الواقع الفلسطيني في ظل المعطيات الراهنة

السنة الخامسة عشر ـ العدد 173 ـ  (رجب - شعبان 1437 هـ ) ـ (أيار 2016 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بعد أكثر من ثمانية أشهر على انطلاق انتفاضة الأقصى لا زال الاختلاف واضحاً من الانتفاضة عموما ومنهج المقاومة كخيار شعبي استراتيجي، وعلى الجهة الأخرى فإن طريق المفاوضات والتنسيق الأمني أثبت الفشل الكامل.

ومن الواضح أيضاً أن هناك أشخاصاً يمتلكون الجرأة على إدارة الظهر للمصلحة الوطنية العليا، ولمصالح الشعب الفلسطيني، ولطبيعة الصراع مع الاحتلال، كصراع دائم، دون أن يلتزموا بأي من تطلعات الشعب الذي يسعى بكل الوسائل إلى الخلاص من الاحتلال.

لقد وصلت الحالة الوطنية الفلسطينية إلى واقع غير مسبوق بالعبثية وانسداد الأفق بمختلف أشكاله والقضاء على إمكانية خلق واقع مقاوم استنهاضي جراء تجفيف بؤر المقاومة والقضاء عليها وإصدار الفتاوى التي قد تصل إلى حد اعتبارها رجسا من أفعال الشياطين ممن باتوا اليوم يعتلون منصات الإمامة والخطابة. وحيث أن الاقتتال الداخلي والانقسام قد احتل الجزء الأكبر من المشهد العام الذي يسيطر على الحالة السياسية الفلسطينية. وحيث أن عبثية التنظير قد صارت حرفة لمن لا حرفة له لتسويق المشبوه وقد أضحى سيد الموقف، وبما أن الأمور أصبحت واضحة إلى هذا الحد فلا بد إذن من وقفة جادة، وحيث أن اللحظة تتطلب موقفا وطنيا بامتياز بعيدا عن الحسابات التنظيمية، فلابد من المجاهرة بالموقف وإعلائه والعمل على تحشيد الرأي العام حوله.

تراجع مكانة القضية

كما يعرف الجميع فإن القضية الفلسطينية ظلت، لعدة عقود، الشغل الشاغل للرأي العام العربي، وربما الرأي العام العالمي، واحتلت مكان الصدارة في جدول أولويات الدول العربية، بل كانت القضية المركزية للأمة. ولكن لوحظ بوضوح، في السنوات القليلة الماضية، وتزامنا مع الأزمة التي تمر بها الدول العربية، تراجع مكانة القضية الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي، مما يشكل خطرا على قضية الأمة، يستوجب العمل على مواجهته.

وتتعدد وتتنوع أسباب التراجع المشار إليه، فمنها ما يتعلق بالنظام السياسي الفلسطيني، وفشل عملية السلام مع الجانب الإسرائيلي، ووصولها إلي طريق مسدود بعد "مفاوضات" دامت ربع قرن من الزمن.

كان بمقدور النظام الفلسطيني، ممثلاً في السلطة الوطنية وأجهزتها، أن يكتشف مبكرا عدم جدية إسرائيل في تحقيق السلام، وأنها تدير عملية مفاوضات لكسب مزيد من الوقت لخلق وقائع جديدة على الأرض من خلال الاستيطان، وتغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي في الضفة الغربية والقدس. ولقد تمكنت إسرائيل من بناء مئات المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، وتنفيذ خطة إسرائيل 2020 التي تقضي ببناء 50 ألف وحدة استيطانية، حتى تصبح نسبة السكان العرب فقط 20 من إجمالي السكان، كما أن عدد المستوطنين الآن في الضفة والقدس بلغ 700 ألف مستوطن. لقد حولت المستوطنات الضفة إلي كانتونات منعزلة، لم يعد معها بالإمكان الحديث الجاد عن دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس، متواصلة جغرافيا. وعلى صعيد آخر، كان بمقدور النظام الفلسطيني أن يغير من سياساته وأساليبه في التفاوض مع إسرائيل، عندما اكتشف عدم جديتها ونياتها الحقيقية.

وعلى الصعيد القومي، أصبحت المشكلات الليبية والعراقية واليمنية والسورية وتداعياتها، هي محور اهتمامات الدول العربية. ولم تعد القضية الفلسطينية بالدرجة ذاتها من الأهمية التي كانت عليها سابقاً. وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي، أصبح هاجس العالم يتمثل في الحرب على "داعش" وأخواتها، بعد أن وصل خطرها إلى أوروبا، ثم الولايات المتحدة أخيراً، وكذلك الهجرة التي تهدد أوروبا والغرب بصفة عامة. كل ذلك جعل القضية الفلسطينية تتراجع للخلف من حيث أهميتها عربياً، وإقليمياً، ودولياً.

وكما يقولون, العلاقات بين الدول هي علاقات مصالح، وليس علاقات عامة، لذا فإن العالم ومنظومته المتمثلة في الأمم المتحدة لا يتحرك إلا إذا لمس خطراً حقيقياً يتهدد أمنه، بل ويهدد الأمن القومي للدول الكبرى، وربما الأمن والسلم الدوليين. أما على جانب الصراع مع الكيان الصهيوني، فكل تجارب الماضي تؤكد أنه ما دامت إسرائيل تعيش في أمان وسلام، فهي لا تعبأ بالسلام، ولا بمن يريد السلام. أما إذا شعرت إسرائيل بأن أمنها مهدد، وأصابها الألم وبشدة، فتتنازل عن كبريائها وعجرفتها، وتدخل في مفاوضات جادة، وتستنجد بالولايات المتحدة الأمريكية الحامية لها. ولعل حرب أكتوبر 1973 أكبر دليل على ذلك، وكذلك انتفاضة الحجارة في ديسمبر 1987، والانتفاضة الثانية في عام 2000م. فلم تعقد إسرائيل اتفاق كامب ديفيد في مصر وتنسحب من سيناء إلا بعد حرب أكتوبر 1973، وانتصار الجيش المصري. كما أن مؤتمر مدريد للسلام، واتفاق أوسلو لم يتما إلا بعد انتفاضة الحجارة (1987) التي لم يستطع الجيش الإسرائيلي إيقافها.

 لقد كثفت إسرائيل من عدوانها في السنوات الأربع الأخيرة، مستغلة الأوضاع العربية والإقليمية، فشنت حروبا مدمرة على قطاع غزة، وحاصرته برا وبحرا وجوا، وكثفت من تهويد القدس، وانقسام المسجد الأقصى زمانياً ومكانيا، وتدنيس المسجد الأقصى من قبل قطعان المستوطنين، وتحت حماية الجيش والشرطة الإسرائيليين. وتغول الاستيطان في الضفة الغربية، وزادت حدة الاغتيالات، والمداهمات، والاعتقالات، والإذلال المتعمد للشعب الفلسطيني، وحصار الاقتصاد الفلسطيني، وحرمانه من التواصل مع محيطه العربي، وكل ذلك يتم على مشهد ومرأى من العالم والأمم المتحدة، ودون رد فعل على هذه السياسة الإسرائيلية المتوحشة. وعلى الجانب الفلسطيني، كان رد الفعل محصورا في الشكوى لمجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، وفي الوقت نفسه الاستمرار في سياسة المقاومة الشعبية السلمية التي تتم أسبوعيا، وليس لها أي تأثير قوي، وهي أصبحت مجرد مظاهرة إعلامية لذر الرماد في العيون.

أمام هذا المشهد بزواياه الفلسطينية، والإقليمية، والدولية، هبّ الشباب المقدسي غضباً من كل ما يجري. وتأكيداً على أنه لا أحد يحمي الديار إلا أهلها، بدأ غضبه في الانفجار من أول أكتوبر 2015 وحتى الآن، مئة شهيد ونيف بإعدامات ميدانية من قبل الجنود الصهاينة ومئات الجرحى وهدم للمنازل وتكثيف للاستيطان، وعلى الرغم من ذلك فالشعب الفلسطيني مستمر بانتفاضته دون توقف. وأجبر العالم على أن يستمع ويلتفت إليه، فيتحرك أمين عام الأمم المتحدة، ورئيس الدبلوماسية الأمريكية، ويجتمع مجلس الأمن، وكذلك مجلس جامعة الدول العربية. وتهتم الشبكات الإخبارية والفضائيات بتغطية نضاله، وتستعيد قضية فلسطين جزءا من مكانتها دوليا وعربيا، وتعود لتتصدر نشرات الأخبار، بعد أن كانت قد اختفت تقريبا من الإعلام العربي، وليس فقط الدولي.

ترهل في مختلف المؤسسات

إن إعادة ترتيب البيت الوطني الفلسطيني من خلال المسارات الكلاسيكية قد صارت عبثا وعبئا على جماهير شعبنا وفي كل مرة تأتينا الأخبار لنكتشف مدى الكذبة التي نعيش بكنفها ويوم بعد آخر تبتعد آمال تحقيق المُراد وطنيا بتحقيق عمليات الترتيب والترميم للبيت الوطني الفلسطيني الجامع بمختلف قضاياه، حيث أضحى انعقاد جلسة المجلس الوطني الفلسطيني ضرباً من ضروب الخيال، ونتائج الحالة الراهنة قد أضحت معلومة ومعروفة من حيث تعزيز الحالة الانقسامية بشكلها التنظيمي وبمنطقها الجغرافي، بل ان هذه الحالة قد أصبحت مقروءة  بأبجدياتها الأولية فحالة الترهل والتشرذم المعاشة بمختلف المؤسسات واضحة للعيان.. الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على مختلف أوجه الحالة الفلسطينية وشكل حالة تحدي للمعالجات التي تتفاقم بشكل يومي.

إنه وبناء على ما تقدم ودون الإطالة بالشروحات المعلومة والمعروفة للحالة الوصفية التوصيفية للواقع الراهن، ولمواجهة المأزق الذي باتت القضية الفلسطينية تعيشه بعناوينها المتمثلة بالإرباك والتخبط والتشرذم كحالة عامة نعايشها بالظرف الراهن، فلا بد من التداعي لمؤتمر وطني شعبي فلسطيني جامع يضم كل الرافضين لخطوة الحالة الراهنة بكل تفصيلاتها وأشكالها وعناوينها صغيرة كانت أم كبيرة... يكون قوام هذا المؤتمر من الكل الوطني ولكل المؤسسات والشخصيات والفعاليات الوزانة لإيقاف المهزلة وحالة الانهيار واستمرار فصول العبثية.

انه وفي ظل الواقع الفلسطيني الراهن، من الواضح أن الحوار الوطني الفلسطيني في إطار المؤتمر الوطني الشعبي الموازي لاختطاف المؤسسة التي من المفروض أنها جامعة وسيدة نفسها وقادرة على صياغة منظومة القرارات المتوافقة والمنسجمة والمصالح العليا للشعب ولأهدافه وتطلعاته، قد بات ضرورة إقليمية لعدة اعتبارات لعل أهمها وأبرزها انقسام المنطقة بشكل رأسي ما بين مناهج متناقضة ومختلفة تمام الاختلاف، قبل أن يرتقي لأن يشكل ضرورة وطنية شعبية، وهو الأمر الملاحظ والملموس من خلال تحركات القادة الفلسطينيين والإقليميين عرباً كانوا أم غير ذلك، وعلى مختلف توجهاتهم ومستوياتهم وهو ما تبدو عليه الأمور حتى اللحظة وما تعكسه السجالات الفلسطينية المختلفة على أكثر من عنوان وعلى أكثر من قضية والملفت للانتباه هنا أن هذه العناوين والقضايا التي باتت محل خلاف واختلاف لا يمكن حلها من خلال جلسات الحوار الوطني ثنائية الشكل بين رأسي الانقسام على اعتبار أنها قضايا ذات أبعاد إستراتيجية أولاً وتتطلب التوافق على الإطار العام الذي لا بد من أن يراعي هكذا اختلافات وتنوعات بالفهم الأيديولوجي للمسائل وللفهم السياسي من مختلف القضايا التي يتشكل الخلاف عليها الآن مع الأخذ بعين الاعتبار أن ثمة الكثير من هذه المسائل من الممكن التوصل إلى ما يمكننا أن نسميه توافقاً وطنياً عليها إذا ما تم التوافق على المعايير التي من شأنها قياس ماهية المصالح الوطنية وضروراتها بالدرجة الأولى.

 وبهذا السياق يمكن القول إن مسألة تحديد الأولويات الوطنية يلزمه اولا التوافق الوطني واستيعاب الأخر في حلبة التنوع الوطني الفلسطيني والتسليم بأن فلسطين لا يمكن احتكار قضيتها من هذا الفصيل أو ذاك الحزب. وهنا لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بمعنى أنه لا بد من إعادة الاعتبار للبيت الجامع للكل الوطني الفلسطيني والمتمثل باللحظة الراهنة بمنظمة التحرير (المسيطر عليها من قبل السلطة) والتي وبلا أدنى شك لا بد من إعادة صياغة مفاهيمها وتنشيط مؤسساتها وإعادة رياديتها إلى الواجهة والى ما يجب أن تكون عليه. وهنا لا بد من الاعتراف بأن الواقع الفلسطيني الراهن وبصرف النظر عن التسميات والمسميات قد اختلف في ظل المتغيرات العربية والإقليمية حيث الأطروحة الأمريكية الأقرب إلى دفع الجانب الفلسطيني بالتسليم بما يسمى منهج التسوية السياسية وتقديم التنازلات التي من خلالها سيتم تصفية القضية الوطنية والحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني وهو ما يجري الرهان عليه في ظل وقائع المرحلة عموماً. بعد أن كان النجاح بتصفية نهج المقاومة المبرمجة من قبل الفصائل الوطنية على مختلف مشاربها وبات عنوان المرحلة أننا لا نريد منح الجانب الإسرائيلي الفرصة لجرنا إلى ما يسمى دائرة العنف.

إن الكثير من قوانين اللعبة السياسية على المستوى المحلي أو الإقليمي وحتى الدولي قد صارت مختلفة تماماً ما بعد المتغيرات السياسية القيادية في المنطقة وتبدل الأوجه والمناهج وحقيقة الصراعات الدائرة رحاها على أكثر من جبهة وصعيد وبالتالي فإن هذه المتغيرات قد خلقت واقعاً فلسطينياً جديداً يتطلب إعادة النظر بالكثير من المفاهيم وبذات الوقت لا بد من إعادة تقييم ونقد للمسار الفلسطيني برمته سواء أكان الرسمي والمتمثل بمسار قيادة م. ت. ف أو قيادة السلطة الفلسطينية والأمر ذاته فيما يخص باقي القوى والفصائل وحتى تلك التنظيمات التي تنطوي الآن في الإطار المتناقض ومنظمة التحرير. وحتى يكون النقاش أو الحوار ذا معنى وبالتالي يقدم نفسه كمقدمة من مقدمات التوافق الوطني عموما اعتقد انه لابد من التسليم بالآتي:

- إن نهج التسوية قد فشل وبات عاجزاً عن تقديم الحلول لأبجديات الصراع. أو تقديم الطروحات التي من شأنها معالجة واقع الاشتباك.

- في المشهد الإقليمي والدولي أثبت خيار المقاومة فعاليته وأفضى إلى تراجع المشروع الأمريكي الإسرائيلي في أكثر من منطقة على الساحة الإقليمية، وبات هذا الخيار هو المعطى الاستراتيجي الذي لا مجال للتشكيك فيه.

- إن المسلسل العدواني مني بالفشل والإخفاق فالمنطقة اليوم على غير ما أرادته إدارة العدوان الأمريكي/ الإسرائيلي فموازين القوى تتبدّل في غير مصلحتها.

- لا بد من إعادة التأكيد على أن فعل مواجهة العدوان وتحرير الأراضي المحتلة يبقيان القضية المركزية التي لا يجوز التحول عنها، وخلق صراعات جانبية مفتعلة تضعف من المواجهة ذاتها.

- لا بد من ترسيخ مفاهيم الفعل المقاوم وتثبيت أن المقاومة هي مقاومة الجماهير وليست مقاومة حزب أو فئة أو تيار محدد وهي مقاومة تتناقلها الأجيال في سياق حركة التحرر الوطنية.

- لا بد من إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني من خلال العودة إلى ميثاقها لعام 1968، وتبني خط المقاومة وتأكيد حق العودة وإعادة بنائها كحركة تحرير ومقاومة بحيث تضم قوى وفصائل المقاومة كافة، والتي أثبتت حضورها في الساحة الوطنية ومقاومتها للعدوان وسعيها لتحرير كامل أرضها، ورفضها لممارسة أي ضغوط عليها من أية جهة للتخلي عن قناعاتها ومفاهيمها الإستراتيجية.

أسئلة ممنوعة ومشروعة

من أجل أن نتذكّر فلسطين، هناك حاجة إلى مشروع وطني جديد يأخذ في الاعتبار التحولات التي طرأت في الأعوام العشرين الأخيرة، خصوصاً بعد الفشل في تطبيق اتفاق أوسلو الموقع في العام 1993، وبعد رضوخ العالم، على رأسه الولايات المتحدة لإملاءات بنيامين نتانياهو الذي وضع نهاية لخيار الدولتيْن الذي كان في أساس البرنامج الوطني الفلسطيني المعتمد منذ العام 1988.

صارت فلسطين غائبة عن الأحداث الدولية على الرغم من أنّ شعبها ما زال يقاوم باللحم الحيّ، وعلى الرغم من أنّها قضيّة احتلال لأرض هي ملك الفلسطينيين واغتصاب لحقوق شعب. لا ثاني لهذه القضيّة الواضحة المعالم في عالمنا الحالي.

ليس طبيعياً أن تصل القضية الفلسطينية، وهي قضية محقّة وعادلة، إلى ما وصلت إليه في ضوء القدرة التي يمتلكها هذا الشعب على تأكيد وجود هوية خاصة به من جهة، والتضحيات الكبيرة التي قدّمها في مراحل مختلفة من التاريخ من جهة أخرى.

لدى التساؤل عن الأسباب التي جعلت القضية الفلسطينية تتراجع إلى درجة، بات فيها سقوط خمسة فلسطينيين من أبناء الضفّة الغربية في يوم واحد مجرّد خبر تأتي وسائل الإعلام العالمية بالكاد على ذكره، لا بدّ من الاعتراف بالواقع الأليم القائم.

هناك أوّلا الانقسام بين كيانين لم يعد ما يربط بينهما هما الضفّة الغربية وقطاع غزّة. تغيّر الوضع الفلسطيني بالكامل. لم تعد الأدوات القديمة التي استخدمت منذ الولادة الجديدة للحركة الوطنية الفلسطينية في العام 1965 قادرة على الإتيان بأجوبة عن الأسئلة المطروحة في هذه المرحلة، خصوصا لجهة القدرة على استعادة المبادرة في الأراضي الفلسطينية نفسها، أو في الخارج. لا قدرة ذهنية أو عملية لدى الأدوات الفلسطينية التقليدية، في مقدّمتها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، على التكيّف مع الواقع الجديد والعمل على تجاوزه نحو الأفضل.

لذلك، لم يعد مفرّ من الاعتراف بأنّ هناك حاجة إلى مشروع وطني جديد قائم على توافق في شأن نقاط محدّدة. من بين هذه النقاط سؤال يتعلّق بشكل المقاومة للاحتلال لبلوغ الهدف المنشود، أيا يكن هذا الهدف المطلوب تحديده بوضوح.

هل ينفع الكفاح المسلّح، أو هل يمكن تحقيق نتائج عبر المفاوضات؟ الأهمّ من ذلك كلّه، ثمّة حاجة إلى تفاهم على الحل النهائي الذي يريده الفلسطينيون. هل فلسطين "وقف إسلامي" كما يقول البعض؟ أم أن "فلسطين عربية وستبقى عربية" كما يقول البعض الآخر؟ أو هل لا يزال ممكنا الكلام عن حلّ الدولتين الذي دفنه بنيامين نتانياهو؟ أم لم يعد هناك من حل سوى الدولة الواحدة مع ما يعنيه ذلك من اندماج بالمجتمع الإسرائيلي؟ هذا الحلّ يرفضه عدد كبير من الإسرائيليين الذين يخشون من زيادة عدد الفلسطينيين بسبب النموّ السكاني في المدى الطويل.

يُفترض في الفلسطينيين أيضاً الاتفاق على شكل الحكم الذي يريدونه في حال إصرارهم على إقامة دولتهم المستقلّة، أو العمل من خلال الدولة الواحدة على الأرض التاريخية لفلسطين. هل يريدون حكما دينيا، أم يريدون دولة مدنية تشارك فيها كلّ الأحزاب الموجودة في الساحة الفلسطينية؟.

استنفدت التطورات المتلاحقة المشروع الفلسطيني الذي أقرّه المجلس الوطني في خريف العام 1988 في الجزائر. لم يعد هذا المشروع قابلا للتنفيذ بعدما تكرّس الانقسام بين الضفة الغربية وغزّة، وبعدما أكّد نتنياهو المرّة تلو الأخرى أنّه لم يعد مهتماً بخيار الدولتين، وأنّ الهمّ الأوّل بالنسبة إليه هو ضمّ القدس والقسم الأكبر من الضفّة الغربية واستمرار الاستيطان.

أضف إلى ذلك كلّه، أنّه لم يعد من وجود يذكر لشيء اسمه منظمة التحرير الفلسطينية التي هي في الأصل مرجعية السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عبّاس (أبو مازن).

هناك مشهد فلسطيني معقّد. هناك أسئلة كثيرة لا أجوبة عنها. لكن الحلقة المفقودة في ظلّ الفراغ القائم تتمثّل في الجيل الذي سيرث الجيل الحالي، إلى متى تبقى فلسطين عند بوابة الانتظار؟ قبل كلّ شيء، لا يمكن للقضية أن تموت نظرا إلى أنّها قضيّة شعب أوّلا. الحاجة إلى جيل جديد يجيب عن الأسئلة المطروحة، جيل فلسطيني يحل مكان الجيل الذي هبط من الخارج مع اتفاق أوسلو. سيدوم الانتظار بعض الوقت، لأنّ مخاض الانتقال إلى جيل آخر قضيّة معقدة في ظروف إقليمية أكثر من معقّدة.

الانتظار لا يعني الجمود. ثمّة حاجة إلى التفكير في الخروج من المأزق، حتّى لو كان ذلك يعني طرح الأسئلة الممنوعة من نوع هل لا يزال من سبيل لإعادة الحياة إلى خيار الدولتين يوما… أم يجب العمل انطلاقاً من موت هذا الخيار؟

أهمية المراجعة وإعادة النظر

لعل هذه التداعيات توضح مدي الحاجة إلى إعادة النظر في الحالة السياسية الفلسطينية بمختلف مكوناتها، ومعالجة كافة أوجه القصور، وتحديثها وتطويرها لتكون قادرة على تلبية احتياجات الشعب الفلسطيني، ومواجهة المستجدات على الساحة الدولية، ومعالجة الاختلالات المتراكمة داخله، ومنها:

1- أدي غياب الممارسة الديمقراطية، وتعطيل الإطار الشرعي، وإهمال منظمة التحرير إلى تركز السلطة في يد قلة ليسوا بالضرورة هم الأكفأ. 

2- غاب مبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب الفلسطيني، ما أدى إلي تفشي المظالم، والرشاوى، والمحسوبيات، وانتفت قاعدة الكفاءة في اختيار الذين يحتلون الوظائف العليا، وحلت محلها قاعدة الولاء، مما حرم الحالة السياسية من كفاءات مشهود لها في مختلف مفاصل الحياة، الأمر الذي كان سببا من أسباب مشاكل النظام.

3- تعطل مبدأ تداول السلطة خلال السنوات الماضية، ما أصاب النظام بالترهل، وعدم التطور بالقدر المناسب. فقد غابت الانتخابات الرئاسية والتشريعية في السلطة الوطنية، وفي منظمة التحرير الفلسطينية، وما لذلك من آثار سلبية، خاصة فيما يتعلق بثقة الشعب في النظام، والثقة الدولية في السلطة الوطنية.

4- لم تستطع السلطة محاربة الفساد المالي والإداري، والقضاء عليه نهائياً، على الرغم من الجهد الذي بذلته. ولقد أدى ذلك إلى ضياع جانب من أموال الشعب، سواء عن طريق السرقات، أو عدم قدرة المسئولين على استثمارها بكفاءة، وما لذلك من ردود فعل سلبية لدى الشارع الفلسطيني.

5- ظل الاقتصاد الفلسطيني يعاني خللا هيكليا، وتبعيته للاقتصاد الإسرائيلي، وفشلت السياسات الاقتصادية في الحد من معدلات الفقر، والحد من البطالة، وفشل الاقتصاد في تقديم خدمات ذات مستوى مرتفع، سواء في الصحة، أو التعليم، أو قطاع الإسكان، أو في الريف الفلسطيني.

6- فشل الفلسطينيون في إعادة إعمار قطاع غزة الذي دمرته الحرب، وتلك نتيجة موضوعية للصراع على السلطة بين السلطة الشرعية، ممثلة في السلطة الوطنية، وحركة حماس التي تحكم قطاع غزة بعيداً عن الشرعية.

ليس من السهل إصلاح الحالة السياسية الفلسطينية، في ظل الظروف التي يعيشها، سواء حالة الانقسام، أو تعثر مساعي السلام، أو استمرار الاحتلال، والاستيطان، وتهويد القدس، وانتهاك حرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية من قبل المستوطنين، إضافة إلى المشاكل الداخلية للتنظيمات والقوي السياسية الفلسطينية.

وإذا أراد الفلسطينيون الدخول في عملية إصلاح جادة، يلتزم بها الجميع أو الكل الفلسطيني، فلا بد أن تبدأ بعملية حوار وطني شامل، يتم الإعداد الجيد والمناسب له، بحيث يكون نصب أعين هذا الحوار وضع برنامج تنفيذي يراعي القضايا الأساسية الآتية:

1- الاتفاق على نظام انتخابي لكل من المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس التشريعي، يراعي ظروف الشعب الفلسطيني وأوضاعه، بحيث يحقق تمثيلاً مناسباً لكافة قوى وفئات الشعب الفلسطيني في الوطن، وفي الشتات.

2- الاتفاق على البدء بانتخاب مجلس وطني فلسطيني، وبدوره ينتخب لجنة تنفيذية جديدة، ورئيساً، ومجلساً مركزياً جديداً.

3- انتخاب مجلس تشريعي جديد متزامن مع المجلس الوطني، وانتخاب رئيس سلطة جديد، بمعني إجراء الانتخابات الرئاسية، والتشريعية، والمجلس الوطني الفلسطيني بالتزامن، وبذلك يكون تم تجديد الأطر التنفيذية والتشريعية.

4- وضع منظمة التحرير إستراتيجية للعمل الوطني الفلسطيني في المرحلة القادمة في مواجهة العدو الإسرائيلي، ويتم إقرارها من المجلس الوطني الفلسطيني لتكون ملزمة للكل الفلسطيني.

5- الاتفاق على برنامج سياسي يعتمد إستراتيجية المقاومة بكل أشكالها لاستعادة الحقوق الوطنية.

إن الحاجة لترميم البيت الفلسطيني قد أضحت حاجة ملحة جداً. ولابد من الانتباه إلى المخاطر الكبيرة والخطيرة والتي باتت تهدد القضية الفلسطينية برمتها وعلى مختلف الأصعدة. ولا بد من إعادة قراءة المشهد من جديد وتحديدا ما يتضح بالصورة الآن على المستوى الإسرائيلي والذي صار يخترع أشكال جديدة لرؤيته المسماة سلامية كنوع من إعادة لإنتاج الرؤية السياسية الإسرائيلية لذر الرماد بالعيون من جديد. إن الحاجة ملحة وملحة جداً لإعادة الاعتبار للموقف الوطني من خلال التصدي لكل أشكال العبث التي تتمظهر الآن بأكثر من صورة وعلى مختلف الجبهات والأصعدة. 

اعلى الصفحة