فدوى طوقان "سنديانة فلسطين"..
على طريق الشوك المُلتهب

السنة الخامسة عشر ـ العدد 174  ـ (شعبان ـ رمضان  1437 هـ ) ـ (حزيران 2016 م)

بقلم: هيثم محمد أبو الغزلان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

اقترن اسم الشاعرة فدوى عبد الفتاح آغا طوقان باسم فلسطين، واقترنت حياتها بكل المآسي والنكبات التي عاشتها ولُقبت بـ"سنديانة فلسطين". ففي سنة 1917 التي صدر فيها وعد بلفور المشؤوم كانت ولادة الشاعرة، وفيها سجن والدها ونفي وعانت عائلتها نتائج هذا الاضطهاد الذي ناله جراء مساهمته في الاحتجاج على هذا الوعد المنذر بالويلات اللاحقة.

وفي مدينة نابلس ولدت الشاعرة فدوى طوقان، في بيئة عائلية مُحافظة، وفي نابلس عاشت صباها، وأتمّت دراستها الابتدائية ثم حرمت بعد ذلك من مواصلة الدراسة، ولكن ثمة لحظة قدرية فارقة جعلت من فدوى شاعرة فلسطين الأولى صاحبة القصائد المعمقة بحب الوطن، والتي أرقت العدو الإسرائيلي.

تقول فدوى طوقان: "جاءت لحظة قدرية سعيدة، تعهدني شقيقي المرحوم إبراهيم بعنايته، وأخذ بيدي لأبدأ معه مسيرتي الشعرية، فكان معلمي ومرشدي وصانع وجودي، بعد وفاته المبكرة اعتمدت الجهد الشخصي في الدراسة وتثقيف الذات، حيث اتخذت من الكتاب صاحبًا ورفيقًا لا يفارقني أبدا، وذلك من منطلق إدراكي أنه لا ثقافة بدون كتاب، الكتاب يبني الروح، يبني العقل، يبني الفكر، الكتاب أهم وسيلة للتثقيف".

ويصف الكاتب عيسى فتوح في كتابه "فدوى طوقان شاعرة الأشواق الحائرة" المناخ الذي عاشت به فدوى، إذ لم يكن باستطاعتها التفاعل مع الحياة بالصورة القوية التي يجب على الشاعر أن يتفاعل معها، كان عالمها الوحيد المتسم بالخواء العاطفي هو عالم الكتب والانكباب على الدرس والمطالعة والكتابة، كانت تقرأ بنهم حتى غطت قراءتها التراث العربي والأدب العربي المعاصر والآداب العالمية والكتب الدينية بما فيها القرآن الكريم والإنجيل والتوراة والكتب التاريخية والاجتماعية والفلسفية وعلم الاجتماع والتحليل النفسي، وانجذبت بطبيعتها التشاؤمية لمعرفة هل ولد الإنسان مفطوراً على الخير أو على الشر؟ وهل تستطيع الأديان تخليص الإنسان من عذاباتها؟". وتروي الشاعرة فدوى طوقان عن فترة دراستها في المدرسة الفاطمية قائلة: "في المدرسة الفاطمية تمكنت من العثور على بعض أجزاء من نفسي الضائعة. فقد اثبتُّ هناك وجودي الذي لم أستطع أن أثبته في البيت. أحبتني معلماتي وأحببتهن، وكانت منهن من تؤثرني بالتفات خاص. أذكر كيف كان يشتد خفقان قلبي كلما تحدثت معي معلمتي المفضلة "ست زهرة العمد"، والتي أحببتها كما أحب واحدة من أهلي في تلك الأيام. كانت جميلة وجهاً وقواماً، وكانت أنيقة، شديدة الجاذبية".

وقيل إنه "لم تظهر في فلسطين، في النصف الأول من القرن العشرين، شاعرة واحدة كرّست حياتها للشعر غير فدوى طوقان". قبلها ظهرت أسمى طوبي (مواليد 1905) وهدية عبد الهادي (مواليد 1919)، وبعدها جاءت سميرة أبو غزالة (1927)، وسلمى الخضراء الجيوسي (1928)، لكن ينبوع الشعر لم يلبث أن غار لدى هؤلاء الشاعرات الأوائل فانصرفن جميعاً، في ما بعد، إلى مصائرهن المتنافرة. والشعر الفلسطيني المعاصر لم يعرف شاعرة جريئة مثل فدوى طوقان تصدّت للكلام على الحب والتمرد في مجتمع شديد القسوة والامتثال، كما لم يعرف، أيضاً، شاعرة مفجوعة ظلت تراوغ آلام أيامها طويلاً وهي مجردة من أي سند أو معين.

تنوعت موضوعاتها الشعرية وتراوحت بين النزعات الذاتية والتأملية والإنسانية والصوفية والوطنية، ومنذ بدأت حركة الشعر الحديث اقتنعت بها، وتخلت عن كتابة القصيدة العمودية ذات الشكل التقليدي فكتبت قصيدة التفعيلة، والقصيدة المقطعية، كما استعملت البناء القصصي والمونولوج الداخلي والحوار والارتجاع الفني واستوحت التراث والأسطورة وكتبت القصيدة ذات الأصوات المتعددة ووحدت بين الأزمنة في علاقة درامية، كما في قصائدها "نبوءة العرافة" "إلى الوجه الذي ضاع في التيه" و"في المدينة الهرمة" و"كوابيس الليل والنهار".

وكتبت طوقان عن نفسها ذات مرة قائلة: "أنا عين المرأة.. الشاهدة.. بؤرة العدسة.. صياح الديك عند الفجر.. لؤلؤة الكلام.. حجارة الحيطان العتيقة.. نبتة الظلال التي تعانق المساء.. أنا الصوت الحنون الذي يستحضر الأمل وقت الكلام".

وأورد الكاتب صقر أبو فخر في مقالة له في ملحق صحيفة "السفير" التسميات التي أطلقت على فدوى طوقان فكتب: "أسماها شقيقها إبراهيم طوقان، وهو شاعر فلسطين الكبير "أم تمام". وأسماها محمود درويش، وهو الشاعر الكبير الذي أهدته فلسطين إلى الثقافة العربية "أم الشعر الفلسطيني". ومع أنها وقّعت قصائدها الأولى باسم "دنانير" وهو اسم جارية، إلا أن أحب أسمائها المستعارة إلى قلبها كان "المطوّقة" لأنه يتضمن إشارة مزدوجة، بل تورية فصيحة إلى حال الشاعرة بالتحديد. فالمطوقة تعني انتسابها إلى عائلة طوقان المعروفة، وترمز، في الوقت نفسه، إلى أحوالها كأسيرة في عائلة قاسية وفي مجتمع تقليدي غير رحيم معاً. وقد حوّلت طوقان قصائدها أنصالاً ضد الاحتلال. وبهذه المسيرة الجبلية العاصفة أصبحت فدوى طوقان أم الشعر الفلسطيني المعاصر حقاً".

وتعتبر سيرة فدوى طوقان "الرحلة الأصعب" خير نص أدبي وثائقي يعكس ما عرفته الأمة العربية بصفة عامة وفلسطين بصفة خاصة من نكسات متكررة ونكبات تراجيدية في ظل الانتداب البريطاني والاحتلال الصهيوني.

بين مرحلتين

دخلت فدوى طوقان ميدان الشعر عن طريق أخيها الشاعر المعروف إبراهيم طوقان، وهو من خط بأنامله قصيدة "فدائي" و"موطني" التي أصبحت النشيد الوطني الفلسطيني. فكتبت فدوى قصيدة امتنان بعنوان "تاريخ كلمة" تمتدح أخاها إبراهيم.

أما شعرها فقد عالج الموضوعات الشخصية والاجتماعية، وهي من أوائل الشعراء الذين عملوا على تجسيد العواطف في شعرهم، وقد وضعت بذلك أساسيات قوية للتجارب الأنثوية في الحب والثورة، واحتجاج المرأة على المجتمع.

ولشعرها مراحل، فقد تحولت من الشعر الرومانسي إلى الشعر الحر ثم هيمنت على شعرها موضوعات المقاومة بعد احتلال فلسطين.

أما الرحلة الأصعب فتقول عنها: "هي رحلة ابتدأت منذ انتهت الرحلة الصعبة، وتناولت فيها تجربتي تحت الاحتلال، والمعارك التي نشأت بيني وبين اليهود والسياسة الإسرائيلية، وكلها محفورة في الذاكرة."

وتضيف الشاعرة: "لقد عشت مرحلة الهزيمة بكل أبعادها، وكان لها تأثير كبير في نفسي، وكانت منبعًا لقصائد تتخذ الصيغة الواقعية، عبّرت فيها عن صور كثيرة من صور الاحتلال بكل بشاعته".

وتناولت طوقان في شعرها في ذلك الحين تضحيات الفلسطينيين ونضالاتهم، وأصدرت ديوانيها "الليل والفرسان" و"على قمة الدنيا وحيدا"، وعبرت فيهما عن امتنانها لشهداء فلسطين وصمود أسراها رجالًا ونساء، ثم نقلت مأساة مدينتها ونكبة أهلها وحزنها على شهدائها.

وعبّرت فدوى طوقان عن حبها وانتمائها لتراب فلسطين في شعرها، فتقول: كفاني أموت عليها وأدفن فيها/وتحت ثراها أذوب وأفنى/وأبعث عشبًا على أرضها/وأبعث زهرة إليها/تعبث بها كف طفل نمته بلادي/ كفاني أظل بحضن بلادي/تراباً،‌وعشباً، وزهرة..     

وعن الحلم المستحيل تقول: "إن حلمنا بلم الشتات لم يتحقق بالكامل، فلا تزال الصورة غير واضحة، ولا تزال في وضع مبلبل غير مستقر، فالمستوطنات لا تزال قائمة، والقدس ما زال اليهود يعتبرونها لهم، وليس لنا فيها أي حق، والسجناء لا يزالون يكابدون في أعماق السجون الإسرائيلية، لم يتحقق لنا شيء من الحرية، ولكن نحلم أن يكون ما تحقق هو الخطوة الأولى كبداية لنهاية سعيدة تتحقق فيها الأحلام العربية الفلسطينية".

وبعد حرب حزيران 1967 كرست الشاعرة فدوى طوقان شعرها لمقاومة الاحتلال الصهيوني وكثرت لقاءاتها مع الجماهير في ندوات شعرية، كانت سلطات الاحتلال تمنعها أينما أقيمت، وكان "موشي ديان" وزير الحرب الإسرائيلي السابق يقول: "إن كل قصيدة تكتبها فدوى طوقان تعمل على خلق عشرة من المخربين (رجال المقاومة الفلسطينية)".. كانت لا تفتأ تذكر العرب بماضيهم المجيد، يوم كان مقعدهم فوق النجوم وكانوا سادة الدنيا وحماة الحمى، فلماذا لا تثور نخوتهم، ولماذا لا تشتعل حماستهم لاسترجاع الوطن السليب؟

أنتم الطيبون صبابة العرب حماة الحمى بقايا الجدود

هو ذا العيد أقبل اليوم محدواً بروح في برديته جديد

فيه شيء من اعتزاز قديم عرفته له خوالي العهود

يوم للعرب مقعد في النجوم الزهر يزهو بركنه الموطود

في فؤاد القدس الجريج اهتزاز لكم رغم جده المنكود

أنثنى موجعاً على الجرح يشدو ويحيي أفراحكم في العيد 

وعلى الرغم من هزيمة العرب في الخامس من حزيران عام 1967 التي خلفت في بعض النفوس الضعيفة شيئاً من اليأس والإحباط والقنوط، وفقدان الثقة والأمل، فإن فدوى طوقان على العكس لم تتشاءم، وظلت متفائلة بالنصر القريب الذي سيحققه شباب المقاومة الفلسطينية البواسل:

ستنجلي الغمرة يا موطني ويمســـح الفجر غواشي الظلم

والأمل الظامئ مهما ذوى لســــــــــــــوف يروى بلهيب ودم

فالجوهر الكامن في أمتي ما يأتي يحمــــل معنى الضرم

هو الشباب الحر ذخر الحمى اليقظ المســـــــتوفر المنتقم

لن يقعد الأحرار عن ثأرهم وفي دم الأحرار تغلي النقم!

"آهات أمام شباك التصاريح"..

وتناولت الشاعرة في قصيدتها الغاضبة من صور الاحتلال الصهيوني "آهات أمام شباك التصاريح"، هذه القصيدة التي كتبتها فدوى أثناء الحصار المفروض على الممرات والحدود الفاصلة بين المدن الفلسطينية، والتي تظهر الإنسان الفلسطيني كأنه أجنبي مغترب في أرضه مجسدة إياه في صورة مذلولة مشوهة يسود فيها الانتظار الطويل لما يأتي ولا يأتي، والعذاب المحترق الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني وهو مصطف مع إخوانه من أبناء فلسطين في طوابير تنتظر الإفراج والإذن بالمغادرة لرؤية أحبابهم وأسرهم وأهاليهم. ولم تكن الشاعرة بمعزل عن هذا العذاب السيزيفي القاهر، وهذا ما دفعها لتكتب هذه القصيدة الشعرية التي تحرض فيها على الرفض والمقاومة والنضال ومقاتلة الأعداء الصهاينة. وأحدثت القصيدة تأثيراً بالغاً فعقدت الحكومة الإسرائيلية والصحافة الصهيونية لقاءات مع فدوى لمعرفة أسباب هذه الكراهية ومبررات الحقد العربي للإنسان الإسرائيلي، وقدمت فدوى كل الإجابات المنطقية المقنعة التي دفعتها للكتابة، وحملت الصهاينة المسؤولية في توليد هذا الحقد الدفين وإشعاله من فينة إلى أخرى. وربما يعود هذا الحقد الإسرائيلي الدفين إلى عهود مضت خصوصاً أن كثيراً من الشعراء الصهاينة كانوا يدعون شعوبهم إلى مقاتلة أعدائهم وأكل لحومهم كما فعل الشاعر اليهودي الحاقد مناحيم بيالك في قصيدته" أناشيد باركوخبا" الذي يدعو فيها اليهود إلى أن يكونوا حيوانات مفترسة للانقضاض على أعدائهم الأشرار.

وفي القصيدة وصفت الشاعرة كيف شتمها ومن معها الجندي الهجين بقوله: "عربٌ فوضى، كلاب..."، وفيها تقول: ألفُ هندٍ تحتَ جلدي/ جوعُ حقدي/ فاغرٌ فاهُ سوى أكبادِهم/ لا يُشبعُ الجوعَ الذي استوطنَ جلدي..

الفدائي والأرض

ونشرت فدوى طوقان خمس قصائد ثورية في جريدة "الاتحاد" وهي: "مدينتي الحزينة"، و"الطاعون"، و"إلى صديق غريب"، و"الطوفان والشجرة"، "وحي أبداً"، وحررت هذه القصائد في هذه الجريدة بتاريخ 22 أيلول 1967م. وتعرضت الشاعرة بعد ذلك أثناء تنقلاتها داخل الأرض المحتلة لكثير من المضايقات والمراقبة الشديدة والمحاسبة الصارمة، وأحست من جراء تلك المعاملة اللاإنسانية القاسية بالاغتراب الذاتي والمكاني والشجا الدامي. وفي هذا الموقف العصيب أبدعت قريحتها قصيدة "لن أبكي" للتعبير عن صبرها وصمودها وتمسكها بجذور وطنها وعزمها على مقاومة العدو المحتل. كما نظمت الشاعرة قصيدتها "الفدائي والأرض" على إثر استشهاد البطل الفلسطيني مازن أبو غزالة في معركة طوباس، تلك المعركة التي قامت بين رجال المقاومة والجيش الإسرائيلي بعد مرور شهور قليلة على الاحتلال الصهيوني للوطن. وقد توطدت علاقة الشاعرة بشعراء الرفض وتكررت زياراتها لشعراء الهوية القومية كسميح القاسم ومحمود درويش على الرغم من المراقبة الشديدة والتسجيل يومياً لدى مركز البوليس.

ولقد كان هذا التواصل بداية "التفاعل الحيوي المثمر الذي ظل محافظًا على استمراريته من جراء التحام كتاب الضفة والقطاع بالكتاب والشعراء الفلسطينيين المقيمين في الجزء المحتل من فلسطين منذ العام 1948، على الرغم من حرص السلطات العسكرية على إقامة حواجز المنع وعرقلة نشوء أي تفاعل أدبي أو تلاحم فكري بين أبناء الشعب الواحد الذي شطرته المأساة سنة 1948. فكم من مرة، حين أدعى - تقول فدوى طوقان ("الرحلة الأصعب"، ص: 23)- إلى المشاركة في مناسبة أدبية وطنية في الناصرة أو القدس مثلاً، كانت ولا تزال- توجه إلي الأوامر العسكرية بعدم مغادرة نابلس في ذلك اليوم بالذات".

واعتبر الكاتب جميل حمداوي سيرة فدوى طوقان أن "الرحلة الأصعب" تعتبر خير نص أدبي وثائقي يعكس ما عرفته الأمة العربية بصفة عامة وفلسطين بصفة خاصة من نكسات متكررة ونكبات تراجيدية في ظل الانتداب البريطاني والاحتلال الصهيوني. كما يعتبر هذا النص أيضاً أقرب وثيقة إلى الصدق الموضوعي في تحديد ملابسات بعض الكتابات النثرية والقصائد الشعرية التي كتبتها فدوى طوقان؛ لأنه يبرز لنا السياقات والحيثيات المرجعية والتاريخية التي كانت وراء إبداعها وسجالها السياسي والأدبي والفكري. علاوة على كون هذه السيرة النصية تسعفنا كثيرًا في فهم دواوين فدوى طوقان وتفسيرها على ضوء بواعثها ومقصدياتها التداولية.

ويضيف حمداوي "يتبين لنا من خلال هذه المفكرة أن فدوى كانت تؤرخ للمقاومة الفلسطينية وحركية النضال والمواجهة منذ 1948م إلى غاية 1987م مشيرة إلى عواقب النكبات والنكسات والحروب العربية الإسرائيلية وخاصة حرب حزيران 1967م وحرب تشرين أول/أكتوبر 1973م وما تبعهما من انتفاضات جماهيرية ومظاهرات شعبية ومقاومات وطنية وعسكرية وخصوصاً مقاومة منظمة التحرير الفلسطينية وتضحيات شهداء فلسطين ومثقفيها المناضلين الأشاوس الغيارى على البلاد".

ويوضح حمداوي أن فدوى طوقان "قد جمعت في شعرها بين المنزع الرومانسي والتحدي الثوري الملتزم بالقضية والدفاع عن الإنسان الفلسطيني على غرار الشواعر الفلسطينيات الأخريات كسلمى خضراء الجيوسي، ودعد الكيالي، وسميرة أبو غزالة، وأسمى طوبى".

الوطنية في شعر طوقان

يعتبر الكاتب أشرف علي، في دراسة نقدية له بعنوان: "الوطنية في شعر فدوى طوقان" أن رسم خطٍّ فاصل بين الشعر الوطني وغيره من أغراض الشعر الأخرى يُمكن أن يكون من الصُّعوبة بمكان عند كثير من الشُّعراء الفلسطينيين. إلا أن المُتصفِّح لدواوين فدوى طوقان لن يجد كبير عناء في رزم قصائدها الوطنية وإخراجها من عموم مجموعاتها الوجدانية الإنسانية الأخرى، وان تبقّى هنا وهناك نُتف من المشاعر والدفقات الشعورية بين ثنايا القصائد الأخرى.

وتُعتبر قصيدتا (بعد الكارثة) و (مع لاجئة في العيد) اللتان ضمهما ديوان (وحدي مع الأيام) بدايات التفات الشاعرة نحو الهم الوطني العام. فهي في قصيدة (بعد الكارثة) تنتابها الدهشة والحيرة أمام صمت الأمّة العربية حيال ضياع الجزء الأكبر من فلسطين:

أين الألى استصرختُهم ضارِعاً تحسبهم ذراك والمُعتصم

وما بــالـهـم قد حـال من دونهم ودون مأساتك حس أصمّ

كما تستنهض أمَّتها العربية، ولا تفقد الأمل بحتمية بزوغ الثورة وانطلاقها من معاناة الشعب الفلسطيني:

ستنجلي الغمرة يـــــا مـوطــني ويمسح الفجر غواشي الظُلم

لـــكــن للــــثـأر غـــداً هبّــــة جارفة الهول عصوف عـمـم

ويضيف علي "لقد شكل الاحتلال صدمة شعورية لفدوى طوقان، أخرجها من عالمها الذاتي الوجداني البعيد عن الواقع الاجتماعي والسياسي لشعبها، وأثر ذلك واضح في قصائد ديوانها (الليل والفرسان). إلا أن المُلاحظ كذلك أن كثيراً من قصائد فدوى طوقان التالية كانت تعبيراً عن تجارب شخصية عايشتها بنفسها وانفعلت بها وسجّلتها في شعرها. كما في قصيدة (رسالة إلى طفلين في الضفة الشّرقية) و(لن أبكي) و(آهات أمام شباك التصاريح) و(حمزة)"...

وكل ذلك كان عائداً لما عايشته فدوى عن كثب من المشاهد الدامية والجرائم المروعة في الجبل كنسف بيوت المناضلين ونفي المجاهدين وقتل الوطنيين ومداهمة المنازل لتفتيشها، ولم ينج حتى بيت فدوى طوقان من هذه المداهمة للتأكد من وجود الأسلحة داخل بيتها.

لقاءات ملتبسة؟!

توجد أمور مُلتبسة في سيرة فدوى طوقان حول حصول "لقاءات واتصالات عن طريق المكاتبة والمراسلة مع مجموعة من اليهود "الحاقدين" أو "المعتدلين" لشرح وجهة نظرها وموقفها الرافض لكل احتلال لأرضها ورغبتها في التعايش "الحميمي" مع اليهود كما كان ذلك في السابق"، كما ورد في أكثر من مصدر منها "الرحلة الأصعب".

وأورد الكاتب عز الدين المناصرة بعض الأمور التي ورد عليها جدل منها: الجدل حول قصيدتها: (ايتان في الشبكة الفولاذية)، وقد أوصل الحوار إلى السؤال: إلى أي مدى يمكن للشاعر الفلسطيني أن يحاور (العدو)، وما هي آليات الحوار، إذا انطلق من (عدم شرعية دولة إسرائيل)، أم حين ينطلق من (الحل الممكن) بعيداً عن (الحل العادل).

كما طرح المناصرة موضوع الجدل حول لقاء فدوى طوقان، شاعرة المقاومة مع موشي ديان، وزير الحرب الإسرائيلي، ثم التساؤل حول كيفية (الجمع بين المقاومة والتأسرل!!)- انظر: حوار مع فدوى- القدس العربي، لندن، (24/6/2003).

وفي قراءة الدكتور محمد عبد الله القواسمة لكتاب "حوارات فدوى طوقان" للدكتور يوسف بكار، يورد عدداً من المعلومات المكررة والمضطربة ومنها ما ورد عن لقاء الشاعرة بموشي ديان؛ إذ يتكرّر الحديث، بصياغات مختلفة ومعلومات متناقضة، فيرد في الحوار الثاني قول الشاعرة بأن ديان طلب من حمدي كنعان رئيس بلدية نابلس رؤيتها. تقول: "جاءني حمدي كنعان وقال لي: "يا فدوى القصة هيك.. هيك وديان يريد أن يراك.. قلت له فليكن"(ص33). وفي الحوار الحادي عشر تقول فدوى: إنّ "هذا اللقاء فرض علي"(ص147)، وفي الحوار الثاني عشر تقول إنّها التقت موشي ديان مرتين، وإنّ مساعد ديان اتصل بها وقال: "إنه يريد لقائي في فندق داوود في القدس. ذهبت، وأخذني إلى منزل ديان ترددت في الدخول"(ص 157). وفي هذا ـ كما يقول القواسمة ـ، تناقض واضح يربك القارئ فلا يستطيع أن يدرك الحقيقة وسط هذه المعلومات المغلوطة.

وقال الكاتب المتوكل طه في صحيفة "السفير" اللبنانية (15-12-2015)، إن قيام طوقان بحمل رسائل من ديان إلى الرئيسين ياسر عرفات وجمال عبد الناصر، "إن هذا الدور السياسي الذي لعبته الشاعرة لم يكن مفصلاً لها ولا لائقاً لروحها أو شخصيتها، ولم يكن الظرف أو القوى المحيطة لتساعد الشاعرة، أيضاً، على أن تنجح بهذه المهمة، وهو ما لمح لي به الرئيس ياسر عرفات. ثم توصّل إلى هذه النتيجة المبدع العربي المعروف رجاء النقاش، في غير مقالة نشرها في صحيفة "الأهرام" القاهرية في أواخر كانون ثاني 2004 حيث تناول في تلك المقالات ما تردد حول الوساطة التي قامت بها فدوى بين الرئيس عبد الناصر ووزير الحرب اليهودي موشي ديان".

انتماء ووعي

تعدّ فدوى طوقان من الشاعرات العربيات القلائل اللواتي خرجن من الأساليب الكلاسيكية للقصيدة العربية القديمة خروجاً سهلاً غير مفتعل، وحافظت فدوى في ذلك على الوزن الموسيقي القديم والإيقاع الداخلي الحديث. ويتميز شعر فدوى طوقان بالمتانة اللغوية والسبك الجيّد، مع ميل للسردية والمباشرة. كما يتميز بالغنائية وبطاقة عاطفية مذهلة، تختلط فيه الشكوى بالمرارة والتفجع وغياب الآخرين. وتقول عنها الأديبة الراحلة وداد سكاكيني (1913 ـ 1991): "لقد كان قلب الشاعرة فدوى طوقان مثل غرفة معتمة، امتدت يدّ الحب إلى شبابيكها ففتحتها ليدخل إليها الهواء والضياء وطعم الحياة، وإذا كان في هذا الشعر العاطفي صورة حقيقية للشاعرة وجدناها فيها قد انتفضت من غمرة الهوى المكتوم إلى مسارب ذاتها، فهدهدت ثورتها وسكبت حبها في صوفية عميقة وإنسانية مثالية، وخرجت من فرديتها إلى أفق طليق الرحاب".

أما رسالة فدوى طوقان التي نختم بها ووردت في كتابها (الرحلة الأصعب ص. 87)، معلقة على ممارسات الاحتلال في نابلس: "إنها لضرورة قصوى في هذا الزمن التائه، أن يتحصّن الإنسان العربي بوعي سياسي وعقائدي يحميه من الضياع، وعي تتأكد فيه هويته ويتكثّف شعوره بالانتماء، ومن المؤكد أنّ أجدر من يتحصن بهذا الوعي السياسي العقائدي هم أصحاب القلم الذين ينطلقون في أداء دورهم النضالي من جبهة الفن والفكر والشعر. فلا بد لهؤلاء من اتخاذ موقف من الحياة وموقع ينطلق منه سلوكهم وأفكارهم وأعمالهم الأدبية. فمثل هذا الموقع ومثل هذا الموقف يضيئان لهم الطريق ويمنحانهم عناصر رؤياهم، ومن خلالهما تنبثق مضامين إنجازاتهم الفكرية والفنية والأدبية".

اعلى الصفحة