دوله ومكوّناته ـ والوصول إلى الذروة في تحقيق المصالح المشتركة، أخذت المنطقة العربية تتّجه نحو مزيد من التجزئة والتفتيت، كمؤشر على بلوغ مرحلة زوال السيادة، وانحلال المجتمع، وسقوط الدولة، وصولاً إلى ما هو متوقع من انهيار كبير.

ما تشهده المنطقة اليوم يمثل استمراراً لمترتبات سايكس بيكو، مع اختلاف في الآليات والتكتيكات، في ظل الحفاظ على الأهداف والمكتسبات ذاتها. ثمة حروب إقليمية راهنة تشهدها المنطقة من خلال عناصر وأدوات محلية، خدمة لمصالح المستعمرين، وهم بمنأى عن الانخراط الفعلي فيها. وذلك يتم وفق استراتيجيات مدروسة ومبرمجة سلفاً، يراد منها في نهاية المطاف إعادة تفتيت المنطقة من خلال العودة بها إلى أصغر مكوّناتها الدينية والمذهبية والإثنية والقومية، وتالياً إعادة تشكيلها بما يضمن الإبقاء على ما أنتجته سايكس بيكو من مكاسب وامتيازات.

غير أن الانقسام الذي شهده العالم العربي، لم يكن ناجماً عن إستراتيجية التفرقة التي اعتمدها الغرب المستعمر بمقدار ما كان مرتبطًا بعوامل ذاتية قابلة للتجزئة، توفرت في دول المنطقة وشعوبها. ذلك أن المجتمعات العربية لم تستطع الخروج عن المسار التاريخي الذي استوطن في بنية وعيها وتحكّم في ممارساتها، فظل راهنها امتدادًا لماضٍ غابرٍ، ولم تستطع الانتقال إلى واقع جديد يتطلع إلى المستقبل على قاعدة الأخذ بالمبادئ والمصالح، بعيداً عن منطق العشيرة الذي تحكمه العصبية والغريزة.

وإذا كان سايكس بيكو قد نجح في المرحلة السابقة في تفتيت المنطقة، فإن قيام دولة إسرائيل في فلسطين - بمساندة الغرب وعلى رأسه بريطانيا وأمريكا - شكل مقدمة منتجة لمشروع التقسيم، بمقدار ما كان نتيجة صادرة عنه. فالتقسيم في المنطقة شرط لازم لوجود إسرائيل، كما أن بقاءه شرط ضروري لبقائها واستمرارها.

بالإضافة إلى ما تقدّم، لا يمكن الفصل موضوعياً بين "الربيع العربي" وتداعياته على مقولتي الوحدة والتجزئة في المنطقة. فمهما تكن حقيقة الدوافع والأهداف التي أفضت إلى خروج الشارع العربي على أنظمته في العديد من الدول، فإن النتائج والتداعيات التي ترتبت على ذلك، أدخلت الوطن العربي في مشاريع تقسيمية باتت وشيكة وممكنة، بعدما كانت تبدو حتى الأمس القريب صعبة وشبه مستحيلة. فجاء هذا "الربيع" ليضع أي عملية تغيير عربي في خانة اليأس، ويقطع الطريق على إمكان النهوض، من خلال تكريس معادلة أن أي محاولة للتغيير ستنتهي إلى مزيد من الاحتراب والفوضى والتقسيم.

لقد أنتجت الحرب الكونية الأولى التي شهدتها أوروبا تقسيماً ما زال قائماً في المنطقة العربية منذ مائة سنة، فما الذي يمكن أن تنتجه الحروب الكونية الراهنة التي تشهدها المنطقة العربية نفسها؟.

اعلى الصفحة