اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الخامسة عشر ـ العدد 172  ـ (جمادي الثانية  1437 هـ ) ـ (نيسان2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


لمدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

" الطائفية .. ومنابعها"

لا يمكن الحديث عن الطائفية الدينية وحمولاتها الخطيرة على أي مجتمع في كل مراحله، وخاصة في المراحل الحساسة من تاريخ الشعوب والمجتمعات المحتقنة، بدون عودةٍ تلقائية إلى الموروث الديني لكل طائفة ونقده نقداً مكشوفاً عارياً لا يتستر خلف أزياء الوطنية المؤقتة والتي دائماً ما تنكشف على حقيقتها حين تسنح فرصةُ الالتفات والنكوص عن كل المسلمات الاجتماعية والوطنية؛ ويكمن الإشكال الحقيقي في أنّ كل مجتمعٍ يعاني من الطائفية لا بد وأن تكون فيه جهتان أو أكثر تتقابل تقابل الضد والنقيض، وتحمل كل جهةٍ في مخزوناتها التراثية صوراً مشوهة ومعتمة وشديدة القبح عن الآخر، مما يجعل من مسألة المواطنة والتعايش فرضاً وشراً لا مفر منه، عوضاً عن أن تكون هذه المعايشة السلمية واجباً إنسانياً حتمياً لا مناص منه، ولا تصوّر للحياة بدونه.

ودائماً ما تثور ثائرة الحمية الوطنية، ويرتفع الصوتُ الظل الذي ليس في الغالب إلاّ محاولةً مؤقتةً للخروجِ الآمن، عوضاً عن الصوتِ الحقيقي الذي لا يفتأ يزأر في داخل كل طائفة لزيادةِ التوحّش فيها وكراهية الآخر، والمؤسف حقاً أنّ الصوت الظل يظل ظلاً مهما امتد زمنه، بينما يظل الصوت الحقيقي - الطائفي دائماً- حاضراً بقوة وقادراً على التشكل والتطور بصورٍ أكثر توحشاً وفظاعةً ورفضاً للآخر.

والمضحك المبكي حقيقةً هو أن الاتهام بالطائفية يعد من قبيل المشتركات التي يتنازعها الطرفان المتهِم والمتهَم، وذلك لأنّ كلا الطرفين يحمل في داخله فكرةً تراثيةً عدائيةً تجاه الآخر، وينتظر اللحظة التي يستطيع فيها الانطلاق من الفكرة إلى العملِ الموافقِ للفكرة، وهذا ما يظهر بكل جلاء في الفظائع التي نراها ونسمع بها يومياً في مناطق الصراع الطائفي.

إنّ القضاء على الطائفية كما يتم الترويج له شيء من الهزل المضحك، الذي لا يمكن أن يستقيم بالعقل أو المشاهدة في أقطار هذا العالم العربي والإسلامي المتخلِّف، وذلك لسبب يبدو واضحاً جداً، وهو أنّ أغلب الحكومات في هذا العالم لديها قناعات طائفية معلنة، وأخرى خفية، تلجأ إليه بحسب الظروف والحاجة، ولا يمكن لأي حكومةٍ تفرِّق بين مواطنيها في حقوقهم وواجباتهم – ولو بنسبةٍ ضئيلة - أن تنجح في تجفيف منابع الطائفية مهما حاولت ذلك، لأنّها تخدع بذلك نفسها، قبل أن تخدع الآخرين.

وحيت يتم إضفاء القدسية المطلقة على التراث المشحون بالنصوص والروايات والنقولات والآراء والأفكار المتناقضة مع جوهر الإسلام وروحه يصبح من العسير جداً الرجوع إلى التراث وغربلته بشكل دقيق والاعتراف بكل شجاعة بأنّ في تراثنا ما لا يمكن للدين ولا المجتمع ولا الواقع الحديث أن يتقبله، وتكمن المشكلة في أنّ النص أصبح مقدساً عند الكثيرين لا لأنّ قائله مقدّس، ولكن لأنّه قيل في زمنٍ غابر قديم، وكلما امتد الزمنُ بالنص تضخمت رمزيته المقدسة، التي قد تجعله مقدّماً في مناطق الاستدلال والحِجاج حتى على النصوص المقدسة الصريحة التي لا يعتورها شكٌ ولا ريب، وعندها يصبح مجرد الخوض في هذا التراث والتفكير في مساءلته جريمةً لا تُغتفر، وتجديفاً يوردُ صاحبه الموارد، ولكنّ الأحداث من حولنا تدفعنا دفعاً إلى مساءلة التراث وتنقيحه بكل حياديةٍ وصدق، وهذا يسلتزم شجاعةً وإدراكاً حقيقياً لأهمية الإقدام على خطوةٍ كهذه من جميع الطوائف، خاصةً تلك التي تنتسب إلى دينٍ وملةٍ واحدة.

وفي ظلِّ حكوماتٍ لا تعترف بأفضلية الديمقراطية كحكمٍ يحوي الجميع ويضعهم تحت حدِّ المساءلة، لا بد من أن تأخذ كلُ طائفةٍ زمام العمل والمبادرة للقيام بمهمة التفكيك والمناقشة والمقابلة للنصوص التراثية، وتقديم العقل دائماً في هذه لعملية لأنه وحده القادر على الأخذ بأيدي الجميع إلى حقول التعايش والسلام والمعرفة، بدلاً من تقديم الخرافة والجهل وتأطيرها بإطار الدين والحقيقة المطلقة.

التعايش الجميل الذي نلاحظه بين كل الطوائف في الدول المتقدمة لم يأتِ هكذا عرضاً فقط لأنّ هناك من انتقل من أرضٍ متخلفةٍ إلى أرض متطورةٍ فتغيّرت طباعه وقناعاته، ولكنه التعايش النظامي السياسي الاجتماعي، وهو نتيجةٌ حتمية لوجود أنظمةٍ تعامل الإنسان كإنسان دون تمييزٍ ديني أو طائفي أو عرقي أو جنسي، وحين يحضر النظام ستكون كل طائفةٍ - مهما غلت وتمادت في رفضها الآخر- مضطرةً إلى احترام القانون وابتلاعِ أوهامها وأحقادِها قدر الإمكان، وإلاّ كانت عرضةً للعقاب الاجتماعي والسياسي!. 

اعلى الصفحة