السنة الخامسة عشر ـ العدد 173 ـ  (رجب - شعبان 1437 هـ ) ـ (أيار 2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

العرب.. الرِّمم...!!!

أكثر ما يحزنني أن الدمع هجر عيني.. كأنما نفسي تعاتبني. أخشى ألا أبكي ثانيةً!!. كلما ضاقت بي الدنيا، وساورتني تلك الرغبة، واقترنت باستحالتها أجدني خارج الوجود.‏

في الأيام الأخيرة.. بدأت أبحث بجدية عن حل لمعضلتي هذه، وبعد استعراض بعض الحلول والعمل على تنفيذ بعض الخطط (مشاهدة أفلام عاطفية - متابعة نشرات الأخبار العربية) وجدت الحل.‏

حتى أكون صادقاً لم تأتني بنات أفكاري بالحل بشكل صرف، فقد أصبحن عاجزات عن الخلق، إلا أنهن طورن الفكرة. كان ذلك في التاكسي صباحاً، في طريقي إلى عملي، فقد تعطَّلت كعادتها سيارتي وتنْحَرتْ، كانت تجلس على المقعد الخلفي سيدة تحتضن طفلها، فجأة ملأ الطفلُ الحافلة بكاءً، حاولت أمه إسكاته، عرضت عليه أن ترضعه، داعبته، لاعبته، ساعدها راكبٌ على المقعد بقربها، ناوله مجموعة مفاتيحه، لكنه استمر غير آبهٍ بأحد.‏

غادرتُ الحافلة، وكان الحالُ على ما كان، وبينما كنت أطوي المسافةَ المتبقية لوصولي إلى المجلة، كانت الفكرة قد لمعت وبدأت بالتبلور.‏

- بما أنك لا تستطيع أن تسبح في ماء النهر مرتين، وبما أن الطفولة قد مضت، فليس إلا أن أسرق بعض البكاء المجاني من طفل، ولكن من هو هذا الطفل، بالطبع لن يكون حسين!! الذي حين يراني يضحك ويغادره البكاءُ، عدا عن عدم اقتناعي بفكرة الاقتباس عنه، كي لا يتعود البكاءَ لأجلي، والسؤال الأهم.. كيف؟!..

ما يهمُّ الآن هو أني اتخذت القرار، بعد بحث دقيق ومتكامل عن البدائل، وهذا يعني أن قراراً بات ولا رجعة فيه.‏.

مشكلة.. لا يمكنك التفاوض مع طفل، ولا يمكنك تهديده أو سلبه بالقوة، خصوصاً وأن الطفل المطلوب - صاحب البكاء المجاني- غير واعٍ.‏

لا بد من وضع خطة مدروسة ومحكمة، تبدأ أولاً بالاختلاء بالهدف، ثم مباشرة عملية "الاقتباس" وأخيراً إعادته بهدوء إلى مكانه، وكأن شيئاً لم يكن، وإذا تم كل شيء حسب الخطة، لا يمكن أن يُفضح الأمر، ما تزال هناك مسألة واحدة.. ويتم كل شيء.. كيف؟‏

لقد وجدت الهدف، طفل جميل، يبكي بشكل جيد وكثيف، عمره سنة واحدة، وليس عسيراً الانفراد به، فهو الابن البكر لصديقي، وسأتمكن من إقناعه وزوجته بأن يدعاني أرعاه إذا ما تدبرت لهما فرصة الذهاب لحضور الأمسية الشعرية التي دعيتُ إليها، وعندما طُرحتْ مشكلة الطفل، وأين سيبقى؟ جاء دوري فتبرعت لرعايته في غيابهما، دون محاولةٍ  لإقناعهما بأنه لدي تجارب سابقة في رعاية الأطفال، فهما على درايةٍ بأنني أجري بحوثاً ودراساتٍ تربويةً في القسم الثقافي في المجلة، إضافةً إلى كوني مارست دور الأبوة لسنواتٍ عديدة، وهكذا كان، بالطبع ستكون الأمسيةُ طويلةً بشكل يسمح بتنفيذ المهمة بهدوء.‏

الطفل أمامي الآن، مع كافة المعدات التي تركتها والدته بعهدتي، وبعد أن علمتني كيف استعملها، وكيف أغير له في حال.. وكيف أحضر له الرضعة!!!.. جلست أحدق بها، لم أعهدها هادئة، ما بها تجول بنظرها عليّ قليلاً، وعلى ما حولها من أشياء كثيراً، بالطبع هناك جزء وحيد من الخطة لم يكشف لي بعد.. كيف؟‏

تساورني الرغبة في مشاهدته يبكي، يا للقسوة.. لكن ربما هو يلهمني الحل، لكن يبدو أنه لم يبك في حياته‏.. اقتربت منه، وضعت سبابتي على جبينه، ثم على خده، فأبعدَها بهدوء لا يخلو من بعض نزق، نقلت سبابتي إلى يده، فأمسك بها، ما أصغر يده!‏.. لكني أضيع الوقت، سأقرصه، قرصته في خده، بكى، اشتد بكاؤه، ابتسمتُ لبرهة، ثم وَجَمْتُ طويلاً، لقد ساءني ما فَعَلْتُ، حاولتُ إسكاته دون جدوى، داعبته، أتيته بزجاجة الحليب، جئته بلعبة، لكنه لم يكف، جلست أمامه يائساً، بعد مدة لا أدري إن كانت طويلة أم قصيرة، شعرت بما تساقط على يدي!!.. إنها قطرة!!!.. قطرةٌ شفافة ناصعة!!.. أدنيت يدي من فمي، وضعت لساني على تلك القطرة، إنها مالحة، دمعة، لقد ذرفتْ عيني دمعةً!!... إني أبكي!!!.. أجهش بالبكاء..!! لقد أتى صديقي وزوجته، فتحت لهما الباب، وأنا أكفكف دموعي، هرعت الأم إلى ابنها الباكي، فيما وقف صديقي أمامي يستفسر عن سبب بكائي، لم أستطع الإجابة، ربما لم أُرِدْ ذلك... فتحت الباب وخرجت دون أية كلمة.. حين أغلقت الباب، كان الدمع ما زال برفقتي، على الرغم مما أنا عليه، فشعرت بابتسامة تتسلل إلى شفتي، دفقتُ خارجاً، إلى الشارع البارد.. لقد عدت قادراً على البكاء، لقد عدت إلى الوجود.‏

يا لفرحتي العارمة، بتُّ قادراً على التأثر، والبكاء، لكن ثمة ما يقلقني من جديد، أحاول أن أجد له حلاً ما، بتُّ قلقاً على الدمعة التي هجَرَت مقلة العرب - ولن أقول العالم - أين هي اليوم؟؟، هل ثمة من يجد طفلاً في هذا العالم العربي ليذرف دمعةً لأجله؟!، هل جرَّب أحدهم أن يسرق ولو دمعة واحدة من أطفالنا الذين علموا حتى الحجر كيف البكاءُ يكون.. يقلقني أني أخاف أن لا يجد أحدٌ منهم الفرصة ليسرق هذه الدمعة، لأن العرب يسرقون منا في كلِّ مرة يجتمعون آلاف الدمعات... العرب يقتلون الأطفال في اليمن وفي البحرين.. ويغلقون الآفاق علينا.. ويغتالون الحق.. ويركضون نصرةً للباطل..

ياااااااااااااااااه... إني أعود لقلقي المستدام.. كيف سأقنع هؤلاء (الرمم) بدموع أطفالنا؟...  

اعلى الصفحة